أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

رؤية المؤمنين ربهم وهل ذلك عام للنساء ومتى يرينه

    ج/ 6 ص -401-قال الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية قدس الله روحه‏:‏
    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا‏.‏
    حديث ‏:‏ رؤية المؤمنين ربهم في الجنة في مثل يوم الجمعة من أيام الدنيا، رواه أبو الحسن الدارقطني في كتابه في الرؤية وما علمنا أحدًا جمع في هذا الباب أكثر من كتاب أبي بكر الآجري وأبي نعيم الحافظ الأصبهاني رواه من حديث أنس مرفوعًا، ومن حديث ابن مسعود موقوفاً، ورواه ابن ماجه من حديث ابن مسعود مرفوعًا‏.‏
    فأما حديث أنس، فرواه الدارقطني من خمس طرق أو ست طرق، في غالبها ‏:‏ أن الرؤية تكون بمقدار صلاة الجمعة في الدنيا‏.‏ وصرح في بعضها ‏:‏ بأن النساء يرينه في الأعياد‏.‏
    وأما حديث ابن مسعود، ففي جميع طرقه مرفوعها وموقوفها

    ج/ 6 ص -402-التصريح بذلك، وإسناد حديث ابن مسعود أجود من جميع أسانيد هذا الباب، ورواه أبو عبد الله بن بطة في ‏[‏الإبانة‏]‏ بإسناد آخر من حديث أنس أجود من غيره، وذكر فيه‏:‏ وذلك مقدار انصرافكم من الجمعة‏.‏ ورواه أبو أحمد بن عدي من حديث صالح بن حيان، عن ابن بريدة، عن أنس، وما أعلم لفظه‏.‏
    ورواه أبو عمرو الزاهد بإسناد آخر لم يحضرني لفظه،ورواه أبو العباس السراج‏:‏ حدثنا على بن أشيب،حدثنا أبو بدر، حدثنا زياد بن خَيْْثَمة،عن عثمان بن مسلم،عن أنس بن مالك،وليس فيه الزيادة،ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن شَيْبَان بن فَرُّوخ، عن الصَّعْق بن حزن، عن علي بن الحكم الْبُنَانِيّ، عن أنس نحوه، ولا أعلم لفظه‏.‏
    ورواه أبو بكر البزار وأبو بكر الخلال وابن بطة من حديث حذيفة بن اليمان مرفوعًا، ولم يذكر فيه هذه الزيادة، لكن قال في آخره‏:‏ ‏"‏فلهم في كل سبعة أيام الضعف على ما كانوا فيه قال وذلك قول الله في كتابه ‏:‏‏
    "‏فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏"‏‏"‏ ‏[‏السجدة‏:‏17‏]‏‏.‏ ورواه الآجري وابن بطة أيضًا مرفوعًا من حديث ابن عباس وفيه‏:‏ ‏"‏وأقربهم منه مجلسًا أسرعهم إليه يوم الجمعة وأبكرهم غدوا‏"‏‏.‏
    وله طريق آخر من حديث أبي هريرة، ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الحميد بن أبي العشرين،عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية،عن

    ج/ 6 ص -403-أبي هريرة، وقال الترمذي‏:‏ هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه‏.‏ وقد روى سُوَيْد بن عمرو عن الأوزاعي شيئًا من هذا‏.‏ وقالوا ‏:‏ ورواه سويد بن عبد العزيز عن الأوزاعي قال‏:‏ قال‏:‏ حديث عن سعيد‏.‏ وروى أيضًا معناه عن كعب الأحبار موقوفًا، وفيه معنى الزيادة‏.‏
    وأصل حديث ‏"‏سوق الجنة‏"‏ قد رواه مسلم في صحيحه،ولم يذكر فيه الرؤية‏.‏ وهذه الأحاديث عامتها إذا جرد إسناد الواحد منها لم يخل عن مقال قريب أو شديد، لكن تعددها وكثرة طرقها يغلب على الظن ثبوتها في نفس الأمر،بل قد يقتضي القطع بها‏.‏
    وأيضًا، فقد روى عن الصحابة والتابعين ما يوافق ذلك، ومثل هذا لا يقال بالرأي، وإنما يقال بالتوقيف‏.‏
    فروى الدارقطني بإسناد صحيح عن ابن المبارك‏:‏ أخبرنا المسعودي، عن المِنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، قال‏:‏سارعوا إلى الجمعة، فإن الله يبرز لأهل الجنة في كل جمعة في كِثِيبٍ من كافور، فيكونون في قرب منه على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا‏.‏ وأيضا بإسناد صحيح إلى شَبَابة بن سَوَّار، عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، عن المنهال بن عمرو،عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ سارعوا إلى الجمعة، فإن الله عز وجل يبرز لأهل الجنة في كل يوم جمعة فى كثيب من كافور أبيض فيكونون في الدنو

    ج/ 6 ص -404-منه على مقدار مسارعتهم في الدنيا إلى الجمعة، فيحدث لهم من الكرامة شيئًا لم يكونوا رأوه فيما خلا‏.‏ قال ‏:‏ وكان عبد الله بن مسعود لا يسبقه أحد إلى الجمعة، قال‏:‏ فجاء يومًا وقد سبقه رجلان فقال‏:‏رجلان وأنا الثالث، إن الله يبارك في الثالث‏.‏
    ورواه ابن بطة بإسناد صحيح من هذا الطريق، وزاد فيه ‏:‏ ثم يرجعون إلى أهليهم فيحدثونهم بما قد أحدث لهم من الكرامة شيئًا لم يكونوا رأوه فيما خلا‏.‏ هذا إسناد حسن حسنه الترمذي وغيره‏.‏
    ويقال‏:‏ إن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، لكن هو عالم بحال أبيه متلق لآثاره من أكابر أصحاب أبيه، وهذه حال متكررة من عبد الله رضي الله عنه فتكون مشهورة عند أصحابه فيكثر المتحدث بها، ولم يكن في أصحاب عبد الله من يتهم عليه حتى يخاف أن يكون هو الواسطة؛ فلهذا صار الناس يحتجون برواية ابنه عنه وإن قيل‏:‏ إنه لم يسمع من أبيه‏.‏
    وقد روى هذا عن ابن مسعود من وجه آخر، رواه ابن بطة في ‏[‏الإبانة‏]‏ بإسناد صحيح عن الوليد بن مسلم، عن ثور بن يزيد، عن عمرو بن قيس إلى عبد الله بن مسعود قال‏:‏ إن الله يبرز لأهل جنته في كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض، فيكونون في الدنو منه كتسارعهم إلى الجمعة، فيحدث لهم من الحياة والكرامة ما لم يروا قبله‏.‏
    وروى عن ابن مسعود من وجه ثالث رواه سعيد في سننه‏:‏ حدثنا

    ج/ 6 ص -405-فرج بن فضالة، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن مسعود، أنه كان يقول‏:‏ بكِّروا في الغدو في الدنيا إلى الجمعات؛ فإن الله يبرز لأهل الجنة في كل يوم جمعة علي كثيب من كافور أبيض، فيكون الناس منه في الدنو كغدوهم في الدنيا إلى الجمعة‏.‏
    وهذا الذي أخبر به ابن مسعود أمر لا يعرفه إلا نبي أو من أخذه عن نبي، فيعلم بذلك أن ابن مسعود أخذه عن النبي ﷺ،ولا يجوز أن يكون أخذه عن أهل الكتابلوجوه‏:‏
    أحدها ‏:‏ أن الصحابة قد نهوا عن تصديق أهل الكتاب فيما يخبرونهم به، فمن المحال أن يحدث ابن مسعود رضي الله عنه بما أخبر به اليهود على سبيل التعليم ويبني عليه حكمًا‏.‏
    الثاني‏:‏ أن ابن مسعود رضي الله عنه خصوصًا كان من أشد الصحابة رضي الله عنهم إنكارًا لمن يأخذ من أحاديث أهل الكتاب‏.‏
    والثالث‏:‏ أن الجمعة لم تشرع إلا لنا، والتبكير فيها ليس إلا في شريعتنا، فيبعد مثل أخذ هذا عن الأنبياء المتقدمين، ويبعد أن اليهودي يحدث بمثل هذه الفضيلة لهذه الأمة، وهم الموصوفون بكتمان العلم والبخل به وحسد هذه الأمة‏.‏
    ورواه ابن ماجه في سننه من وجه آخر مرفوعًا إلى النبي ﷺ عن علقمة قال‏:‏ خرجت مع عبد الله بن مسعود إلى الجمعة فوجد ثلاثة قد سبقوه فقال‏:‏ رابع أربعة، وما رابع أربعة ببعيد، سمعت رسول الله ﷺ

    ج/ 6 ص -406-يقول‏:‏ ‏"‏إن الناس يجلسون من الله يوم الجمعة على قدر رواحهم إلى الجمعة الأول والثاني والثالث‏"‏، ثم قال‏:‏ ‏"‏رابع أربعة، وما رابع أربعة ببعيد‏"‏‏.‏
    وهذا الحديث مما استدل به العلماء على استحباب التبكير إلى الجمعة، وقد ذكروا هذا المعنى من جملة معاني قوله‏:‏‏"‏وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ‏"‏ ‏[‏الواقعة‏:‏10‏]‏ قال بعضهم‏:‏ السابقون في الدنيا إلى الجمعات هم السابقون في يوم المزيد في الآخرة، أو كما قال؛ فإنه لم يحضرني لفظه، وتأييد ذلك بقول النبي ﷺ المخرج في الصحيحين‏:‏ ‏"‏نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا والنصارى بعد غد‏"‏، فإنه جعل سبقنا لهم في الآخرة لأجل أنا أوتينا الكتاب من بعدهم،فهدينا لما اختلفوا فيه من الحق حتى صرنا سابقين لهم إلى التعبيد، فكما سبقناهم إلى التعبيد في الدنيا نسبقهم إلى كرامته في الآخرة‏.‏
    وأما حديث أنس وهو أشهر الأحاديث فيما يكون يوم الجمعة في الآخرة من زيارة الله ورؤيته وإتيان سوق الجنة، فأصح حديث عنه ما رواه مسلم في صحيحه عن حماد ابن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال‏:‏‏"‏إن في الجنة لسوقًا يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال فتحثوا في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنًا وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم‏:‏ والله، لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالاً، فيقولون‏:‏ وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالاً‏"‏‏.‏

    ج/ 6 ص -407-فهذا ليس فيه إلا أنهم يأتون السوق،وفيه ‏:‏ يزدادون حسنًا وجمالاً، وأن أهليهم ازدادوا أيضًا في غيبتهم عنهم حسنًا وجمالاً،وإن كانوا لم يأتوا سوق الجنة‏.‏
    وإن كانت زيادة بعض الحديث على بعض غير مقبولة، بل يجعل نوع تعارض‏.‏ فينبغي ألا يقبل في الباب حديث برؤية الله يوم الجمعة؛ لأنه ليس فيها شىء يقاوم حديث أنس هذا، فإنه هو الذي أخرجه أصحاب الصحيح دون الجميع، بل قد يقال ‏:‏ لو كانت رؤية الله خاصة وإن زيادة الوجوه حسنًا وجمالاً كان عنها لأخبر به في هذا الحديث، بل قد يقال‏:‏ ظاهره أن زيادة الحسن والجمال إنما كان من الريح التي تهب في وجوههم وثيابهم‏.‏وإن كان الواجب أن يقال‏:‏ ما في تلك الأحاديث من الزيادات لا ينافى هذا وإن كان هذا أصح فإن الترجيح إنما يكون عند التنافي، وأما إذا أخبر في أحد الحديثين بشىء وأخبر في الآخر بزيادة أخرى لا تنافيها؛كانت تلك الزيادة بمنزلة خبر مستقل، فهذا هو الصواب‏.‏
    وليس هذا مما اختلف فيه الفقهاء من الزيادة في النص هل هي نسخ ‏؟‏ فإن ذلك إنما هو في ‏[‏الأحكام‏]‏ التي هي الأمر، والنهي والإباحة، وتوابعها ‏:‏ مثل ما قال الله تعالى‏:‏
    ‏"‏الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ‏"‏ ‏[‏النور‏:‏2‏]‏، وقال النبي ﷺ ‏:‏‏"‏البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام‏"‏، وقال لآخر‏:‏‏"‏على ابنك جلد مائة وتغريب عام‏"‏، فهنا اختلف العلماء‏:‏ هل هذه الزيادة نسخ لقوله‏:‏ ‏"‏الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا‏"‏‏؟‏ مع أن الجمهور على أنها ليست بنسخ وهو الصحيح كما هو مقرر في موضعه‏.‏

    ج/ 6 ص -408-وأما زيادة أحد الخبرين على الآخر في ‏[‏الأخبار المحضة‏]‏، فهذا مما لم يختلف المسلمون أنه ليس بنسخ، وأنه لا ترد الزيادة إذا لم تناف المزيد، فإن رجلاً لو قال‏:‏ رأيت رجلاً، ثم قال‏:‏ رأيت رجلاً عاقلاً أو عالمًا، لم يكن بين الكلامين منافاة، ففرق بين الإطلاق والتقييد والتجريد والزيادة في الأمور الطلبية، وبين ذلك في الأمور الخبرية‏.‏
    وإذا كان كذلك، فيقال‏:‏ قد جاء في أحاديث أخر أن السوق يكون بعد رؤية الله سبحانه كما أن العادة في الدنيا أنهم ينتشرون في الأرض ويبتغون من فضل الله بعد زيارة الله والتوجه إليه في الجمعة‏.‏
    وما في هذا الحديث من ازدياد وجوههم حسنًا وجمالاً، لا يقتضى انحصار ذلك في الريح، فإن أزواجهم قد ازدادوا حسنًا وجمالاً ولم يشركوهم في الريح، بل يجوز أن يكون حصل في الريح زيادة على ما حصل لهم قبل ذلك،ويجوز أن يكون هذا الحديث مختصر من بقية الأحاديث بأن سبب الازدياد رؤية الله تعالى، مع ما اقترن بها‏.‏
    وعلى هذا، فيمكن أن يكون نساؤهم المؤمنات رأين الله في منازلهن في الجنة رؤية اقتضت زيادة الحسن والجمال إذا كان السبب هو الرؤية كما جاء مفسرًا في أحاديث أخر كما أنهم في الدنيا كان الرجال يروحون إلى المساجد فيتوجهون إلى الله هنالك، والنساء في بيوتهن يتوجهن إلى الله بصلاة الظهر، والرجال يزدادون نورًا في الدنيا بهذه الصلاة، وكذلك النساء يزددن نورًا بصلاتهن، كل بحسبه، والله سبحانه لا يشغله شأن عن شأن، بل كل عبد

