وقوله : ( إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ) وذلك أنه لما استقر عند آل فرعون ، عرضوا عليه المراضع ، فأباها ، قال الله عز وجل : ( وحرمنا عليه المراضع من قبل ) فجاءت أخته وقالت ( هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ) [ القصص : 12 ] . تعني هل أدلكم على من ترضعه لكم بالأجرة ؟ فذهبت به وهم معها إلى أمه ، فعرضت عليه ثديها ، فقبله ، ففرحوا بذلك فرحا شديدا ، واستأجروها على إرضاعه فنالها بسببه سعادة ورفعة وراحة في الدنيا وفي الآخرة أغنم وأجزل ; ولهذا جاء في الحديث : " مثل الصانع الذي يحتسب في صنعته الخير ، كمثل أم موسى ، ترضع ولدها وتأخذ أجرها " .
وقال تعالى هاهنا : ( فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن ) أي : عليك ، ( وقتلت نفسا ) يعني : القبطي ، ( فنجيناك من الغم ) وهو ما حصل له بسبب عزم آل فرعون على قتله ففر منهم هاربا ، حتى ورد ماء مدين ، وقال له ذلك الرجل الصالح : ( لا تخف نجوت من القوم الظالمين ) [ القصص : 25 ] .
وقوله : ( وفتناك فتونا ) قال الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ، رحمه الله ، في كتاب التفسير من سننه ، قوله : ( وفتناك فتونا ) :
حديث الفتون
حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا أصبغ بن زيد ، حدثنا القاسم بن أبي أيوب ، أخبرني سعيد بن جبير ، قال : سألت عبد الله بن عباس عن قول الله - عز وجل - لموسى ، عليه السلام : ( وفتناك فتونا ) فسألته عن الفتون ما هو ؟ فقال : استأنف النهار يا بن جبير ، فإن لها حديثا طويلا . فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون ، فقال : تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم ، عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا ، فقال بعضهم : إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك ، ما يشكون فيه وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب ، فلما هلك قالوا : ليس هكذا كان وعد إبراهيم ، فقال فرعون : فكيف ترون ؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار ، يطوفون في بني إسرائيل ، فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه . ففعلوا ذلك ، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم ، والصغار يذبحون ، قالوا : يوشك أن تفنوا بني إسرائيل ، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم ، فاقتلوا عاما كل مولود ذكر ، فيقل أبناؤهم ودعوا عاما فلا تقتلوا منهم أحدا ، فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار; فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم فتخافوا مكاثرتهم إياكم ، ولم يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم ، فأجمعوا أمرهم على ذلك .
فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان ، فولدته علانية آمنة . فلما كان من قابل حملت بموسى ، عليه السلام ، فوقع في قلبها الهم والحزن ، وذلك من الفتون - يا بن جبير - ما دخل عليه في بطن أمه ، مما يراد به ، فأوحى الله جل ذكره إليها أن ( لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) [ القصص : 7 ] فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم . فلما ولدت فعلت ذلك ، فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان ، فقالت في نفسها : ما فعلت بابني ، لو ذبح عندي فواريته وكفنته ، كان أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه .
فانتهى الماء به حتى أوفى به عند فرضة مستقى جواري امرأة فرعون ، فلما رأينه أخذنه فهممن أن يفتحن التابوت ، فقال بعضهن إن في هذا مالا وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدناه فيه ، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئا حتى رفعنه إليها . فلما فتحته رأت فيه غلاما ، فألقي عليه منها محبة لم يلق منها على أحد قط . وأصبح فؤاد أم موسى فارغا من ذكر كل شيء ، إلا من ذكر موسى .
فلما سمع الذباحون بأمره ، أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه ، وذلك من الفتون يا بن جبير ، فقالت لهم : أقروه ، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتى آتي فرعون فأستوهبه منه ، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم ، وإن أمر بذبحه لم ألمكم .
فأتت فرعون فقالت : ( قرة عين لي ولك ) [ القصص : 9 ] فقال فرعون : يكون لك ، فأما لي فلا حاجة لي فيه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته ، لهداه الله كما هداها ، ولكن حرمه ذلك " . فأرسلت إلى من حولها ، إلى كل امرأة لها لبن لتختار له ظئرا ، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت ، فأحزنها ذلك ، فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ، ترجو أن تجد له ظئرا تأخذه منها ، فلم يقبل ، وأصبحت أم موسى والها ، فقالت لأخته : قصي أثره واطلبيه ، هل تسمعين له ذكرا ، أحي ابني أم قد أكلته الدواب ؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه ، فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون - والجنب : أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد وهو إلى جنبه وهو لا يشعر به - فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤرات : أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون . فأخذوها فقالوا : ما يدريك ؟ ما نصحهم له ؟ هل يعرفونه ؟ حتى شكوا في ذلك ، وذلك من الفتون يا بن جبير . فقالت : نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في ظؤرة الملك ، ورجاء منفعة الملك . فأرسلوها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر . فجاءت أمه ، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه ، حتى امتلأ جنباه ريا ، وانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرا . فأرسلت إليها . فأتت بها وبه فلما رأت ما يصنع بها قالت : امكثي ترضعي ابني هذا ، فإني لم أحب شيئا حبه قط . قالت أم موسى : لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع ، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي ، فيكون معي لا آلوه خيرا ؛ فعلت ، وإلا فإني غير تاركة بيتي وولدي . وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها فيه ، فتعاسرت على امرأة فرعون ، وأيقنت أن الله منجز وعده فرجعت به إلى بيتها من يومها ، وأنبته الله نباتا حسنا وحفظه لما قد قضى فيه .
