يقول تعالى لائما لهم على نكولهم عن الجهاد ودخول الأرض المقدسة ، لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى ، عليه السلام ، فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل ، وقتال من فيها من العماليق الكفرة ، فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا ، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم ، كما ذكره تعالى في سورة المائدة ؛ ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس ، كما نص على ذلك السدي ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، [ وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد وقد قال الله تعالى : ( يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ) الآيات ] . [ المائدة : 21 - 24 ]
وقال آخرون : هي أريحا [ ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد ] وهذا بعيد ؛ لأنها ليست على طريقهم ، وهم قاصدون بيت المقدس لا أريحا [ وأبعد من ذلك قول من ذهب أنها مصر ، حكاه فخر الدين في تفسيره ، والصحيح هو الأول ؛ لأنها بيت المقدس ] . وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون ، عليه السلام ، وفتحها الله عليهم عشية جمعة ، وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلا حتى أمكن الفتح ، وأما أريحا فقرية ليست مقصودة لبني إسرائيل ، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب - باب البلد - ( سجدا ) أي : شكرا لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر ، ورد بلدهم إليهم وإنقاذهم من التيه والضلال .
قال العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله : ( وادخلوا الباب سجدا ) أي ركعا .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، وعن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : ( وادخلوا الباب سجدا ) قال : ركعا من باب صغير .
رواه الحاكم من حديث سفيان ، به . ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان ، وهو الثوري ، به . وزاد : فدخلوا من قبل استاههم .
[ وقال الحسن البصري : أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم ، واستبعده الرازي ، وحكى عن بعضهم : أن المراد بالسجود هاهنا الخضوع لتعذر حمله على حقيقته ] .
وقال خصيف : قال عكرمة ، قال ابن عباس : كان الباب قبل القبلة .
وقال [ ابن عباس ] ومجاهد ، والسدي ، وقتادة ، والضحاك : هو باب الحطة من باب إيلياء ببيت المقدس ، [ وحكى الرازي عن بعضهم أنه عن باب جهة من جهات القرية ] .
وقال خصيف : قال عكرمة : قال ابن عباس : فدخلوا على شق ، وقال السدي ، عن أبي سعيد الأزدي ، عن أبي الكنود ، عن عبد الله بن مسعود : وقيل لهم ادخلوا الباب سجدا ، فدخلوا مقنعي رؤوسهم ، أي : رافعي رؤوسهم خلاف ما أمروا .
وقوله : ( وقولوا حطة ) قال الثوري عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وقولوا حطة ) قال : مغفرة ، استغفروا .
وروي عن عطاء ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، نحوه .
وقال الضحاك عن ابن عباس : ( وقولوا حطة ) قال : قولوا : هذا الأمر حق ، كما قيل لكم .
وقال عكرمة : قولوا : لا إله إلا الله .
وقال الأوزاعي : كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه يسأله عن قوله تعالى : ( وقولوا حطة ) فكتب إليه : أن أقروا بالذنب .
وقال الحسن وقتادة : أي احطط عنا خطايانا .
( نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين ) هذا جواب الأمر ، أي : إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات وضاعفنا لكم الحسنات .
وحاصل الأمر : أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول ، وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها ، والشكر على النعمة عندها والمبادرة إلى ذلك من المحبوب لله تعالى ، كما قال تعالى : ( إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) [ سورة النصر ] فسره بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر ، وفسره ابن عباس بأنه نعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها ، وأقره على ذلك عمر [ بن الخطاب ] رضي الله عنه . ولا منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك ، ونعى إليه روحه الكريمة أيضا ؛ ولهذا كان عليه السلام يظهر عليه الخضوع جدا عند النصر ، كما روي أنه كان يوم الفتح - فتح مكة - داخلا إليها من الثنية العليا ، وإنه الخاضع لربه حتى إن عثنونه ليمس مورك رحله ، يشكر الله على ذلك . ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثماني ركعات وذلك ضحى ، فقال بعضهم : هذه صلاة الضحى ، وقال آخرون : بل هي صلاة الفتح ، فاستحبوا للإمام وللأمير إذا فتح بلدا أن يصلي فيه ثماني ركعات عند أول دخوله ، كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما دخل إيوان كسرى صلى فيه ثماني ركعات ، والصحيح أنه يفصل بين كل ركعتين بتسليم ؛ وقيل : يصليها كلها بتسليم واحد ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ
و " القرية " -التي أمرهم الله جل ثناؤه أن يدخلوها , فيأكلوا منها رغدا حيث شاءوا- فيما ذكر لنا: بيت المقدس .