    ج/ 6 ص -409-يراه مخليًا به في وقت واحد كما جاء في غير حديث بل قد بين النبي ﷺ أن بعض مخلوقاته وهو القمر يراه كل واحد مخليًا به إذا شاء‏.‏
    إذا نلخص ذلك، فنقول،الأحاديث الزائدة على هذا الحديث في بعضها ذكر الرؤية في الجمعة، وليس فيه ذكر تقدير ذلك بصلاة الجمعة في الدنيا،كما في حديث أبي هريرة حديث سوق الجنة وفي بعضها أنهم يجلسون من الله يوم الجمعة في الآخرة على قدر رواحهم إلى الجمعة في الدنيا، وليس فيه ذكر الرؤية - كما تقدم في حديث ابن مسعود المرفوع وفي بعضها ذكر الأمرين جميعًا، وهي أكثر الأحاديث‏.‏
    وليست الأحاديث المتضمنة للرؤية المجردة عن تقدير ذلك بصلاة الجمعة بدون الأحاديث المتضمنة لذلك،لا في الكثرة ولا في قوة الأسانيد، بل المتضمنة لذلك أكثر منها،وإسناد بعضها أجود من إسناد تلك، ولو كانت تلك أكثر، ورويت هذه الزيادة بإسناد واحد من جنس تلك الأسانيد لكان حكمها في القبول والرد كحكم المزيد؛لعدم المنافاة‏.‏
    ولو فرض أن بعض العامة الذين يسمعون الأحاديث من القصاص، أو من النقاد، أو بعض من يطالع الأحاديث ولا يعتنى بتمييزها، اشتهر عنده شيء من ذلك دون شىء لم يكن بهذا عبرة أصلا، فكم من أشياء مشهورة عند العامة، بل وعند كثير من الفقهاء والصوفية والمتكلمين

    ج/ 6 ص -410-أو أكثرهم، ثم عند حكام الحديث العارفين به لا أصل له ‏!‏‏!‏ بل قد يقطعون بأنه موضوع‏!‏
    وكم من أشياء مشهورة عند العارفين بالحديث، بل متواترة عندهم، وأكثر العامة، بل كثير من العلماء الذين لم يعتنوا بالحديث ما سمعوها أو سمعوها من وراء وراء، وهم إما مكذبون بها، وإما مرتابون فيها، وهم مع ذلك لم يضبطوها ضبط العالم لعلمه،كضبط النحوى للنحو، والطبيب للطب، وإن ضبطوا منها شيئًا ضبطوا اللفظة بعد اللفظة، مما لا تسمن ولا تغني من جوع، وليس ذلك مما يعتمد عليه، ولا ينضبط به دين الله ولا يسقط به عن الأمة الفرض في حفظ علم النبوة، والفقه فيه‏.‏ قال الإمام أحمد‏:‏ معرفة الحديث والفقه فيه أحب إلي من حفظه‏.‏
    وأنا أذكر شواهد ما ذكرته‏:‏ فروى الدارقطني في ‏[‏كتاب الرؤية‏]‏ وهي من أوائل ما رواه في ترجمة أنس ‏:‏حدثنا أحمد، حدثنا سليمان،حدثنا محمد بن عثمان بن محمد، حدثنا مروان بن جعفر، حدثنا نافع أبو الحسن مولى بني هشام،حدثنا عطاء بن أبي ميمونة، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ ‏:
    ‏‏"‏إذا كان يوم القيامة رأى المؤمنون ربهم عز وجل فأحدثهم عهدًا بالنظر إليه في كل جمعة، وتراه المؤمنات يوم الفطر، ويوم النحر‏"‏‏.‏
    وروى الدارقطني أيضًا عن جماعة ثقاة، عن عبد الله بن روح المدائني،

    ج/ 6 ص -411-حدثنا سلام بن سليمان، حدثنا ورقاء، وإسرائيل، وشعبة، وجرير بن عبد الحميد كلهم قالوا‏:‏ حدثنا لَيْث، عن عثمان بن حميد، عن أنس بن مالك قال ‏:‏ سمعت النبي ﷺ يقول‏:‏ ‏"‏أتاني جبريل عليه السلام وفي كفه كالمرآة البيضاء يحملها، فيها كالنكتة السوداء، فقلت‏:‏ما هذه التي في يدك يا جبريل‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ هذه الجمعة‏.‏ قلت‏:‏ وما الجمعة‏؟‏ قال‏:‏ لكم فيها خير‏.‏ قلت‏:‏ وما يكون لنا فيها ‏؟‏ قال ‏:‏ تكون عيدًا لك ولقومك من بعدك، وتكون اليهود والنصارى تبعًا لكم‏.‏ قلت ‏:‏وما لنا فيها ‏؟‏ قال ‏:‏ لكم فيها ساعة لا يسأل الله عبدُه فيها شيئًا هو له قسم إلا أعطاه إياه،وليس له بقسم إلا ادخر له في آخرته ما هو أعظم منه‏.‏ قلت‏:‏ ما هذه النكتة التي فيها‏؟‏ قال‏:‏ هي الساعة ونحن ندعوه يوم المزيد‏.‏ قلت‏:‏ وما ذلك يا جبريل‏؟‏ قال‏:‏ إن ربك أعد في الجنة واديًا فيه كُثْبَان من مسك أبيض، فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين عز وجل على كرسيه يحف الكرسي بكراسي من نور، فيجيء النبيون حتى يجلسوا على تلك الكراسي، ويحف الكرسي بمنابر من نور، ومن ذهب مكللة بالجوهر، ثم يجيء الصديقون والشهداء حتى يجلسوا على تلك المنابر، ثم ينزل أهل الغرف من غرفهم حتى يجلسوا على تلك الكثبان، ثم يتجلى لهم عز وجل فيقول‏:‏ أنا الذي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، وهذا محل كرامتي، فسلوني، فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم، فيفتح لهم في ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر،وذلك مقدار منصرفكم من الجمعة، ثم يرتفع على كرسيه عز وجل وترتفع معه النبيون والصديقون والشهداء، ويرجع أهل

    ج/ 6 ص -412-الغرف إلى غرفهم،وهي لؤلؤة بيضاء وزمردة خضراء وياقوتة حمراء غرفها وأبوابها منها، وأنهارها مطردة فيها،وأزواجها وخدامها وثمارها متدليات فيها، فليسوا إلى شىء بأحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا منه نظرًا إلى ربهم عز وجل ويزدادوا منه كرامة‏"‏‏.‏
    وروى ابن بطة هذا الحديث مثل هذا عن القافلاني‏:‏حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني،حدثنا عبد الله بن محمد بن أبى شيبة،حدثنا عبد الرحمن بن محمد، عن ليث، عن أبي عثمان، عن أنس، وفيه‏:‏ ‏"‏ثم يتجلى لهم ربهم تعالى ثم يقول‏:‏ سلوني أعطكم، فيسألونه الرضا فيقول‏:‏ رضائي أحلكم داري وأنالكم كرامتي فسلوني أعطكم، فيسألونه الرضا،فيشهدهم أنه قد رضي عنهم قال ‏:‏ فيفتح لهم ما لا ترى عين، ولم تسمع أذن،ولم يخطر على قلب بشر قال ‏:‏وذلك مقدار انصرافكم من الجمعة،ثم يرتفع ويرتفع معه النبيون والصديقون والشهداء،ويرجع أهل الغرف إلى غرفهم‏"‏ وذكر تمامه‏.‏
    وهذا الطريق يبين أن هذا الحديث محفوظ عن ليث بن أبى سليم، واندفع بذلك الكلام في سلام بن سليم؛ فإن هذا الإسناد الثاني كلهم أئمة إلى ليث، وأما الأول فكأن في القلب حزازة من أجل أن ‏"‏سلامًا‏"‏ رواه عن جماعة من المشاهير، ورواه عنه عبد الله ابن روح المدائني، وقد اختلف في ‏"‏سلام‏"‏ هذا، فقال ابن معين مَرَّةً ‏:‏ لا بأس به، وقال أبو حاتم ‏:‏ صدوق صالح الحديث‏.‏ وسئل عنه ابن معين مرة أخرى فقيل له ‏:‏ أثقة هو‏؟‏ فقال ‏:‏ لا‏.‏

    ج/ 6 ص -413-وقال العقيلي ‏:‏ لا يتابع على حديثه‏.‏ فإذا كان الحديث قد روى من تلك الطريق الجيدة، اندفع الحمل عليه‏.‏
    ورواه الدارقطني من هذه الطريق من وجه ثالث من حديث الحسن بن عرفة‏:‏حدثنا عمار بن محمد ابن أخت سفيان الثوري،عن ليث بن أبي سليم،عن عثمان،عن أنس ابن مالك قال‏:‏قال رسول الله ﷺ‏
    :‏ ‏"‏أتاني جبريل وفي كفه كالمرآة البيضاء فيها كالنكتة السوداء‏"‏ وساق الحديث نحو ما تقدم،ولم يذكر‏:‏ ‏"‏وذلك مقدار انصرافكم من الجمعة‏"‏‏.‏
    وهذا يقوي أن للحديث أصلاً عن ليث، ولا يضر ترك الزيادة؛ فإن عمار بن محمد ابن أبى أخت سفيان لا يحتج، لا بزيادته، ولا بنقصه، وإنما ذكرناه للمتابعة‏.‏ وفي هذا الحديث‏:‏ أن الصالحين هم الذين يرجعون إلى أهليهم، فأما النبيون والصديقون والشهداء فلا يرجعون حينئذ، وليس فيه ما يدل على رؤية النساء، لا بنفي ولا إثبات‏.‏
    ورواه أبو العباس محمد بن إسحاق السراج ‏:‏ حدثنا علي بن أشيب، حدثنا أبو بدر، حدثنا زياد بن خَيْثَمة، عن عثمان بن مسلم، عن أنس بن مالك قال‏:‏ أبطأ علينا رسول الله ﷺ ذات يوم، فلما خرج قلنا ‏:‏ لقد احتبست ‏!‏قال‏:
    ‏‏"‏فإن جبريل أتاني، وفي كفه كهيئة المرآة البيضاء، فيها نكتة سوداء، فقال‏:‏ إن هذه الجمعة فيها خير لك ولأمتك، وقد أرادها اليهود والنصارى فأخطؤوها، فقلت‏:‏ يا جبريل، ما في هذه النكتة السوداء‏؟‏ قال‏:‏ إن هذه الساعة التي في يوم الجمعة لا يوافقها عبد يسأل الله خيرًا من قسمه إلا

    ج/ 6 ص -414-أعطاه إياه، أو ادخر له مثله يوم القيامة، أو صرف عنه من السوء مثله، وإنه خير الأيام عند الله، وإن أهل الجنة يسمونه يوم المزيد‏.‏قلت‏:‏يا جبريل، وما يوم المزيد ‏؟‏ قال‏:‏ إن في الجنة واديًا أفيح، تربته مسك أبيض،ينزل الله إليه كل يوم جمعة، فيوضع كرسيه ثم يجاء بمنابر من نور فتوضع خلفه،فتحف به الملائكة،ثم يجاء بكراسي من ذهب فتوضع، ثم يجىء النبيون والصديقون والشهداء والمؤمنون أهل الغرف فيجلسون، ثم يتبسم الله إليهم فيقول‏:‏سلوا،فيقولون‏:‏نسألك رضوانك،فيقول‏:‏قد رضيت عنكم، فسلوا، فيسألون مُناهم فيعطيهم ما سألوا وأضعافها،ويعطيهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت،ولا خطر على قلب بشر،ثم يقول‏:‏ ألم أنجزكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي وهذا محل كرامتي‏؟‏‏!‏ ثم ينصرفون إلى غرفهم ويعودون كل يوم جمعة‏.‏قلت‏:‏يا جبريل، ما غرفهم‏؟‏ قال‏:‏ من لؤلؤة بيضاء وياقوتة حمراء وزبرجدة خضراء، مقدرة منها أبوابها فيها أزواجها مطردة أنهارها‏"‏ رواه أبو يعلي الموصلي في مسنده عن شَيْبَان بن فَرُّوخ، عن الصَّعْق بن حزن، عن علي بن الحكم الْبُنَاني، عن أنس نحوه، لم يحضرني لفظه‏.‏
    ورواه الدارقطني أيضًا من حديث عبد الله بن الحميم الرازي، وحدثنا عمرو بن قيس،عن أبى شبيبة، عن عاصم، عن عثمان بن عمير أبي اليقظان، عن أنس‏.‏ ومن حديث إسحاق بن سليمان الرازي‏:‏ حدثنا عَنْبسَة بن سعيد، عن عثمان بن عمير، عن أنس بن مالك بنحو من السياق المتقدم، وليس فيه ذكر الزيادة‏.‏

    ج/ 6 ص -415-وروى ابن بطة بإسناد صحيح عن الأسود بن عامر قال‏:‏ ذكر لي عن شريك، عن أبي اليقظان، عن أنس ‏:‏ ‏"‏وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ‏"‏[‏ق‏:‏ 35‏]‏، قال‏:‏ يتجلى لهم كل جمعة‏.‏
    ورواه أيضًا الدارقطني من حديث محمد بن حاتم المِصِّيصي‏:‏ حدثنا محمد بن سعيد القرشي، حدثنا حمزة بن واصل المِنْقَرِيّ، حدثنا قتادة بن دِعَامة، سمعته يقول‏:‏ حدثنا أنس بن مالك قال‏:‏ بينما نحن حول رسول الله ﷺ إذ قال‏:‏
    ‏"‏أتاني جبريل وفي يده المرآة البيضاء‏"‏ وذكر الحديث المتقدم بأبسط مما تقدم، وفيه ما يجمع بين حديث أنس الذي في صحيح مسلم وبين سائر الأحاديث، وفيه‏:‏ ‏"‏ويكون كذلك حتى مقدار متفرقهم من الجمعة‏"‏‏.‏
    وروى من طريق آخر، رواه أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد غلام ثعلب‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر بن أبى الدَّمِيك المروزي، حدثنا سلمة بن شَبيب، حدثنا يحيى بن عبد الله الحراني،حدثنا ضرار بن عمرو، عن يزيد الرَّقَاشِيّ، عن أنس بن مالك، وذكر الحديث بأبسط مما تقدم، ولم يحضرني سياقه، ولكن أظن فيه الزيادة المذكورة، وهذا الإسناد ضعيف من جهة يزيد الرقاشي وضرار بن عمرو، لكن هو مضموم إلى ما تقدم‏.‏
    وروى من طريق عن أنس رواه أبو حفص بن شاهين‏:‏حدثنا جعفر بن محمد العطار، حدثنا جدي عبد الله بن الحكم، سمعت عاصمًا أبا علي يقول‏:‏ سمعت حميدًا الطويل قال‏:‏ سمعت أنس بن مالك يقول‏:‏ سمعت رسول الله ﷺ يقول
    ‏:‏ ‏"‏إن الله يتجلى لأهل الجنة كل يوم على