فلم يزل بنو إسرائيل ، وهم في ناحية القرية ، ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم ، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى : أتريني ابني ؟ فوعدتها يوما تريها إياه فيه ، وقالت امرأة فرعون لخزانها وظؤرها وقهارمتها : لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة لأرى ذلك وأنا باعثة أمينا يحصي ما يصنع كل إنسان منكم ، فلم تزل الهدايا والنحل والكرامة تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون ، فلما دخل عليها نحلته وأكرمته ، وفرحت به ونحلت أمه لحسن أثرها عليه ، ثم قالت : لآتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه ، فلما دخلت به عليه جعله في حجره ، فتناول موسى لحية فرعون يمدها إلى الأرض ، فقال الغواة من أعداء الله لفرعون : ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه ، إنه زعم أن يرثك ويعلوك ويصرعك ، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه . وذلك من الفتون يا بن جبير بعد كل بلاء ابتلي به ، وأريد به .
فجاءت امرأة فرعون فقالت ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي ؟ فقال : ألا ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني! فقالت : اجعل بيني وبينك أمرا يعرف فيه الحق ، ائت بجمرتين ولؤلؤتين ، فقربهن إليه ، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين فاعرف أنه يعقل ، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين ، علمت أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل . فقرب إليه فتناول الجمرتين ، فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده ، فقالت المرأة : ألا ترى ؟ فصرفه الله عنه بعد ما كان قد هم به ، وكان الله بالغا فيه أمره .
فلما بلغ أشده وكان من الرجال ، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة ، حتى امتنعوا كل الامتناع ، فبينما موسى ، عليه السلام ، يمشي في ناحية المدينة ، إذا هو برجلين يقتتلان ، أحدهما فرعوني والآخر إسرائيلي ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فغضب موسى غضبا شديدا; لأنه تناوله وهو يعلم منزلته من بني إسرائيل وحفظه لهم ، لا يعلم الناس إلا أنما ذلك من الرضاع ، إلا أم موسى ، إلا أن يكون الله سبحانه أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره . فوكز موسى الفرعوني فقتله ، وليس يراهما أحد إلا الله عز وجل والإسرائيلي ، فقال موسى حين قتل الرجل : ( هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ) [ القصص : 15 ] . ثم قال ( رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ) [ القصص : 16 ] فأصبح في المدينة خائفا يترقب الأخبار ، فأتى فرعون ، فقيل له : إن بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم . فقال : ابغوني قاتله ، ومن يشهد عليه ، فإن الملك وإن كان صغوه مع قومه لا يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت ، فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم . فبينما هم يطوفون ولا يجدون ثبتا ، إذا بموسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلا من آل فرعون آخر . فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فصادف موسى قد ندم على ما كان منه وكره الذي رأى ، فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني ، فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم : ( إنك لغوي مبين ) فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال له ما قال ، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني فخاف أن يكون بعد ما قال له : ( إنك لغوي مبين ) [ القصص : 18 ] أن يكون إياه أراد ، ولم يكن أراده ، وإنما أراد الفرعوني . فخاف الإسرائيلي وقال : ( يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ) [ القصص : 19 ] وإنما قاله مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله ، فتتاركا ، وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول : ( أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ) فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى ، فأخذ رسل فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هيئتهم يطلبون موسى ، وهم لا يخافون أن يفوتهم ، فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة ، فاختصر طريقا حتى سبقهم إلى موسى ، فأخبره وذلك من الفتون يا بن جبير .
فخرج موسى متوجها نحو مدين ، لم يلق بلاء قبل ذلك ، وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه عز وجل ، فإنه قال : ( عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان ) [ القصص : 22 ، 23 ] .
