فعند ذلك يحكم الله سبحانه تعالى ، في الخليقة بالعدل فيقول : ( ألقيا في جهنم كل كفار عنيد )
وقد اختلف النحاة في قوله : ( ألقيا ) فقال بعضهم : هي لغة لبعض العرب يخاطبون المفرد بالتثنية ، كما روي عن الحجاج أنه كان يقول : يا حرسي ، اضربا عنقه ، ومما أنشد ابن جرير على هذه اللغة قول الشاعر :
فإن تزجراني - يابن عفان - أنزجر وإن تتركاني أحم عرضا ممنعا
وقيل : بل هي نون التأكيد سهلت إلى الألف . وهذا بعيد ; لأن هذا إنما يكون في الوقف ، والظاهر أنها مخاطبة مع السائق والشهيد ، فالسائق أحضره إلى عرصة الحساب ، فلما أدى الشهيد عليه ، أمرهما الله تعالى بإلقائه في نار جهنم وبئس المصير .
( ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ) أي : كثير الكفر والتكذيب بالحق ، ( عنيد ) : معاند للحق ، معارض له بالباطل مع علمه بذلك .
وقوله ( أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ) فيه متروك استغني بدلالة الظاهر عليه منه, وهو: يقال ألقيا في جهنم, أو قال تعالى: ألقيا, فأخرج الأمر للقرين, وهو بلفظ واحد مخرج خطاب الاثنين. وفي ذلك وجهان من التأويل: أحدهما: أن يكون القرين بمعنى الاثنين, كالرسول, والاسم الذي يكون بلفظ الواحد في الواحد, والتثنية والجمع, فردّ قوله ( أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ ) إلى المعنى. والثاني: أن يكون كما كان بعض أهل العربية يقول, وهو أن العرب تأمر الواحد والجماعة بما تأمر به الاثنين, فتقول للرجل ويلك أرجلاها وازجراها, وذكر أنه سَمِعها من العرب; قال: وأنشدني بعضهم:
فَقُلْـــتُ لصَــاحِبي لا تَحْبســانا
بــنزعِ أُصُولِــهِ واجْــتَزَّ شـيحا (6)
قال: وأنشدني أبو ثروان:
فـإنْ تَزْجُـرانِي يـا بْنَ عَفَّان أنزجِرْ
وَإنْ تَدَعــانِي أحْـمِ عِرْضـا مُمنَعَّـا (7)
قال: فيروى أن ذلك منهم أن الرجل أدنى أعوانه في إبله وغنمه اثنان, وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة, فجرى كلام الواحد على صاحبيه, وقال: ألا ترى الشعراء أكثر قيلا يا صاحبيّ يا خليليّ, وقال امرؤ القَيس:
خَـلِيلَيَّ مُـرَّا بِـي عـلى أُمّ جُـنْدَبِ
نُقَــضِّ لُبانــاتِ الفُـؤَادِ المُعَـذَّبِ (8)
ثم قال:
أَلـمْ تَـرَ أنّـي كُلَّمـا جِـئْتُ طارِفـا
وَجَـدْتُ بِهـا طِيْبـات وَإنْ لَّـمْ تَطَيَّبِ (9)
فرجع إلى الواحد, وأوّل الكلام اثنان; قال: وأنشدني بعضهم:
خَـلِيلَي قُومـا فـي عَطالَـةَ فـانْظُرَا
أنـارٌ تَـرَى مِـنْ ذِي أبـانَيْنِ أَمْ بَرْقا (10)
وبعضهم يروي: أنارا نرى.
( كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ) يعني: كل جاحد وحدانية الله عنيد, وهو العاند عن الحقّ وسبيل الهدى.
-------------------
الهوامش :
(6) البيت لمضرس بن ربعي الفقعسي الأسدي ، وليس ليزيد بن الطثرية كما نسبه الكسائي وثعلب إليه ، وأخذه عنه الجوهري في الصحاح . قاله ياقوت فيما كتبه على الصحاح . وفي روايته : " لحاطبي " في موضع لصاحبي ، وقوله : " لا تحبسانا " ، فإن العرب ربما خاطبت الواحد بلفظ الاثنين ( انظر شرح شواهد الشافية لعبد القادر البغدادي طبع القاهرة ) . وقال الفراء في معاني القرآن ( الورقة 309 عند قوله تعالى " ألقيا في جهنم " . العرب تأمر الواحد والقوم بما يؤمر به الاثنان ، فيقولان للرجل قوما عنا . وسمعت بعضهم يقول : ويحك ارحلاها وازجراها . وأنشدني بعضهم " فقلت لصاحبي ... البيت " . قال : ويروى : واجدز يريد : واجتز . أ هـ .
