يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت ، من الكافرين أو المفرطين في أمر الله تعالى ، وقيلهم عند ذلك ، وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا ، ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته; ولهذا قال : ( رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا ) كما قال تعالى : ( وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين . ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون ) [ المنافقون : 10 ، 11 ] ، وقال تعالى : ( وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ) [ إبراهيم : 44 ] ، وقال تعالى : ( يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل ) [ الأعراف : 53 ] ، وقال تعالى : ( ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ) [ السجدة : 12 ] ، وقال تعالى : ( ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين . بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ) [ الأنعام : 27 ، 28 ] ، وقال تعالى : ( وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل ) [ الشورى : 44 ] ، وقال تعالى : ( قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير ) [ غافر : 11 ، 12 ] ، وقال تعالى : ( وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير ) [ فاطر : 37 ] ، فذكر تعالى أنهم يسألون الرجعة ، فلا يجابون ، عند الاحتضار ، ويوم النشور ووقت العرض على الجبار ، وحين يعرضون على النار ، وهم في غمرات عذاب الجحيم .
وقوله : هاهنا : ( كلا إنها كلمة هو قائلها ) : كلا حرف ردع وزجر ، أي : لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه .
وقوله : ( كلا إنها كلمة هو قائلها ) : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أي لا بد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم .
ويحتمل أن يكون ذلك علة لقوله : " كلا " ، أي : لأنها كلمة ، أي : سؤاله الرجوع ليعمل صالحا هو كلام منه ، وقول لا عمل معه ، ولو رد لما عمل صالحا ، ولكان يكذب في مقالته هذه ، كما قال تعالى : ( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون )
وقال محمد بن كعب القرظي : ( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت ) قال : فيقول الجبار : ( كلا إنها كلمة هو قائلها ) .
وقال عمر بن عبد الله مولى غفرة : إذا سمعت الله يقول : ( كلا ) فإنما يقول : كذب .
وقال قتادة في قوله تعالى : ( حتى إذا جاء أحدهم الموت ) : قال : كان العلاء بن زياد يقول : لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت ، فاستقال ربه فأقاله ، فليعمل بطاعة الله عز وجل .
وقال قتادة : والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة ، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله ، فانظروا أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها ، ولا قوة إلا بالله . وعن محمد بن كعب القرظي نحوه .
وقال محمد بن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن يوسف ، حدثنا فضيل يعني : ابن عياض عن ليث ، عن طلحة بن مصرف ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : إذا وضع يعني : الكافر في قبره ، فيرى مقعده من النار . قال : فيقول : رب ، ارجعون أتوب وأعمل صالحا . قال : فيقال : قد عمرت ما كنت معمرا . قال : فيضيق عليه قبره ، قال : فهو كالمنهوش ، ينام ويفزع ، تهوي إليه هوام الأرض وحياتها وعقاربها .
وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثني سلمة بن تمام ، حدثنا علي بن زيد . عن سعيد بن المسيب ، عن عائشة ، أنها قالت : ويل لأهل المعاصي من أهل القبور!! تدخل عليهم في قبورهم حيات سود أو : دهم حية عند رأسه ، وحية عند رجليه ، يقرصانه حتى يلتقيا في وسطه ، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله تعالى : ( ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون )
وقال أبو صالح وغيره في قوله تعالى : ( ومن ورائهم ) يعني : أمامهم .
وقال مجاهد : البرزخ : الحاجز ما بين الدنيا والآخرة .
وقال محمد بن كعب : البرزخ : ما بين الدنيا والآخرة . ليسوا مع أهل الدنيا يأكلون ويشربون ، ولا مع أهل الآخرة يجازون بأعمالهم .
وقال أبو صخر : البرزخ : المقابر ، لا هم في الدنيا ، ولا هم في الآخرة ، فهم مقيمون إلى يوم يبعثون .
وفي قوله : ( ومن ورائهم برزخ ) : تهديد لهؤلاء المحتضرين من الظلمة بعذاب البرزخ ، كما قال : ( من ورائهم جهنم ) [ الجاثية : 10 ] وقال ( ومن ورائه عذاب غليظ ) [ إبراهيم : 17 ] .