يعني بذلك حابستين غنمهما ، فقال لهما : ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس ؟ قالتا ليس لنا قوة نزاحم القوم ، إنما ننتظر فضول حياضهم . فسقى لهما ، فجعل يغترف في الدلو ماء كثيرا ، حتى كان أول الرعاء ، فانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما ، وانصرف موسى ، عليه السلام ، فاستظل بشجرة ، وقال : ( رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) [ القصص : 24 ] . واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلا بطانا فقال : إن لكما اليوم لشأنا ، فأخبرتاه بما صنع موسى ، فأمر إحداهما أن تدعوه ، فأتت موسى فدعته ، فلما كلمه قال : ( لا تخف نجوت من القوم الظالمين ) [ القصص : 25 ] . ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان ولسنا في مملكته ، فقالت إحداهما : ( يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ) [ القصص : 26 ] فاحتملته الغيرة على أن قال لها : ما يدريك ما قوته ؟ وما أمانته ؟ فقالت : أما قوته ، فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا ؛ لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه ، وأما الأمانة فإنه نظر إلي حين أقبلت إليه وشخصت له ، فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه ، حتى بلغته رسالتك . ثم قال لي : امشي خلفي ، وانعتي لي الطريق . فلم يفعل هذا إلا وهو أمين ، فسري عن أبيها وصدقها ، وظن به الذي قالت .
فقال له : هل لك ( أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ) [ القصص : 27 ] ففعل فكانت على نبي الله موسى ثماني سنين واجبة ، وكانت سنتان عدة منه ، فقضى الله عنه عدته فأتمها عشرا .
قال سعيد - وهو ابن جبير - : فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم قال : هل تدري أي الأجلين قضى موسى ؟ قلت : لا . وأنا يومئذ لا أدري . فلقيت ابن عباس ، فذكرت له ذلك ، فقال : أما علمت أن ثمانيا كانت على نبي الله واجبة ، لم يكن لنبي الله أن ينقص منها شيئا ، ويعلم أن الله كان قاضيا عن موسى عدته التي وعده فإنه قضى عشر سنين . فلقيت النصراني فأخبرته ذلك ، فقال : الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك . قلت : أجل ، وأولى .
فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن ، فشكا إلى الله تعالى ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه ، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام ، وسأل ربه أن يعينه بأخيههارون ، يكون له ردءا ، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه . فآتاه الله سؤله ، وحل عقدة من لسانه ، وأوحى الله إلى هارون وأمره أن يلقاه . فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون ، عليهما السلام . فانطلقا جميعا إلى فرعون ، فأقاما على بابه حينا لا يؤذن لهما ، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد ، فقالا ( إنا رسولا ربك ) [ طه : 47 ] . قال : فمن ربكما ؟ فأخبره بالذي قص الله عليك في القرآن ؟ قال : فما تريدان ؟ وذكره القتيل ، فاعتذر بما قد سمعت . قال : أريد أن تؤمن بالله ، وترسل معي بنى إسرائيل ؟ فأبى عليه وقال : ( فأت بآية إن كنت من الصادقين ) [ الشعراء : 154 ] . فألقى عصاه فإذا هي حية تسعى عظيمة فاغرة فاها ، مسرعة إلى فرعون . فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها ، فاقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه . ففعل ، ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء - يعني من غير برص - ثم ردها فعادت إلى لونها الأول . فاستشار الملأ حوله فيما رأى ، فقالوا له : هذان ساحران ( يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى ) [ طه : 63 ] يعني : ملكهم الذي هم فيه والعيش ، وأبوا على موسى أن يعطوه شيئا مما طلب ، وقالوا له : اجمع السحرة فإنهم بأرضك كثير حتى تغلب بسحرك سحرهما . فأرسل إلى المدائن فحشر له كل ساحر متعالم ، فلما أتوا فرعون قالوا : بم يعمل هذا الساحر ؟ قالوا : يعمل بالحيات . قالوا : فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصي الذي نعمل . فما أجرنا إن نحن غلبنا ؟ قال لهم : أنتم أقاربي وخاصتي ، وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم ، فتواعدوا يوم الزينة ، وأن يحشر الناس ضحى .
قال سعيد بن جبير : فحدثني ابن عباس : أن يوم الزينة الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة ، هو يوم عاشوراء .
فلما اجتمعوا في صعيد واحد قال الناس بعضهم لبعض : انطلقوا فلنحضر هذا الأمر ، ( لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين ) [ الشعراء : 40 ] يعنون موسى وهارون استهزاء بهما ، فقالوا : يا موسى - لقدرتهم بسحرهم - ( إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين ) [ الأعراف : 115 ] ( قال بل ألقوا ) [ طه : 66 ] ( فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ) [ الشعراء : 44 ] فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة فأوحى الله إليه أن ألق عصاك ، فلما ألقاها صارت ثعبانا عظيمة فاغرة فاها ، فجعلت العصي تلتبس بالحبال حتى صارت جزرا إلى الثعبان ، تدخل فيه ، حتى ما أبقت عصا ولا حبالا إلا ابتلعته ، فلما عرفت السحرة ذلك قالوا : لو كان هذا سحرا لم يبلغ من سحرنا كل هذا ، ولكنه أمر من الله عز وجل ، آمنا بالله وبما جاء به موسى ، ونتوب إلى الله مما كنا عليه . فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه ، وظهر الحق ، وبطل ما كانوا يعملون ( فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ) [ الأعراف : 119 ] وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه ، فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه ، وإنما كان حزنها وهمها لموسى .
فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة ، كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل ، فإذا مضت أخلف موعده وقال : هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا ؟ فأرسل الله على قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات ، كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ، ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل ، فإذا كف ذلك أخلف موعده ، ونكث عهده .
حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلا فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين ، فتبعه بجنود عظيمة كثيرة ، وأوحى الله إلى البحر : إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة ، حتى يجوز موسى ومن معه ، ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه . فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا وانتهى إلى البحر وله قصيف ، مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصيا لله .
فلما تراءى الجمعان وتقاربا ، قال أصحاب موسى : إنا لمدركون ، افعل ما أمرك به ربك ، فإنه لم يكذب ولم تكذب . قال : وعدني أن إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة ، حتى أجاوزه . ثم ذكر بعد ذلك العصا فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى ، فانفرق البحر كما أمره ربه وكما وعد موسى ، فلما أن جاز موسى وأصحابه كلهم البحر ، ودخل فرعون وأصحابه ، التقى عليهم البحر كما أمر ، فلما جاوز موسى البحر قال أصحابه : إنا نخاف ألا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه . فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه .
ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم : ( قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون ) [ الأعراف : 138 ، 139 ] . قد رأيتم من العبر وسمعتم ما يكفيكم . ومضى ، فأنزلهم موسى منزلا وقال أطيعوا هارون ، فإني قد استخلفته عليكم ، فإني ذاهب إلى ربي . وأجلهم ثلاثين يوما أن يرجع إليهم فيها ، فلما أتى ربه وأراد أن يكلمه في ثلاثين يوما وقد صامهن ، ليلهن ونهارهن ، وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم ، فتناول موسى من نبات الأرض شيئا فمضغه ، فقال له ربه حين أتاه : لم أفطرت ؟ وهو أعلم بالذي كان ، قال : يا رب ، إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح . قال : أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب من ريح المسك ، ارجع فصم عشرا ثم ائتني . ففعل موسى ، عليه السلام ، ما أمر به ، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم في الأجل ، ساءهم ذلك . وكان هارون قد خطبهم وقال : إنكم قد خرجتم من مصر ، ولقوم فرعون عندكم عواري وودائع ، ولكم فيهم مثل ذلك وأنا أرى أنكم تحتسبون ما لكم عندهم ، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية ، ولسنا برادين إليهم شيئا من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا ، فحفر حفيرا ، وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير ، ثم أوقد عليه النار فأحرقه ، فقال لا يكون لنا ولا لهم .
وكان السامري من قوم يعبدون البقر ، جيران لبني إسرائيل ولم يكن من بني إسرائيل ، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا ، فقضي له أن رأى أثرا فقبض منه قبضة ، فمر بهارون ، فقال له هارون ، عليه السلام : يا سامري ، ألا تلقي ما في يدك ؟ وهو قابض عليه ، لا يراه أحد طوال ذلك ، فقال : هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر ، ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد . فألقاها ، ودعا له هارون ، فقال : أريد أن يكون عجلا . فاجتمع ما كان في الحفيرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد ، فصار عجلا أجوف . ليس فيه روح ، وله خوار .
قال ابن عباس : لا والله ، ما كان له صوت قط ، إنما كانت الريح تدخل في دبره وتخرج من فيه ، فكان ذلك الصوت من ذلك .
فتفرق بنو إسرائيل فرقا ، فقالت فرقة : يا سامري ما هذا ؟ وأنت أعلم به . قال : هذا ربكم ولكن موسى أضل الطريق . وقالت فرقة : لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى ، فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأيناه ، وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى . وقالت فرقة : هذا عمل الشيطان ، وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق ، وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل ، وأعلنوا التكذيب به ، فقال لهم هارون : ( يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن ) [ طه : 90 ] . قالوا فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوما ثم أخلفنا ، هذه أربعون يوما قد مضت ؟ وقال سفهاؤهم : أخطأ ربه فهو يطلبه ويتبعه .
