هذه وصايا نافعة قد حكاها الله تعالى عن لقمان الحكيم ; ليمتثلها الناس ويقتدوا بها ، فقال : ( يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل ) أي : إن المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة [ من ] خردل . وجوز بعضهم أن يكون الضمير في قوله : ( إنها ) ضمير الشأن والقصة . وجوز على هذا رفع ) مثقال ) والأول أولى .
وقوله : ( يأت بها الله ) أي : أحضرها الله يوم القيامة حين يضع الموازين القسط ، وجازى عليها إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . كما قال تعالى : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) [ الأنبياء : 47 ] ، وقال تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) [ الزلزلة : 7 ، 8 ] ، ولو كانت تلك الذرة محصنة محجبة في داخل صخرة صماء ، أو غائبة ذاهبة في أرجاء السماوات أو الأرض فإن الله يأتي بها; لأنه لا تخفى عليه خافية ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض; ولهذا قال : ( إن الله لطيف خبير ) أي : لطيف العلم ، فلا تخفى عليه الأشياء وإن دقت ولطفت وتضاءلت ) خبير ) بدبيب النمل في الليل البهيم .
وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله : ( فتكن في صخرة ) أنها صخرة تحت الأرضين السبع ، ذكره السدي بإسناده ذلك المطروق عن ابن عباس وابن مسعود وجماعة من الصحابة إن صح ذلك ، ويروى هذا عن عطية العوفي ، وأبي مالك ، والثوري ، والمنهال بن عمرو ، وغيرهم . وهذا والله أعلم ، كأنه متلقى من الإسرائيليات التي لا تصدق ، ولا تكذب ، والظاهر - والله أعلم - أن المراد : أن هذه الحبة في حقارتها لو كانت داخل صخرة ، فإن الله سيبديها ويظهرها بلطيف علمه ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ، ليس لها باب ولا كوة ، لخرج عمله للناس كائنا ما كان " .
القول في تأويل قوله تعالى : يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
اختلف أهل العربية في معنى الهاء والألف اللتين في قوله: (إنَّها) فقال بعض نحويي البصرة: ذلك كناية عن المعصية والخطيئة. ومعنى الكلام عنده: يا بنيّ، إن المعصية إن تك مثقال حبة من خردل، أو إن الخطيئة. وقال بعض نحويي الكوفة: وهذه الهاء عماد. وقال: أنَّث تك، لأنه يراد بها الحبة، فذهب بالتأنيث إليها، كما قال الشاعر:
وَتَشْـرَقُ بـالقَوْلِ الَّـذِي قَـدْ أذَعْتَـهُ
كمَـا شَـرِقَتْ صَـدْرُ القَنـاةِ مِنَ الدَّمِ (2)
وقال صاحب هذه المقالة: يجوز نصب المثقال ورفعه، قال: فمن رفع رفعه (بتَكُ)، واحتملت النكرة أن لا يكون لها فعل في كان وليس وأخواتها، ومن نصب جعل في تكن اسما مضمرا مجهولا مثل الهاء التي في قوله: (إنَّها إن تَكُ) : ومثله قوله: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ قال: ولو كان (إن يك مثقال حبة) كان صوابا، وجاز فيه الوجهان. وأما صاحب المقالة الأولى، فإن نصب مثقال في قوله، على أنه خبر، وتمام كان، وقال: رفع بعضهم فجعلها كان التي لا تحتاج إلى خبر.
وأولى القولين بالصواب عندي، القول الثاني؛ لأن الله تعالى ذكره لم يعد عباده أن يوفيهم جزاء سيئاتهم دون جزاء حسناتهم، فيقال: إن المعصية إن تك مثقال حبة من خردل يأت الله بها، بل وعد كلا العاملين أن يوفيه جزاء أعمالهما. فإذا كان ذلك كذلك، كانت الهاء في قوله: (إنَّها) بأن تكون عمادا أشبه منها بأن تكون كناية عن الخطيئة والمعصية. وأما النصب في المثقال، فعلى أن في " تَكُ" مجهولا والرفع فيه على أن الخبر مضمر، كأنه قيل: إن تك في موضع مثقال حبة؛ لأن النكرات تضمر أخبارها، ثم يترجم عن المكان الذي فيه مثقال الحبة.
وعنى بقوله: (مِثْقالَ حَبَّةٍ) : زنة حبة. فتأويل الكلام إذن: إن الأمر إن تك زنة حبة من خردل من خير أو شرّ عملته، فتكن في صخرة، أو في السموات، أو في الأرض، يأت بها الله يوم القيامة، حتى يوفيك جزاءه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ) من خير أو شرّ.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ) فقال بعضهم: عنى بها الصخرة التي عليها الأرض، وذلك قول رُوي عن ابن عباس وغيره، وقالوا: هي صخرة خضراء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن المنهال، عن عبد الله بن الحارث، قال: الصخرة خضراء على ظهر حوت.
حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك عن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة، عن عبد الله، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: خلق الله الأرض على حوت، والحوت هو النون الذي ذكر الله في القرآن ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء، ولا في الأرض.
وقال آخرون: عنى بها الجبال، قالوا: ومعنى الكلام: فتكن في جبل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة في قوله: (فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ) أي: جبل.
وقوله: (يَأْتِ بِهَا اللهُ) كان بعضهم يوجه معناه إلى: يعلمه الله، ولا أعرف يأتي به بمعنى: يعلمه، إلا أن يكون قائل ذلك أراد أن لقمان إنما وصف الله بذلك؛ لأن الله يعلم أماكنه، لا يخفى عليه مكان شيء منه فيكون وجها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن ويحيى، قالا ثنا أبو سفيان، عن السدي، عن أبي مالك (فَتَكُن فِي صخْرَةٍ أوْ فِي السَّمَاوَاتِ أوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِها اللهُ) قال: يعلمها الله.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك، مثله.
وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) يقول: إن الله لطيف باستخراج الحبة من موضعها حيث كانت خبير بموضعها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة ( إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) أي: لطيف باستخراجها، خبير بمستقرّها.
---------------------
الهوامش :
(2) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة (ديوانه طبعة القاهرة بشرح الدكتور محمد حسين ص 123) وهو من قصيدة يهجو بها عمير بن عبد الله بن المنذر بن عبدان، حين جمع بينه وبين جهنام الشاعر، ليهاجيه. ورقم البيت (34) ومعنى تشرق: تغص، وصدر القناة: أعلاها. والقناة: الرمح. ا هـ . وفي "فرائد القلائد، شرح مختصر الشواهد" للعيني. قال: والشاهد في شرقت حيث أنث، مع أن فاعله مذكر، وهو الصدر، والقياس: شرق. ولكن لما كان الصدر الذي هو مضاف، بعض المضاف إليه، أعطى له حكمه. ا هـ .
Quran Translation Sura Luqman aya 16
[And Luqman said], "O my son, indeed if wrong should be the weight of a mustard seed and should be within a rock or [anywhere] in the heavens or in the earth, Allah will bring it forth. Indeed, Allah is Subtle and Acquainted.