ج/ 6 ص -268- قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:
فصل
وصفه تعالى بالصفات الفعلية مثل الخالق، والرازق، والباعث، والوارث، والمحيى، والمميت قديم عند أصحابنا، وعامة أهل السنة من المالكية، والشافعية، والصوفية. ذكره محمد بن إسحاق الكلاباذي، حتى الحنفية والسالمية والكَرّامية. والخلاف فيه مع المعتزلة، والأشعرية.
وكذلك قول ابن عقيل في "الإرشاد" وبسط القول في ذلك، وزعم أن أسماءه الفعلية وإن كانت قديمة فإنها مجاز قبل وجود الفعل، وذكر ذلك عن القاضي في "المعتمد" في مسائل الخلاف مع السالمية، والقاضي إنما ذكر للمسألة ثلاثة مآخذ:
أحدها: أنه مثل قولهم: خبز مشبع، وماء مروٍ، وسيف قاطع، وليس ذلك بمجاز؛ لأن المجاز ما يصح نفيه، كما يقال: عن الجد ليس بأب؛ ولا
ج/ 6 ص -269-يصح أن يقال: عن السيف الذي يقطع: ليس بقطوع، ولا عن الخبز الكثير، والماء الكثير ليس بمشبع، ولا بمروى فعلم أن ذلك حقيقة. هذا تعليل القاضي.
قلت: وهذا لأن الوصف بذلك يعتمد كمال الوصف الذي يصدر عنه الفعل لا ذات الفعل الصادر. وعلى هذا فيوصف بكل ما يتصف بالقدرة عليه وإن لم يفعله.
قلت: وقد اختلف أصحابنا في قول أحمد: لم يزل الله عالمًا متكلمًا غفورًا، هل قوله: لم يزل متكلمًا. مثل قوله: غفورًا، أو مثل قوله: عالمًا؟ على قولين.
المأخذالثاني: أن الفعل متحقق منه في الثاني من الزمان، كتحققنا الآن أنه باعث وارث قبل البعث والإرث، وهذا مأخذ أبي إسحاق بن شاقلا والقاضي أيضًا وهذا بخلاف من يجوز أن يفعل ويجوز ألاَّ يفعل.
وهذا يشبه من بعض الوجوه وصف النبي قبل النبوة، بأنه خاتم النبيين، وسيد ولد آدم، وخاتم الرسل ووصف عمر بأنه فاتح الأمصار، كما قيل: ولد الليلة نبي هذه الأمة، وكما قال: "اقتدوا باللذين من بعدي أبى بكر وعمر" .
وقد ذكر طائفة من الأصوليين أن إطلاق الصفة قبل وجود المعنى مجاز بالاتفاق، وحين وجوده حقيقة، وبعد وجوده وزواله محل الاختلاف؛ لكن هذه الحكاية مردودة عند الجمهور، فيفرقون بين من يتحقق وجود الفعل منه،وبين من يمكن وجود الفعل منه.
ج/ 6 ص -270- ثم قد يقال: كونه خالقًا في الأزل للمخلوق فيما لا يزال بمنزلة كونه مريدًا في الأزل ورحيمًا، وبهذا يظهر الفرق بين إطلاق ذلك عليه وإطلاق الوصف على من سيقوم به في المستقبل من المخلوقين، فعلى الوجه الأول يكون الخالق بمنزلة القادر، وعلى هذا الوجه يكون الخالق بمنزلة الرحيم.وهذا الفرق يعود إلى:
المأخذالثالث: وهو أن الله سبحانه في ذاته حاله قبل أن يفعل وحاله بعد أن يفعل سواء، لم تتغير ذاته عن أفعاله، ولم يكتسب عن أفعاله صفات كمال كالمخلوق.
وهذا المأخذ نبه عليه القاضي أيضًا فقال: وأيضًا فقد ثبت كونه الآن خالقًا والخالق ذاته، وذاته كانت في الأزل، فلو لم يكن خالقًا وصار خالقًا للزمه التغير والتحويل، والله يتعالى عن ذلك، وعلى هذا فيكون ذلك بمنزلة الرحيم والحليم.
المأخذالرابع: أن الخلق صفة قائمة بذاته ليست هي المخلوق، وجوز القاضي في موضع آخر أن يقال: هو قديم الإحسان والإنعام، ويعنى به أن الإحسان صفة قائمة به غير المحسن به، ومنع أن يقال: يا قديم الخلق، لأن الخلق هو المخلوق، وهذا أحد القولين لأصحابنا، وهو قول الكَرّامية والحنفية وتسميها فرقة التكوين.
والقول الثاني: أن الخلق هو المخلوق، كقول الأشعرية.
قال القاضي في عيون المسائل: "مسألة" والخلق غير المخلوق، فالخلق صفة
ج/ 6 ص -271-قائمة بذاته، والمخلوق هو الموجود المخترع لا يقوم بذاته، قال: وهذا بناء على المسألة التي تقدمت، وأن الصفات الصادرة عن الأفعال موصوف بها في القدم.
قلت: ثم هل يحدث فعل في ذاته من قول أو إرادة عند وجود المخلوقات؟ فيه خلاف بين أصحابنا وغيرهم، مبنى على الصفات الفعلية،مثل الاستواء والنزول ونحو ذلك، مع اتفاقهم على أنه لم يزل موصوفًا بصفاته قديمًا بها لم يتجدد له صفة كمال، لكن أعيان الأقوال والأفعال، هل هي قديمة، أم الكمال أنه لم يزل موصوفًا بنوعها؟
وتلخيص الكلام هنا: أن كونه خالقًا وكريمًا، هل هو لأجل ما أبدعه منفصلاً عنه من الخلق والنعم ؟ أم لأجل ما قام به من صفة الخلق والكرم؟ الثاني هو قول الحنفية والكَرَّامية، وكثير من أهل الحديث، وأصحابنا في أحد القولين، بل في أصحهما، وعليه يدل كلام أحمد وغيره من علماء السنة.
وعلى هذا القول، يقال: إنه لم يزل كريمًا وغفورًا وخالقًا، كما يقال: لم يزل متكلمًا، ويكون في تفسير ذلك قولان كما في تفسير المتكلم قولان، هل هو يلحق بالعالم أو بالغفور؟ والأول هو قول الأشعرية، بناء على أن الخلق هو المخلوق.
وعلى هذا، فقول أصحابنا: كان خالقًا في الأزل إما بمعنى القدرة التامة، كما يقال: سيف قاطع، أو بمعنى وجود الفعل قطعًا في الحال الثاني، كما يقال:
ج/ 6 ص -272-هذا فاتح الأمصار، وهذا نبي هذه الأمة، وعلى هذا المعني فالخلق من الصفات النسبية الإضافية.
وإذا جعلنا الخلق صفة قائمة به، فهل هي المشيئة والقول، أم صفة أخرى؟ على قولين. الثاني قول الحنفية، وأكثر الفقهاء والمحدثين، كما اختلف أصحابنا في الرحمة والرضا والغضب، هل هي الإرادة أم صفة غير الإرادة؟ على قولين، أصحهما أنها ليست هي الإرادة.
فما شاء الله كان، و هو لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر.
وأما قولنا: هو موصوف في الأزل بالصفات الفعلية من الخلق والكرم، والمغفرة، فهذا إخبار عن أن وصفه بذلك متقدم؛ لأن الوصف هو الكلام الذي يخبر به عنه، وهذا مما تدخله الحقيقة والمجاز، وهو حقيقة عند أصحابنا، وأما اتصافه بذلك فسواء كان صفة ثبوتية وراء القدرة، أو إضافية، فيه من الكلام ما تقدم.