فبارزوا الجبار بالعداوة ، وجحدوا بآياته وعصوا رسوله ، فلهذا قال : ( فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا ) قال بعضهم : وهي الشديدة الهبوب . وقيل : الباردة . وقيل : هي التي لها صوت .
والحق أنها متصفة بجميع ذلك ، فإنها كانت ريحا شديدة قوية ; لتكون عقوبتهم من جنس ما اغتروا به من قواهم ، وكانت باردة شديدة البرد جدا ، كقوله تعالى : ( بريح صرصر عاتية ) [ الحاقة : 6 ] ، أي : باردة شديدة ، وكانت ذات صوت مزعج ، ومنه سمي النهر المشهور ببلاد المشرق " صرصرا لقوة صوت جريه .
وقوله : ( في أيام نحسات ) أي : متتابعات ، ( سبع ليال وثمانية أيام حسوما ) [ الحاقة : 7 ] ، كقوله ( في يوم نحس مستمر ) [ القمر : 19 ] ، أي : ابتدئوا بهذا العذاب في يوم نحس عليهم ، واستمر بهم هذا النحس سبع ليال وثمانية أيام حتى أبادهم عن آخرهم ، واتصل بهم خزي الدنيا بعذاب الآخرة ; ولهذا قال تعالى : ( لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى ) [ أي ] أشد خزيا لهم ، ( وهم لا ينصرون ) أي : في الأخرى ، كما لم ينصروا في الدنيا ، وما كان لهم من الله من واق يقيهم العذاب ويدرأ عنهم النكال .
القول في تأويل قوله تعالى : فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16)
يقول تعالى ذكره: فأرسلنا على عاد ريحا صرصرا.
واختلف أهل التأويل في معنى الصرصر, فقال بعضهم: عني بذلك أنها ريح شديدة.
* ذكر من قال ذلك.
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( رِيحًا صَرْصَرًا ) قال: شديدة.
حدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( رِيحًا صَرْصَرًا ) شديدة السَّموم عليهم.
وقال آخرون: بل عنى بها أنها باردة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا ) قال: الصرصر: الباردة.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, في قوله: ( رِيحًا صَرْصَرًا ) قال: باردة.
حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ( رِيحًا صَرْصَرًا ) قال: باردة ذات الصوت.
حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد, قال: سمعت. الضحاك يقول, في قوله: ( رِيحًا صَرْصَرًا ) يقول: ريحا فيها برد شديد.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول مجاهد, وذلك أن قوله: ( صَرْصَرًا ) إنما هو صوت الريح إذا هبت بشدة, فسمع لها كقول القائل: صرر, ثم جعل ذلك من أجل التضعيف الذي في الراء, فقال ثم أبدلت إحدى الراءات صادا لكثرة الراءات, كما قيل في ردده: ردرده, وفي نههه: نهنهه, كما قال رؤبة:
فــــالْيَوْمَ قَــــدْ تُنَهْنِهُنـــي
وَأَوَّلُ حِــــلْمٍ لَيْسَ بِالْمُسَــــفَّهِ (1)
وكما قيل في كففه: كفكفه, كما قال النابغة?
أُكَفكِــفُ عَــبْرَةً غَلَبَــتْ عُـدَاتِي
إذَا نَهْنَهْتُهَـــا عـــادَت ذُباحــا (2)
وقد قيل: إن النهر الذي يسمى صرصرا, إنما سمي بذلك لصوت الماء الجاري فيه, وإنه " فعلل " من صرر نظير الريح الصرصر.
وقوله: ( فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) اختلف أهل التأويل في تأويل النحسات, فقال بعضهم: عني بها المتتابعات.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) قال: أيام متتابعات أنـزل الله فيهن العذاب.
وقال آخرون: عني بذلك المشائيم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) قال: مشائيم.
حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) أيام والله كانت مشئومات على القوم.
حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة, قال: النحسات: المشئومات النكدات.
حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد بن المفضل, قال: ثنا أسباط, عن السديّ( فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) قال: أيام مشئومات عليهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: أيام ذات شر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد قوله: ( أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) قال: النحس: الشر; أرسل عليهم ريح شر ليس فيها من الخير شيء.
وقال آخرون: النحسات: الشداد.
* ذكر من قال ذلك:
حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول ( فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) قال: شداد.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال عنى بها: أيام مشائيم ذات نحوس, لأن ذلك هو المعروف من معنى النحس في كلام العرب.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قراء الأمصار غير نافع وأبي عمرو ( فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) بكسر الحاء, وقرأه نافع وأبو عمرو: " نَحْسَاتٍ" بسكون الحاء. وكان أبو عمرو فيما ذكر لنا عنه يحتج لتسكينه الحاء بقوله: يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ وأن الحاء فيه ساكنة.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان, قد قرأ بكل واحدة منهما قرّاء علماء مع اتفاق معنييهما, وذلك أن تحريك الحاء وتسكينها في ذلك لغتان معروفتان, يقال هذا يوم نحْس, ويوم نَحِس, بكسر الحاء وسكونها; قال الفرّاء: أنشدني بعض العرب?