فلما كلم الله موسى وقال له ما قال ، أخبره بما لقي قومه من بعده ، ( فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا ) [ طه : 86 ] فقال لهم ما سمعتم في القرآن ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه ، وألقى الألواح من الغضب ، ثم إنه عذر أخاه بعذره ، واستغفر له وانصرف إلى السامري فقال له : ما حملك على ما صنعت ؟ قال : قبضت قبضة من أثر الرسول ، وفطنت لها وعميت عليكم فقذفتها ( وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ) [ طه : 96 ، 97 ] ولو كان إلها لم يخلص إلى ذلك منه . فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة ، واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون ، فقالوا لجماعتهم : يا موسى ، سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها ، فيكفر عنا ما عملنا . فاختار موسى قومه سبعين رجلا لذلك ، لا يألو الخير خيار بني إسرائيل ، ومن لم يشرك في العجل ، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة ، فرجفت بهم الأرض ، فاستحيا نبي الله من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل فقال : ( رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ) [ الأعراف : 155 ] وفيهم من كان اطلع الله منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمانه به ، فلذلك رجفت بهم الأرض ، فقال : ( ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ) [ الأعراف : 156 ، 157 ] . فقال : يا رب ، سألتك التوبة لقومي ، فقلت : إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي ، هلا أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة ؟ فقال له : إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم من لقي من والد وولد ، فيقتله بالسيف ، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن . وتاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون واطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها ، وفعلوا ما أمروا ، وغفر الله للقاتل والمقتول .
ثم سار بهم موسى ، عليه السلام متوجها نحو الأرض المقدسة ، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب ، فأمرهم بالذي أمر به أن يبلغهم من الوظائف ، فثقل ذلك عليهم ، وأبوا أن يقروا بها ، فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة ، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون ينظرون إلى الجبل ، والكتاب بأيديهم ، وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم . ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة ، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون خلقهم خلق منكر - وذكروا من ثمارهم أمرا عجيبا من عظمها - فقالوا : يا موسى إن فيها قوما جبارين ، لا طاقة لنا بهم ، ولا ندخلها ما داموا فيها ، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون . قال رجلان من الذين يخافون - قيل ليزيد : هكذا قرأه ؟ قال : نعم من الجبارين ، آمنا بموسى ، وخرجا إليه ، فقالوا : نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم ، فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم ، فادخلوا عليهم الباب ، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون - ويقول أناس : إنهم من قوم موسى . فقال الذين يخافون ، بنو إسرائيل : ( قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) [ المائدة : 24 ] فأغضبوا موسى ، فدعا عليهم وسماهم فاسقين ، ولم يدع عليهم قبل ذلك ، لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذ فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم فاسقين ، فحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ، يصبحون كل يوم فيسيرون ، ليس لهم قرار ، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ ، وجعل بين ظهرانيهم حجرا مربعا ، وأمر موسى فضربه بعصاه . فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، في كل ناحية ثلاث أعين ، وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها ، فلا يرتحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك الحجر معهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس .
رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وصدق ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس يحدث هذا الحديث ، فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل ، فقال : كيف يفشي عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك ؟ . فغضب ابن عباس ، فأخذ بيد معاوية فانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري ، فقال له : يا أبا إسحاق ، هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون ؟ الإسرائيلي الذي أفشى عليه أم الفرعوني ؟ قال : إنما أفشى عليه الفرعوني ، بما سمع من الإسرائيلي الذي شهد على ذلك وحضره .
هكذا رواه الإمام النسائي في السنن الكبرى ، وأخرجه أبو جعفر بن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما كلهم من حديث يزيد بن هارون به وهو موقوف من كلام ابن عباس ، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه ، وكأنه تلقاه ابن عباس ، رضي الله عنه مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره ، والله أعلم . وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضا .
القول في تأويل قوله تعالى : إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
وقوله ( إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ ) يقول تعالى ذكره: حين تمشي أختك تتبعك حتى وجدتك، ثم تأتي من يطلب المراضع لك، فتقول: هل أدلكم على من يكفله؟ وحذف من الكلام ما ذكرت بعد قوله ( إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ ) استغناء بدلالة الكلام عليه.
وإنما قالت أخت موسى ذلك لهم لِما حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: لما ألقته أمه في اليم ( قَالَتْ لِأخْتِهِ قُصِّيهِ) فلما التقطه آل فرعون، وأرادوا له المرضعات، فلم يأخذ من أحد من &; 18-305 &; النساء، وجعل النساء يطلبن ذلك لينـزلن عند فرعون في الرضاع، فأبى أن يأخذ، فقالت أخته: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ؟ فأخذوها وقالوا: بل قد عرفت هذا الغلام، فدلينا على أهله، قالت: ما أعرفه، ولكن إنما قلت هم للملك ناصحون.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: قالت، يعني أم موسى لأخته: قصيه فانظري ماذا يفعلون به، فخرجت في ذلك فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وقد احتاج إلى الرضاع والتمس الثدي، وجمعوا له المراضع حين ألقى الله محبتهم عليه، فلا يؤتى بامرأة، فيقبل ثديها، فيرمضهم ذلك، فيؤتى بمرضع بعد مرضع، فلا يقبل شيئا منهم، فقالت لهم أخته حين رأت من وجدهم به وحرصهم عليه هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ أي لمنـزلته عندكم وحرصكم على مسرّة الملك ، وعنى بقوله: ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ ) هل أدلكم على من يضمه إليه فيحفظه ويرضعه ويربيه، وقيل: معنى وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ضمها.