    ج/ 6 ص -416-كَثِيب كافور أبيض‏"‏، وقيل‏:‏ إن جعفرًا، وجده، وعاصما مجهولون، وهذا لا يمنع المعارضة‏.‏
    ورواه أيضًا الدارقطني بإسناد صحيح إلى العباس بن الوليد بن مَزْيَد، أخبرني محمد بن شعيب، أخبرني عمر مولى عفرة، عن أنس بن مالك بنحو ما تقدم في الروايات المتقدمة، وفيه‏:‏‏"‏فيفتح عليهم بعد انصرافهم من يوم الجمعة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر‏"‏‏.‏
    فهذا قد روى عن أنس من طريق جماعة،وفي أكثر رواية هؤلاء ذكر الزيادة،كما تقدم‏.‏
    وأما حديث حذيفة رضي الله عنه فرواه أبو بكر الخلال بن يزيد بن جمهور‏:‏ حدثنا الحسن بن يحيى بن كثير العَنْبَرِي، حدثنا أبي،عن إبراهيم بن المبارك، عن الأعمش، عن أبى وائل، عن حذيقة بن اليمان،قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏
    ‏"‏أتاني جبريل، وإذا في كفه مرآة كأصفى المرايا وأحسنها‏"‏ وساق الحديث بزيادته على ما تقدم، وفيه ألفاظ أخرى، ولم يذكر الزيادة‏.‏
    ورواه أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا محمد بن مَعْمَر وأحمد بن عَمْرو العصفوري قالا‏:‏ حدثنا يحيى بن كثير العنبري، عن إبراهيم بن المبارك، عن القاسم بن مطيب، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة،وذكر الحديث،وفيه‏:‏ ‏"‏فيوحي الله إلى حملة العرش أن يفتحوا الحجب فيما بينه و بينهم، فيكون أول ما يسمعون منه تعالى ‏:‏ أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني، وصدقوا

    ج/ 6 ص -417-رسلي، واتبعوا أمري‏؟‏ سلوني فهذا يوم المزيد‏.‏فيجتمعون على كلمة واحدة ‏:‏ أن قد رضينا فارض عنا ويرجع في قوله ‏:‏ يا أهل الجنة، إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي،هذا يوم المزيد فسلوني، فيجتمعون على كلمة واحدة‏:‏ أرنا وجهك رب ننظر إليه، فيكشف الله الحجب فيتجلى لهم، فيغشاهم من نوره ما لولا أن الله قضى ألا يموتوا لاحترقوا،ثم يقال لهم‏:‏ارجعوا إلى منازلكم، فيرجعون إلى منازلهم في كل سبعة أيام يوم، وذلك يوم المزيد‏"‏‏.‏
    وأما حديث ابن عباس رضي الله عنه فروى من غير وجه صحيح في كتاب الآجرى وابن بطة وغيرهما، عن أبي بكر بن أبي داود السجستاني‏:‏ حدثنا عمي محمد ابن الأشعث، حدثنا ابن جَسْر، حدثنا أبي جَسْر، عن الحسين، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ قال‏
    :‏ ‏"‏إن أهل الجنة يرون ربهم تعالى في كل يوم جمعة في رمال الكافور، وأقربهم منه مجلسًا أسرعهم إليه يوم الجمعة وأبكرهم غدوًا‏"‏، وهذا تصريح بالزيادة المطلوبة‏.‏
    وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فرواه الترمذي، وابن ماجه، من حديث عبد الحميد بن أبي العشرين ‏:‏ حدثنا الأوزاعي، حدثنا حسان بن عطية، عن سعيد بن المسيب، أنه لقى أبا هريرة فقال أبو هريرة ‏:‏ أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة، فقال سعيد‏:‏ أفيها سوق ‏؟‏ قال‏:‏ نعم، أخبرني رسول الله ﷺ ‏:‏
    ‏"‏إن أهل الجنة إذا دخلوا نزلوا

    ج/ 6 ص -418-فيها بفضل أعمالهم، ثم يؤذن في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا، فيزورون ربهم، ويبرز لهم عرشه، ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة، فتوضع لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من ياقوت، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، ويجلس أدناهم وما فيهم من دنى على كثبان المسك والكافور، ما يرون بأن أصحاب الكراسي أفضل منهم مجلسًا‏"‏، قال أبو هريرة ‏:‏قلت‏:‏ يا رسول الله، وهل نرى ربنا عز وجل ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر‏؟‏‏"‏‏.‏ قلنا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏‏"‏كذلك لا تمارون في رؤية ربكم تبارك وتعالى ولا يبقى في ذلك المجلس يعني‏:‏ رجلا إلا حاضره الله محاضرة، حتى يقول للرجل منهم‏:‏ يا فلان بن فلان، أتذكر يوم قلت ‏:‏ كذا وكذا فيذكره ببعض غُدَرَاته في الدنيا فيقول‏:‏ يا رب، أفلم تغفر لي ‏؟‏ فيقول‏:‏ بلى، فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه‏.‏ فبينما هم كذلك غشيهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيبًا لم يجدوا مثل ريحه شيئًا قط، ويقول ربنا‏:‏ قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم، فنأتي سوقًا قد حفت به الملائكة، فيه ما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان، ولم يخطر على القلوب، فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيها ولا يشترى، وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضًا قال ‏:‏ فيقبل الرجل ذو المنزلة المرتفعة فيلقاه من هو دونه وما فيهم دنى فيروعه ما عليه من اللباس، فما ينقضى آخر حديثه حتى يتخيل إليه ما هو أحسن منه؛ وذلك أنه لا ينبغى لأحد أن يحزن فيها، ثم ننصرف إلى منازلنا، فيتلقانا أزواجنا

    ج/ 6 ص -419-فيقلن‏:‏ مرحبًا وأهلاً، لقد جئت وإن بك من الجمال أفضل مما فارقتنا عليه، فيقول‏:‏ إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار، ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا‏"‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقد روى سويد بن عمرو عن الأوزاعي شيئًا من هذا‏.‏
    قلت‏:‏ قد روى هذا الحديث ابن بطة في ‏[‏الإبانة‏]‏ بأسانيد صحيحة عن أبى المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، عن الأوزاعي، وعن محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن عبد الله بن صالح ‏:‏حدثني الهقل، عن الأوزاعي قال‏:‏نبئت أنه لقى سعيد بن المسيب أبا هريرة فقال‏:‏ أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة، وذكر الحديث مثل ما تقدم‏.‏ وهذا يبين أن الحديث محفوظ عن الأوزاعي، لكن في تلك الروايات سمى من حدثه، وفي الروايات البواقي الثانية لم يسم، فالله أعلم‏.‏
    ومضمون هذا الحديث‏:‏ أن أزواجهم لم تكن معهم في جمعة الآخرة، ولا في سوقها، لكنه لا ينفى أنهن رأين الله في دورهن، فإن الرجال قد عللوا زيادة الحسن والجمال بمجالسة الجبار، والنساء قد شركتهم في زيادة الحسن والجمال، كما تقدم في أصح الأحاديث‏.

    ج/ 6 ص -420-فصل
    المقتضى لكتابة هذا ‏:‏ أن بعض الفقهاء كان قد سألني لأجل نسائه من مدة‏:‏ هل ترى المؤمنات الله في الآخرة ‏؟‏ فأجبت بما حضرني إذ ذاك ‏:‏ من أن الظاهر أنهن يرينه، وذكرت له أنه قد روى أبو بكر عن ابن عباس أنهن يرينه في الأعياد، وأن أحاديث الرؤية تشمل المؤمنين جميعًا من الرجال والنساء، وكذلك كلام العلماء، وأن المعنى يقتضى ذلك حسب التتبع، وما لم يحضرني الساعة‏.‏
    وكان قد سنح لي فيما روى عن ابن عباس‏:‏ أن سبب ذلك أن الرؤية المعتادة العامة في الآخرة تكون بحسب الصلوات العامة المعتادة، فلما كان الرجال قد شرع لهم في الدنيا الاجتماع لذكر الله ومناجاته، وترائيه بالقلوب والتنعم بلقائه في الصلاة كل جمعة، جعل لهم في الآخرة اجتماعًا في كل جمعة لمناجاته ومعاينته والتمتع بلقائه‏.‏
    ولما كانت السنة قد مضت بأن النساء يؤمرن بالخروج في العيد حتى العواتق والحيض، وكان على عهد رسول الله ﷺ يخرج عامة نساء المؤمنين في العيد، جعل عيدهن في الآخرة بالرؤية على مقدار عيدهن في الدنيا‏.‏

    ج/ 6 ص -421-وأيد ذلك عندي ما خرجاه في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي قال‏:‏ كنا جلوسًا عند رسول الله ﷺ إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال‏:‏ ‏"‏إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تُضَامُّون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا‏"‏ ثم قرأ ‏:‏‏"‏وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا‏"‏ ‏[‏طه 130‏]‏،وهذا الحديث من أصح الأحاديث على وجه الأرض المتلقاة بالقبول، المجمع عليها عند العلماء بالحديث وسائر أهل السنة‏.‏
    ورأيت أن النبي ﷺ أخبر المؤمنين بأنهم يرون ربهم، وعقبه بقوله‏
    :‏ ‏"‏فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها فافعلوا‏"‏، ومعلوم أن تعقيب الحكم للوصف، أو الوصف للحكم بحرف الفاء يدل على أن الوصف علة للحكم، لاسيما ومجرد التعقيب هنا محال؛ فإن الرؤية في الحديث قبل التحضيض على الصلاتين وهي موجودة في الآخرة، والتحضيض موجود قبلها في الدنيا‏.‏
    والتعقيب الذي يقوله النحويون لا يعنون به ‏:‏ أن اللفظ بالثاني يكون بعد الأول، فإن هذا موجود بالفاء وبدونها وبسائر حروف العطف‏.‏ وإنما يعنون به معنى ‏:‏ أن التلفظ الثاني يكون عقب الأول، فإذا قلت‏:‏ قام زيد، فعمرو أفاد أن قيام عمرو موجود في نفسه عقب قيام زيد، لا أن مجرد تكلم المتكلم بالثاني عقب الأول، وهذا مما هو مستقر عند الفقهاء في أصول الفقه، وهو مفهوم من

    ج/ 6 ص -422-اللغة العربية إذا قيل‏:‏ هذا رجل صالح فأكرمه، فهم من ذلك أن الصلاح سبب للأمر بإكرامه، حتى لو رأينا بعد ذلك رجلاً صالحًا لقيل كذلك الأمر، وهذا أيضًا رجل صالح أفلا تكرمه‏؟‏ فإن لم يفعل فلابد أن يخلف الحكم لمعارض وإلا عد تناقضًا‏.‏ وكذلك لما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئًا قَدَّمَه، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئًا قَدَّمه، وينظر أمامه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتقى النار ولو بشق تمرة فليفعل، فإن لم يستطع فبكلمة طيبة‏"‏ ،فهم منه أن تحضيضه على اتقاء النار هنا لأجل كونهم يستقبلونها وقت ملاقاة الرب، وإن كان لها سبب آخر‏.‏
    وكذلك لما قال ابن مسعود‏:‏ سارعوا إلى الجمعة، فإن الله يبرز لأهل الجنة في كل جمعة في كَثِيبٍ من كثب الكافور، فيكونون في القرب منه على قدر تسارعهم في الدنيا إلى الجمعة، فهم الناس من هذا أن طلب هذا الثواب سبب للأمر بالمسارعة إلى الجنة‏.‏
    وكذلك لو قيل‏:‏إن الأمير غدًا يحكم بين الناس أو يقسم بينهم،فمن أحب فليحضر،فهم منه أن الأمر بالحضور غدًا لأخذ النصيب من حكمه أو قسمه،وهذا ظاهر‏.‏
    ثم إن هذا الوصف المقتضى للحكم تارة يكون سببًا متقدمًا على الحكم

    ج/ 6 ص -423-في العقل وفي الوجود كما في قوله‏:‏ ‏"‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا‏"‏[‏المائدة‏:‏ 38‏]‏، وتارة يكون حكمه متقدمًا على الحكم في العلم،والإرادة متأخرة عنه في الوجود كما في قولك‏:‏الأمير يحضر غدًا، فإن حضر كان حضور الأمير يتصور ويقصد قبل الأمر بالحضور معه، وإن كان يوجد بعد الأمر بالحضور وهذه تسمى العلة الغائية، وتسميها الفقهاء حكمة الحكم، وهي سبب في الإرادة بحكمها،وحكمها سبب في الوجود لها‏.‏
    والتعليل تارة يقع في اللفظ بنفس الحكمة الموجودة،فيكون ظاهره أن العلة متأخرة عن المعلول، وفي الحقيقة إنما العلة طلب تلك الحكمة وإرادتها‏.‏ وطلب العافية وإرادتها متقدم على طلب أسبابها المفعولة، وأسبابها المفعولة متقدمة عليها في الوجود ونظائره كثير‏.‏ كما قيل‏:‏‏
    "‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ‏"‏‏[‏النحل‏:‏ 98‏]‏، و‏"‏إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ‏"‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏ ويقال ‏:‏ إذا حججت فتزود‏.‏ فقوله ﷺ ‏:‏‏"‏إنكم سترون ربكم، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاتين‏"‏ إلى ‏:‏ ‏"‏فافعلوا‏"‏، يقتضى أن المحافظة عليها هنا لأجل ابتغاء هذه الرؤية، ويقتضى أن المحافظة سبب لهذه الرؤية، ولا يمنع أن تكون المحافظة توجب ثوابًا آخر ويؤمر بها لأجله، وأن المحافظة عليها سبب لذلك الثواب وأن للرؤية سببًا آخر؛ لأن تعليل الحكم الواحد بعلل واقتضاء العلة الواحدة لأحكام جائز‏.
    ‏وهكذا غالب أحاديث الوعد كما في قوله‏:‏ ‏"‏من صلى ركعتين لا يحدث فيهما