أبْلِــغْ جُذَامــا وَلَخْمـا أنَّ إخْـوَتَهُمْ
طَيَّـا وَبَهْـرَاءَ قَـوْمٌ نَصْـرُهُمْ نَحِسُ (3)
وأما من السكون فقول الله يَوْمِ نَحْسٍ ; منه قول الراجز?
يَــوْمَيْنِ غَيْمَيْــنِ وَيَوْمــا شَمْسـا
نَجْــمَيْنِ بالسَّــعْدِ وَنَجْمــا نَحْسـا (4)
فمن كان في لغته: يَوْمِ نَحْسٍ قال: " في أيَّامٍ نَحْساتٍ", ومن كان في لغته: (يَوْمِ نَحِسٍ) قال: ( فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ), وقد قال بعضهم: النحْس بسكون الحاء: هو الشؤم نفسه, وإن إضافة اليوم إلى النحس, إنما هو إضافة إلى الشوم, وإن النحِس بكسر الحاء نعت لليوم بأنه مشئوم, ولذلك قيل: ( فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) لأنها أيام مشائيم.
وقوله: ( لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يقول جل ثناؤه: ولعذابنا إياهم في الآخرة أخزى لهم وأشد إهانة وإذلالا. يقول: وهم يعني عادا لا ينصرهم من الله يوم القيامة إذا عذبهم ناصر, فينقذهم منه, أو ينتصر لهم.
------------------------
الهوامش:
(1) البيتان في ديوانه ( طبع ليبسج 166 ) وهما أل ( 19 ، 20 ) ونهنهني زجرني وكفنى . يقول هذا بعد أن كبر وضعف . والأول : الرجوع . والحلم العقل . والسفه : المنسوب إلى السفه . يقول : كنت أستجيب لدواعي الصبا ما دمت شابا ، أما اليوم وقد علتني كبرة ، ورجع إلى ما عزب من عقلي ، فقد كفني عن الطيش حلمي وعقلى ، فلا أفعل ما كنت أفعل في الشباب .
(2) نسب المؤلف البيت إلى النابغة ، ولم أجده في الديوان ولا في شروحه المختلفة . ومعنى أكفكف العبرة : أردها . وقوله غلبت عداتي : أي أنهم كانوا حراصا على أن أبكي بما يسيئون إلى ، فغلبتهم عبرتي التي حبستها ، ونهنهتها : كففتها ورددتها . وذباحا : ذبحا . ذبحا . يريد أنه حبس عبرته ، وكان حبسها كالذبح من شدة الألم لأن البكاء يخفف ما يضطرم في النفس من ألم وغيظ ونحوه . والبيت عند المؤلف شاهد على أن كفكف ونهنه وصرصر ونحوها من الفعل الرباعي المضعف : أصلها : كفف ونهه وصرر ، فلما اجتمع فيه ثلاث أحرف أمثال ، أبدلت إحدى الراءات من نوع فاء الكلمة . وهذا مذهب لبعض النحويين الكوفيين ، والله أعلم .
(3) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 289 ) عند قوله تعالى :" في أيام نحسات" . قال : العوام على تثقيلها بكسر الحاء . وقد خفف بعض أهل المدينة ( بسكون الحاء ) . قال وقد سمعت بعض العرب ينشد :" أبلغ جذاما ... البيت" فهذا لمن ثقل . ومن خفف بناه على قوله" في يوم نحس مستمر" وفي ( اللسان : نحس ) وقرأ أبو عمرو :" فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات" بسكون الحاء . قال الأزهري : هي جمع أيام نحسة ثم جمع الجمع ( بسكون الحاء فيهما) . وقرأت في أيام نحسات ( بكسر الحاء ) وهي المشؤمات عليهم في الوجهين . ا هـ .
(4) البيتان من مشطور الرجز ، ولم نعرف قائلهما . واستشهد المؤلف بهما على أن النحس فيه لغتان : سكون الحاء ، كهذا البيت وكسرها كالشاهد الذي قبله . وعلى هاتين اللغتين جاءت قراءة من قرأ قوله تعالى :" في أيام نحسات" وقد سبق القول عليه في الشاهد السابق .
Quran Translation Sura Fussilat aya 16
So We sent upon them a screaming wind during days of misfortune to make them taste the punishment of disgrace in the worldly life; but the punishment of the Hereafter is more disgracing, and they will not be helped.