وقوله ( فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ ) يقول تعالى ذكره: فرددناك إلى أمك بعد ما صرت في أيدي آل فرعون، كيما تقرّ عينها بسلامتك ونجاتك من القتل والغرق في اليم، وكيلا تحزن عليك من الخوف من فرعون عليك أن يقتلك.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما قالت أخت موسى لهم ما قالت، قالوا: هات، فأتت أمه فأخبرتها، فانطلقت معها حتى أتتهم، فناولوها إياه، فلما وضعته في حجرها أخذ ثديها، وسرّوا بذلك منه، وردّه الله إلى أمه كي تقرّ عينها، ولا تحزن، فبلغ لطف الله لها وله، أن ردّ عليها ولدها وعطف عليها نفع فرعون وأهل بيته مع الأمنة من القتل الذي يتخوف على غيره، فكأنهم كانوا من أهل بيت فرعون في الأمان والسعة، فكان على فرش فرعون وسرره.
وقوله ( وَقَتَلْتَ نَفْسًا ) يعني جلّ ثناؤه بذلك: قتله القبطي الذي قتله حين استغاثه عليه الإسرائيلي، فوكزه موسى. وقوله ( فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ ) يقول تعالى ذكره: فنجيناك من غمك بقتلك النفس التي قتلت، إذ أرادوا أن يقتلوك &; 18-306 &; بها فخلصناك منهم، حتى هربت إلى أهل مدين، فلم يصلوا إلى قتلك وقودك.
وكان قتله إياه فيما ذُكر خطأ، كما حدثني واصل بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن أبيه، عن سالم، عن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنَّما قَتَلَ مُوسَى الَّذي قَتَلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ خَطَأ، فقال الله له ( وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا )".
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، ومحمد بن عمرو، قالا ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ ) قال: من قتل النفس.
حدثنا بِشْر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ ) النفس التي قتل.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) فقال بعضهم: ابتليناك ابتلاء واختبرناك اختبارا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) يقول: اختبرناك اختبارا.
حدثني محمّد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، ( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) قال: ابتليت بلاء.
حدثني العباس بن الوليد الآملي، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا أصبغ بن زيد الجهني، قال: أخبرنا القاسم بن أيوب، قال: ثني سعيد بن جبير، قال: سألت عبد الله بن عباس، عن قول الله لموسى ( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) فسألته على الفتون ما هي؟ فقال لي: استأنف النهار يا بن جبير، فإن لها حديثا طويلا قال: فلما أصبحت غدوت على ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني، قال: فقال ابن عباس: تذاكر فرعون وجلساؤه ما وعد الله إبراهيم أن يجعل في ذرّيته أنبياء وملوكا، فقال بعضهم: إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك وما يشكون، ولقد كانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب; فلما هلك قالوا: ليس هكذا كان الله وعد إبراهيم، فقال فرعون: فكيف ترون؟ قال: فأتمروا بينهم، وأجمعوا أمرهم على &; 18-307 &; أن يبعث رجالا معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولودًا ذكرًا إلا ذبحوه; فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، وأن الصغار يذبحون، قالوا: يوشك أن تفنوا بني إسرائيل، فتصيرون إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم، فاقتلوا عاما كلّ مولود ذكر، فيقل أبناؤهم، ودعوا عاما لا تقتلوا منهم أحدا، فتشبّ الصغار مكان من يموت من الكبار، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم، فتخافون مكاثرتهم إياكم، ولن يقلوا بمن تقتلون، فأجمعوا أمرهم على ذلك.
