يقول تعالى مخاطبا عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة ، وآمرا له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به ، وقد امتثل صلوات الله وسلامه عليه ذلك ، وقام به أتم القيام .
قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن الشعبي ، عن مسروق عن عائشة قالت : من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أنزل عليه فقد كذب ، الله يقول : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) الآية .
هكذا رواه ههنا مختصرا ، وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولا . وكذا رواه مسلم في " كتاب الإيمان " والترمذي والنسائي في " كتاب التفسير " من سننهما من طرق ، عن عامر الشعبي ، عن مسروق بن الأجدع عنها رضي الله عنها .
وفي الصحيحين عنها أيضا أنها قالت : لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتما من القرآن شيئا لكتم هذه الآية : ( وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) [ الأحزاب : 37 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد عن هارون بن عنترة عن أبيه قال : كنت عند ابن عباس فجاء رجل فقال له : إن ناسا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس . فقال : ألم تعلم أن الله تعالى قال : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) والله ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء في بيضاء .
وهذا إسناد جيد ، وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي قال : قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن ، وما في هذه الصحيفة . قلت : وما في هذه الصحيفة؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وألا يقتل مسلم بكافر .
وقال البخاري : قال الزهري : من الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم .
وقد شهدت له أمته ببلاغ الرسالة وأداء الأمانة ، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل ، في خطبته يوم حجة الوداع ، وقد كان هناك من الصحابة نحو من أربعين ألفا كما ثبت في صحيح مسلم ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ : " أيها الناس ، إنكم مسئولون عني ، فما أنتم قائلون؟ " قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت . فجعل يرفع إصبعه إلى السماء ويقلبها إليهم ويقول : " اللهم هل بلغت ، اللهم هل بلغت " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير ، حدثنا فضيل - يعني ابن غزوان - عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : " يا أيها الناس ، أي يوم هذا؟ " قالوا : يوم حرام . قال : " أي بلد هذا؟ " قالوا : بلد حرام . قال : " فأي شهر هذا؟ " قالوا : شهر حرام . قال : " فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا " . ثم أعادها مرارا . ثم رفع إصبعه إلى السماء فقال : " اللهم هل بلغت! " مرارا - قال : يقول ابن عباس : والله لوصية إلى ربه عز وجل - ثم قال : " ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " .
وقد روى البخاري عن علي ابن المديني ، عن يحيى بن سعيد عن فضيل بن غزوان ، به نحوه .
وقوله : ( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) يعني : وإن لم تؤد إلى الناس ما أرسلتك به ( فما بلغت رسالته ) أي : وقد علم ما يترتب على ذلك لو وقع .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) يعني : إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي : حدثنا قبيصة بن عقبة حدثنا سفيان ، عن رجل عن مجاهد قال : لما نزلت : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) قال : " يا رب ، كيف أصنع وأنا وحدي؟ يجتمعون علي " . فنزلت ( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته )
ورواه ابن جرير من طريق سفيان - وهو الثوري - به .
وقوله : ( والله يعصمك من الناس ) أي : بلغ أنت رسالتي ، وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم ، فلا تخف ولا تحزن ، فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية يحرس كما قال الإمام أحمد :
حدثنا يزيد ، حدثنا يحيى قال سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث : أن عائشة كانت تحدث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهر ذات ليلة ، وهي إلى جنبه ، قالت : فقلت : ما شأنك يا رسول الله؟ قال : " ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة؟ " قالت : فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال : " من هذا؟ " فقال : أنا سعد بن مالك . فقال : " ما جاء بك؟ " قال : جئت لأحرسك يا رسول الله . قالت : فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه . أخرجاه في الصحيحين من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري به .
وفي لفظ : سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة مقدمه المدينة . يعني : على أثر هجرته [ إليها ] بعد دخوله بعائشة رضي الله عنها ، وكان ذلك في سنة ثنتين منها .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا إبراهيم بن مرزوق البصري - نزيل مصر - حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا الحارث بن عبيد - يعني أبا قدامة - ، عن الجريري ، عن عبد الله بن شقيق عن عائشة [ رضي الله عنها ] قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية : ( والله يعصمك من الناس ) قالت : فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة ، وقال : " يا أيها الناس ، انصرفوا فقد عصمني الله عز وجل " .
وهكذا رواه الترمذي ، عن عبد بن حميد وعن نصر بن علي الجهضمي كلاهما عن مسلم بن إبراهيم به . ثم قال : وهذا حديث غريب .