*ذكر الرواية بذلك:
999 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أنبأنا عبد الرزاق قال، أنبأنا معمر , عن قتادة في قوله: (ادخلوا هذه القرية)، قال: بيت المقدس.
1000 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا &; 2-103 &; أسباط , عن السدي: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية) أما القرية، فقرية بيت المقدس.
1001 - حُدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية)، يعني بيت المقدس.
1002 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال: سألته -يعني ابن زيد- عن قوله: (ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم) قال: هي أريحا , وهي قريبة من بيت المقدس .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا
يعني بذلك: فكلوا من هذه القرية حيث شئتم عيشا هنيا واسعا بغير حساب . وقد بينا معنى " الرغد " فيما مضى من كتابنا , وذكرنا أقوال أهل التأويل فيه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا
أما " الباب " الذي أمروا أن يدخلوه, فإنه قيل: هو باب الحطة من بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك:
1003 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: (ادخلوا الباب سجدا) قال: باب الحطة، من باب إيلياء، من بيت المقدس.
1004 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد مثله .
&; 2-104 &;
1005 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد , قال: حدثنا أسباط , عن السدي: (وادخلوا الباب سجدا)، أما الباب فباب من أبواب بيت المقدس .
1006 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي ، عن أبيه , عن ابن عباس قوله: (وادخلوا الباب سجدا) أنه أحد أبواب بيت المقدس , وهو يدعى باب حطة. وأما قوله: (سجدا) فإن ابن عباس كان يتأوله بمعنى الركع.
1007 - حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش , عن المنهال بن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس في قوله: (ادخلوا الباب سجدا)، قال: ركعا من باب صغير.
1008 - حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال، حدثنا أبو أسامة , عن سفيان , عن الأعمش , عن المنهال , عن سعيد , عن ابن عباس في قوله: (ادخلوا الباب سجدا)، قال: أمروا أن يدخلوا ركعا .
* * *
قال أبو جعفر: وأصل " السجود " الانحناء لمن سُجد له معظَّما بذلك. فكل منحن لشيء تعظيما له فهو " ساجد " . ومنه قول الشاعر: (2)
بجَـمْع تضـل البُلْـقُ فـي حَجَراتـه
تــرى الأكْـم منـه سـجدا للحـوافر (3)
يعني بقوله: " سجدا " خاشعة خاضعة . ومن ذلك قول أعشى بني قيس بن ثعلبة:
يــراوح مــن صلــوات المليـك
طـــورا ســـجودا وطــورا جــؤارا (4)
فذلك تأويل ابن عباس قوله: (سجدا) ركعا , لأن الراكع منحن , وإن كان الساجد أشد انحناء منه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَقُولُوا حِطَّةٌ
وتأويل قوله: (حطة)، فعلة , من قول القائل: " حط الله عنك خطاياك فهو يحطها حطة " , بمنـزلة الردة والحِدة والمِدة من حددت ومددت.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويله . فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك: (5)
1009 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر: (وقولوا حطة)، قال قال: الحسن وقتادة: أي احطُط عنا خطايانا.
1010 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (وقولوا &; 2-106 &; حطة)، يحط الله بها عنكم ذنبكم وخطيئتكم. (6)
1011 - حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: (قولوا حطة) قال: يحط عنكم خطاياكم .