وقوله : ( إلى يوم يبعثون ) أي : يستمر به العذاب إلى يوم البعث ، كما جاء في الحديث : " فلا يزال معذبا فيها " ، أي : في الأرض .
( لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا ) يقول: كي أعمل صالحا فيما تركت قبل اليوم من العمل فضيعته، وفرّطت فيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي معشر، قال: كان محمد بن كعب القرظي يقرأ علينا: ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ) قال محمد: إلى أيّ شيء يريد؟ إلى أيّ شيء يرغب؟ أجمع المال، أو غَرْس الغِراس، أو بَنْي بُنيان، أو شق أنهار؟ : ( لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ) يقول الجبار: كلا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ( رَبِّ ارْجِعُونِ ) قال: هذه في الحياة الدنيا، ألا تراه يقول: ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) قال: حين تنقطع الدنيا، ويعاين الآخرة، قبل أن يذوق الموت.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: " إذَا عايَنَ المُؤْمِنُ المَلائِكَةَ قالُوا: نُرْجِعُكَ إلى الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: إلى دار الهُمُومِ والأحْزَان؟ فَيَقُولُ: بَلْ قَدّمَانِي إلى الله، وأمَّا الكافِرُ فَيُقال: نُرْجِعُكَ؟ فَيَقُولُ: ( لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ )..." الآية.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ) يعني أهل الشرك، وقيل: ربّ ارجعون، فابتدأ الكلام بخطاب الله تعالى، ثم قيل: ارجعون فصار إلى خطاب الجماعة، والله تعالى ذكره واحد. وإنما فعل ذلك كذلك؛ لأن مسألة القوم الرد إلى الدنيا إنما كانت منهم للملائكة الذين يقبضون روحهم، كما ذكر ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله. وإنما ابتدئ الكلام بخطاب الله جل ثناؤه، لأنهم استغاثوا به، ثم رجعوا إلى مسألة الملائكة الرجوع والرد إلى الدنيا.
وكان بعض نحويي الكوفة يقول: قيل ذلك كذلك؛ لأنه مما جرى على وصف الله نفسه من قوله: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا في غير مكان من القرآن، فجرى هذا على ذلك.
قوله: ( كَلا ) يقول تعالى ذكره: ليس الأمر على ما قال هذا المشرك، لن يُرْجع إلى الدنيا، ولن يعاد إليها( كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ) يقول: هذه الكلمة، وهو قوله: (رَبِّ ارْجِعُونِ) كلمة هو قائلها يقول: هذا المشرك هو قائلها.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ) لا بد له أن يقولها يقول ( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ ) يقول: ومن أمامهم حاجز يحجز بينهم وبين الرجوع، يعني: إلى يوم يبعثون من قبورهم، وذلك يوم القيامة، والبرزخ والحاجز والمُهْلة متقاربات في المعنى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) يقول: أجل إلى حين.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد، في قوله: ( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ ) قال: ما بعد الموت.
حدثني أبو حميد الحِمْصي أحمد بن المغيرة، قال: ثنا أبو حَيْوة شريح بن يزيد، قال: ثنا أرطأة، عن أبي يوسف قال: خرجت مع أبي أمامة في جنازة، فلما وُضِعت في لحدها، قال أبو أمامة: هذا برزخ إلى يوم يُبعثون.
&; 19-71 &;
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا مطر، عن مجاهد، قوله: ( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) قال: ما بين الموت إلى البعث.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ( بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) قال: حجاب بين الميت والرجوع إلى الدنيا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قَتادة: ( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) قال: برزخ بقية الدنيا.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادَة، مثله.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( ومن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) قال: البرزخ ما بين الموت إلى البعث.
حُدِّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عُبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: البرزخ: ما بين الدنيا والآخرة.
Quran Translation Sura Al-Muminoon aya 100
That I might do righteousness in that which I left behind." No! It is only a word he is saying; and behind them is a barrier until the Day they are resurrected.