(7) وهذا البيت أيضًا من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 309 ) على ما تقدم في نظيره من أن العرب قد تخاطب القوم والواحد بما تخاطب به الاثنين ، قال بعد أن أنشد البيت : ونرى أن ذلك منهم أن الرجل أدنى أعوانه في إبله وغنمه اثنان ، وكذلك الرفقة أدنى ما يكونون ثلاثة ، فجرى كلام الواحد على صاحبيه . أ هـ .
وقال في ( اللسان : جزر ) إن العرب ربما خاطبت الواحد بلفظ الاثنين ، كما قال سويد بن كراع العكلي :
تقـول ابنـة العـوفي ليـلي ألا ترى
إلـى ابـن كـراع لا يـزال مفزعـا
مخافــة هـذين الأمـيرين سـهدت
رقــادي وغشـتني بياضـا مقزعـا
فــإن أنتمــا أحكمتماني فـازجرا
أراهـط تـؤذي مـن النـاس رضعا
وإن تزجراني ... البيت .
قال : وهذا يدل على أنه خاطب اثنين : سعيد بن عثمان ، ومن ينوب عنه ، أو يحضر معه . وقوله فإن أنتما أحكمتماني : دليل أيضا على أنه يخاطب اثنين . وقوله : أحكمتماني : أي منعتماني من هجائه . واصله من أحكمت الدابة : إذا جعلت فيها حكمة اللجام وقوله : " وإن تدعاني " أي إن تركتماني حميت عرضي ممن يؤذيني . وإن زجرتماني انزجرت وصبرت . والرضع : جمع راضع ، وهو اللئيم . أ هـ . وعلى هذا لا يكون في البيت شاهد للفراء ، ولا للمؤلف .
(8) هذا البيت مطلع قصيدة لامرئ القيس قالها في زوجته أم جندب من طيئ ( مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 43 ) والشاهد فيه أن يخاطب خليله ، بلفظ التثنية ، لأنهم كانوا ثلاثة في سفر . وبعد هذا المطلع قوله :
فإنكمـــا إن تنظــراني ســاعة
مـن الدهـر تنفعنـي لـدى أم جندب
(9) وهذا البيت هو ثالث البيتين في القصيدة ، وهو لامرئ القيس أيضًا . قال الفراء بعد كلامه الذي سبق في الشاهد الذي قبله : ثم قال : ألم تر ، فرجع إلى الواحد ، وأول كلامه اثنان . قلت : وكلام الفراء بناء على روايته في البيت . وهناك رواية أخرى في قوله " ألم تر " وهي : " ألم تريا " بصيغة الخطاب للمثنى ، وهما رفيقاه ، و شاهد عليها في البيت . وهي رواية الأعلم الشنتمري في شرحه للأشعار الستة ، وأثبتها شارح مختار الشعر الجاهلي .
(10) البيت لسويد بن كراع العكلي عن ( التاج : عطل ) وعطالة : جبل لبني تميم وذو وأبانين : أي المكان الذي فيه الجبلان : أبان الأبيض ، وهو لبني جريد من بني فزارة خاصة، والأسود لبني والبة من بني الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد ، ويشركهم فيه فزارة . وبين الجبلين نحو فرسخ ، ووادي الرمة يقطع بينهما . قاله البكري في ( معجم ما استعجم ص 95 ) . وقال الفراء بعد أن روى البيت: بعضهم يرويه : " أنارا ترى " . أ هـ . وعلى هذه الرواية الأخيرة لا يكون في البيت شاهد على ما أراده المؤلف من أن العرب تخاطب الواحد بما تخاطب به المثنى . وقوله " من ذى أبانين " هذه رواية الطبري في الأصل ، وهي تختلف عن رواية الفراء في معاني القرآن ( 309 ) وهي : " من نحو بابين " . قال في التاج : وبابين - مثنى - موضع بالبحرين
Quran Translation Sura Qaaf aya 24
[Allah will say], "Throw into Hell every obstinate disbeliever,