وقوله : ( وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج ) أي : خلق الماءين : الحلو والملح ، فالحلو كالأنهار والعيون والآبار ، وهذا هو البحر الحلو الفرات العذب الزلال . قاله ابن جريج ، واختاره ابن جرير ، وهذا الذي لا شك فيه ، فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات . والله سبحانه إنما أخبر بالواقع لينبه العباد على نعمه عليهم ليشكروه ، فالبحر العذب هو هذا السارح بين الناس ، فرقه تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهارا وعيونا في كل أرض بحسب حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأراضيهم .
وقوله : ( وهذا ملح أجاج ) أي : مالح مر زعاق لا يستساغ ، وذلك كالبحار المعروفة في المشارق والمغارب : البحر المحيط وما يتصل به من الزقاق وبحر القلزم ، وبحر اليمن ، وبحر البصرة ، وبحر فارس وبحر الصين والهند وبحر الروم وبحر الخزر ، وما شاكلها وشابهها من البحار الساكنة التي لا تجري ، ولكن تتموج وتضطرب وتغتلم في زمن الشتاء وشدة الرياح ، ومنها ما فيه مد وجزر ، ففي أول كل شهر يحصل منها مد وفيض ، فإذا شرع الشهر في النقصان جزرت ، حتى ترجع إلى غايتها الأولى ، فإذا استهل الهلال من الشهر الآخر شرعت في المد إلى الليلة الرابعة عشرة ثم تشرع في النقص ، فأجرى الله سبحانه وتعالى - وله القدرة التامة - العادة بذلك . فكل هذه البحار الساكنة خلقها الله سبحانه وتعالى مالحة الماء ، لئلا يحصل بسببها نتن الهواء ، فيفسد الوجود بذلك ، ولئلا تجوى الأرض بما يموت فيها من الحيوان . ولما كان ماؤها ملحا كان هواؤها صحيحا وميتتها طيبة; ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن ماء البحر : أنتوضأ به؟ فقال : " هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته " . رواه الأئمة : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأهل السنن بإسناد جيد .
وقوله : ( وجعل بينهما برزخا وحجرا ) أي : بين العذب والمالح ) برزخا ) أي : حاجزا ، وهو اليبس من الأرض ، ( وحجرا محجورا ) أي : مانعا أن يصل أحدهما إلى الآخر ، كما قال : ( مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأي آلاء ربكما تكذبان ) [ الرحمن : 19 - 21 ] ، وقال تعالى : ( أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون ) [ النمل : 61 ] .
يقول تعالى ذكره: والله الذي خلط البحرين, فأمرج أحدهما في الآخر, وأفاضه فيه. وأصل المرج الخلط, ثم يقال للتخلية مرج؛ لأن الرجل إذا خلى الشيء حتى اختلط بغيره, فكأنه قد مرجه، ومنه الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, وقوله لعبد الله بن عمرو: " كَيْفَ بِكَ يا عَبْدَ اللهِ إذَا كُنْتَ في حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ, قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وأماناتُهُمْ, وصَارُوا هَكَذا وشبَّك بين أصابعه. يعني بقوله: قد مرجت: اختلطت, ومنه قول الله: فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أي مختلط. وإنما قيل للمرج مرج من ذلك, لأنه يكون فيه أخلاط من الدوابّ, ويقال: مَرَجْت دابتك: أي خليتها تذهب حيث شاءت. ومنه قول الراجز:
رَعَى بِهَا مَرَجَ رَبيعٍ مَمْرَج (3)
وبنحو ما قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ) يعني أنه خلع أحدهما على الآخر.
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ) أفاض أحدهما على الآخر.
حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, مثله.
حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ) يقول: خلع أحدهما على الآخر.
حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثنا أبو تميلة, عن أبي حمزة, عن جابر, عن مجاهد ( مَرَجَ ) أفاض أحدهما على الآخر.
وقوله ( هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ ) الفرات: شديد العذوبة, يقال: هذا ماء فرات: أي شديد العذوبة وقوله ( وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ) يقول: وهذا ملح مرّ، يعني بالعذب الفرات: مياه الأنهار والأمطار, وبالملح الأجاج: مياه البحار.