فحملت أمّ موسى بهارون في العام المقبل الذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة، حتى إذا كان العام المقبل حملت بموسى، فوقع في قلبها الهمّ والحزن، وذلك من الفتون يا ابن جبير، مما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به، فأوحى الله إليها وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ وأمرها إذا ولدته أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم، فلما ولدته فعلت ما أمرت به، حتى إذا توارى عنها ابنها أتاها إبليس، فقالت في نفسها: ما صنعت بابني لو ذبح عندي، فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه بيدي إلى حيتان البحر ودوابه، فانطلق به الماء حتى أوفى به عند فرضة مستقى جواري آل فرعون، فرأينه فأخذنه، فهممن أن يفتحن الباب، فقال بعضهن لبعض: إن في هذا مالا وإنا إن فتحناه لم تصدّقنا امرأة فرعون بما وجدنا فيه، فحملنه كهيئته لم يحرّكن منه شيئا، حتى دفعنه إليها; فلما فتحته رأت فيه الغلام، فألقي عليه منها محبة لم يلق مثلها منها على أحد من الناس وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا من كلّ شيء إلا من ذكر موسى ، فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا إلى امرأة فرعون بشفارهم، يريدون أن يذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جُبير، فقالت للذباحين: انصرفوا عني، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل، فآتي فرعون فأستوهبه إياه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم، فلما أتت به فرعون قالت قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ قال فرعون: يكون لك، وأما أنا فلا حاجة لي فيه، فقال: والذي يحلف به لو أقرّ فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت به، لهداه الله به كما هدى به امرأته، ولكن الله حرمه ذلك، فأرسلت إلى من حولها من كلّ أنثى لها لبن، لتختار له ظئرا، فجعل كلما أخذته امرأة منهم لترضعه لم يقبل ثديها، حتى &; 18-308 &; أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، فحزنها ذلك، فأمرت به فأخرج إلى السوق مجمع الناس ترجو أن تصيب له ظئرا يأخذ منها، فلم يقبل من أحد ، وأصبحت أمّ موسى، فقالت لأخته: قصيه واطلبيه، هل تسمعين له ذكرا، أحي ابني، أو قد أكلته دواب البحر وحيتانه؟ ونسيت الذي كان الله وعدها، فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون، فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤورات: أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فأخذوها وقالوا: وما يدريك ما نصحهم له، هل يعرفونه حتى شكوا في ذلك، وذلك من الفتون &; 18-309 &; يا ابن جُبير، فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه، رغبتهم في ظؤورة الملك، ورجاء منفعته، فتركوها، فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت، فلما وضعته في حجرها نـزا إلى ثديها حتى امتلأ جنباه، فانطلق البُشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرا، فأرسلت إليها، فأتيت بها وبه، فلما رأت ما يصنع بها قالت: امكثي عندي حتى ترضعي ابني هذا فإني لم أحبّ حبه شيئا قطّ ، قال: فقالت: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي، فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه، فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرا فعلت، وإلا فإني غير تاركة بيتي وولدي، وذكرت أمّ موسى ما كان الله وعدها، فتعاسرت على امرأة فرعون، وأيقنت أن الله تبارك وتعالى منجز وعده، فرجعت بابنها إلى بيتها من يومها، فأنبته الله نباتا حسنا، وحفظه لما قضى فيه، فلم يزل بنو إسرائيل وهم مجتمعون في ناحية المدينة يمتنعون به من الظلم والسخرة التي كانت فيهم.
فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأمّ موسى: أزيريني ابني فوعدتها يوما تزيرها إياه فيه، فقالت لخواصها وظؤورتها وقهارمتها: لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني بهدية وكرامة ليرى ذلك، وأنا باعثة أمينة تحصي كل ما يصنع كلّ إنسان منكم ، فلم تزل الهدية والكرامة والتحف تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فلما دخل عليها نحلته وأكرمته، وفرحت به، وأعجبها ما رأت من حُسن أثرها عليه، وقالت: انطلقن به إلى فرعون، فلينحله، وليكرمه ، فلما دخلوا به عليه جعلته في حجره، فتناول موسى لحية فرعون حتى مدّها، فقال عدوّ من أعداء الله: ألا ترى ما وعد الله إبراهيم أنه سيصرعك ويعلوك، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه وذلك من الفتون يا بن جُبَير، بعد كلّ بلاء ابتلي به وأريد به، فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون، فقالت: ما بدا لك في هذا الصبيّ الذي قد وهبته لي؟ قال: ألا ترين يزعم أنه سيصرعني ويعلوني، فقالت: اجعل بيني وبينك أمرا تعرف فيه الحق، ائت بجمرتين ولؤلؤتين، فقرّبهنّ إليه، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين علمت أنه يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين، فاعلم أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل، فقرّب ذلك إليه، فتناول الجمرتين، فنـزعوهما منه مخافة أن تحرقا يده، فقالت المرأة: ألا ترى؟ فصرفه الله عنه بعد ما قد همّ به، وكان الله بالغا فيه أمره.