وهكذا رواه ابن جرير والحاكم في مستدركه ، من طرق مسلم بن إبراهيم به . ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وكذا رواه سعيد بن منصور ، عن الحارث بن عبيد أبي قدامة [ الإيادي ] عن الجريري ، عن عبد الله بن شقيق ، عن عائشة به .
ثم قال الترمذي : وقد روى بعضهم هذا عن الجريري ، عن ابن شقيق قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس . ولم يذكر عائشة .
قلت : هكذا رواه ابن جرير من طريق إسماعيل بن علية وابن مردويه من طريق وهيب كلاهما عن الجريري عن عبد الله بن شقيق مرسلا وقد روي هذا مرسلا عن سعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي رواهما ابن جرير والربيع بن أنس رواه ابن مردويه ثم قال :
حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن رشدين المصري ، حدثنا خالد بن عبد السلام الصدفي ، حدثنا الفضل بن المختار ، عن عبد الله بن موهب عن عصمة بن مالك الخطمي قال : كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل حتى نزلت : ( والله يعصمك من الناس ) فترك الحرس .
حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا حمد بن محمد بن حمد أبو نصر الكاتب البغدادي ، حدثنا كردوس بن محمد الواسطي ، حدثنا معلى بن عبد الرحمن ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال : كان العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه ، فلما نزلت هذه الآية : ( والله يعصمك من الناس ) ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس .
حدثنا علي بن أبي حامد المديني ، حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد ، حدثنا محمد بن مفضل بن إبراهيم الأشعري ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن معاوية بن عمار ، حدثنا أبي قال : سمعت أبا الزبير المكي يحدث عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه ، حتى نزلت : ( والله يعصمك من الناس ) فذهب ليبعث معه ، فقال : " يا عم ، إن الله قد عصمني ، لا حاجة لي إلى من تبعث " .
وهذا حديث غريب وفيه نكارة فإن هذه الآية مدنية ، وهذا الحديث يقتضي أنها مكية .
ثم قال : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا أبو كريب ، حدثنا عبد الحميد الحماني ، عن النضر ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ، فكان يرسل معه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه ، حتى نزلت عليه هذه الآية : ( ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) قال : فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه ، فقال : " إن الله قد عصمني من الجن والإنس " .
ورواه الطبراني ، عن يعقوب بن غيلان العماني ، عن أبي كريب به .
وهذا أيضا غريب . والصحيح أن هذه الآية مدنية ، بل هي من أواخر ما نزل بها ، والله أعلم .
ومن عصمة الله [ عز وجل ] لرسوله حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومعانديها ومترفيها ، مع شدة العداوة والبغضة ونصب المحاربة له ليلا ونهارا ، بما يخلقه الله تعالى من الأسباب العظيمة بقدره وحكمته العظيمة . فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب إذ كان رئيسا مطاعا كبيرا في قريش وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا شرعية ، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها ، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه ، فلما مات أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرا ، ثم قيض الله [ عز وجل ] له الأنصار فبايعوه على الإسلام ، وعلى أن يتحول إلى دارهم - وهي المدينة فلما صار إليها حموه من الأحمر والأسود ، فكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد كيده عليه ، لما كاده اليهود بالسحر حماه الله منهم ، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء ، ولما سم اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر أعلمه الله به وحماه [ الله ] منه ; ولهذا أشباه كثيرة جدا يطول ذكرها ، فمن ذلك ما ذكره المفسرون عند هذه الآية الكريمة :
فقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي وغيره قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها . فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني؟ فقال : " الله عز وجل " ، فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه ، قال : وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ، فأنزل الله عز وجل : ( والله يعصمك من الناس )
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا موسى بن عبيدة حدثني زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار نزل ذات الرقاع بأعلى نخل ، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه ، فقال غورث بن الحارث من بني النجار : لأقتلن محمدا . فقال له أصحابه : كيف تقتله؟ قال : أقول له : أعطني سيفك . فإذا أعطانيه قتلته به ، قال : فأتاه فقال : يا محمد أعطني سيفك أشيمه . فأعطاه إياه ، فرعدت يده حتى سقط السيف من يده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حال الله بينك وبين ما تريد " فأنزل الله ، عز وجل : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس )
وهذا حديث غريب من هذا الوجه وقصة " غورث بن الحارث " مشهورة في الصحيح .
