هذه الآيات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض . وما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض . فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال : الأول من قبل صلاة الغداة; لأن الناس إذ ذاك يكونون نياما في فرشهم ( وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ) أي : في وقت القيلولة; لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله ، ( ومن بعد صلاة العشاء ) لأنه وقت النوم ، فيؤمر الخدم والأطفال ألا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال ، لما يخشى من أن يكون الرجل على أهله ، ونحو ذلك من الأعمال; ولهذا قال : ( ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن ) أي : إذا دخلوا في حال غير هذه الأحوال فلا جناح عليكم في تمكينكم إياهم من ذلك ، ولا عليهم إن رأوا شيئا في غير تلك الأحوال; لأنه قد أذن لهم في الهجوم ، ولأنهم ) طوافون ) عليكم ، أي : في الخدمة وغير ذلك ، ويغتفر في الطوافين ما لا يغتفر في غيرهم; ولهذا روى الإمام مالك وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الهرة : " إنها ليست بنجس; إنها من الطوافين عليكم - أو - والطوافات " .
ولما كانت هذه الآية محكمة ولم تنسخ بشيء ، وكان عمل الناس بها قليلا جدا ، أنكر عبد الله بن عباس ذلك على الناس ، كما قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثني عبد الله بن لهيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس : ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن : ( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم [ منكم ثلاث مرات ] ) إلى آخر الآية ، والآية التي في سورة النساء : ( وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ) [ النساء : 8 ] ، والآية التي في الحجرات : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) [ الحجرات : 13 ]
وروي أيضا من حديث إسماعيل بن مسلم - وهو ضعيف - عن عمرو بن دينار ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس قال : غلب الشيطان الناس على ثلاث آيات ، فلم يعملوا بهن : ( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ) إلى آخر الآية .
وقال أبو داود : حدثنا ابن الصباح بن سفيان وابن عبدة - وهذا حديثه - أخبرنا سفيان ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، سمع ابن عباس يقول : لم يؤمن بها أكثر الناس - آية الإذن - وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي .
قال أبو داود : وكذلك رواه عطاء ، عن ابن عباس يأمر به .
وقال الثوري ، عن موسى بن أبي عائشة سألت الشعبي : ( ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ) ، قال : لم تنسخ . قلت : فإن الناس لا يعملون بها . فقال : الله المستعان .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الربيع بن سليمان ، حدثنا ابن وهب ، أخبرنا سليمان بن بلال ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن عكرمة عن ابن عباس ; أن رجلين سألاه عن الاستئذان في الثلاث عورات التي أمر الله بها في القرآن ، فقال ابن عباس : إن الله ستير يحب الستر ، كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حجال في بيوتهم ، فربما فاجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه في حجره ، وهو على أهله ، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله . ثم جاء الله بعد بالستور ، فبسط [ الله ] عليهم الرزق ، فاتخذوا الستور واتخذوا الحجال ، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به .
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ، ورواه أبو داود ، عن القعنبي ، عن الدراوردي ، عن عمرو بن أبي عمرو به .
وقال السدي : كان أناس من الصحابة ، رضي الله عنهم ، يحبون أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة ، فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان ألا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن .
وقال مقاتل بن حيان : بلغنا - والله أعلم - أن رجلا من الأنصار وامرأته أسماء بنت مرشدة صنعا للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما ، فجعل الناس يدخلون بغير إذن ، فقالت أسماء : يا رسول الله ، ما أقبح هذا! إنه ليدخل على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد ، غلامهما بغير إذن! فأنزل الله في ذلك : ( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم [ ثلاث مرات ] ) الآية .
ومما يدل على أنها محكمة لم تنسخ ، قوله : ( كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ) .
اختلف أهل التأويل في المعنِّي بقوله: ( لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) فقال بعضهم: عني بذلك: الرجال دون النساء، ونهوا عن أن يدخلوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة، هؤلاء الذين سموا في هذه الآية إلا بإذن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن نافع، عن ابن عمر، قوله: ( لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) قال: هي على الذكور دون الإناث.
وقال آخرون: بل عني به الرجال والنساء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن، في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) قال: هي في الرجال والنساء، يستأذنون على كلّ حال، بالليل والنهار.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: عُني به الذكور والإناث; لأن الله عمّ بقوله: ( الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) جميع أملاك أيماننا، ولم يخصص منهم ذكرا ولا أنثى فذلك على جميع مَنْ عمه ظاهر التنـزيل.
فتأويل الكلام: يا أيُّها الذين صدقوا الله ورسوله، ليستأذنكم في الدخول عليكم عبيدكم وإماؤكم، فلا يدخلوا عليكم إلا بإذن منكم لهم.
( وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ) يقول: والذين لم يحتلموا من أحراركم ( ثَلاثَ مَرَّاتٍ )، يعني: ثلاث مرات في ثلاثة أوقات، من ساعات ليلكم ونهاركم.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) قال: عبيدكم المملوكون ( وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ) قال: لم يحتلموا من أحراركم.