1012 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع , عن سفيان , عن الأعمش , عن المنهال بن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس قوله: (حطة)، مغفرة .
10113 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع قوله: (حطة)، قال: يحط عنكم خطاياكم .
1014 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرني حجاج , عن ابن جريج قال، قال لي عطاء في قوله: (وقولوا حطة)، قال: سمعنا أنه: يحط عنهم خطاياهم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: قولوا " لا إله إلا الله "، كأنهم وجهوا تأويله: قولوا الذي يحط عنكم خطاياكم , وهو قول لا إله إلا الله .
* ذكر من قال ذلك:
1015 - حدثني المثنى بن إبراهيم وسعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قالا أخبرنا حفص بن عمر , قال حدثنا الحكم بن أبان , عن عكرمة: (وقولوا حطة)، قال: قولوا،" لا إله إلا الله " .
* * *
وقال آخرون بمثل معنى قول عكرمة , إلا أنهم جعلوا القول الذي أمروا بقيله: الاستغفار .
* ذكر من قال ذلك:
1016 - حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي , حدثنا أبو أسامة , عن سفيان , عن الأعمش , عن المنهال , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس: (وقولوا حطة) قال: أمروا أن يستغفروا.
* * *
وقال آخرون نظير قول عكرمة , إلا أنهم قالوا: القول الذي أمروا أن يقولوه، هو أن يقولوا: هذا الأمر حق كما قيل لكم .
* ذكر من قال ذلك:
1017 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس في قوله: (وقولوا حطة)، قال: قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم.
* * *
واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله رفعت " الحطة ".
فقال بعض نحويي البصرة: رفعت " الحطة " بمعنى " قولوا " ليكن منك حطة لذنوبنا, كما تقول للرجل: سَمْعُك.
وقال آخرون منهم: هي كلمة أمرهم الله أن يقولوها مرفوعة , وفرض عليهم قيلها كذلك .
وقال بعض نحويي الكوفيين: رفعت " الحطة " بضمير " هذه " , كأنه قال: وقولوا: " هذه " حطة. (7)
وقال آخرون منهم: هي مرفوعة بضمير معناه الخبر , كأنه قال: قولوا ما هو حطة, فتكون " حطة " حينئذ خبرا لـ " ما ".
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أقرب عندي في ذلك إلى الصواب، وأشبه بظاهر الكتاب: أن يكون رفع " حطة " بنية خبر محذوف قد دل عليه ظاهر التلاوة , وهو دخولنا الباب سجدا حطة , فكفى من تكريره بهذا اللفظ، ما دل عليه الظاهر من التنـزيل , وهو قوله: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ، كما قال جل ثناؤه: &; 2-108 &; وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ [الأعراف: 164]، (8) يعني: موعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم . فكذلك عندي تأويل قوله: (وقولوا حطة)، يعني بذلك: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ، وادخلوا الباب سجدا، وقولوا: دخولنا ذلك سجدا حطة لذنوبنا. وهذا القول على نحو تأويل الربيع بن أنس وابن جريج وابن زيد، الذي ذكرناه آنفا .
(9) قال أبوجعفر: وأما على تأويل قول عكرمة , فإن الواجب أن تكون القراءة بالنصب في" حطة " , لأن القوم إن كانوا أمروا أن يقولوا: " لا إله إلا الله " , أو أن يقولوا: " نستغفر الله " , فقد قيل لهم: قولوا هذا القول , ف " قولوا " واقع حينئذ على " الحطة " , لأن " الحطة " على قول عكرمة - هي قول " لا إله إلا الله " , وإذا كانت هي قول " لا إله إلا الله " , فالقول عليها واقع , كما لو أمر رجل رجلا بقول الخير فقال له: " قل خيرا " نصبا , ولم يكن صوابا أن يقول له: " قل خير "، إلا على استكراه شديد.
