يقول تعالى منكرا على الأعراب الذين أول ما دخلوا في الإسلام ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) . وقد استفيد من هذه الآية الكريمة : أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، ويدل عليه حديث جبريل ، عليه السلام ، حين سأل عن الإسلام ، ثم عن الإيمان ، ثم عن الإحسان ، فترقى من الأعم إلى الأخص ، ثم للأخص منه .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه قال : أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئا ، فقال سعد : يا رسول الله ، أعطيت فلانا وفلانا ولم تعط فلانا شيئا ، وهو مؤمن ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أو مسلم " حتى أعادها سعد ثلاثا ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " أو مسلم " ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إني لأعطي رجالا وأدع من هو أحب إلي منهم فلم أعطه شيئا ; مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم " .
أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري ، به .
فقد فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المسلم والمؤمن ، فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام . وقد قررنا ذلك بأدلته في أول شرح كتاب الإيمان من " صحيح البخاري " ولله الحمد والمنة . ودل ذلك على أن ذاك الرجل كان مسلما ليس منافقا ; لأنه تركه من العطاء ووكله إلى ما هو فيه من الإسلام ، فدل هذا على أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين ، وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم ، فادعوا لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه ، فأدبوا في ذلك . وهذا معنى قول ابن عباس وإبراهيم النخعي ، وقتادة ، واختاره ابن جرير . وإنما قلنا هذا لأن البخاري رحمه الله ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يظهرون الإيمان وليسوا كذلك . وقد روي عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وابن زيد أنهم قالوا في قوله : ( ولكن قولوا أسلمنا ) أي : استسلمنا خوف القتل والسباء . قال مجاهد : نزلت في بني أسد بن خزيمة . وقال قتادة : نزلت في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
والصحيح الأول أنهم قوم ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ، ولم يحصل لهم بعد ، فأدبوا وأعلموا أن ذلك لم يصلوا إليه بعد ، ولو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا ، كما ذكر المنافقون في سورة براءة . وإنما قيل لهؤلاء تأديبا : ( قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) أي : لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد .
ثم قال : ( وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم [ شيئا ] ) أي : لا ينقصكم من أجوركم شيئا ، كقوله : ( وما ألتناهم من عملهم من شيء ) [ الطور : 21 ] .
وقوله : ( إن الله غفور رحيم ) أي : لمن تاب إليه وأناب .
القول في تأويل قوله تعالى : قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
يقول تعالى ذكره: قالت الأعراب: صدّقنا بالله ورسوله, فنحن مؤمنون, قال الله لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لهم ( لَمْ تُؤْمِنُوا ) ولستم مؤمنين ( وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ).
وذُكر أن هذه الآية نـزلت في أعراب من بني أسد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله ( قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا ) قال: أعراب بنى أسد بن خُزَيمة.
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهؤلاء الأعراب: قولوا أسلمنا, ولا تقولوا آمنا, فقال بعضهم: إنما أمر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بذلك, لأن القوم كانوا صدّقوا بألسنتهم, ولم يصدّقوا قولهم بفعلهم, فقيل لهم: قولوا أسلمنا, لأن الإسلام قول, والإيمان قول وعمل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن الزهري ( قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) قال: إن الإسلام: الكلمة, والإيمان: العمل.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, وأخبرني الزهريّ, عن عامر بن سعد, عن أبيه, قال: أعطى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئا, فقال سعد: يا رسول الله أعطيت فلانا وفلانا, ولم تعط فلانا شيئا, وهو مؤمن, فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: أو مُسْلِمٌ؟ حتى أعادها سعد ثلاثا, والنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: أوْ مُسْلِمٌ, ثم قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إني أُعْطِي رِجالا وأَدَعُ مَنْ هُوَ أحَبُّ إليَّ مِنْهُمْ, لا أُعْطِيه شَيْئا مَخافَةَ أنْ يُكَبُّوا فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ".
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ) قال: لم يصدّقوا إيمانهم بأعمالهم, فردّ الله ذلك عليهم ( قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) , وأخبرهم أن المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا, وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله, أولئك هم الصادقون, صدّقوا إيمانهم بأعمالهم; فمن قال منهم: أنا مؤمن فقد صدق; قال: وأما من انتحل الإيمان بالكلام ولم يعمل فقد كذب, وليس بصادق.
حدثنا ابن حُمَيد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن مُغيرة, عن إبراهيم ( وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) قال: هو الإسلام.
وقال آخرون: إنما أمر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بقيل ذلك لهم, لأنهم أرادوا أن يتسموا بأسماء المهاجرين قبل أن يهاجروا, فأعلمهم الله أن لهم أسماء الأعراب, لا أسماء المهاجرين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد, قال: ثنى أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله ( قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا )... الآية, وذلك أنهم أرادوا أن يتسَمَّوا باسم الهجرة, ولا يتسَمَّوا بأسمائهم التي سماهم الله, وكان ذلك في أول الهجرة قبل أن تنـزل المواريث لهم.
وقال آخرون: قيل لهم ذلك لأنهم منوا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بإسلامهم, فقال الله لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهم لم تؤمنوا, ولكن استسلمتم خوف السباء والقتل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ) ولعمري ما عمت هذه الآية الأعراب, إن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر, ولكن إنما أنـزلت في حيّ من أحياء الأعراب امتنوا بإسلامهم على نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, فقالوا: أسلمنا, ولم نقاتلك, كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان, فقال الله: ( لا تقولوا آمنا. . . ) ,( وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) حتى بلغ ( فِي قُلُوبِكُمْ ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة ( لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) قال: لم تعمّ هذه الآية الأعراب, إن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر, ويتخذ ما ينفق قربات عند الله, ولكنها في طوائف من الأعراب.