فلما بلغ أشدّه، وكان من الرجال، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة، حتى امتنعوا كلّ امتناع، فبينما هو يمشي ذات يوم في ناحية المدينة، إذ هو برجلين يقتتلان، أحدهما من بني إسرائيل، والآخر من آل فرعون، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى واشتدّ غضبه، لأنه تناوله وهو يعلم منـزلة موسى من بني إسرائيل، وحفظه لهم، ولا يعلم الناس إلا أنما ذلك من قِبَل الرضاعة غير أمّ موسى، إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره; فوكز موسى الفرعوني فقتله، وليس يراهما أحد إلا الله والإسرائيلي، فقال موسى حين قتل الرجل: ( هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) ثُمَّ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ الأخبار، فأتى فرعون، فقيل له: إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلا من آل فرعون، فخُذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم في ذلك، فقال: ابغوني قاتله ومن يشهد عليه، لأنه لا يستقيم أن يقضي بغير بيِّنة ولا ثبت، فطلبوا له ذلك; فبينما هم يطوفون لا يجدون ثَبَتا، إذ مرّ موسى من الغد، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيا، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فصادف موسى وقد ندم على ما كان منه بالأمس وكره الذي رأى، فغضب موسى، فمدّ يده وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، قال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ فنظر الإسرائيلي موسى بعد ما قال، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه &; 18-310 &; الفرعوني، فخاف أن يكون بعد ما قال له إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ أن يكون إياه أراد، ولم يكن أراده، وإنما أراد الفرعوني، فخاف الإسرائيلي، فحاجز الفرعوني فقال يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ وإنما قال ذلك مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله، فتتاركا; فانطلق الفرعوني إلى قومه، فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس؟ فأرسل فرعون الذباحين، فسلك موسى الطريق الأعظم، فطلبوه وهم لا يخافون أن يفوتهم. وجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة، فاختصر طريقًا قريبًا حتى سبقهم إلى موسى، فأخبره الخبر، وذلك من الفتون يا بن جُبير.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فُتُونًا) قال: بلاء، إلقاؤه في التابوت، ثم في البحر، ثم التقاط آل فرعون إياه، ثم خروجه خائفا.
قال محمد بن عمرو، وقال أبو عاصم: خائفا، أو جائعا " شكّ أبو عاصم "، وقال الحارث: خائفا يترقب، ولم يشك.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله وقال: خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ، ولم يشك.
حدثنا بِشْر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) يقول: ابتليناك بلاء.
حُدِثت عن الحسين، قال: سمعت أبا مُعاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) هو البلاء على إثر البلاء.
وقال آخرون: معنى ذلك: أخلصناك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) أخلصناك إخلاصا.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن يعلى بن مسلم، قال: سمعت سعيد بن جُبير، يفسِّر هذا الحرف ( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) قال: أخلصناك إخلاصا.
&; 18-311 &;
قال أبو جعفر: وقد بيَّنا فيما مضى من كتابنا هذا معنى الفتنة، وأنها الابتلاء والاختبار بالأدلة المُغنية عن الإعادة في هذا الموضع.
وقوله ( فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ) وهذا الكلام قد حذف منه بعض ما به تمامه اكتفاء بدلالة ما ذكر عما حذف. ومعنى الكلام: وفتناك فتونا، فخرجت خائفا إلى أهل مدين، فلبثت سنين فيهم.
وقوله ( ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ) يقول جلّ ثناؤه: ثم جئت للوقت الذي أردنا إرسالك إلى فرعون رسولا ولمقداره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ) يقول: لقد جئت لميقات يا موسى.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن مجاهد، قال ( عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ) قال: موعد.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قال: علي ذي موعد.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: ( عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ) قال: قدر الرسالة والنبوّة ، والعرب تقول: جاء فلان على قدر: إذا جاء لميقات الحاجة إليه; ومنه قول الشاعر:
نـالَ الخِلافَـةَ أوْ كـانَتْ لَـهُ قَـدَرا
كَمَـا أَتـى رَبَّـهُ مُوسَـى عَـلى قَدَرِ (1)
---------------
الهوامش:
(1) هذا البيت لجرير ، من قصيدة عدة تسعة وعشرون بيتا في ديوانه ( طبعة الصاوي بالقاهرة 274 - 276 ) والرواية فيه : " نال الخلافة " كرواية المؤلف ، وفي بعض كتب الشواهد : " جاء الخلافة " . وفي هامش الديوان : ويروى : " عز الخلافة " البيت . ومحل الشاهد في البيت ، قوله : " على قدر " فإن معناه : القضاء الموافق . قال في ( اللسان : قدر ) : يقال : قدر الإله كذا تقديرا ؛ وإذا وافق الشيء الشيء قلت : جاء قدره ، وقال ابن سيده : القدر والقدر ( بسكون الدال وتحريكها ) : القضاء والحكم ، وهو ما يقدره الله عز وجل من القضاء ، ويحكم به من الأمور .
Quran Translation Sura Taa-Haa aya 40
[And We favored you] when your sister went and said, 'Shall I direct you to someone who will be responsible for him?' So We restored you to your mother that she might be content and not grieve. And you killed someone, but We saved you from retaliation and tried you with a [severe] trial. And you remained [some] years among the people of Madyan. Then you came [here] at the decreed time, O Moses.