وقوله : ( ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب ) أي : وصى بهذه الملة وهي الإسلام لله [ أو يعود الضمير على الكلمة وهي قوله : ( أسلمت لرب العالمين ) ] . لحرصهم عليها ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة ووصوا أبناءهم بها من بعدهم ; كقوله تعالى : ( وجعلها كلمة باقية في عقبه ) [ الزخرف : 28 ] وقد قرأ بعض السلف " ويعقوب " بالنصب عطفا على بنيه ، كأن إبراهيم وصى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضرا ذلك ، وقد ادعى القشيري ، فيما حكاه القرطبي عنه أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيم ، ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح ; والظاهر ، والله أعلم ، أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة ; لأن البشارة وقعت بهما في قوله : ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) [ هود : 71 ] وقد قرئ بنصب يعقوب هاهنا على نزع الخافض ، فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرية إسحاق كبير فائدة ، وأيضا فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت : ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) [ الآية : 27 ] وقال في الآية الأخرى : ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة ) [ الأنبياء : 72 ] وهذا يقتضي أنه وجد في حياته ، وأيضا فإنه باني بيت المقدس ، كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة ، وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت : يا رسول الله ، أي مسجد وضع أول ؟ قال : " المسجد الحرام " ، قلت : ثم أي ؟ قال : " بيت المقدس " . قلت : كم بينهما ؟ قال : " أربعون سنة " الحديث . فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي اعتقد أنه باني بيت المقدس وإنما كان جدده بعد خرابه وزخرفه وبين إبراهيم أربعين سنة ، وهذا مما أنكر على ابن حبان ، فإن المدة بينهما تزيد على ألوف سنين ، والله أعلم ، وأيضا فإن ذكر وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريبا ، وهذا يدل على أنه هاهنا من جملة الموصين .
وقوله : ( يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) أي : أحسنوا في حال الحياة والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه . فإن المرء يموت غالبا على ما كان عليه ، ويبعث على ما مات عليه . وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وفق له ويسر عليه . ومن نوى صالحا ثبت عليه . وهذا لا يعارض ما جاء ، في الحديث [ الصحيح ] " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها . وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " ; لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث : " فيعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس . وقد قال الله تعالى : ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ) [ الليل : 5 - 10 ] .
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيم بَنِيهِ وَيَعْقُوب } / يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { وَوَصَّى بِهَا } وَوَصَّى بِهَذِهِ الْكَلِمَة ; أَعْنِي بِالْكَلِمَةِ قَوْله : { أَسْلَمْت لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وَهِيَ الْإِسْلَام الَّذِي أَمَرَ بِهِ نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهُوَ إخْلَاص الْعِبَادَة وَالتَّوْحِيد لِلَّهِ , وَخُضُوع الْقَلْب وَالْجَوَارِح لَهُ . وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ : { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيم بَنِيهِ } عَهِدَ إلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ بِهِ . وَأَمَّا قَوْله : { وَيَعْقُوب } فَإِنَّهُ يَعْنِي : وَوَصَّى بِذَلِكَ أَيْضًا يَعْقُوب بَنِيهِ . كَمَا : 1722 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : ثنا يَزِيد بْن زُرَيْعٍ , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة قَوْله : { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيم بَنِيهِ وَيَعْقُوب } يَقُول : وَوَصَّى بِهَا يَعْقُوب بَنِيهِ بَعْد إبْرَاهِيم . 