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب ، حدثنا آدم ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها ، فينزل تحتها ، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها ، فجاء رجل فأخذه فقال : يا محمد من يمنعك مني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الله يمنعني منك ، ضع السيف " . فوضعه ، فأنزل الله ، عز وجل : ( والله يعصمك من الناس )
وكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه ، عن عبد الله بن محمد ، عن إسحاق بن إبراهيم ، عن المؤمل بن إسماعيل ، عن حماد بن سلمة به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة سمعت أبا إسرائيل - يعني الجشمي - سمعت جعدة - هو ابن خالد بن الصمة الجشمي - رضي الله عنه ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ورأى رجلا سمينا ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يومئ إلى بطنه بيده ويقول : " لو كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك " . قال : وأتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقال : هذا أراد أن يقتلك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لم ترع ، لم ترع ، ولو أردت ذلك لم يسلطك الله علي " .
وقوله : ( إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) أي : بلغ أنت ، والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، كما قال : ( ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ) [ البقرة : 272 ] وقال ( فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ) [ الرعد : 40 ] .
القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
قال أبو جعفر: وهذا أمر من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، (13) بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قصَّ تعالى ذكره قَصَصهم في هذه السورة، وذكر فيها معايبهم وخُبْثَ أديانهم، واجتراءَهم على ربهم، وتوثُّبهم على أنبيائهم، وتبديلَهم كتابه، وتحريفَهم إياه، ورداءةَ مطاعِمهم ومآكلهم= وسائرِ المشركين غيرِهم، (14) ما أنـزل عليه فيهم من معايبهم، والإزراء عليهم، والتقصير بهم، والتهجين لهم، وما أمرهم به ونهاهم عنه، وأن لا يُشْعر نفسَه حذرًا منهم أن يُصيبوه في نفسه بمكروهٍ ما قام فيهم بأمر الله، (15) ولا جَزعًا من كثرة عددهم وقلّة عدد من معه، وأن لا يتّقى أحدًا في ذات الله، فإن الله تعالى ذكره كافيه كلَّ أحد من خلقه، ودافعٌ عنه مكروهَ كل من يبغي مكروهه. (16) وأعلمه تعالى ذكره أنه إن قصَّر عن إبلاغ شيء مما أنـزل إليه إليهم، فهو في تركه تبليغ ذلك= وإن قلّ ما لم يبلّغ منه= فهو في عظيم ما ركب بذلك من الذَّنب بمنـزلته لو لم يبلِّغ من تنـزيله شيئًا.
* * *
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
12270 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: " يا أيها الرسول بلِّغ ما أنـزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته "، يعني: إن كتمت آية مما أنـزل عليك من ربك، لم تبلِّغ رسالاتي. (17)
12271 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك "، الآية، أخبر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنه سيكفيه الناس، ويعصمه منهم، وأمره بالبلاغ. ذكر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قيل له: لو احتجبت! فقال: والله لأبديَنَّ عَقِبي للناس ما صاحبتهم. (18)
12272 - حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري، عن رجل، عن مجاهد قال: لما نـزلت: " بلغ ما أنـزل إليك من ربك "، قال: إنما أنا واحد، كيف أصنع؟ تجَمَّع عليّ الناس! (19) فنـزلت: " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته "، الآية.
12273 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن ثعلبة، عن جعفر، عن سعيد بن جبير قال: لما نـزلت: " يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس "، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحرسوني، إنّ ربّي قد عَصَمني. (20)
12274 - حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن الجُريريّ، عن عبد الله بن شقيق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتقِبه ناسٌ من أصحابه، فلما نـزلت: " والله يعصمك من الناس "، خرج فقال: يا أيها الناس، الحقوا بملاحِقِكم، فإنّ الله قد عصمني من الناس. (21)
12275 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن عاصم بن محمد، عن محمد بن كعب القرظي قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحارسه أصحابه، فأنـزل الله تعالى ذكره: " يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته "، إلى آخرها.
12276 - حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا الحارث بن عبيدة أبو قدامة الإيادي قال، حدثنا سعيد الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْرَس، حتى نـزلت هذه الآية: " والله يعصمك من الناس "، قالت: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القُبَّة فقال:أيها الناس، انصرفوا، فقد عصمني الله. (22)
12277 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن القرظيّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يُحْرَس، حتى أنـزل الله: " والله يعصمك من الناس ".
* * *
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نـزلت هذه الآية.
فقال بعضهم: نـزلت بسبب أعرابيّ كان همَّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكفاه الله إياه.