    ج/ 6 ص -424-نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه‏"‏، و‏"‏من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه‏"‏، وقوله‏:‏‏"‏لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم‏"‏ ونحو ذلك، فإنه يقتضي أن صلاة هاتين الركعتين سبب للمغفرة،وكذلك الحج المبرور، وإن كان للمغفرة أسباب أخر‏.‏
    وأيد هذا المعنى أن الله تعالى قال‏:‏
    ‏"‏وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏" ‏‏[‏الأنعام ‏:‏52‏]‏، وقد فسر هذا الدعاء بصلاتي الفجر والعصر، ولما أخبر أنهم يريدون وجهه بهاتين الصلاتين، وأخبر في هذا الحديث أنهم ينظرون إليه، فتحضيضهم على هاتين يناسب ذلك أن من أراد وجهه نظر إلى وجهه تبارك وتعالى‏.‏
    ثم لما انضم إلى ذلك ما تقدم من أن صلاة الجمعة سبب للرؤية في وقتها، وكذلك صلاة العيد، ناسب ذلك أن تكون هاتان الصلاتان اللتان هما أفضل الصلوات، وأوقاتهما أفضل الأوقات فناسب أن تكون الصلاة التي هي أفضل الأعمال ثم ما كان منها أفضل الصلوات في أفضل الأوقات سببًا لأفضل الثوابات في أفضل الأوقات‏.‏
    لاسيما وقد جاء في حديث ابن عمر الذي رواه الترمذي عن إسرائيل، عن ثُوَيْر بن أبي فاختة، سمعت ابن عمر يقول‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"
    ‏إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشيًا‏"‏، ثم قرأ رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏"‏[‏القيامة ‏:‏22، 23‏]‏‏.‏

    ج/ 6 ص -425-قال الترمذي ‏:‏ وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن إسرائيل، عن ثوير، عن ابن عمر مرفوعًا، ورواه عبد الملك بن أبْحَر، عن ثوير، عن مجاهد، عن ابن عمر موقوفًا، ورواه عبيد الله الأشجعي، عن سفيان، عن ثوير، عن مجاهد، عن ابن عمر قوله‏:‏ ولم يرفعه‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ لا نعلم أحدًا ذكر فيه مجاهدًا غير ثوير، وأظنه قد قيل في قوله‏:‏‏"‏وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا‏"‏‏[‏مريم 62‏]‏ ‏:‏ إن منه النظر إلى الله‏.‏
    وروى في ذلك حديث مرفوع رواه الدارقطني في ‏[‏الرؤية‏]‏‏:‏ حدثنا أبو عبيد قاسم ابن إسماعيل الضَّبِّيّ، حدثنا محمد بن محمد بن مرزوق البصري،حدثنا هانئ بن يحيى، حدثنا صالح المصري، عن عباد المِنْقَرِيِّ، عن ميمون بن سِيَاه، عن أنس بن مالك؛ أن النبي ﷺ أقرأه هذه الآية‏:‏
    ‏"‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏"‏ قال‏:‏ والله ما نسخها منذ أنزلها يزورون ربهم تبارك وتعالى فيطعمون ويسقون، ويطيبون ويحملون، ويرفع الحجاب بينه وبينهم، فينظرون إليه وينظر إليهم عز وجل وذلك قوله‏:‏ ‏"‏وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا‏"‏‏.‏ وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي هذا الحديث في ‏[‏الموضوعات‏]‏ وقال‏:‏ هذا لا يصح، فيه ميمون بن سِيَاه، قال ابن حبان‏:‏ ينفرد بالمناكير عن المشاهير لا يحتج به إذا انفرد، وفيه صالح المصري، قال النسائي ‏:‏ متروك الحديث‏.‏
    قلت‏:‏ أما ميمون بن سياه، فقد أخرج له البخاري والنسائي، وقال فيه أبو حاتم الرازي‏:‏ثقة،وحسبك بهذه الأمور الثلاثة، وعن ابن معين قال فيه‏:‏

    ج/ 6 ص -426-ضعيف، لكن هذا الكلام يقوله ابن معين في غير واحد من الثقات‏.‏وأما كلام ابن حبان ففيه ابتداع في الجرح‏.‏
    فلما كان في حديث ابن عمر المتقدم، وعد أعلاهم ‏"‏غدوة وعشيًا‏"‏ والرسول ﷺ قد جعل صلاتي الغداة والعشي سببًا للرؤية، وصلاة الجمعة سببًا للرؤية في وقتها، مع ما في الصلاة من مناسبة الرؤية، كان العلم بمجموع هذه الأمور يفيد ظنًا قويًا ‏:‏أن هاتين الصلاتين سبب للرؤية في وقتهما في الآخرة، والله أعلم بحقيقة الحال‏.‏
    فلما كان هذا قد سنح لي، والنساء يشاركن الرجال في سبب العمل فيشاركونهم في ثوابه، ولما انتفت المشاركة في الجمعة انتفت المشاركة في النظر في الآخرة، ولما حصلت المشاركة في العيد حصلت المشاركة في ثوابه‏.‏
    ثم بعد مدة طويلة جرى كلام في هذه المسألة، وكنت قد نسيت ما ذكرته أولا، لا بعضه، فاقتضى ذكر ما ذكرته أولاً، فقيل لي ‏:‏الحديث يقتضي أن هاتين الصلاتين من جملة سبب الرؤية، لا أنه جميع السبب، بدليل أن من صلاهما ولم يصل الظهر والعصر لا يستحق الرؤية‏.‏ وقيل لي ‏:‏ الحديث يدل على أن الصلاتين سبب في الجملة، فيجوز أن تكون هاتان الصلاتان سببًا للرؤية في الجمعة، كيف وقد قيل‏:‏ إن أعلي أهل الجنة من يراه مرتين‏؟‏ فكيف يكون المحافظون على هاتين الصلاتين أعلاهم‏؟‏‏!‏
    فقلت‏:‏ ظاهر الحديث يقتضي أن هاتين الصلاتين هو السبب في هذه

    ج/ 6 ص -427-الرؤية لما ذكرته من القاعدة في النساء آنفًا، ثم قد يتخلف المقتضى عن المقتضى لمانع لا يقدح في اقتضائه، كسائر أحاديث الوعد، فإنه لما قال‏:‏‏"‏من صلى البَرْدَيْن دخل الجنة‏"‏ ‏[‏البردان ‏:‏ الغداة والعشي صلاة الفجر وصلاة العشاء‏]‏، من فعل كذا دخل الجنة، دل على أن ذلك العمل سبب لدخول الجنة وإن تخلف عنه مقتضاه لكفر أو فسق‏.‏
    فمن ترك صلاة الظهر أو زنا أو سرق ونحو ذلك كان فاسقًا، والفاسق غير مستحق للوعد بدخول الجنة كالكافر، وكذلك أحاديث الوعيد إذا قيل‏:‏ من فعل كذا دخل النار، فإن المقتضى يتخلف عن التائب وعمن أتى بحسنات تمحو السيئات وعن غيرهم، ويجوز أن يكون للرؤية سبب آخر، فكونه سببًا لا يمنع تخلف الحكم عنه لمانع ولا يمنع أن ينتصب سبب آخر للرؤية‏.‏ ثم أقول‏:‏ فعل بقية الفرائض سواء كانت من جملة السبب، أو كانت شرطًا في هذا السبب، فالأمر في ذلك قريب، وهو نزاع لفظي، فإن الكلام إنما هو في حق من أتى ببقية شروط الوعد، و انتفت عنه موانعه‏.‏
    ولا يجوز أن يقال‏:‏ فالأنوثة مانع من لحوق الوعد، أو الذكورة شرط؛ لأن هذا إن دل عليه دليل شرعي، كما دل على أن فعل بقية الفرائض شرط قلنا به،فأما بمجرد الإمكان فلا يجوز ترك مقتضى اللفظ وموجبه بالإمكان، بل متى ثبت عموم اللفظ وعموم العلة وجب ترتيب مقتضى ذلك عليه ما لم يدل دليل بخلافه، ولم يثبت أن الذكورة شرط، ولا أن الأنوثة مانع، كما لم يقتض أن العربية والعجمية والسواد والبياض لها تأثير في ذلك‏.‏

    ج/ 6 ص -428-وكذلك الحديث يدل على أن‏"‏المقتصدين‏"‏ يشاركون ‏"‏السابقين‏"‏ في أصل الرؤية،وإن امتاز السابقون عنهم بدرجات، ومثوبات، أو شمول المعنى لهؤلاء على السواء، فهذا من هذا الوجه دليل على أن هاتين الصلاتين سبب للرؤية، ووجود السبب يقتضى وجود المسبب، إلا إذا تخلف شرطه أو حصلت موانعه، والشروط والموانع تتوقف على دليل‏.‏
    وأما الاعتراض على كون هاتين الصلاتين سبب للرؤية في الجملة ولو في يوم الجمعة فيقال‏:‏ ذلك لا ينفي أن النساء يرينه في الجملة ولو في غير يوم الجمعة، وهذا هو المطلوب‏.‏
    ثم يقال‏:‏ مجموع ما تقدم من سائر الأحاديث يقتضى أن الرؤية تحصل وقت العمل في الدنيا، فإذا قيل‏:‏ إن الرؤية تكون غدوًا وعشيًا وسببها صلاة الغداة والعشي، كان هذا ظاهرًا فيما قلناه، والمدعي الظهور لا القطع‏.‏
    وأما كون الرؤية مرتين لأعلى أهل الجنة وليس من صلى هاتين الصلاتين أعلى أهل الجنة، فليس هذا بدافع لما ذكرناه؛ لأن هذين الاحتمالين ممكنة به، يخرج الدليل عليها، لكن الله أعلم بما هو الواقع منها، يمكن السبب فعل هاتين الصلاتين على الوجه الذي أمر الله به باطنًا وظاهرًا، لا صلاة أكثر الناس‏.‏
    ألا ترى إلى حديث عمار بن ياسر عن النبي ﷺ ‏:‏‏"‏إن الرجل لينصرف من صلاته ولم يكتب له إلا ربعها إلا خمسها إلا سدسها‏"‏ حتى

    ج/ 6 ص -429-قال ‏:‏ ‏"‏عشرها‏"‏ رواه أبو داود، فالصلاة المقبولة هي سبب الثواب، والصلاة المقبولة هي المكتوبة لصاحبها، وقد بين النبي ﷺ أن من المصلين من لا يكتب له إلا بعضها،فلا يكون ذلك المصلي مستحقًا للثواب الذي استحقه من تقبل الله صلاته وكتبها له كلها‏.‏
    وعلى هذا، فلا يكاد يندرج في الحديث إلا الصديقون أو قليل من غيرهم، والنساء منهن صديقات‏.‏
    ويجوز أن يكون من له نوافل يجبر بها نقص صلاته، يدخل في الحديث، كما جاء في حديث أبي هريرة المرفوع ‏:‏ ‏"‏أن النوافل تجبر الفرائض يوم القيامة‏"‏‏.‏
    وعلى هذا، فيكون الموجودون بهذا أكثر المصلين المحافظين على الصلوات، ويكون هؤلاء أعلى أهل الجنة، فإن أكثر أمة محمد ﷺ ما يحافظون على الصلوات، بل منهم من يؤخر بعضها عن وقته، ومنهم من ترك بعض واجباتها، ومنهم من يترك بعضها، وسائر الأمم قبلنا لا حظ لهم في هاتين الصلاتين‏.‏
    ولو قيل ‏:‏ إن كل من صلى هاتين الصلاتين دخل الجنة على أي حال كان مغفورًا له، نال هذا الثواب لأمكن في قدرة الله، ولم يكن الحديث نافيًا لهذا؛ إذ أكثر ما فيه أنه من أعلى أهل الجنة، والعلو والسفول أمر إضافي، فيصدق على أهل الجنات الثلاث أنهم من أعلى أهل الجنات الخمس الباقية، ويصدق أيضًا

    ج/ 6 ص -430-على أكثر أهل الجنة أنهم أعلى بالنسبة إلى من تحتهم، وبعض هذا فيه نظر‏.‏ والله أعلم بحقيقة الحال‏.‏
    لكن الغرض أن هذا لا ينفي ما ذكرناه، وهذا كله لو كان حديث المرتين، يصلح لمعارضة ما ذكرنا من الدلالة، وهو لا يصلح لذلك لما فيه من الاختلاف في إسناده‏.‏
    ولما جرى الكلام ثانيًا في رؤية النساء ربهن في الآخرة، استدللت بأشياء أنا أذكرها، وما اعترض به علي وما لم يعترض حتى يظهر الأمر، فأقول‏:‏ الدليل على أنهن يرينه أن النصوص المخبرة بالرؤية في الآخرة للمؤمنين تشمل النساء لفظًا ومعنى، ولم يعارض هذا العموم ما يقتضي إخراجهن من ذلك، فيجب القول بالدليل السالم عن المعارض المقاوم‏.‏
    ولو قيل لنا ‏:‏ ما الدليل على أن الفُرْس يرون الله ‏؟‏ أو أن الطوال من الرجال يرون الله‏!‏ أو إيش الدليل على أن نساء الحبشة يخرجن من النار‏؟‏ لكان مثل هذا العموم في ذلك بالغًا جدًا إلا إذا خصص، ثم يعلم أن العموم المسند المجرد عن قبول التخصيص يكاد يكون قاطعًا في شموله، بل قد يكون قاطعًا‏.‏
    أما النصوص العامة، فمثل ما في الصحيحين عن أبي هريرة‏:‏ أن الناس قالوا، يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة‏؟‏ قال‏:
    ‏‏"‏هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ لا، يا رسول الله،قال‏:‏ ‏"‏فهل تمارون في الشمس