قال ابن جُرَيج: قال لي عطاء بن أبي رباح: فذلك على كل صغير وصغيرة أن يستأذن، كما قال ( ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ) قالوا: هي العتمة. قلت: فإذا وضعوا ثيابهم بعد العتمة استأذنوا عليهم حتى يصبحوا؟ قال: نعم. قلت لعطاء: هل استئذانهم إلا عند وضع الناس ثيابهم؟ قال: لا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن صالح بن كيسان ويعقوب بن عتبة وإسماعيل بن محمد، قالوا: لا استئذان على خدم الرجل عليه إلا في العورات الثلاث.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: ( لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) يقول: إذا خلا الرجل بأهله بعد صلاة العشاء، فلا يدخل عليه خادم ولا صبيّ إلا بإذن حتى يصلي الغداة، فإذا خلا بأهله عند صلاة الظهر فمثل ذلك.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني قرة بن عبد الرحمن، عن ابن شهاب، عن ثعلبة، عن أبي مالك القرظي: أنه سأل عبد الله بن سويد الحارثي - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن الإذن في العورات الثلاث، فقال: إذا وضعت ثيابي من الظهيرة لم يلج عليّ أحد من الخدم الذي بلغ الحلم، ولا أحد ممن لم يبلغ الحلم من الأحرار إلا بإذن.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن جُرَيج، قال: سمعت عطاء يقول: قال ابن عباس: ثلاث آيات جحدهنّ الناس: الإذن كله، وقال: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ وقال الناس: أكرمكم أعظمكم بيتا، ونسيت الثالثة.
حدثني ابن أبي الشوارب، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا يونس، عن الحسن، في هذه الآية ( لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) قال: كان الحسن يقول: إذا أبات الرجل خادمه معه فهو إذنه، وإن لم يبته معه استأذن في هذه الساعات.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، قال: ثني موسى بن أبي عائشة، عن الشعبي في قوله: ( لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) قال: لم تُنسخ، قلت: إن الناس لا يعملون به ، قال: الله المستعان!
قال ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن الشعبي، وسألته عن هذه الآية: ( لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) قلت: منسوخة هي؟ قال: لا والله ما نُسخت، قلت: إن الناس لا يعملون بها ، قال: الله المستعان!
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير، قال: إن ناسا يقولون نسخت، ولكنها مما يتهاون الناس به.
قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير في هذه الآية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) ... إلى آخر الآية، قال: لا يعمل بها اليوم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا حنظلة، أنه سمع القاسم بن محمد يسأل عن الإذن، فقال: يستأذن عند كلّ عورة، ثم هو طوّاف، يعني الرجل على أمه.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: أخبرنا عبد العزيز بن أبي روّاد، قال: أخبرني رجل من أهل الطائف، عن غيلان بن شُرَحبيل، عن عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يَغْلِبَنَّكُمْ الأعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاتِكُمْ، قال الله: ( وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ ) وإنَّمَا العَتَمَةُ عَتَمَةُ الإبِلِ".
وقوله: ( ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة: ( ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ ) برفع " الثلاث "، بمعنى الخبر عن هذه الأوقات التي ذكرت كأنه عندهم، قيل: هذه الأوقات الثلاثة التي أمرناكم بأن لا يدخل عليكم فيها من ذكرنا إلا بإذن، ثلاث عورات لكم، لأنكم تضعون فيها ثيابكم، وتخلون بأهليكم. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة " ثَلاثَ عَوْرَاتٍ" بنصب الثلاث على الرد على الثلاث الأولى. وكأن معنى الكلام عندهم: ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم، والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرّات، ثلاثَ عورات لكم.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، وقد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وقوله: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ ) يقول تعالى ذكره: ( ليس عليكم ) معشر أرباب البيوت والمساكن، ( ولا عليهم ) يعني: ولا على الذين ملكت أيمانكم من الرجال والنساء، والذين لم يبلغوا الحلم من أولادكم الصغار، حرج ولا إثم بعدهنّ، يعني بعد العورات الثلاث، والهاء والنون في قوله: ( بعدهن ) عائدتان على " الثلاث " من قوله: ( ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ ) وإنما يعني بذلك أنه لا حرج ولا جناح على الناس أن يدخل عليهم مماليكهم البالغون، وصبيانهم الصغار بغير إذن بعد هذه الأوقات الثلاث اللاتي ذكرهنّ في قوله: ( مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قال: ثم رخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن، يعني فيما بين صلاة الغداة إلى الظهر، وبعد الظهر إلى صلاة العشاء، أنه رخص لخادم الرجل والصبيّ أن يدخل عليه منـزله بغير إذن، قال: وهو قوله: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ) فأما من بلغ الحُلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلا بإذن على كل حال.
وقوله: ( طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ ) رفع الطوّافون بمضمر، وذلك هم . يقول: هؤلاء المماليك والصبيان الصغار هم طوّافون عليكم أيها الناس، ويعني بالطوّافين: أنهم يدخلون ويخرجون على مواليهم وأقربائهم في منازلهم غدوة وعشية بغير إذن يطوفون عليهم، بعضكم على بعض في غير الأوقات الثلاث التي أمرهم أن لا يدخلوا على ساداتهم وأقربائهم فيها إلا بإذن ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ ) يقول جلّ ثناؤه: كما بينت لكم أيها الناس أحكام الاستئذان في هذه الآية، كذلك يبين الله لكم جميع أعلامه وأدلته وشرائع دينه ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) يقول: والله ذو علم بما يصلح عباده، حكيم في تدبيره إياهم، وغير ذلك من أموره.
Quran Translation Sura An-Noor aya 58
O you who have believed, let those whom your right hands possess and those who have not [yet] reached puberty among you ask permission of you [before entering] at three times: before the dawn prayer and when you put aside your clothing [for rest] at noon and after the night prayer. [These are] three times of privacy for you. There is no blame upon you nor upon them beyond these [periods], for they continually circulate among you - some of you, among others. Thus does Allah make clear to you the verses; and Allah is Knowing and Wise.