وفي إجماع القَرَأَةِ على رفع " الحطة " (10) بيان واضح على خلاف الذي قاله عكرمة من التأويل في قوله: (وقولوا حطة) . وكذلك الواجب على التأويل الذي رويناه عن الحسن وقتادة في قوله: (وقولوا حطة)، (11) أن تكون القراءة في" حطة " نصبا. لأن من شأن العرب -إذا وضعوا المصادر مواضع الأفعال، وحذفوا الأفعال- أن ينصبوا المصادر. كما قال الشاعر: (12)
&; 2-109 &; أبيــدوا بـأيدي عصبـة وسـيوفهم
عـلى أمهـات الهـام ضربـا شـآميا (13)
وكقول القائل للرجل: " سمعا وطاعة " بمعنى: أسمع سمعا وأطيع طاعة , وكما قال جل ثناؤه: مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف: 23] بمعنى: نعوذ بالله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : نَغْفِرْ لَكُمْ
يعني بقوله: (نغفر لكم) نتغمد لكم بالرحمة خطاياكم، ونسترها عليكم، فلا نفضحكم بالعقوبة عليها.
* * *
وأصل " الغفر " التغطية والستر , فكل ساتر شيئا فهو غافره . ومن ذلك قيل للبيضة من الحديد التي تتخذ جُنة للرأس " مغفر " , لأنها تغطي الرأس وتجنه. ومثله " غمد السيف ", وهو ما تغمده فواراه. (14) ولذلك قيل لزئبر الثوب: " غفرة " , لتغطيته الثوب، (15) وحوله بين الناظر والنظر إليه . ومنه قول أوس بن حجر:
&; 2-110 &; فـلا أعتـب ابـن العم إن كان جاهلا
وأغفـر عنـه الجـهل إن كان أجهلا (16)
يعني بقوله: وأغفر عنه الجهل: أستر عليه جهله بحلمي عنه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : خَطَايَاكُمْ
و " الخطايا " جمع " خطية " بغير همز، كما " المطايا " جمع " مطية " , والحشايا جمع حشية . وإنما ترك جمع " الخطايا " بالهمز , لأن ترك الهمز في" خطيئة " أكثر من الهمز , فجمع على " خطايا " , على أن واحدتها غير مهموزة . ولو كانت " الخطايا " مجموعة على " خطيئة " بالهمز: لقيل خطائي على مثل قبيلة وقبائل , وصحيفة وصحائف . وقد تجمع " خطيئة " بالتاء، فيهمز فيقال " خطيئات " . و " الخطيئة " فعيلة، من " خَطِئَ الرجل يخطأ خِطْأ "، وذلك إذا عدل عن سبيل الحق. ومنه قول الشاعر: (17)
وإن مُهَـــــاجِرَيْن تَكَنَّفـــــاه
لعمــر اللــه قــد خطئـا وخابـا (18)
يعني: أضلا الحق وأثما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
وتأويل ذلك ما روي لنا عن ابن عباس , وهو ما:-
1018 - حدثنا به القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج , قال ابن عباس: (وسنـزيد المحسنين) ، من كان منكم محسنا زيد في إحسانه , ومن كان مخطئا نغفر له خطيئته.
فتأويل الآية: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية مباحا لكم كل ما فيها من الطيبات , موسعا عليكم بغير حساب ؛ وادخلوا الباب سجدا , وقولوا: سجودنا هذا لله حطة من ربنا لذنوبنا يحط به آثامنا , نتغمد لكم ذنوب المذنب منكم فنسترها عليه , ونحط أوزاره عنه , وسنـزيد المحسن منكم - إلى إحساننا السالف عنده - إحسانا . ثم أخبر الله جل ثناؤه عن عظيم جهالتهم , وسوء طاعتهم ربهم وعصيانهم لأنبيائهم، واستهزائهم برسله , مع عظيم آلاء الله عز وجل عندهم , وعجائب ما أراهم من آياته وعبره , موبخا بذلك أبناءهم الذين خوطبوا بهذه الآيات , ومعلمهم أنهم إن تعدوا (19) في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، وجحودهم نبوته، مع عظيم إحسان الله بمبعثه فيهم إليهم , وعجائب ما أظهر على يده من الحجج بين أظهرهم - أن يكونوا كأسلافهم الذين وصف صفتهم ، وقص علينا أنباءهم في هذه الآيات , فقال جل ثناؤه: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْـزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ الآية.