    ج/ 6 ص -431-ليس دونها سحاب‏؟‏‏"‏، قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ ‏"‏فإنكم ترونه كذلك، يحشر الناس يوم القيامة، فيقول‏:‏ من كان يعبد شيئًا فليتبعه‏.‏فمنهم من يتبع الشمس،ومنهم من يتبع القمر،ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها،فيأتيهم في صورة غير صورته التي يعرفون،فيقولون‏:‏ نعوذ بالله منك‏!‏ هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا عز وجل فإذا جاء ربنا عز وجل عرفناه، فيأتيهم في صورته التي يعرفون، فيقول‏:‏ أنا ربكم‏!‏فيقولون‏:‏أنت ربنا، فيدعوهم فيتبعونه، ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيز، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل،ودعوى الرسل يومئذ‏:‏اللهم سَلِّمْ سَلِّمْ ‏!‏‏"‏ وساق الحديث‏.‏
    وفي الصحيحين أيضاً عن أبي سعيد قال‏:‏ قلنا ‏:‏يا رسول الله،هل نرى ربنا يوم القيامة‏؟‏ قال رسول الله ﷺ‏
    :‏‏"‏نعم، فهل تُضَارُّون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوًا ليس معها سحاب‏؟‏‏! ‏هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ لا يا رسول الله، قال‏:‏‏"‏ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما، إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن ‏:‏ لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بَرٍّ وفاجر وغُبَّر ‏[‏الغُبَّر‏:‏ جمع غابر، وهو الباقي‏]‏ أهل الكتاب‏"‏ وذكر الحديث في دعاء اليهود والنصارى إلى أن قال‏:‏‏"‏حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر، أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها، قال‏:‏ فما تنتظرون‏؟‏ تتبع كل أمة ما كانت تعبد، قالوا‏:‏ يا ربنا، فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم، ولم

    ج/ 6 ص -432-نصاحبهم، فيقول‏:‏ أنا ربكم، فيقولون‏:‏ نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئًا مرتين أو ثلاثًا حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب ‏.‏ فيقول ‏:‏ هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها‏؟‏ فيقولون ‏:‏نعم، فيكشف عن ساق، ولا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فيقول‏:‏ أنا ربكم، فيقولون‏:‏ أنت ربنا، ثم يضرب الجسر على جهنم‏"‏‏.‏
    هذان الحديثان من أصح الأحاديث، فلما قال النبي ﷺ ‏:
    ‏‏"‏فإنكم ترونه كذلك، يحشر الناس فيقول‏:‏ من كان يعبد شيئًا فليتبعه‏"‏ ،أليس قد علم بالضرورة أن هذا خطاب لأهل الموقف من الرجال والنساء‏؟‏ لأن لفظ ‏"‏الناس‏"‏ يعم الصنفين، ولأن الحشر مشترك بين الصنفين‏.‏
    وهذا العموم لا يجوز تخصيصه، وإن جاز جاز على ضعف؛ لأن النساء أكثر من الرجال، إذ قد صح أنهن أكثر أهل النار، وقد صح‏:‏ لكل رجل من أهل الجنة زوجتان من الإنسيات سوى الحور العين؛ وذلك لأن من في الجنة من النساء أكثر من الرجال وكذلك في النار، فيكون الخلق منهم أكثر، واللفظ العام لا يجوز أن يحمل على القليل من الصور دون الكثير بلا قرينة متصلة؛ لأن ذلك تلبيس وعَيٌّ ‏[‏أي‏:‏ عجزٌ وعدم اهتداء‏]‏ ينزه عنه كلام الشارع‏.‏
    ثم قوله‏:‏ فيقال‏:‏ ‏"‏من كان يعبد شيئًا فليتبعه‏"‏، وصف من الصيغ التي

    ج/ 6 ص -433-تعم الرجال والنساء، ثم فيها العموم المعنوي وهو ‏:‏ أن اتباعه إياه معلل بكونه عبده في الدنيا، وهذه العلة شاملة للصنفين، ثم قوله‏:‏ ‏"‏وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها‏"‏‏.‏ والنساء من هذه الأمة مؤمناتهن ومنافقاتهن، ‏"‏فإذا جاء عرفناه‏"‏،وقوله‏:‏ ‏"‏فيأتيهم في صورته التي يعرفون فيقول‏:‏ أنا ربكم، فيقولون‏:‏ أنت ربنا فيدعوهم‏"‏تفسير لما ذكرناه في أول الحديث من أنهم يرون ربهم كما يرون الشمس والقمر‏.‏
    والضمير في قوله‏:‏ ‏"‏فيأتيهم في صورته التي يعرفون فيقول‏:‏ أنا ربكم، فيقولون‏:‏ أنت ربنا‏"‏ قد ثبت أنه عائد إلى الأمة التي فيها الرجال والنساء، وإلى من كان يعبده الذي يشمل الرجال والنساء، وإلى الناس غير المشركين، وذلك يعم الرجال والنساء، وهذا أوضح من أن يزاد بيانًا‏.‏
    ثم قوله في حديث أبي سعيد‏:‏ ‏"‏فيرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوها فيها أول مرة‏"‏نص في أن النساء من الساجدين الرافعين قد رأوه أولاً ووسطًا وآخرًا، والساجدون قد قال فيهم ‏:‏‏"‏لا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود‏"‏، و ‏"‏من‏"‏تعم الرجال والنساء، فكل من سجد لله مخلصًا من رجل وامرأة فقد سجد لله، وقد رآه في هذه المواقف الثلاث، وليس هذا موضع بيان ما يتعلق بتعدد السجود والتحول وغير ذلك مما يلتمس معرفته، وإنما الغرض هنا ما قصدنا له‏.‏
    ثم في كلا الحديثين الإخبار بمرورهم على الصراط، وسقوط قوم في النار،

    ج/ 6 ص -434-ونجاة آخرين، ثم بالشفاعة في أهل التوحيد حتى يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ويدخلون الجنة ويسمون الجُهنمِيِّين، أفليس هذا كله عامًا للرجال والنساء‏؟‏‏!‏ أم الذين يجتازون على الصراط ويسقط بعضهم في النار ثم يشفع في بعضهم هم الرجال، ولو طلب الرجل نصًا في النساء في مثل هذا أما كان متكلفًا ظاهر التكلف‏؟‏‏!‏
    وكذلك روى مسلم في صحيحه عن أبي الزبير‏:‏ أنه سمع جابرًا يسأل عن ‏"‏الورود‏"‏ فقال‏:‏ نجىء نحن يوم القيامة عن كذا وكذا، انظر أي ذلك فوق الناس‏؟‏ قال‏:‏ فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول‏:‏ من تنتظرون‏؟‏ فيقولون‏:‏ ننتظر ربنا، فيقول‏:‏ أنا ربكم،فيقولون ‏:‏حتى ننظر إليك، فيتجلى لهم يضحك، قال‏:‏ فينطلق بهم ويتبعونه، ويعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن- نورًا، ثم يتبعونه، وعلى جسر جهنم كَلاليب وحَسَك تأخذ من شاء الله، ثم يطفأ نور المنافقين ثم ينجو المؤمنون‏.‏ وذكر الحديث في دخول الجنة والشفاعة‏.‏
    أفليس هذا بينًا في أنه يتجلى لجميع الأمة‏؟‏ كما أن الأمة تعطي نورها، ثم جميع المؤمنين ذكرانهم وإناثهم يبقى نورهم، وكذلك جميع ما في الحديث من المعاني تعم الطائفتين عمومًا يقينيًا‏.‏
    وهذا الحديث هو مرفوع قد رواه الإمام أحمد وغيره بمثل إسناد مسلم،

    ج/ 6 ص -435-وذكر فيه عن النبي ﷺ ما يقتضى أن جابرًا سمع الجميع منه، وروى من وجوه صحيحة عن جابر عن النبي ﷺ مرفوعًا، وهذا الحديث قد روى أيضًا بإسناد جيد من حديث ابن مسعود مرفرعًا إلى النبي ﷺ أطول سياقه من سائر الأحاديث، وروى من غير وجه‏.‏
    وفي حديث أبي رَزِين العقيلي المشهور من غير وجه قال‏:‏ قلنا‏:‏ يا رسول الله، أكلنا يرى ربه يوم القيامة ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أكلكم يرى القمر مخليًا به‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ بلى ‏.‏ قال ‏:
    ‏ ‏"‏فالله أعظم‏"‏، وقوله‏:‏ ‏"‏كلكم يرى ربه‏"‏ كقوله‏:‏ ‏"‏كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته،والمرأة راعية في مال زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها‏"‏ من أشمل اللفظ‏.‏
    ومن هذا قوله‏:‏‏"‏كلكم يرى ربه مخليًا به‏"‏،و ‏"‏ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه كما يخلو أحدكم بالقمر‏"‏، ‏"‏وما منكم إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان‏"‏ إلى غير ذلك من الأحاديث الصحاح والحسان التي تصرح بأن جميع الناس ذكورهم وإناثهم مشتركون في هذه الأمور من المحاسبة والرؤية، والخلوة والكلام‏.‏
    وكذلك الأحاديث في رؤيته سبحانه في الجنة مثل ما رواه مسلم في صحيحه عن صهيب قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ ‏:‏‏"
    ‏إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد‏:‏ يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون‏:‏ ما هو ‏؟‏ ألم يثقل موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا

    ج/ 6 ص -436-الجنة، ويجرنا من النار‏؟‏ فيكشف الحجاب فينظرون إلى الله فما شىء أعطوه أحب إليهم من النظر إليه‏"‏، وهي ‏"‏الزيادة‏"‏‏.‏
    قوله‏:‏ ‏"‏إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار‏"‏يعم الرجال والنساء، فإن لفظ الأهل يشمل الصنفين، وأيضًا فقد علم أن النساء من أهل الجنة، وقوله‏:‏ ‏"‏يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه‏"‏ خطاب لجميع أهل الجنة الذين دخلوها ووعدوا بالجزاء، وهذا قد دخل فيه جميع النساء المكلفات‏.‏ وكذلك قولهم‏:‏‏"‏ألم يثقل‏.‏‏.‏‏.‏ ويبيض‏.‏‏.‏‏.‏ ويدخل‏.‏‏.‏‏.‏ وينجز‏"‏ يعم الصنفين وقوله‏:‏ ‏"‏فيكشف الحجاب فينظرون إليه‏"‏ الضمير يعود إلى ما تقدم وهو يعم الصنفين‏.‏
    ثم الاستدلال بالآية دليل آخر؛ لأن الله سبحانه قال‏:
    ‏‏"‏لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏"‏،ومعلوم أن النساء من الذين أحسنوا،ثم قوله فيما بعد‏:‏‏"‏أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ‏"‏‏[‏يونس‏:‏26‏]‏ يقتضي حصر أصحاب الجنة في أولئك،والنساء من أصحاب الجنة، فيجب أن يكُنَّ من أولئك،وأولئك إشارة إلى الذين لهم الحسنى وزيادة، فوجب دخول النساء في الذين لهم الحسنى وزيادة، واقتضى أن كل من كان من أصحاب الجنة، فإنه موعود بالزيادة على الحسنى التي هي النظر إلى الله سبحانه ولا يستثنى من ذلك أحد إلا بدليل، وهذه الرؤية العامة لم توقت بوقت، بل قد تكون عقب الدخول قبل استقرارهم في المنازل، والله أعلم أي وقت يكون ذلك‏.‏

    ج/ 6 ص -437-وكذلك ما دل من الكتاب على الرؤية كقوله ‏:‏ ‏"‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ‏"‏‏[‏القيامة‏:‏2225‏]‏ هو تقسيم لجنس الإنسان المذكور في قوله‏:‏‏"‏يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ‏"‏[‏القيامة‏:‏ 13، 14‏]‏، وظاهر انقسام الوجوه إلى هذين النوعين‏.‏ كما أن قوله‏:‏‏"‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ‏"‏‏[‏عبس ‏:‏3841‏]‏ أيضًا إلى هذين النوعين، فمن لم يكن من الوجوه الباسرة كان من الوجوه الناضرة الناظرة، كيف وقد ثبت في الحديث أن النساء يزددن حسنا وجمالاً،كما يزداد الرجال في مواقيت النظر‏؟‏‏!‏ وكذلك قوله‏:‏‏"‏فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏"‏‏[‏السجدة‏:‏17‏]‏ قد فسر بالرؤية، وقوله‏:‏ ‏"‏إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ‏"‏‏[‏المطففين‏:‏22، 23‏]‏، فإن هذا كله يعم الرجال والنساء‏.‏
    واعلم أن الناس قد اختلفوا في صيغ جمع المذكر، مظهره ومضمره، مثل ‏:‏المؤمنين، والأبرار، وهو هل يدخل النساء في مطلق اللفظ أو لا يدخلون إلا بدليل‏؟‏ على قولين‏:‏
    أشهرهما عند أصحابنا ومن وافقهم ‏:‏ أنهم يدخلون؛ بناءً علي أن من لغة العرب إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلبوا المذكر، وقد عهدنا من الشارع في خطابه أنه يعم القسمين ويدخل النساء بطريق التغليب، وحاصله أن هذه الجموع تستعملها العرب تارة في الذكور المجردين، وتارة في الذكور والإناث،

    ج/ 6 ص -438-وقد عهدنا من الشارع أن خطابه المطلق يجرى على النمط الثاني، وقولنا‏:‏ المطلق، احتراز من المقيد، مثل قوله‏:‏‏"‏وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ‏"‏‏[‏الأحزاب‏:‏35‏]‏، ومن هؤلاء من يدعي أن مطلق اللفظ في اللغة يشمل القسمين‏.‏
    والقول الثاني‏:‏ أنهن لا يدخلن إلا بدليل،ثم لا خلاف بين الفريقين،أن آيات ‏[‏الأحكام‏]‏ و‏[‏الوعد‏]‏ و‏[‏الوعيد‏]‏ التي في القرآن تشمل الفريقين وإن كانت بصيغة المذكر‏.‏ فمن هؤلاء من يقول‏:‏ دخلوا فيه؛ لأن الشرع استعمل اللفظ فيهما،وإن كان اللفظ المطلق لا يشمله،وهذا يرجع إلى القول الأول‏.‏ومنهم من يقول‏:‏دخلوا؛ لأنا علمنا من الدين استواء الفريقين في الأحكام،فدخلوا كما ندخل نحن فيما خوطب به الرسول،وكما تدخل سائر الأمة فيما خوطب به الواحد منها، وإن كانت صيغة اللفظ لا تشمل غير المخاطب‏.‏
    وحقيقة هذا القول‏:‏ أن اللفظ الخاص يستعمل عامًا حقيقة عرفية، إما خاصة، وإما عامة، وربما سماه بعضهم قياسًا جليًا ينقص حكم من خالفه، وأكثرهم لا يسمونه قياسًا، بل قد علم استواء المخاطب وغيره، فنحن نفهم من الخطاب له الخطاب للباقين، حتى لو فرض انتفاء الخطاب في حقه لمعنى يخصه لم ينقص انتفاء الخطاب في حق غيره، فالقياس تعدية الحكم، وهنا لم يعد حكم،وإنما ثبت الحكم في حق الجميع ثبوتًا واحدًا، بل هو مشبه بتعدية الخطاب بالحكم، لا نفس الحكم‏.‏