وإنما عنى بذلك أنه من نعمته على خلقه, وعظيم سلطانه, يخلط ماء البحر العذب بماء البحر الملح الأجاج, ثم يمنع الملح من تغيير العذب عن عذوبته, وإفساده إياه بقضائه وقدرته, لئلا يضرّ إفساده إياه بركبان الملح منهما, فلا يجدوا ماء يشربونه عند حاجتهم إلى الماء, فقال جلّ ثناؤه: ( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ) يعني حاجزا يمنع كل واحد منهما من إفساد الآخر ( وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) يقول: وجعل كلّ واحد منهما حراما محرّما على صاحبه أن يغيره ويفسده.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك, قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ) يعني أنه خلع أحدهما على الآخر, فليس يفسد العذب المالح, وليس يفسد المالح العذب, وقوله: ( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ) قال: البرزخ: الأرض بينهما( وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) يعني: حجر أحدهما على الآخر بأمره وقضائه, وهو مثل قوله وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا .
وحدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ) قال: محبسا، قوله: ( وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) قال: لا يختلط البحر بالعذب.
حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد ( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ) قال: حاجزا لا يراه أحد, لا يختلط العذب في البحر. قال ابن جُرَيج: فلم أجد بحرا عذبا إلا الأنهار العذاب, فإن دجلة تقع في البحر, فأخبرني الخبير بها أنها تقع في البحر, فلا تمور فيه بينهما مثل الخيط الأبيض، فإذا رجعت لم ترجع في طريقها من البحر, والنيل يصبّ في البحر.
حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني أبو تميلة, عن أبي حمزة, عن جابر, عن مجاهد ( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ) قال: البرزخ أنهما يلتقيان فلا يختلطان, وقوله ( حِجْرًا مَحْجُورًا ) : أي لا تختلط ملوحة هذا بعذوبة هذا, لا يبغي أحدهما على الآخر.
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا ابن علية, عن رجاء, عن الحسن, في قوله: ( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) قال: هذا اليبس.
حدثنا الحسن, قال: ثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: ( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) قال: جعل هذا ملحا أجاجًا, قال: والأجاج: المرّ.
حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول: ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ) يقول: خلع أحدهما على الآخر, فلا يغير أحدهما طعم الآخر ( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ) هو الأجل ما بين الدنيا والآخرة ( وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) جعل الله بين البحرين حجرا, يقول: حاجزا حجز أحدهما عن الآخر بأمره وقضائه.
حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) وجعل بينهما سترا لا يلتقيان. قال: والعرب إذا كلم أحدهم الآخر بما يكره قال حجرا, قال: سترا دون الذي تقول.
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في معنى قوله: ( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) دون القول الذي قاله من قال معناه: إنه جعل بينهما حاجزا من الأرض أو من اليبس, لأن الله تعالى ذكره أخبر في أوّل الآية أنه مرج البحرين, والمرج: هو الخلط في كلام العرب على ما بيَّنت قبل, فلو كان البرزخ الذي بين العذب الفرات من البحرين, والملح الأجاج أرضا أو يبسا لم يكن هناك مرج للبحرين, وقد أخبر جلّ ثناؤه أنه مرجهما, وإنما عرفنا قدرته بحجزه هذا الملح الأجاج عن إفساد هذا العذب الفرات, مع اختلاط كلّ واحد منهما بصاحبه. فأما إذا كان كلّ واحد منهما في حيز عن حيز صاحبه, فليس هناك مرج, ولا هناك من الأعجوبة ما ينبه عليه أهل الجهل به من الناس, ويذكرون به, وإن كان كلّ ما ابتدعه ربنا عجيبا, وفيه أعظم العبر والمواعظ والحجج البوالغ.
-----------------------
الهوامش:
(3) البيت من مشطور الرجز ، للعجاج الراجز ( ديوانه طبع ليبسك سنة 1093 ص 9 ) وهو البيت الثاني والثمانون من أرجوزته التي مطلعها * مـا هـاج أحزانا وشجوا قد شجا *
وضبط ناشره لفظ ممرج ، بضم الميم الأول وكسر الراء ، والصواب ما في اللسان ، ونقلناه عنه ، وهو اسم مكان من مرج الدابة يمرجها ( من باب نصر ) إذا أرسلها ترعى في المرج
Quran Translation Sura Al-Furqaan aya 53
And it is He who has released [simultaneously] the two seas, one fresh and sweet and one salty and bitter, and He placed between them a barrier and prohibiting partition.