ذكر من قال ذلك:
12278 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي وغيره قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نـزل منـزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة، فيَقِيل تحتها. فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال (23) من يمنعك مني؟ قال: الله! فرُعِدت يد الأعرابيّ وسقط السيف منه، (24) قال: وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دُماغه، فأنـزل الله: " والله يعصمك من الناس ". (25)
* * *
وقال آخرون: بل نـزلت لأنه كان يخاف قريشًا، فأومن من ذلك.
ذكر من قال ذلك:
12279 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يهاب قريشًا، فلما نـزلت: " والله يعصمك من الناس "، استلقى ثم قال:من شاء فليخذلني= مرتين أو ثلاثًا.
12280 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن ابن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق قال، قالت عائشة: من حدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من الوحي فقد كذب! ثم قرأت: " يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك "، الآية. (26)
12281 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن المغيرة، عن الشعبي قال، قالت عائشة: من قال إن محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم، فقد كذبَ وأعظم الفرية على الله! قال الله تعالى ذكره: " يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك " الآية.
12282 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق قال، قالت عائشة: من زعم أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من كتاب الله، فقد أعظم على الله الفرية! والله يقول: " يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك "، الآية. (27)
12283 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن محمد بن الجهم، عن مسروق بن الأجدع قال: دخلت على عائشة يومًا فسمعتها تقول: لقد أعظمَ الفرية من قال إنّ محمدًا كتم شيئًا من الوحي! والله يقول: " يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك ". (28)
* * *
ويعني بقوله: " والله يعصمك من الناس "، يمنعك من أن ينالوك بسوء. وأصله من " عِصَام القربة "، وهو ما تُوكىَ به من سير وخيط، (29)
ومنه قول الشاعر: (30)
وَقُلْــتُ: عَلَيْكُــمْ مَالِكًـا, إنَّ مَالِكًـا
سَـيَعْصِمُكُمُ, إنْ كَانَ فِي النَّاسِ عَاصِمُ (31)
يعني: يمنعكم.
* * *
وأما قوله: " إن الله لا يهدي القوم الكافرين "، فإنه يعني: إن الله لا يوفِّق للرُّشْد من حاد عن سبيل الحق، وجار عن قصد السبيل، وجحد ما جئته به من عند الله، ولم ينته إلى أمر الله وطاعته فيما فرض عليه وأوجبه. (32)
-----------------
الهوامش :
(13) في المطبوعة: "لنبيه محمد" ، غير ما في المخطوطة على غير طائل.
(14) قوله: "وسائر المشركين" مجرور معطوف على قوله: "بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى ..." ومفعول قوله: "بإبلاغ هؤلاء ..." هو: "ما أنزل عليه فيهم".
(15) في المطبوعة: "أن يصيبه في نفسه مكروه" ، غير ما في المخطوطة على غير طائل.
(16) في المطبوعة والمخطوطة: "كل من يتقي مكروهه" ، وهو فاسد جدًا ، صوابه ما أثبت.
(17) في المطبوعة: "رسالتي" ، غير ما في المخطوطة.
(18) قوله: "احتجبت" ، أي: احتجبت عن الناس حتى لا يدرك منه من يبغيه الغوائل. و"العقب" هنا"عقب القدم" ، وهي مؤخرها ، وهي مؤنثة. يعني بذلك: لأظهرن لهم سائرًا بينهم لا أحتجب. وكل من خرج إلى الناس ، فقد بدا لهم عقبه ، وهو يسير بينهم. وهذه كناية حسنة. وقوله: "ما صاحبتهم" ، للتأييد ، كأنه قال: "ما عشت".
(19) في المطبوعة: "تجتمع على الناس" ، وأثبت ما في المخطوطة. ومعنى قوله: "تجمع على الناس" ، أي: تألبوا عليه وعادوه من جراء دعوته إلى دين الله. وهذا تعجب.
(20) الأثر: 12273-"جرير" ، هو"جرير بن عبد الحميد الضبي" ، مضى مرارًا كثيره.
و"ثعلبة" هو"ثعلبة بن سهيل التميمي الطهوي" ، كان متطببًا ، ثقة ، لا بأس به ، مترجم في التهذيب.
و"جعفر" هو"جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي" ، مضى برقم: 87 ، 617 ، 4347 ، 7269.
وهذا خبر مرسل. انظر تفسير ابن كثير 3: 196.
(21) الأثر: 12274-"الجريري" ، هو"سعيد بن إياس الجريري" ، مضى برقم: 196.