    ج/ 6 ص -439-وعلى كل قول، فالدلالة من صيغ الجمع المذكر متوجهة، كما أنها متوجهة بلا تردد من صيغة‏:‏ ‏[‏من‏]‏ و ‏[‏أهل‏]‏ و ‏[‏الناس‏]‏ ونحو ذلك‏.‏
    واعلم أن هنا دلالة ثانية، وهي دلالة العموم المعنوي، وهي أقوى من دلالة العموم اللفظي ؛ وذلك أن قوله‏:‏‏
    "‏فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏"‏‏[‏السجدة‏:‏17‏]‏، وقد فسرت ‏[‏القرة‏]‏ بالنظر وغيره، فيقتضي أن النظر جزاء على عملهم، والرجال والنساء مشتركون في العمل الذي استحق به جنس الرجال الجنة، فإن العمل الذي يمتاز به الرجال كالإمارة والنبوة عند الجمهور ونحو ذلك لم تنحصر الرؤية فيه، بل يدخل في الرؤية من الرجال من لم يعمل عملاً يختص الرجال، بل اقتصر علي ما فرض عليه‏:‏ من الصلاة، والزكاة، وغيرهما، وهذا مشترك بين الفريقين‏.‏
    وكذلك قوله‏:‏ ‏
    "‏إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ‏"‏‏[‏المطففين‏:‏ 22، 23‏]‏ أن البر سبب هذا الثواب، والبر مشترك بين الصنفين،وكذلك كل ما علقت به الرؤية من اسم الإيمان ونحوه، يقتضي أنه هو السبب في ذلك، فيعم الطائفتين‏.‏
    وبهذا الوجه احتج الأئمة‏:‏ أن الكفار لا يرون ربهم‏.‏ فقالوا‏:‏ لما حجب الكفار بالسخط دل على أن المؤمنين يرون بالرضى، ومعلوم أن المؤمنات فارقوا الكفار فيما استحقوا به السخط والحجاب، وشاركوا المؤمنين

    ج/ 6 ص -440-فيما استحقوا به الرضوان والمعاينة، فثبتت الرؤية في حقهم باعتبار الطرد واعتبار العكس، وهذا باب واسع إن لم نقطعه لم ينقطع‏.‏ فإن قيل‏:‏ دلالة العموم ضعيفة، فإنه قد قيل‏:‏ أكثر العمومات مخصوصة، وقيل‏:‏ ما ثم لفظ عام إلا قوله‏:‏‏"‏وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏"‏‏[‏الأنعام‏:‏101‏]‏، ومن الناس من أنكر دلالة العموم رأسا‏.‏
    قلنا‏:‏ أما دلالة العموم المعنوي العقلي، فما أنكره أحد من الأمة فيما أعلمه، بل ولا من العقلاء، ولا يمكن إنكارها، اللهم إلا أن يكون في ‏[‏أهل الظاهر الصرف‏]‏، الذين لا يلحظون المعاني كحال من ينكرها، لكن هؤلاء لا ينكرون عموم الألفاظ، بل هو عندهم العمدة، ولا ينكرون عموم معاني الألفاظ العامة، وإلا قد ينكرون كون عموم المعاني المجردة مفهومًا من خطاب الغير‏.‏
    فما علمنا أحدًا جمع بين إنكار العمومين ؛ اللفظي والمعنوي، ونحن قد قررنا العموم بهما جميعًا، فيبقى محل وفاق مع العموم المعنوي، لا يمكن إنكاره في الجملة، ومن أنكره سد على نفسه إثبات حكم الأشياء الكثيرة، بل سد على عقله أخص أوصافه، وهو القضاء بالكلية العامة، ونحن قد قررنا العموم من هذا الوجه، بل قد اختلف الناس في مثل هذا العموم‏:‏ هل يجوز تخصيصه‏؟‏ على قولين مشهورين‏.‏
    وأما العموم اللفظي، فما أنكره أيضًا إمام ولا طائفة لها مذهب مستقر

    ج/ 6 ص -441-في العلم، ولا كان في القرون الثلاثة من ينكره، وإنما حدث إنكاره بعد المائة الثانية وظهر بعد المائة الثالثة، وأكبر سبب إنكاره إما من المجوزين للعفو من أهل السنة، ومن أهل المرجئة من ضاق عطنه لما ناظره الوعيدية بعموم آيات الوعيد وأحاديثه، فاضطره ذلك إلى أن جحد العموم في اللغة والشرع، فكانوا فيما فروا إليه من هذا الجحد كالمستجير من الرمضاء بالنار‏.‏
    ولو اهتدوا للجواب السديد للوعيدية ‏:‏ من أن الوعيد في آية وإن كان عامًا مطلقًا، فقد خصص وقيد في آية أخرى جريًا على السنن المستقيمة أولى بجواز العفو عن المتوعد وإن كان معينا، تقييدًا للوعيد المطلق، وغير ذلك من الأجوبة، وليس هذا موضع تقرير ذلك، فإن الناس قد قرروا العموم بما يضيق هذا الموضع عن ذكره‏.‏
    وإن كان قد يقال‏:‏ بل العلم بحصول العموم من صيغه ضروري من اللغة والشرع والعرف، والمنكرون له فرقة قليلة يجوز عليهم جحد الضروريات، أو سلب معرفتها، كما جاز على من جحد العلم بموجب الأخبار المتواترة وغير ذلك من المعالم الضرورية‏.‏
    وأما من سلم أن العموم ثابت، وأنه حجة، وقال‏:‏ هو ضعيف، أو أكثر العمومات مخصوصة، وأنه ما من عموم محفوظ إلا كلمة أو كلمات‏.‏
    فيقال له أولاً‏:‏ هذا سؤال لا توجيه له، فإن هذا القدر الذي ذكرته لا يخلو إما أن يكون مانعًا من الاستدلال بالعموم أو لا يكون، فإن كان مانعًا

    ج/ 6 ص -442-فهو مذهب منكري العموم من الواقفة والمخصصة، وهو مذهب سخيف لم ينتسب إليه‏.‏ وإن لم يكن مانعًا من الاستدلال فهذا كلام ضائع غايته أن يقال‏:‏ دلالة العموم أضعف من غيره من الظواهر وهذا لا يقر، فإنه ما لم يقم الدليل المخصص وجب العمل بالعام‏.‏
    ثم يقال له ثانيًا‏:‏ من الذي سلم لكم أن العموم المجرد الذي لم يظهر له مخصص دليل ضعيف‏؟‏ أم من الذي سلم أن أكثر العمومات مخصوصة‏؟‏ أم من الذي يقول‏:‏ما من عموم إلا قد خص إلا قوله‏:‏‏
    "‏وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏"‏‏؟‏ ‏[‏الأنعام‏:‏101‏]‏، فإن هذا الكلام،وإن كان قد يطلقه بعض السادات من المتفقهة وقد يوجد في كلام بعض المتكلمين في أصول الفقه،فإنه من أكذب الكلام وأفسده‏.‏
    والظن بمن قاله أولا‏:‏ إنه إنما عنى أن العموم من لفظ ‏[‏كل شىء‏]‏ مخصوص إلا في مواضع قليلة، كما في قوله‏:‏
    ‏"‏تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ ‏"‏‏[‏الأحقاف‏:‏25‏]‏، ‏"‏وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ‏"‏‏[‏النمل‏:‏23‏]‏، ‏"‏فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ‏"‏‏[‏الأنعام‏:‏44‏]‏، وإلا فأي عاقل يدعى هذا في جميع صيغ العموم في الكتاب والسنة، وفي سائر كتب الله وكلام أنبيائه، وسائر كلام الأمم عربهم وعجمهم‏.‏
    وأنت إذا قرأت القرآن من أوله إلى آخره، وجدت غالب عموماته محفوظة، لا مخصوصة، سواء عنيت عموم الجمع لأفراده،أو عموم الكل لأجزائه أو عموم الكل لجزئياته، فإذا اعتبرت قوله‏: ‏‏
    "‏الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏"‏‏[‏الفاتحة‏:‏2‏]‏، فهل تجد أحدًا من العالمين ليس الله ربه‏؟‏ ‏"‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ‏"‏‏[‏الفاتحة‏:‏4‏]‏، فهل في يوم الدين شىء لا يملكه

    ج/ 6 ص -443-الله‏؟‏ ‏"‏غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏"‏[‏الفاتحة‏:‏7‏]‏، فهل في المغضوب عليهم والضالين أحد لا يجتنب حاله التي كان بها مغضوبًا عليه أو ضالاً‏؟‏ ‏"‏هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ‏"‏الآية ‏[‏البقرة‏:‏2، 3‏]‏، فهل في هؤلاء المتقين أحد لم يهتد بهذا الكتاب‏؟‏‏"‏والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ‏"‏‏[‏البقرة‏:‏4‏]‏، هل فيما أنزل الله ما لم يؤمن به المؤمنون لا عمومًا ولا خصوصًا‏؟‏ ‏"‏أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏"‏‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏،هل خرج أحد من هؤلاء المتقين عن الهدى في الدنيا، وعن الفلاح في الآخرة‏؟‏ ثم قوله ‏:‏‏"‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ‏"‏‏[‏البقرة‏:‏6‏]‏ قيل‏:‏ هو عام مخصوص، وقيل‏:‏هو لتعريف العهد فلا تخصيص فيه، فإن التخصيص فرع على ثبوت عموم اللفظ، ومن هنا يغلط كثير من الغالطين، يعتقدون أن اللفظ عام، ثم يعتقدون أنه قد خص منه، ولو أمعنوا النظر لعلموا من أول الأمر أن الذي أخرجوه لم يكن اللفظ شاملاً له، ففرق بين شروط العموم وموانعه، وبين شروط دخول المعنى في إرادة المتكلم وموانعه‏.‏
    ثم قوله ‏:
    ‏ ‏"‏لاَ يُؤْمِنُونَ ّ‏"‏أليس هو عامًا لمن عاد الضمير إليه عمومًا محفوظًا ‏؟‏ ‏"‏خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ ‏"‏‏[‏ البقرة‏:‏7 ‏]‏ أليس هو عامًا في القلوب وفي السمع وفي الأبصار وفي المضاف إليه هذه الصفة عمومًا، لم يدخله تخصيص‏؟‏ وكذلك ‏"‏وَلَهُمْ‏"‏،وكذلك في سائر الآيات إذا تأملته إلى قوله‏:‏‏"‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ‏"‏‏[‏البقرة‏:‏21‏]‏،فمن الذين خرجوا من هذا العموم الثاني فلم يخلقهم الله له‏؟‏ وهذا باب واسع‏.‏

    ج/ 6 ص -444-وإن مشيت على آيات القرآن كما تلقن الصبيان وجدت الأمر كذلك، فإنه سبحانه قال‏:‏‏"‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ‏"‏، فأي ناس ليس الله ربهم‏؟‏ أم ليس ملكهم‏؟‏ أم ليس إلههم‏؟‏ ثم قوله‏:‏ ‏"‏مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ‏"‏‏[‏الناس‏:‏14‏]‏ إن كان المسمى واحدًا فلا عموم فيه، وإن كان جنسا فهو عام، فأي وسواس خناس لا يستعاذ بالله منه‏؟‏
    وكذلك قوله ‏:
    ‏ ‏"‏بِرَبِّ الْفَلَقِ ‏"‏أي جزء من ‏"‏الفلق‏"‏أم أيّ فلق ليس الله ربه‏؟‏ ‏"‏مِن شَرِّ مَا خَلَقَ ‏"‏أي شر من المخلوق لا يستعاذ منه‏؟‏ ‏"‏وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ ‏"‏أي نفاثة في العقد لا يستعاذ منها‏؟‏ وكذلك قوله ‏:‏‏"‏وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ‏"‏‏[‏الفلق‏:‏1-5‏]‏ مع أن عموم هذا فيه بحث دقيق ليس هذا موضعه‏.‏
    ثم سورة الإخلاص فيها أربع عمومات‏
    :‏‏"‏لّمً يّلٌدً‏"‏،فإنه يعم جميع أنواع الولادة، وكذلك ‏"‏وَلَمْ يُولَدْ‏"‏، وكذلك ‏"‏وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أحَدٌ‏" ‏‏[‏الإخلاص‏:‏3، 4‏]‏ فإنها تعم كل أحد وكل ما يدخل في مسمى الكفؤ، فهل في شىء من هذا خصوص‏؟‏
    ومن هذا الباب كلمة الإخلاص، التي هي أشهر عند أهل الإسلام من كل كلام، وهي كلمة ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏، فهل دخل هذا العموم خصوص قط‏؟‏
    فالذي يقول بعد هذا‏:‏ ما من عام إلا وقد خص إلا كذا وكذا، إما في غاية الجهل وإما في غاية التقصير في العبارة؛ فإن الذي أظنه أنه إنما عني‏:‏ ‏[‏من الكلمات التي تعم كل شىء‏]‏ مع أن هذا الكلام ليس بمستقيم، وإن فسر

    ج/ 6 ص -445-بهذا؛ لكنه أساء في التعبير أيضًا، فإن الكلمة العامة ليس معناها أنها تعم كل شىء، وإنما المقصود أن تعم ما دلت عليه،أي‏:‏ ما وضع اللفظ له، وما من لفظ في الغالب إلا وهو أخص مما هو فوقه في العموم وأعم مما هو دونه في العموم والجميع يكون عامًا‏.‏ثم عامة كلام العرب وسائر الأمم إنما هو أسماء عامة، والعموم اللفظي على وزان العموم العقلي وهو خاصية العقل، الذي هو أول درجات التمييز بين الإنسان وبين البهائم‏.‏
    فإن قيل‏:‏ سلمنا أن ظاهر الكتاب والسنة يشمل النساء، لكن هذا العموم مخصوص؛ وذلك أن في حديث رؤية الله للرجال يوم الجمعة‏:‏ ‏"‏إن الرجال يرجعون إلى منازلهم فتتلقاهم نساؤهم فيقلن للرجل‏:‏ لقد جئت وإن بك من الجمال أفضل مما فارقتنا عليه‏!‏ فيقول‏:‏ إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار، ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا به‏"‏‏.‏ وهذا دليل على أن النساء لم يشاركوهم في الرؤية، وإذا كان هذا في رؤية الجمعة،ففي رؤية الغداة والعشي أولى؛لأن هذا أعلى من تلك ومن لم يصلح للرؤية في الأسبوع، فكيف يصلح للرؤية في كل يوم مرتين‏؟‏ وإذا انتفت رؤيتهن في هذين الموطنين، ولم يثبت أن الناس يرونه في غير هذين الموطنين، فقد ثبت أن العموم مخصوص منه النساء في هذين الموطنين، وما سواهما لم يثبت لا للرجال ولا للنساء، فلم يبق ما يدل على حصول الرؤية للنساء في موطن آخر، فإما أن يبقى مطلقًا عملاً بالأصل النافي، وإما أن ينفى عن هذين الموطنين ويتوقف فيما عداهما ولا يحتج على ثبوتها فيه بتلك العمومات