----------------
الهوامش :
(1) انظر ما مضى 1 : 515 - 516 .
(2) هو زيد الخيل بن مهلهل الطائي ، الفارس المشهور .
(3) سيأتي بعد في هذا الجزء 1: 289 (بولاق)، والكامل 1: 258 ، والمعاني الكبير : 890 ، والأضداد لابن الأنباري : 256 ، وحماسة ابن الشجري : 19 ، ومجموعة المعاني: 192 ، وغيرها . والباء في قوله "بجمع" متعلقة ببيت سالف هو : بَنِـي عَـامِرٍ, هَـلْ تَعْرِفُـونَ إِذَا غَدَا
أَبُـو مِكْـنَفٍ قَـدْ شَـدَّ عَقْـدَ الدَّوَابِرِ?
والبلق جمع أبلق وبلقاء: الفرس يرتفع تحجيلها إلى الفخذين. والحجرات جمع حجرة (بفتح فسكون) : الناحية. والأكم (بضم فسكون، وأصلها بضمتين) جمع إكام، جمع أكمة: وهي تل يكون أشد ارتفاعا مما حوله، دون الجبل، غليظ فيه حجارة . قال ابن قتيبة في المعاني الكبير: "يقول: إذا ضلت البلق فيه مع شهرتها فلم تعرف، فغيرها أحرى أن يضل. يصف كثرة الجيش، ويريد أن الأكم قد خشعت من وقع الحوافر" . وفي المطبوعة هنا "فيه" والجيد ما أثبته ، والضمير في "منه" للجيش أو الجمع.
(4) ديوانه : 41 ، وسيأتي في 18 : 28 (بولاق) ، ومعه بيت آخر في 14 : 82 (بولاق) راوح يراوح مراوحة : عمل عملين في عمل ، يعمل ذامرة وذا مرة ، قال لبيد يصف فرسا .
وولّــى عــامدا لِطِيــات فَلْــج
يــراوح بيــن صــون وابتـذال
وقوله : "من صلوات""من" هنا لبيان الجنس ، مثل قوله تعالى : يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس واستبرق" . وحذف"بين" التي تقتضيها"يراوح" ، لدلالة ما يأتي عليها ، وهو قوله : "طورا . . وطورا" . والجؤار : رفع الصوت بالدعاء مع تضرع واستغاثة وجزع . جأر إلى ربه يجأر جؤارا .
(5) في المطبوعة : "ذلك منهم" بالزيادة .
(6) في المطبوعة : "وخطاياكم" .
(7) الضمير : المضمر أو الإضمار ، كما سلف في 1 : 427 تعليق : 1 ، وقد رأينا أيضًا في كلام نقله الشريف المرتضى في أماليه 1 : 334 عن أبي بكر بن الأنباري قال : "كاد ، لا تضمر ، ولابد من أن يكون منطوقا بها ، ولو جاز ضميرها لجاز : قام عبد الله ، بمعنى كاد عبد الله يقوم . . . " ، وهي هنا بمعنى الإضمار لا شك . وسيأتي في الفقرة التالية أيضًا ، بمعنى المضمر .
(8) قراءتنا : "معذرة" بالنصب في مصاحفنا . وقد ذكر الطبري في تفسير الآية 9 : 63 (بولاق) أن الرفع قراءة عامة قراء الحجاز والكوفة والبصرة ، وقرأ بعض أهل الكوفة"معذرة" بالنصب
(9) من هنا أول جزء في التجزئة القديمة التي نقل عنها كاتب مخطوطتنا . وأولها : بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر برحمتك
(10) في المطبوعة"القراء" ، كما جرت عليه في كل ما مضى
(11) انظر رقم : 1010 فيما سلف .
