لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يسار عليه في السبل الحسية ، نبه على الطرق المعنوية الدينية ، وكثيرا ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية النافعة الدينية ، كما قال تعالى : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) [ البقرة : 197 ] وقال : ( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ) [ الأعراف : 26 ] .
ولما ذكر في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها ، التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم ، وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة - شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه ، فبين أن الحق منها ما هي موصلة إليه ، فقال : ( وعلى الله قصد السبيل ) كما قال : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) [ الأنعام : 153 ] وقال : ( هذا صراط علي مستقيم ) [ الحجر : 41 ] .
قال مجاهد : في [ قوله ] : ( وعلى الله قصد السبيل ) قال : طريق الحق على الله .
وقال السدي : ( وعلى الله قصد السبيل ) قال : الإسلام .
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : ( وعلى الله قصد السبيل ) يقول : وعلى الله البيان ، أي : تبين الهدى والضلال .
وكذا روى علي بن أبي طلحة ، عنه . وكذا قال قتادة ، والضحاك . وقول مجاهد هاهنا أقوى من حيث السياق ; لأنه تعالى أخبر أن ثم طرقا تسلك إليه ، فليس يصل إليه منها إلا طريق الحق ، وهي الطريق التي شرعها ورضيها وما عداها مسدودة ، والأعمال فيها مردودة ; ولهذا قال تعالى : ( ومنها جائر ) أي : حائد مائل زائغ عن الحق .
قال ابن عباس وغيره : هي الطرق المختلفة ، والآراء والأهواء المتفرقة ، كاليهودية والنصرانية والمجوسية ، وقرأابن مسعود : " ومنكم جائر " .
ثم أخبر أن ذلك كله كائن عن قدرته ومشيئته ، فقال : ( ولو شاء لهداكم أجمعين ) كما قال : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ) [ يونس : 99 ] وقال : ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) [ هود : 118 ، 119 ] .
يقول تعالى ذكره: وعلى الله أيها الناس بيان طريق الحقّ لكم، فمن اهتدى فلنفسه ، ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها ، والسبيل: هي الطريق، والقصد من الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، كما قال الراجز:
فَصَدَّ عَنْ نَهْجِ الطَّرِيقِ القاصِدِ (3)
وقوله ( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) يعني تعالى ذكره: ومن السبيل جائر عن الاستقامة معوجّ، فالقاصد من السبيل: الإسلام، والجائر منها: اليهودية والنصرانية ، وغير ذلك من ملل الكفر كلها جائر عن سواء السبيل وقصدها، سوى الحنيفية المسلمة ، وقيل: ومنها جائر، لأن السبيل يؤنث ويذكر، فأنثت في هذا الموضع ، وقد كان بعضهم يقول: وإنما قيل: ومنها ، لأن السبيل وإن كان لفظها لفظ واحد فمعناها الجمع.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) يقول: البيان.
حدثنا محمد بن سعد ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) يقول: على الله البيان، أن يبين الهدى والضلالة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن. قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) قال: طريق الحقّ على الله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله ( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) يقول: على الله البيان، بيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) قال: السبيل: طريق الهدى.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك ( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) قال: إنارتها.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) يقول: على الله البيان، يبين الهدى من الضلالة، ويبين السبيل التي تفرّقت عن سبله، ومنها جائر.
حدثنا بشر ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) : أي من السبل، سبل الشيطان ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود: " وَمِنْكُمْ جَائِرٌ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَهَدَاكُمْ أجمَعِينَ".
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر ، عن قتادة ( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) قال: في حرف ابن مسعود: " وَمِنْكُمْ جَائِرٌ".
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله ( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) يعني: السبل المتفرّقة.
حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله ( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) يقول: الأهواء المختلفة.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) يعني السبل التي تفرّقت عن سبيله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج ( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) السبل المتفرقة عن سبيله.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) قال: من السبل جائر عن الحقّ قال: قال الله وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ
وقوله ( وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) يقول: ولو شاء الله للطف بجميعكم أيها الناس بتوفيقه، فكنتم تهتدون وتلزمون قصد السبيل ، ولا تجورون عنه ، فتتفرّقون في سبل عن الحقّ جائرة.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) قال: لو شاء لهداكم أجمعين لقصد السبيل ، الذي هو الحقّ ، وقرأ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا الآية، وقرأ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ... الآية.
------------------------
الهوامش:
(3) البيت شاهد على أن الطريق القاصد معناه : المستقيم . قال في اللسان : القصد : استقامة الطريق ، قصد يقصد قصدا فهو قاصد ، وقوله تعالى : ( وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ) أي على الله تبيين الطريق المستقيم ، والدعاء بالحجج والبراهين الواضحة . " ومنها جائر " أي ومنها طريق غير قاصد .
وطريق قاصد : سهل مستقيم .
Quran Translation Sura An-Nahl aya 9
And upon Allah is the direction of the [right] way, and among the various paths are those deviating. And if He willed, He could have guided you all.