1723 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعْد , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي , قَالَ : حَدَّثَنِي عَمِّي , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيم بَنِيهِ } وَصَّاهُمْ بِالْإِسْلَامِ , وَوَصَّى يَعْقُوب بِمِثْلِ ذَلِكَ . وَقَالَ بَعْضهمْ : قَوْله : { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيم بَنِيهِ } خَبَر مُنْقِض , وَقَوْله : { وَيَعْقُوب } خَبَر مُبْتَدَأ , فَإِنَّهُ قَالَ : وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيم بَنِيهِ بِأَنْ يَقُولُوا : أَسْلَمْنَا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ , وَوَصَّى يَعْقُوب بَنِيهِ أَنَّ : { يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّه اصْطَفَى لَكُمْ الدِّين فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ ; وَلِأَنَّ الَّذِي أَوْصَى بِهِ يَعْقُوب بَنِيهِ نَظِير الَّذِي أَوْصَى بِهِ إبْرَاهِيم بَنِيهِ مِنْ الْحَثّ عَلَى طَاعَة اللَّه وَالْخُضُوع لَهُ وَالْإِسْلَام . فَإِنْ قَالَ قَائِل : فَإِنْ كَانَ الْأَمْر عَلَى مَا وَصَفْت مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ : وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيم بَنِيهِ وَيَعْقُوب أَنَّ يَا بَنِيَّ , فَمَا بَال " أَنَّ " مَحْذُوفَة مِنْ الْكَلَام ؟ قِيلَ : لِأَنَّ الْوَصِيَّة قَوْل فَحُمِلَتْ عَلَى مَعْنَاهَا , وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَاءَ بِلَفْظِ الْقَوْل لَمْ تَحْسُن مَعَهُ " أَنَّ " , وَإِنَّمَا كَانَ يُقَال : وَقَالَ إبْرَاهِيم لِبَنِيهِ وَيَعْقُوب : " يَا بَنِيَّ " , فَلَمَّا كَانَتْ الْوَصِيَّة قَوْلًا حُمِلَتْ عَلَى مَعْنَاهَا دُون قَوْلهَا , فَحُذِفَتْ " أَنَّ " الَّتِي تَحْسُن مَعَهَا , كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْره : { يُوصِيكُمْ اللَّه فِي أَوْلَادكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ } 4 11 وَكَمَا قَالَ الشَّاعِر : إنِّي سَأُبْدِي لَك فِيمَا أُبْدِي لِي شَجَنَانِ شَجَن بِنَجْدِ وَشَجَن لِي بِبِلَادِ السِّنْد فَحُذِفَتْ " أَنَّ " إذْ كَانَ الْإِبْدَاء بِاللِّسَانِ فِي الْمَعْنَى قَوْلًا , فَحَمَلَهُ عَلَى مَعْنَاهُ دُون لَفْظه . وَقَدْ قَالَ بَعْض أَهْل الْعَرَبِيَّة : إنَّمَا حُذِفَتْ " أَنَّ " مِنْ قَوْله : { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيم بَنِيهِ وَيَعْقُوب } بِاكْتِفَاءِ النِّدَاء , يَعْنِي بِالنِّدَاءِ قَوْله : " يَا بَنِيَّ " , وَزَعَمَ أَنَّ عِلَّته فِي ذَلِكَ أَنَّ مِنْ شَأْن الْعَرَب الِاكْتِفَاء بِالْأَدَوَاتِ عَنْ " أَنَّ " كَقَوْلِهِمْ : نَادَيْت هَلْ قُمْت ؟ وَنَادَيْت أَيْنَ زَيْد ؟ قَالَ : وَرُبَّمَا أَدْخَلُوهَا مَعَ الْأَدَوَات فَقَالُوا : نَادَيْت أَنْ هَلْ قُمْت ؟ وَقَدْ قَرَأَ عَهِدَ إلَيْهِمْ عَهْدًا بَعْد عَهْد , وَأَوْصَى وَصِيَّة بَعْد وَصِيَّة .
يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّه اصْطَفَى لَكُمْ الدِّين } . يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّه اصْطَفَى لَكُمْ الدِّين } إنَّ اللَّه اخْتَارَ لَكُمْ هَذَا الدِّين الَّذِي عَهِدَ إلَيْكُمْ فِيهِ وَاجْتَبَاهُ لَكُمْ . وَإِنَّمَا أَدْخَلَ الْأَلِف وَاللَّام فِي " الدِّين " , لِأَنَّ الَّذِينَ خُوطِبُوا مِنْ وَلَدهمَا وَبَنِيهِمَا بِذَلِكَ كَانُوا قَدْ عَرَفُوهُ بِوَصِيَّتِهِمَا إيَّاهُمْ بِهِ وَوَصِيَّتهمَا إلَيْهِمْ فِيهِ , ثُمَّ قَالَا لَهُمْ بَعْد أَنْ عَرَّفَاهُمُوهُ : إنَّ اللَّه اصْطَفَى لَكُمْ هَذَا الدِّين الَّذِي قَدْ عَهِدَ إلَيْكُمْ فِيهِ , فَاتَّقُوا اللَّه أَنْ تَمُوتُوا إلَّا وَأَنْتُمْ عَلَيْهِ .
الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . إنْ قَالَ لَنَا قَائِل : أَوْ إلَى بَنِي آدَم الْمَوْت وَالْحَيَاة فَيَنْهَى أَحَدهمْ أَنْ يَمُوت إلَّا عَلَى حَالَة دُون حَالَة ؟ قِيلَ لَهُ : إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى غَيْر الْوَجْه الَّذِي ظَنَنْت , وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ : { فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } أَيْ فَلَا تُفَارِقُوا هَذَا الدِّين وَهُوَ الْإِسْلَام أَيَّام حَيَاتكُمْ ; وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَدْرِي مَتَى تَأْتِيه مَنِيَّته , فَلِذَلِك قَالَا لَهُمْ : { فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } لِأَنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَتَى تَأْتِيكُمْ مَنَايَاكُمْ مِنْ لَيْل أَوْ نَهَار , فَلَا تُفَارِقُوا الْإِسْلَام فَتَأْتِيكُمْ مَنَايَاكُمْ وَأَنْتُمْ عَلَى غَيْر الدِّين الَّذِي اصْطَفَاهُ لَكُمْ رَبّكُمْ فَتَمُوتُوا وَرَبّكُمْ سَاخِط عَلَيْكُمْ فَتَهْلَكُوا .
Quran Translation Sura Al-Baqara aya 132
And Abraham instructed his sons [to do the same] and [so did] Jacob, [saying], "O my sons, indeed Allah has chosen for you this religion, so do not die except while you are Muslims."