(12) هو الفرزدق
(13) ديوانه: 890 في قصيدة يمدح فيها يزيد عبد الملك، ويذكر إيقاعه بيزيد بن المهلب في سنة 102 (انظر خبره في تاريخ الطبري 8: 151 - 160). ورواية ديوانه.
"أناخوا بأيدى طاعة، وسيوفهم" قوله:"أناخوا"، أي ذلوا وخضعوا، أو صرعوا فماتوا، كأنهم إبل أناخت واستقرت. وقوله:"أيدي طاعة"، أي أهل طاعة.
(14) في المطبوعة "ومنه غمد السيف"، وهذا يجعل الكلام مضطربا مقحما، فرجح عندي أن تكون"ومنه"، و"مثله" لأنه فسر"نغفر" بقوله"نتغمد". وفي المطبوعة:" ما يغمده فيواريه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(15) في المطبوعة:"غفر". والغفر جمع غفرة، وزئبر الثوب: هو ما يعلو الثوب الجديد من مائه، كالذي يعلو القطيفة والخز، ويسمونه"درز الثوب" أيضًا. وفي المطبوعة:"لتغطيته العورة.. والنظر إليها"، وهي عبارة غريبة فاسدة، والذي في المخطوطة"لتغطيته الثوب" كما أثبتناها، يعني الزئبر كما وصفنا. ويقال غفر الثوب: إذا أثار زئبره، يكون كالمنتفش على وجه الثوب.هذا، وقد انتهت المخطوطة التي اعتمدنا عند قوله:"لتغطية الثوب". ويأتي بعدها خرم طويل سيستغرق أجزاء برمتها، كما سنبينه في مواضعه.
(16) ديوانه، قصيدة" 31. وهذه الرواية جاءت في شرح شواهد المغني: 137، وأما في سائر الكتب:"إن كان ظالما"، وهي أجود. وقوله:"أجهل" بمعنى جاهل، كما قالوا"أوجل" بمعنى وجل، وأميل بمعنى مائل، وأوحد بمعنى واحد، وغيرها. ورواية صدر البيت على الصواب:"ألا أعتب" كما في المفضليات 590 وغيره، أو"وقد أعتب" كما في القرطين 2: 69. ويروى"ولا أشتم ابن العم". يقول: أبلغ رضاه إذا ظلم او جهل، فأترك له ما لا يحب إلى ما يرضاه.
(17) هو أمية بن الأسكر (طبقات فحول الشعراء : 159 - 160 )
(18) أمالي القالي 3 : 109 ، وكتاب المعمرين : 68 والخزانة 2 : 405 ، ويروى صدره"أتاه مهاجران تكنفاه" . وأما عجزه فاختلفت رواياته : "بترك كبيرة خطئا . . " و"ليترك شيخه خطئا . . " ، "ففارق شيخه ، . . " وكان أمية قد أسن ، عمر في الجاهلية عمرا طويلا ، وألفاه الإسلام هرما . ثم جاء زمن عمر ، فخرج ابنه كلاب غازيا ، وتركه هامة اليوم أو غد . فقال أبياتا منها هذا للبيت ، فلما سمعها عمر ، كتب إلى سعد بن أبي وقاص : أن رحل كلاب بن أمية بن الأسكر ، فرحله . وله مع عمر في هذه الحادثة قصة جيدة (في القالي 1 : 109 ) .
(19) سياق الجملة : " . . إن تعدوا . . أن يكونوا" ، و"إن" هنا ، نافية بمعنى"ما" ، كالتي في قوله : "قل إن أدري أقريب ما توعدون" ، وقوله : "إن أدري لعله فتنة لكم" .
Quran Translation Sura Al-Baqara aya 58
And [recall] when We said, "Enter this city and eat from it wherever you will in [ease and] abundance, and enter the gate bowing humbly and say, 'Relieve us of our burdens.' We will [then] forgive your sins for you, and We will increase the doers of good [in goodness and reward]."