حدثنا ابن حُمَيد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن رَباح, عن أبي معروف, عن سعيد بن جُبَير ( قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) قال: استسلمنا لخوف السباء والقتل.
حدثنا ابن حُمَيد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد ( قُولُوا أَسْلَمْنَا ) قال: استسلمنا.
حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, وقرأ قول الله ( قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) استسلمنا: دخلنا في السلم, وتركنا المحاربة والقتال بقولهم: لا إله إلا الله, وقال قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: " أُمِرْتُ أنْ أُقاتِل النَّاس حتى يَقُولُوا لا إلَهَ إلا اللّهُ, فإذَا قالُوا لا إلَهَ إلا اللّهُ, عَصَمُوا مِنِّي دِماءَهُمْ وأمْوَالهُمْ إلا بِحَقِّها وَحِسابُهُمْ على اللّهِ".
وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك القول الذي ذكرناه عن الزهريّ, وهو أن الله تقدّم إلى هؤلاء الأعراب الذين دخلوا في الملة إقرارا منهم بالقول, ولم يحققوا قولهم بعملهم أن يقولوا بالإطلاق آمنا دون تقييد قولهم بذلك بأن يقولوا آمنا بالله ورسوله, ولكن أمرهم أن يقولوا القول الذي لا يشكل على سامعيه والذي قائله فيه محقّ, وهو أن يقولوا أسلمنا, بمعنى: دخلنا في الملة والأموال, والشهادة الحق (2) .
قوله ( وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) يقول تعالى ذكره: ولما يدخل العلم بشرائع الإيمان, وحقائق معانيه في قلوبكم.
وقوله ( وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهؤلاء الأعراب القائلين آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم, إن تطيعوا الله ورسوله أيها القوم, فتأتمروا لأمره وأمر رسوله, وتعملوا بما فرض عليكم, وتنتهوا عما نهاكم عنه,( لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ) يقول: لا يظلمكم من أجور أعمالكم شيئا ولا ينقصكم من ثوابها شيئا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( لا يَلِتْكُمْ ) لا ينقصكم.
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ) يقول: لن يظلمكم من أعمالكم شيئا.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في ( وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) قال: إن تصدقوا إيمانكم بأعمالكم يقبل ذلك منكم.
وقرأت قرّاء الأمصار ( لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ ) بغير همز ولا ألف, سوى أبي عمرو, فإنه قرأ ذلك ( لا يَأْلَتْكُمْ ) بألف اعتبارا منه في ذلك بقوله وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ فمن قال: ألت, قال: يألت.
وأما الآخرون فإنهم جعلوا ذلك من لات يليت, كما قال رُؤبةُ بن العجاج:
وَلَيْلَـــةٍ ذَاتِ نَـــدًى سَـــرَيت
ولَــمْ يَلِتْنِــي عَـنْ سُـرَاها لَيْـتُ (3)
والصواب من القراءة عندنا في ذلك, ما عليه قرّاء المدينة والكوفة ( لا يَلِتْكُمْ ) بغير ألف ولا همز, على لغة من قال: لات يليت, لعلتين: إحداهما: إجماع الحجة من القرّاء عليها. والثانية أنها في المصحف بغير ألف, ولا تسقط الهمزة في مثل هذا الموضع, لأنها ساكنة, والهمزة إذا سكنت ثبتت, كما يقال: تأمرون وتأكلون, وإنما تسقط إذا سكن ما قبلها, ولا يحمل حرف في القرآن إذا أتى بلغة على آخر جاء بلغة خلافها إذا كانت اللغتان معروفتين في كلام العرب. وقد ذكرنا أن ألت ولات لغتان معروفتان من كلامهم.
وقوله ( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يقول تعالى ذكره: إن الله ذو عفو أيها الأعراب لمن أطاعه, وتاب إليه من سالف ذنوبه, فأطيعوه, وانتهوا إلى أمره ونهيه, يغفر لكم ذنوبكم, رحيم بخلقه التائبين إليه أن يعاقبهم بعد توبتهم من ذنوبهم على ما تابوا منه, فتوبوا إليه يرحمكم.
كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) غفور للذنوب الكثيرة أو الكبيرة, شكّ يزيد, رحيم بعباده.
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
(2) لعله دخلنا في الملة لحفظ الأنفس والأموال بالشهادة ... إلخ .
(3) البيتان نسبهما المؤلف إلى رؤبة بن العجاج ، ولم أجدهما في ديوانه ولا في ديوان أبيه العجاج . وأوردهما صاحب اللسان في ( حنن ) محمد ونسبهما على أبي الفقعسي . وقد استشهد بهما المؤلف مرة قبل هذه في ( 15 : 2 ) من هذه المطبوعة ، عند أول سورة الإسراء . وشرحناهما شرحًا مفصلا يناسب هذه المقام ، فراجعهما ثمة .
Quran Translation Sura Al-Hujuraat aya 14
The bedouins say, "We have believed." Say, "You have not [yet] believed; but say [instead], 'We have submitted,' for faith has not yet entered your hearts. And if you obey Allah and His Messenger, He will not deprive you from your deeds of anything. Indeed, Allah is Forgiving and Merciful."