    ج/ 6 ص -446-لوجود التخصيصات فيها‏.‏
    هذا غاية ما يمكن في تقرير هذا السؤال،ولولا أنه أورد على لما ذكرته لعدم توجهه‏.‏ فنقول ‏:‏
    الجواب من وجوه متعددة وترتيبها الطبيعي يقتضى نوعًا من الترتيب، لكن أرتبها على وجه آخر ليكون أظهر في الفهم‏:‏
    الأول ‏:‏
    أنا لو فرضنا أنه قد ثبت أن النساء لا يرينه في الموطنين المذكورين، لم يكن في ذلك ما ينفي رؤيتهن في غير هذين الموطنين، فيكون ما سوى هذين الموطنين لم يدل عليه الدليل الخاص لا بنفي ولا بإثبات، والدليل العام قد أثبت الرؤية في الجملة، والرؤية في غير هذين الموطنين لم ينفها دليل، فيكون الدليل العام قد سلم عن معارضة الخاص فيجب العمل به، وهذا في غاية الوضوح‏.‏
    فإن من قال‏:‏ رأيت رجلاً، فقال آخر‏:‏ لم تر أسود ولم تره في دمشق، لم تتناقض القضيتان، والخاص إذا لم يناقض مثله من العام لم يجز تخصيصه به، فلو كان قد دل دليل على أن النساء لا يرينه بحال؛ لكان هذا الخاص معارضًا لمثله من العام، أما إذا قيل‏:‏ إنه دل على رؤية في محل مخصوص كيف ينفي بنفي جنس الرؤية‏؟‏ وكيف يكون سلب الخاص سلبًا للعام‏؟‏
    فإن قيل‏:‏ لا رؤية لأهل الجنة إلا في هذين الموطنين، قيل‏:‏ ما الذي دل على هذا‏؟‏ فإن قيل‏:‏ لأن الأصل عدم ما سوى ذلك‏.‏ قيل‏:‏ العدم لا يحتج به في الأخبار بإجماع العقلاء، بل من أخبر به كان قائلاً ما لا علم له به، ولو قيل

    ج/ 6 ص -447-للرجل ‏:‏هل في البلد الفلاني كذا، وفي المسجد الفلاني كذا‏؟‏ فقال‏:‏ لا ؛ لأن الأصل عدمه، كان نافيًا ما ليس له به علم باتفاق العقلاء‏.‏
    ولو قال الآخر‏:‏ الذين يرون الله كل يوم مرتين هم النبيون فقط؛ لأن الأصل عدم رؤية غيرهم، ولهم من الخصوص ما لا يشركون فيه، كان هذا قولاً بلا علم إذا سلم من أن يكون كذبًا وليس هنا مفهوم يتمسك به، كما في قوله‏:‏‏
    "‏فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ‏"‏‏[‏النور‏:‏4‏]‏‏.‏
    فإن الرسول لم يقل ‏:‏ إن أهل الجنة لهم موطنان في الرؤية، حتي يقول ذلك بنفي ما سواهما، بل كلامه يدل على خلاف ذلك كما سنبينه، ولو فرضنا أنه يجوز الحكم باستصحاب الحال في مثل هذا، فإن العموم والقياس حجتان مقدمتان على الاستصحاب، أما العموم، فبإجماع الفقهاء‏.‏ وأما القياس، فعند جماهيرهم‏.‏
    ومعلوم أن العموم والقياس يقتضيان ثبوت الرؤية كما تقدم، فلا يجوز نفيها بالاستصحاب، وإن جاز تخصيص ذلك بنقص عقل النساء، فينبغي أن يقال‏:‏ ‏[‏البله‏]‏ و‏[‏أهل الجفاء‏]‏ من الأعراب ونحوهم ممن يدخل الجنة لا يرى الله، فإنه لا ريب أن في النساء من هو أعقل من كثير من الرجال، حتى إن المرأة تكون شهادتها نصف شهادة الرجل، والمغفل ونحوه ترد شهادتهما بالكلية، وإن لم يكن مجنونًا، وقد قال النبي ﷺ‏
    :‏ ‏"‏كَمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع‏"‏ ،أكمل ممن لم يكمل من الرجال، ففي أي معقول تكون الرؤية للناقص دون الكامل‏؟‏‏!‏

    ج/ 6 ص -448-الجواب الثاني ‏:‏
    أن نقول‏:‏ نفس الحديث المحتج به دل على أن لأهل الجنة رؤية في مواطن عديدة، فإنه قال‏:‏ ‏"‏وأعلى أهل الجنة منزلة من يرى الله كل يوم مرتين غُدْوَة وعَشِيَّة‏"‏، فإذا كانت هذه للأعلى، فمفهومه أن الأدنى له دون ذلك، ولا يجوز أن يقصر ما دون ذلك علي ‏"‏رؤية الجمعة‏"‏؛ لأنه لا دليل عليه، بل يجوز أن يراه بعضهم كل يوم مرة، وبعضهم كل يومين مرة، وبعضهم أكثر من ذلك والحكمة تقتضي ذلك، فإن ‏"‏يوم الجمعة‏"‏يشترك فيه جميع الرجال من الأعلين والمتوسطين ومن دونهم، وكل يوم مرتين للأعلين، فالذين هم فوق الأدنين و دون الأعلين لابد أن يميزوا عمن دونهم، كما نقصوا عمن فوقهم‏.‏
    الجواب الثالث ‏:‏
    أنه قد جاءت الأحاديث برؤية الله في غير هذين الموطنين، منها‏:‏ ما رواه ابن ماجه في سننه والدارقطني في الرؤية عن الفضل بن عيسى الرَّقَاشِيّ، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ
    ‏:‏ ‏"‏بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم،فإذا الرب تبارك وتعالى أشرف عليهم، فقال‏:‏ السلام عليكم يا أهل الجنة، وهو قول الله ‏:‏‏"‏سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ‏"‏‏[‏يس‏:‏58‏]‏، فلا يلتفتون إلى شىء مما هم فيه من النعيم ما دام الله بين أظهرهم حتى يحتجب عنهم، وتبقى فيهم بركته ونوره‏"‏‏.‏

    ج/ 6 ص -449-ورويناه من طريق أخرى معروفة إلى سلمة بن شبيب‏:‏ حدثنا بشر بن حجر، حدثنا عبد الله بن عبيد الله، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏بينما أهل الجنة في ملكهم ونعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب تبارك وتعالى قد أشرف عليهم من فوقهم، فيقول‏:‏ السلام عليكم يا أهل الجنة، فذلك قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ‏"‏، فينظرون إليه وينظر إليهم، فلا يلتفتون إلى شىء من الملك والنعيم حتى يحتجب عنهم‏"‏، قال‏:‏ ‏"‏فيبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم‏"‏‏.‏
    وهذه الطريق تنفي أن يكون قد تفرد به الفضل الرقاشي، وهذا الحديث بعمومه يقتضي أن جميعهم يرونه، لكن لم يستدل به ابتداء؛ لأن في إسناده مقالاً، والمقصود هنا أنه قد روى ذلك وهو ممكن ولا سبيل إلى دفعه في نفس الأمر، والعمومات الصحيحة تثبت جنس ما أثبته هذا الحديث‏.‏
    وأيضًا، فالحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد‏:‏ يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون ‏:‏ ما هو‏؟‏ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار‏؟‏ فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه‏"‏‏.‏
    فهذا ليس هو نظر الجمعة؛ لأن هذا عند الدخول، ولم يكونوا ينتظرونه، ولا اجتمعوا لأجله، ونظر الجمعة يقدمون إليه من منازلهم ويجتمعون لأجله

    ج/ 6 ص -450-كما جاءت به الأحاديث، وبين هذا التجلي وذاك فرق تدل عليه الأحاديث، ولا هذا التجلي من المرتين اللتين تختص بالأعلين، بل هو عام لمن دخل الجنة كما دل عليه الحديث موافقًا لقوله‏:‏‏"‏لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ‏"‏‏[‏يونس‏:‏26‏]‏‏.‏
    وأيضًا، فقد جاء موقوفًا على ابن عباس، وعن كعب الأحبار مرفوعًا إلى النبي ﷺ‏:‏ ‏"
    ‏إنهم يرونه في كل يوم عيد‏"‏
    وأيضًا، فقد ثبت بالنصوص المتواترة في عَرَصَات القيامة قبل دخول الجنة أكثر من مرة، وهذا خارج عن المرتين، إلا أن يقال‏:‏ وإن كان لم يقل‏:‏ ولا في سؤال السائل ما يدل عليه فهو مبطل لحصره قطعًا، ومن أراد أن يحترز عنه يصوغ السؤال على غير ما تقدم، وإنما صغناه كما أورد علينا‏.‏
    وأيضًا، فقد قال تعالى‏:‏
    ‏"‏فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ‏"‏‏[‏السجدة‏:‏17‏]‏ قال النبي ﷺ‏:‏‏"‏يقول الله ‏:‏ أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر‏"‏، فكيف يمكن أن يقال‏:‏ إن من سوى الأعلين لا يرى الله قط إلا في الأسبوع مرة‏؟‏ ويقضي ذلك الدليل على ما قد أخفاه عن كل نفس، ونفى علمه من كل عين، وسمع، وقلب، وفرق بين عدم العلم، والعلم بالعدم، وبين عدم الدليل، والدليل على العدم، فإذا لم يكن مع الإنسان فيما سوى الموطن سوى عدم العلم وعدم الدليل، لم يكن ذلك مانعًا من موجب الدليل العام بالاضطرار وبالإجماع‏.‏
    ونكتة الجواب الأول‏:‏ أن النبي ﷺ إذا قال ‏:‏ إن أهل

    ج/ 6 ص -451-الجنة يرون الله تعالى وفسر به قوله تعالى‏:‏‏"‏لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ‏"‏إلى قوله‏:‏‏"‏أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ‏"‏، فأعلمنا بهذا أن أصحاب الجنة لهم ‏"‏الزيادة‏"‏ التي هي النظر إليه، وقد علمنا أن أهل الجنة وأصحاب الجنة منهم النساء المحسنات أكثر من الرجال ‏.‏ وقال لنا مثلا‏:‏ يوم الجمعة يراه الرجال دون النساء، وقال لنا أيضًا‏:‏ لا يراه كل يوم مرتين إلا أعلى أهل الجنة، وفرضنا أن النساء لا يرينه بحال كل يوم مرتين ولا يوم الجمعة، ولا فيما سوى ذلك قط، وهذا وإن كان من وقف على هذا الكلام يعلم أنه لا خلاف بين العلماء، بل ولا بين العقلاء في أنه لا يدل على نفي جنس الرؤية، ولا يخص ذلك اللفظ العام، ولا يقيد ذلك المطلق فإنما رددت الكلام فيه للمنازعة فيه،فلا يظن أنا أطلنا النفس فيه لخفائه، بل لرده مع جلائه‏.‏
    ولك أن تعبر عن هذا الجواب بعبارات، إن شئت أن تقول‏:‏ أحاديث الإثبات أثبتت رؤية مطلقة للرجال وللنساء، ونفى المقيد لا ينفي المطلق،فلا يكون المطلق منفيًا، فلا يجوز نفي موجبه‏.‏
    وإن شئت أن تقول ‏:‏ أحاديث الإثبات تعم الرجال والنساء، وأحاديث النفي تنفي عن النساء ما علم أنه للرجال، أو ما ثبت أن فيه الرؤية أو تنفى عن النساء الروية في الموطنين اللذين أخبروا بالرؤية فيهما، لكن هذا سلب في حال مخصوص،لم يتعرض لما سواهما، لا بنفي ولا بإثبات، والمسلوب عنه لا يعارض العام‏.‏

    ج/ 6 ص -452-وإن شئت أن تقول‏:‏ القضية الموجبة المطلقة لا يناقضها إلا سلب كلى، وليس هذا سلبًا كليًا فلا يناقض، ولا يجوز ترك موجب أحد الدليلين‏.‏
    وإن شئت أن تقول ‏:‏ ليس في ذكر هذين الموطنين إلا عدم الإخبار بغيرهما، وعدم الإخبار بثواب معين من نظر أو غيره لا يدل على عدمه، كيف وهذا الثواب مما أخفاه الله‏؟‏ وإذا كان عدم الإخبار لا يدل على عدمه، والعموم اللفظي والمعنوي إما قاطع وإما ظاهر في دخول النساء، لم يكن عدم الدليل مخصصًا للدليل سواء كان ظاهرًا أو قاطعًا، وكل هذا كما أنه معلوم بالعقل الضروري فهو مجمع عليه بين الأمة، على ما هو مقرر عند العلماء في الأصول والفروع‏.‏
    وإنما ينشأ الغلط من حيث يسمع السامع ما جاء في الأحاديث في الرؤية عامة مطلقة، ويرى أحاديث أخر أخبرت برؤية مقيدة خاصة، فيتوهم ألاّ وجود لتلك المطلقة العامة إلا في هذه المقيدة، أو ينفي دلالة تلك العامة لهذا الاحتمال، كرجل قال‏:‏ كنت أدخل أصحابي داري وأكرمهم‏.‏ ثم قال في موطن آخر‏:‏ أدخلت داري فلانًا وفلانًا من أصحابي في اليوم الفلاني، فمن ظن أن سائر أصحابه لم يدخلهم لأنه لم يذكرهم في هذا الموطن فقد غلط، وقيل له ‏:‏ من أين لك أنه ما أدخلهم في وقت آخر‏؟‏ فإذا قال ‏:‏ يمكن أنه أدخلهم، ويمكن أنه ما أدخلهم فأنا أقف، قيل له ‏:‏ فقد قال‏:‏ كنت أدخل أصحابي داري، وهذا يعم جميع أصحابه‏.‏