و"عبد الله بن شقيق العقيلي" ، تابعي ثقة ، مضى برقم: 196 ، وهذا الخبر مرسل أيضًا ، وسيأتي موصولا برقم: 12276
وقوله: "يعتقبه ناس من أصحابه": أي يتناوبون حراسته ويتداولونها ، من"العقبة" وهي النوبة ، يقال: "جاءت عقبة فلان" ، أي نوبته.
وقوله: "ألحقوا بملاحقكم" ، يأمرهم أن يوافوا أماكنهم التي يرجعون إليها إذا آبوا. ولم أجد هذا التعبير في غير هذا الخبر ، ولا قيده أصحاب غريب الحديث. و"الملاحق" جمع"ملحق" (بفتح الميم وسكون اللام وفتح الحاء): أي الموضع الذي ينزلونه عند مرجعهم.
(22) الأثر: 12276-"الحارث بن عبيد الإيادي" ، "أبو قدامة" ، قال أحمد: "مضطرب الحديث" ، وقال ابن معين: "ضعيف" ، وقال أبو حاتم: "ليس بالقوي ، يكتب حديثه ولا يحتج به". وقال ابن حبان: "كان ممن كثر وهمه ، حتى خرج عن جملة من يحتج به إذا انفرد". مترجم في التهذيب. والكبير 1/ 2/ 273.
وهذا الخبر رواه الترمذي في كتاب التفسير وقال: "هذا حديث غريب ، وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري ، عن عبد الله بن شقيق ، ولم يذكر فيه عائشة".
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 313 ، من هذه الطريق نفسها ثم قال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وكان في المطبوعة: "فإن الله قد عصمني" ، خالف نص المخطوطة لغير شيء. وما في المخطوطة هو المطابق لروايته في الترمذي والمستدرك.
(23) "اخترط السيف": سله من غمده.
(24) هكذا جاءت الرواية"فرعدت يد الأعرابي" بالبناء للمجهول ، ولم أجد من"الرعدة" ثلاثيًا"رعد" بالبناء للمجهول ، بل الذي رووه وأطبقوا عليه"أرعد" (بالبناء للمجهول). فإن صح هذا الخبر ، فالثلاثي المبني للمجهول مما يزاد على مادة اللغة.
(25) الأثر: 12278- انظر خبر هذا الأعرابي فيما سلف رقم: 11565 ، والتعليق عليه هناك ، وليس فيه أنه ضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه.
(26) الأثر: 12280-"ابن أبي خالد" ، هو: "إسمعيل بن أبي خالد الأحمسي". وكان في المخطوطة والمطبوعة: "عن أبي خالد" ، وهو خطأ لا شك فيه ، فإن البخاري رواه من طريق وكيع ، عن إسمعيل بن أبي خالد ، عن عامر ، عن مسروق ، مطولا (الفتح 8: 466) ، وليس فيمن روى عنه وكيع هذا الخبر من يسمى"أبا خالد".
وهذا الخبر رواه أبو جعفر من أربع طرق ، سيأتي تخريجها بعد.
(27) الأثر: 12282- رواه مسلم مطولا في صحيحه ، من طريق إسماعيل بن علية ، عن داود.
وهذه الأخبار الثلاثة السالفة ، خبر واحد بأسانيد ثلاثة. رواه البخاري (الفتح 8: 206) من طريق سفيان ، عن إسمعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن مسروق. ثم رواه من هذه الطريق ، ومن طريق أبي عامر العقدي ، عن شعبة ، عن إسمعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي (الفتح 13: 422) ، مختصرا.
(28) الأثر: 12283-"الليث" هو"الليث بن سعد" الإمام.
و"خالد" ، هو: "خالد بن يزيد الجمحي المصري" ، الفقيه المفتي ، ثقة ، مضى برقم: 3965 ، 5465 ، 9185 ، 9507.
و"سعيد بن أبي هلال الليثي المصري" ، ثقة. مضى برقم: 1495 ، 3965 ، 5465.
(29) انظر تفسير"عصم" و"عصام" فيما سلف 7: 62 ، 63 ، 70/9: 341.
(30) لم أعرف قائله.
(31) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 171. و"عليك" اسم فعل للإغراء ، يقال: "عليك زيدًا" و"عليك بزيد".
(32) انظر تفسير"هدى" فيما سلف من فهارس اللغة.
Quran Translation Sura Al-Maaida aya 67
O Messenger, announce that which has been revealed to you from your Lord, and if you do not, then you have not conveyed His message. And Allah will protect you from the people. Indeed, Allah does not guide the disbelieving people.