    ج/ 6 ص -453-ونحن لا ننازع في أن اللفظ العام يحتمل الخصوص في الجملة مع عدم هذه القرينة، فمع وجودها أوكد، لكن ننازع في الظهور فنقول‏:‏ هذا الاحتمال المرجوح لا يمنع ظهور العموم كما تقدم، فيكون العموم هو الظاهر وإن كان ما سواه ممكنًا وأما سائر الأجوبة، ففي تقرير أن الرؤية تقع في غير هذين الموطنين‏.‏
    الجواب الرابع ‏:‏
    أنا لو فرضنا أن حديث المرتين كل يوم يعارض ما قدمناه من النصوص الصحيحة العامة لفظًا ومعنى لما كان الواجب دفع دلالة تلك الأحاديث بمثل هذا الحديث؛ لما تقدم، أولا ‏:‏ لما في إسناده من المقال؛ ولأنه يستلزم إخراج أكثر أفراد اللفظ العام بمثل هذا التخصيص،وهذا إما ممتنع وإما بعيد، ومستلزم تخصيص العلة بلا وجود مانع ولا فوات شرط، وهذا ممتنع عند الجمهور، أو من غير ظهور مانع،وهذا بعيد لا يصار إليه إلا بدليل قوي‏.‏
    الجواب الخامس‏:‏
    لو فرضنا أن لا رؤية إلا ما في هذين، فمن أين لنا أن النساء لا يرين الله فيهما جميعًا‏؟‏ وهب أنا سلمنا أنهن لا يرينه يوم الجمعة،فمن أين أنهن لا يرينه كل يوم مرتين‏؟‏ وقول القائل‏:‏ هذه أعلى وتلك أدنى، فكيف يحرم الأدني من يعطي الأعلى‏؟‏ فعنه أجوبة‏:‏

    ج/ 6 ص -454-أحدها‏:‏ أن الذين ميزوا برؤية كل يوم مرتين شركوا الباقين في رؤية يوم الجمعة، فصار لهم النوعان جميعًا، فإذا كان فضلهم بالنوعين جميعًا،فما المانع في أن بعض من دونهم يشركهم في الجمعة دون ‏"‏رؤية الغداة والعشي‏"‏، والبعض الآخرون يشركونهم في ‏"‏الغداة والعشي‏"‏ دون ‏"‏الجمعة‏"‏ ‏؟‏‏!‏ ولا يكون من له الغداة والعشي دون الجمعة أعلى مطلقًا، وإنما الأعلى مطلقًا الذي له الجميع‏.‏
    لكن قد يقال‏:‏ يلزم على هذا أن يكون النساء أعلى ممن له الجمعة دون البَرْدَيْنِ من الرجال،فيقال‏:‏قد لا يلزم هذا، بل قد تكون الجمعة وحدها أفضل من البردين وحدهما‏.‏
    وقد يقال‏:‏ فهب أن الأمر كذلك‏.‏ أكثر ما فيه تفضيل النساء على مفضول الرجال، وهذا الاحتمال وإن كان ممكنًا، لكن يبعد أن تكون كل امرأة تدخل الجنة أفضل ممن لا يرى الله كل يوم مرتين، فإن ذلك مستلزم أن يكون مفضول النساء أفضل من مفضول الرجال، فيترك هذا الاحتمال ويقتصر على الذي قيل، وهو ‏:‏أن الأعلى مطلقًا الذي له المرتان مع الجمعة، وإنما لزم هذا لأنا نتكلم بتقدير أن لا رؤية إلا هذين، ولا ريب أن هذا التقدير باطل قطعًا‏.‏
    الوجه الثاني‏:‏ أنه من أين لكم أن ‏"‏الرؤية كل يوم مرتين‏"‏أفضل من ‏"‏رؤية الجمعة‏"‏‏؟‏ نعم هي أكثر عددًا، لكن قد يفضل ذلك في الكيفية، فيكون أحد النوعين أكثر عددًا والآخر أفضل نوعًا‏:‏ كدينار وخمسة دراهم،

    ج/ 6 ص -455-ولا ريب أن هذا ممكن إمكانًا قريبًا؛ فإن الله يثيب عبده على‏:‏‏"‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏‏[‏سورة الإخلاص‏]‏ مع قلة حروفها بقدر ما يثيبه على ثلث القرآن‏.‏
    وإذا كان الأمر كذلك، فيمكن في حق من حرم الأفضل في نوعه أن يعطى النوع المفضول وإن كثر عدده، سواء كان فاضل النوع أفضل مطلقًا، أو كانا متكافئين عند التقابل، وفي أحاديث المزيد ما يدل على هذا، فإنهم يرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالاً، فيقولون‏:‏ إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار، فيحق لنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا به‏.‏ وفي حديث آخر ‏:‏‏"‏فليسوا إلى شىء أحوج منهم إلى يوم الجمعة؛ ليزدادوا نظرًا إلى ربهم، ويزدادوا كرامة‏"‏‏.‏
    ومن تأمل سياق الأحاديث المتقدمة، علم أن التجلي يوم الجمعة له عندهم وقع عظيم، لا يوجد مثله في سائر الأيام، وهذا يقتضي أن هذا النوع أفضل من الرؤية الحاصلة كل يوم مرتين، وإن كانت تلك أكثر‏!‏ فإذا منع النساء من هذا الفضل لم يلزم أن يمنعن مما دونه، وهذا بين لمن تأمله‏.‏
    الوجه الثالث‏:‏ هب أن رؤية الله كل يوم مرتين أفضل مطلقًا من رؤية الجمعة ،فلا يلزم حرمانهن من الثواب المفضول حرمان ما فوقه مطلقًا، وذلك أن العبد قد يعمل عملاً فاضلاً يستحق به أجرًا عظيمًا، ولا يعمل ما هو دونه فلا يستحق ذلك الأجر،وما زال الله سبحانه يخص المفضولين من كل صنف بخصائص لا تكون للفاضلين، وهذا مستقر فى الأشخاص من الأنبياء والصديقين وفي الأعمال‏.‏

    ج/ 6 ص -456-ولو كان العمل الفاضل يحصل به جميع المفضول مطلقًا لما شرع المفضول في وقت، فلا يلزم من إعطاء الأعلى إعطاء الأدنى مطلقًا، ولا يلزم منه منع الأعلى مطلقًا، فهذا ممكن إمكانًا شرعيًا في عامة الثوابات،ألا ترى أن الذين في الدرجات العلى من أهل الجنة لا يعطون الدرجات الدنى، ثم لا يكون هذا نقصًا في حقهم،فإن الله سبحانه يرضى كل عبد بما آتاه، فجاز أن يكون قد أرضى النساء بأعلى الرؤية عن مجموع أعلاها وأدناها‏.‏
    والذي يؤيد هذا ‏:‏ أنه من الممكن أن تكون رؤية الجمعة جزاء على عمل الجمعة في الدنيا، ورؤية الغداة والعشي جزاء على عمل الغداة والعشي، فهذا ممكن في العقل، وإن لم يجئ به خبر، وإذا كان ممكنًا لم يلزم من منعهن ‏"‏رؤية الجمعة‏"‏ لعدم المقتضى فيهن منعهن ‏"‏رؤية البَرْدَيْن‏"‏مع قيام المقتضى فيهن‏.‏
    ومن الممكن في العقل أنهن إنما لم يشهدن رؤية الجمعة؛ لأنه مجتمع الرجال والغيرة في الجنة؛ ألا ترى أن النبي ﷺ لما رأى الجنة، ورأى قصرًا وعلى بابه جارية، قال‏:‏
    ‏"‏فأردت أن أدخل، فذكرت غيرتك‏"‏، فقال عمر‏:‏ أعليك أغار‏؟‏، والله أعلم بحقائق الأمور، فإذا كان كذلك، فهذا منتف في رؤية الغداة والعشي؛ لأن تلك الرؤية قد تحصل وأهل الجنة في منازلهم‏.‏
    ثم هذا من الممكن أن الرؤية جزاء العمل، فإنه قد جاء في الأخبار ما يدل على أن الرؤية يوم الجمعة ثواب شهود الجمعة، بدليل أن فيها يكونون في

    ج/ 6 ص -457-الدنو منه على مقدار مسارعتهم إلى الجمعة‏.‏ وتفاوت الثواب بتفاوت العمل دليل على أنه مسبب عنه، وبدليل أنه مذكور في غير حديث أنه يكون بمقدار انصرافهم من صلاة الجمعة في الدنيا‏.‏
    وموافقة الثواب للعمل في وقته، وفي قدره حتى يصير جزاء وفاقا يقتضى أن العمل سببه، وبدليل أن ذلك مذكور في فضل يوم الجمعة في الدنيا والآخرة، فعلم أن ارتباط ثوابه في الآخرة بعمله في الدنيا، وبدليل أن فيه عند منصرف الناس من الجمعة رجوع الصالحين إلي منازلهم، ورجوع الأنبياء والصديقين والشهداء إلى ربهم‏.‏
    وهذا مناسب لحالهم في الدنيا، فإن الصالح إذا انقضت الجمعة اشتغل بما أبيح له في الدنيا، وأولئك اشتغلوا بالتقرب إليه بالنوافل،فكانوا متقربين إليه في الدنيا بعد الجمعة فقربوا منه بعد الجمعة في الآخرة، وهذه المناسبة الظاهرة المشهود لها بالاعتبار تقتضي أن ذلك التجلي ثواب أعمالهم يوم الجمعة، وإذا كان كذلك فانتفاء الرؤية في حق النساء لعدم شهودهن الجمعة؛ ولهذا روى أنهن يرينه في العيد كما شرع لهن شهود العيد‏.‏
    فإن قيل‏:‏ ما ذكرتموه من هذه الزيادة أمر غريب، والأحاديث المشهورة المجمع عليها ليس فيها هذه الزيادة فلا يجوز الاعتماد عليها، والناس كلهم قد سمعوا أحاديث الرؤية يوم الجمعة ولم يسمعوا هذه الزيادة‏.‏

    ج/ 6 ص -458-قلنا‏:‏ قد تقدم الجواب عن ذلك بما ذكرناه من طرق الحديث وحال أصله وزيادته، وبينا أن الزيادة لا ينقص حكمها في الرؤية عن حكم أصل الحديث نقصًا يمنع إلحاقها به، بل هي إما مكافئة أو قريبة أو فوق، وأجبنا عما قيل هنا وما لم يقل‏.‏
    فإن قيل‏:‏ فقد كن المؤمنات يشهدن صلاة الجمعة مع رسول الله ﷺ،فعلى قياس هذا، ينبغي لمن شهد الجمعة من النساء أن يشهدن يوم المزيد في الجنة‏.‏
    قلنا‏:‏ ما كان يشهد الجمعة والجماعة من النساء إلا أقلهن؛ لأن النبي ﷺ قال‏
    :‏‏"‏لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن‏"‏ متفق عليه‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏صلاة إحداكن في مَخْدَعِهَا أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في حجرتها أفضل من صلاتها في دارها، وصلاتها في دارها أفضل من صلاتها في مسجد قومها، وصلاتها في مسجد قومها أفضل من صلاتها معي‏"‏، أو قال‏:‏ ‏"‏خلفي‏"‏ رواه أبو داود، فقد أخبر المؤمنات‏:‏ أن صلاتهن في البيوت أفضل لهن من شهود الجمعة والجماعة إلا العيد، فإنه أمرهن بالخروج فيه، ولعله والله أعلم لأسباب‏:
    أحدها‏:‏ أنه في السنة مرتين فقبل، بخلاف الجمعة والجماعة‏.‏
    الثاني‏:‏ أنه ليس له بدل، خلاف الجمعة والجماعة، فإن صلاتها في بيتها الظهر هو جمعتها‏.‏

    ج/ 6 ص -459-الثالث‏:‏ أنه خروج إلى الصحراء لذكر الله، فهو شبيه بالحج من بعض الوجوه؛ ولهذا كان العيد الأكبر في موسم الحج موقفة للحجيج، ومعلوم أن الصحابيات إذا علمن أن صلاتهن في بيوتهن أفضل لم يتفق أكثرهن على ترك الأفضل، فإن ذلك يلزم أن يكون أفضل القرون على المفضول من الأعمال‏.‏
    فإن قيل‏:‏ هذا التفضيل إنما وقع في حق من بعد الصحابيات لما أحدث النساء ما أحدثن، ولأن من بعد الرسول من الأئمة لا يساويه، فأما الصحابيات فصلاتهن خلف النبي ﷺ كانت أفضل، ويكون هذا الخطاب عامًا خرج منه القرن الأول، فإن تخصيص العموم جائز‏.‏
    قلنا‏:‏هذا خلاف ما علم بالاضطرار من لغة العرب والعجم،وخلاف ما علم بالاضطرار من دين المسلمين،وخلاف ما فطر الله عليه العقلاء،وخلاف ما أجمع المسلمون عليه؛ وذلك لأن قوله‏:‏‏"‏لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن‏"‏ قد أجمع المسلمون على أن الحاضرين تحقق دخولهم فيه، واختلفوا في القرن الثاني والثالث ‏:‏ هل يدخلون بمطلق الخطاب أم بدليل منفصل‏؟‏ فيه قولان، فأما دخول الغائب دون الحاضر فممتنع باتفاق‏.‏
    ثم اللغة تحيله، فإن قوله‏:‏‏"‏لا تمنعوا إماء الله‏"‏ لا ريب أنه خطاب للصحابة رضي الله عنهم - ابتداء، فكيف تحيل اللغة ألا يدخلوا فيه، ويدخل فيه من بعدهم‏؟‏ أهل اللغة لا يشكون أن هذا ممتنع‏.‏

    ج/ 6 ص -460-ثم قد علمنا بالاضطرار أن أوامر القرآن والسنة شملت الصحابة ثم من بَعْدَهم، وقد يقال أو يتوهم في بعضها‏:‏ أنها شملتهم دون من بعدهم، فأما اختصاص من بعدهم بالأوامر الخطابية دونهم،فهذا لا وجود له‏.‏
    وأما مخالفته للفطر، فما من سليم العقل يعرض عليه هذا إلا أنكره أشد الإنكار، ثم هب هذا أمكن في قوله‏:‏‏"‏لا تمنعوا إماء الله مساجد الله‏"‏، فكيف بقوله‏:‏‏"‏صلاة إحداكن في مسجد قومها أفضل من صلاتها معي‏"‏ أو‏:‏‏"‏خلفي‏"‏‏؟‏ أليس نصًا في صلاتهن في بيوتهن في مسجد النبي ﷺ خلفه‏؟‏ وصلى الله على محمد‏.


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML