أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

سئل عمن يقول إن النصوص تظاهرت ظواهرها على ما هو جسم أو يشعر به والعقل دل على تنزيه الباري عنه

    ج/ 6 ص -33- سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله عمن يقول‏:‏ إن النصوص تظاهرت ظواهرها على ما هو جسم أو يشعر به والعقل دل على تنزيه الباري عز وجل عنه؛ فالأسلم للمؤمن أن يقول‏:‏ هذا متشابه لا يعلم تأويله إلا الله‏.‏ فقال له قائل‏:‏ هذا لا بد له من ضابط وهو الفرق في الصفات بين المتشابه وغيره؛ لأن دعوى التأويل في كل الصفات باطل وربما أفضى إلى الكفر ويلزم منه أن لا يعلم لصفة من صفاته معنى فلا بد حينئذ من الفرق بين ما يتأول وما لا يتأول فقال‏:‏ كل ما دل دليل العقل على أنه تجسيم كان ذلك متشابها‏.‏ فهل هذا صحيح أم لا ‏؟‏ ابسطوا القول في ذلك‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله رب العالمين‏.‏ هذه مسألة كبيرة عظيمة القدر اضطرب فيها خلائق من الأولين والآخرين من أوائل المائة الثانية من الهجرة النبوية فأما المائة الأولى فلم يكن بين المسلمين اضطراب في هذا وإنما نشأ ذلك في أوائل المائة الثانية لما ظهر الجعد بن درهم وصاحبه الجهم بن صفوان ومن اتبعهما من المعتزلة وغيرهم على إنكار الصفات‏.‏

    ج/ 6 ص -34-فظهرت مقالة الجهمية النفاة - نفاة الصفات - قالوا‏:‏ لأن إثبات الصفات يستلزم التشبيه والتجسيم والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك؛ لأن الصفات التي هي العلم والقدرة والإرادة ونحو ذلك أعراض ومعان تقوم بغيرها والعرض لا يقوم إلا بجسم والله تعالى ليس بجسم؛ لأن الأجسام لا تخلو من الأعراض الحادثة وما لا يخلو من الحوادث فهو محدث‏.‏ قالوا‏:‏ وبهذا استدللنا على حدوث الأجسام؛ فإن بطل هذا بطل الاستدلال على حدوث الأجسام فيبطل الدليل على حدوث العالم فيبطل الدليل على إثبات الصفات‏.‏ قالوا‏:‏ وإذا كانت الأعراض التي هي الصفات لا تقوم إلا بجسم والجسم مركب من أجزائه والمركب مفتقر إلى غيره ولا يكون غنيا عن غيره واجب الوجود بنفسه والله تعالى غني عن غيره واجب الوجود بنفسه‏.‏ قالوا‏:‏ ولأن الجسم محدود متناه؛ فلو كان له صفات لكان محدودا متناهيا؛ وذلك لا بد أن يكون له مخصص خصصه بقدر دون قدر وما افتقر إلى مخصص لم يكن غنيا قديما واجب الوجود بنفسه‏.‏ قالوا‏:‏ ولأنه لو قامت به الصفات لكان جسما ولو كان جسما لكان مماثلا لسائر الأجسام فيجوز عليه ما يجوز عليها ويمتنع عليه ما يمتنع عليها وذلك ممتنع على الله تعالى‏.‏

    ج/ 6 ص -35-وزاد الجهم في ذلك هو والغلاة - من القرامطة والفلاسفة - نحو ذلك فقالوا‏:‏ وليس له اسم كالشيء والحي والعليم ونحو ذلك؛ لأنه إذا كان له اسم من هذه الأسماء لزم أن يكون متصفا بمعنى الاسم كالحياة والعلم؛ فإن صدق المشتق مستلزم لصدق المشتق منه؛ وذلك يقتضي قيام الصفات به وذلك محال؛ ولأنه إذا سمي بهذه الأسماء فهي مما يسمى به غيره‏.‏ والله منزه عن مشابهة الغير‏.‏ وزاد آخرون بالغلو فقالوا‏:‏ لا يسمى بإثبات ولا نفي ولا يقال‏:‏ موجود ولا لا موجود ولا حي ولا لا حي؛ لأن في الإثبات تشبيها له بالموجودات وفي النفي تشبها له بالمعدومات وكل ذلك تشبيه‏.‏ فلما ظهر هؤلاء الجهمية أنكر السلف والأئمة مقالتهم وردوها وقابلوها بما تستحق من الإنكار الشرعي وكانت خفية إلى أن ظهرت وقويت شوكة الجهمية في أواخر المائة الأولى وأوائل الثانية في دولة أولاد الرشيد فامتحنوا الناس المحنة المشهورة التي دعوا الناس فيها إلى القول بخلق القرآن ولوازم ذلك‏:‏ مثل إنكار الرؤية والصفات بناء على أن القرآن هو من جملة الأعراض؛ فلو قام بذات الله لقامت به الأعراض فيلزم التشبيه والتجسيم‏.‏ وحدث مع الجهمية قوم شبهوا الله تعالى بخلقه؛ فجعلوا صفاته من جنس صفات المخلوقين فأنكر السلف والأئمة على الجهمية المعطلة وعلى المشبهة الممثلة وكان إمام المعتزلة أبو الهذيل العلاف ونحوه من نفاة الصفات قالوا‏:‏ يقتضي أن يكون جسما والله تعالى منزه عن ذلك‏.‏ قال هؤلاء‏:‏ بل هو جسم والجسم

    ج/ 6 ص -36-هو القائم بنفسه أو الموجود أو غير ذلك من المقالات وطعنوا في أدلة نفاة الجسم بكلام طويل لا يتسع له الجواب هنا‏.‏ ثم من هؤلاء من قال‏:‏ هو جسم كالأجسام ومنهم من وصفه بخصائص المخلوقات وحكي عن كل واحدة من الطائفتين مقالات شنيعة‏.‏ وجاء أبو محمد بن كلاب فقال هو وأتباعه‏:‏ هو الموصوف بالصفات ولكن ليست الصفات أعراضا؛ إذ هي قديمة باقية لا تعرض ولا تزول ولكن لا يوصف بالأفعال القائمة به كالحركات؛ لأنها تعرض وتزول‏.
    ‏ فقال ابن كرام وأتباعه‏:‏ لكنه موصوف بالصفات وإن قيل إنها أعراض وموصوف بالأفعال القائمة بنفسه وإن كانت حادثة‏.‏ ولما قيل لهم‏:‏ هذا يقتضي أن يكون جسما قالوا‏:‏ نعم هو جسم كالأجسام وليس ذلك ممتنعا دائما وإنما الممتنع أن يشابه المخلوقات فيما يجب ويجوز ويمتنع ومنهم من قال‏:‏ أطلق لفظ الجسم لا معناه‏.‏ وبين هؤلاء المتكلمين النظار بحوث طويلة مستوفاة في غير هذا الموضع‏.‏
    وأما ‏[‏السلف والأئمة‏]‏ فلم يدخلوا مع طائفة من الطوائف فيما ابتدعوه من نفي أو إثبات بل اعتصموا بالكتاب والسنة ورأوا ذلك هو الموافق لصريح العقل فجعلوا كل لفظ جاء به الكتاب والسنة من أسمائه وصفاته حقا يجب الإيمان به وإن لم تعرف حقيقة معناه وكل لفظ أحدثه الناس فأثبته قوم ونفاه آخرون فليس علينا أن نطلق إثباته ولا نفيه حتى نفهم مراد المتكلم فإن كان

    ج/ 6 ص -37-مراده حقا موافقا لما جاءت به الرسل والكتاب والسنة‏:‏ من نفي أو إثبات قلنا به؛ وإن كان باطلا مخالفا لما جاء به الكتاب والسنة من نفي أو إثبات منعنا القول به ورأوا أن الطريقة التي جاء بها القرآن هي الطريقة الموافقة لصريح المعقول وصحيح المنقول وهي طريقة الأنبياء والمرسلين‏.‏
    وأن الرسل صلوات الله عليهم جاءوا بنفي مجمل وإثبات مفصل؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏
    "‏سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏"‏ ‏[‏الصافات 180182‏]‏ فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب وطريقة الرسل هي ما جاء بها القرآن والله تعالى في القرآن يثبت الصفات على وجه التفصيل وينفي عنه - على طريق الإجمال - التشبيه والتمثيل‏.‏
    فهو في القرآن يخبر أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه عزيز حكيم غفور رحيم وأنه سميع بصير وأنه غفور ودود وأنه تعالى - على عظم ذاته - يحب المؤمنين ويرضى عنهم ويغضب على الكفار ويسخط عليهم وأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وأنه كلم موسى تكليما وأنه تجلى للجبل فجعله دكا؛ وأمثال ذلك‏.‏ ويقول في النفي
    ‏"‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء‏"‏؛ ‏"‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏"‏ ‏[‏مريم 65‏]‏ ‏"‏فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَال‏"‏ ‏[‏النحل 74‏]‏ ‏"‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏"‏ ‏[‏الإخلاص‏]‏ فيثبت الصفات وينفي مماثلة المخلوقات‏.‏

    ج/ 6 ص -38-ولما كانت طريقة السلف، أن يصفوا الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله ﷺ، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل‏.‏ ومخالفو الرسل يصفونه بالأمور السلبية، ليس كذا، ليس كذا ‏.‏ فإذا قيل لهم‏:‏ فأثبتوه، قالوا‏:‏ هو وجود مطلق، أو ذات بلا صفات‏.‏
    وقد علم بصريح المعقول أن المطلق بشرط الإطلاق، لا يوجد إلا في الأذهان، لا في الأعيان، وأن المطلق لا بشرط لا يوجد في الخارج مطلقًا، لا يوجد إلا معينًا، ولا يكون للرب عندهم حقيقة مغايرة للمخلوقات، بل إما أن يعطلوه أو يجعلوه وجود المخلوقات أو جزءها أو وصفها، والألفاظ المجملة يكفون عن معناها‏.‏
    فإذا قال قوم‏:‏ إن الله في جهة أو حيز، وقال قوم‏:‏ إن الله ليس في جهة ولا حيز، استفهموا كل واحد من القائلين عن مراده، فإن لفظ الجهة والحيز فيه إجمال واشتراك‏.‏ فيقولون‏:‏ ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق، والله تعالى منزه بائن عن مخلوقاته، فإنه سبحانه خلق المخلوقات بائنة عنه، متميزة عنه، خارجة عن ذاته، ليس في مخلوقاته شىء من ذاته، ولا في ذاته شىء من مخلوقاته، ولو لم يكن مباينًا لكان إما مداخلاً لها حالاً فيها، أو محلا لها، والله تعالى منزه عن ذلك‏.‏
    وإما ألا يكون مباينًا لها، ولا مداخلا لها فيكون معدومًا، والله تعالى منزه عن ذلك‏.‏
    والجهمية نفاة الصفات تارة يقولون بما يستلزم الحلول والاتحاد، أو يصرحون

    ج/ 6 ص -39-بذلك، وتارة بما يستلزم الجحود والتعطيل، فنفاتهم لا يعبدون شيئًا، ومثبتتهم يعبدون كل شىء ويقال أيضًا‏:‏ فإذا كان ما ثَمَّ موجود إلا الخالق والمخلوق، فالخالق بائن عن المخلوق‏.‏
    فإذا قال القائل‏:‏ هو في جهة أو ليس في جهة، قيل له‏:‏ الجهة أمر موجود أو معدوم، فإن كان أمرًا موجودًا، ولا موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق بائن عن المخلوق، لم يكن الرب في جهة موجودة مخلوقة، وإن كانت الجهة أمرًا معدومًا بأن يسمى ما وراء العالم جهة، فإذا كان الخالق مباينًا العالم، وكان ما وراء العالم جهة مسماة وليس هو شيئًا موجودًا، كان الله في جهة معدومة بهذا الاعتبار ‏.‏ لكن لا فرق بين قول القائل‏:‏ هو في معدوم، وقوله‏:‏ ليس في شىء غيره، فإن المعدوم ليس شيئًا باتفاق العقلاء‏.‏
    ولا ريب أن لفظ الجهة يريدون به تارة معنى موجودًا، وتارة معنى معدومًا، بل المتكلم الواحد يجمع في كلامه بين هذا وهذا، فإذا أزيل الاحتمال ظهر حقيقة الأمر، فإذا قال القائل‏:‏ لو كان في جهة لكانت قديمة معه‏.‏ قيل له‏:‏ هذا إذا أريد بالجهة أمر موجود سواه، فالله ليس في جهة بهذا الاعتبار‏.‏
    وإذا قال‏:‏ لو رؤى لكان في جهة وذلك محال، قيل له‏:‏ إن أردت بذلك، لكان في جهة موجودة فذلك محال، فإن الموجود يمكن رؤيته وإن لم يكن في موجود غيره، كالعالم فإنه يمكن رؤية سطحه وليس هو في عالم آخر، وإن قال‏:‏ أردت أنه لابد أن يكون فيما يسمى جهة ولو معدومًا، فإنه إذا كان

    ج/ 6 ص -40-مباينًا للعالم سمى ما وراء العالم جهة‏.‏ قيل له‏:‏ فلم قلت‏:‏ إنه إذا كان في جهة بهذا الاعتبار كان ممتنعًا‏؟‏ فإذا قال‏:‏ لأن ما باين العالم ورؤى لا يكون إلا جسمًا أو متحيزًا، عاد القول إلى لفظ الجسم والمتحيز كما عاد إلى لفظ الجهة، فيقال له‏:‏ المتحيز يراد به ما حازه غيره، ويراد به ما بان عن غيره فكان متحيزًا عنه، فإن أردت بالمتحيز الأول لم يكن سبحانه متحيزًا؛ لأنه بائن عن المخلوقات لا يحوزه غيره، وإن أردت الثاني فهو سبحانه بائن عن المخلوقات منفصل عنها، ليس هو حالاً فيها ولا متحدًا بها‏.‏
    فبهذا التفصيل يزول الاشتباه والتضليل، وإلا فكل من نفى شيئًا من الأسماء والصفات سمى من أثبت ذلك مجسمًا قائلاً بالتحيز والجهة‏.‏ فالمعتزلة ونحوهم يسمون الصفاتية الذين يقولون‏:‏ إن الله تعالى حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، يسمونهم مُجَسِّمة مشبهة حشوية، والصفاتية هم السلف والأئمة وجميع الطوائف المثبتة للصفات، كالكُلاَّبية والكَرَّامية، والأشعرية، والسالمية، وغيرهم من طوائف الأمة، قالت نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة وطائفة من الفلاسفة لهؤلاء‏:‏ إذا أثبتم له حياة وقدرة وكلامًا فهذه أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بجسم، وإذا قلتم‏:‏ يرى، فالرؤية لا تكون إلا لمعاين في جهة، وهذا يستلزم التجسيم‏.‏
    فإذا قالت الأشعرية ومن اتبعهم‏:‏ نحن نثبت هذه الصفات ولا نسميها أعراضًا؛ لأن العَرَض ما يعرض لمحله وهذه الصفات باقية لا تزول، قالت لهم النفاة‏:‏ هذا نزاع لفظي، فإن العرض عندكم ينقسم إلى لازم لمحله لا يفارقه ما دام

    ج/ 6 ص -41-المحل موجودًا وإلى ما يجوز أن يفارق محله، فالأول كالتحيز للجسم، بل وكالحيوانية والناطقية للإنسان فإنه ما دام إنسانًا لا تفارقه هذه الصفة‏.‏
    وأما قولكم‏:‏ إن العرض لا يبقى زمانين، فهذا شىء انفردتم به من بين سائر العقلاء، وكابرتم به الحس، لتنجوا بالمغاليط عن هذه الإلزامات المفحمة، ثم إنكم تقولون بتجدد أمثاله، فهذا هو معنى بقاء العرض، وهذا كما قلتم‏:‏ إنه يرى بلا مواجهة ولا مدابرة، ولا يتوجه إليه الرائي بجهة من جهاته، فهذا أيضًا مما انفردتم به عن العقلاء وكابرتم به الحس والعقل، قالت لهم النفاة‏:‏ فأثبتم ما يستلزم التجسيم والتشبيه والحشو أو نفيتم التلازم فخالفتم صريح العقل والضرورة‏.‏
    ولهذا صار حُذَّاقُكم إلى أنكم في الحقيقة موافقون لنا على نفي رؤية الله تعالى ولكن أظهرتم إثباتها لكونه المشهور عند الحشوية المشهورين بالسنة والجماعة، ليقال‏:‏ إنكم منهم، أو أثبتم ذلك تناقضًا منكم، فأنتم دائرون بين المناقضة والمداهنة‏.‏
    فإن كان الرجل ممن يوافق نفاة الصفات ويثبت أسماء الله الحسنى كما تفعل المعتزلة وهم أئمة الكلام سماه نفاة أسماء الله الحسنى مشبهًا حشويًا مجسمًا، كما فعلت القرامطة الحاكمية الباطنية وغيرهم، وقالوا‏:‏ إذا قلتم إنه موجود عليم حي قدير، فهذا هو القول بالتشبيه والتجسيم والحشو، فإن ذلك مشابهة لغيره من المخلوقات، ولأنه لا يعقل موجود حي عليم قدير إلا جسمًا، ولأن هذه الأسماء تستلزم الصفات، والصفات تستلزم التجسيم‏.‏

    ج/ 6 ص -42-فإن كان الرجل ممن ينفي الأسماء والصفات كما تفعله غلاة الجهمية والقرامطة والفلاسفة فلابد له أن يثبت أنه موجود‏.‏
    وحينئذ، فتقول له النفاة‏:‏ أنت مُجَسِّم مُشَبِّه حَشَوِيٌّ؛ لأنه إذا كان موجودًا فقد شاركه غيره في معنى الوجود وهو التشبيه؛ لأنه لا يعقل موجود إلا جسم أو قائم بجسم، فحينئذ يحتاج أن يقول‏:‏ لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، أو لا موجود ولا لا موجود، ولا حي ولا لا حي، فيلزم نفي النقيضين جميعًا وما هو في معنى النقيضين، وذلك من أعظم الأمور الباطلة في بديهة العقل، مع أنه يلزم على قياس قولهم تشبيهه بالممتنعات؛ لأن ما ليس بموجود ولا معدوم لا تكون له حقيقة أصلاً لا موجودة ولا معدومة بل هو أمر مقدر في الأذهان لا يتحقق في الأعيان، هذا مع ما التزمه من الكفر الصريح‏.‏
    ولو قدر أنه نفي الوجود الواجب القديم بالكلية، لكان مع الكفر الذي هو أصل كل كفر قد كابر القضايا الضرورية، فإنا نشهد الموجودات ونعلم أن كل موجود إما قديم، وإما مُحْدَث، وإما واجب موجود بنفسه، وإما ممكن بنفسه موجود بغيره، وكل محدث وممكن بنفسه موجود بغيره، فلابد له من قديم واجب بنفسه، فالوجود بالضرورة يستلزم إثبات موجود قديم‏.‏ ومن الوجود ما هو ممكن محدث، كما نشهده في المحدثات من الحيوان والنبات‏.‏
    فإذا علم بضرورة العقول أن الوجود فيه ما هو موجود قديم واجب بنفسه، وفيه ما هو مُحدَث موجود ممكن بنفسه، فهذان الموجودان اتفقا في مسمى

    ج/ 6 ص -43-الوجود، وامتاز واحد منهما عن الآخر بخصوص وجوده، فمن لم يثبت ما بين الموجودين من الاتفاق وما بينهما من الافتراق، وإلا لزمه أن تكون الموجودات كلها قديمة واجبة بأنفسها، أو محدثة‏:‏ ممكنة مفترقة إلى غيرها، وكلاهما معلوم الفساد بالاضطرار، فتعين إثبات الاتفاق من وجه والامتياز من وجه، ونحن نعلم أن ما امتاز به الخالق الموجود عن سائر الموجودات، أعظم مما تمتاز به سائر الموجودات بعضها عن بعض، فإذا كان ‏[‏الملك‏]‏ و‏[‏البعوض‏]‏ قد اشتركا في مسمى الوجود والحي، مع تفاوت ما بينهما، فالخالق سبحانه أولى بمباينته للمخلوقات، وإن حصلت الموافقة في بعض الأسماء والصفات‏.

    ج/ 6 ص -44-فصل
    إذا ظهرت هذه المقدمة، تبين لنا أن قول القائل‏:‏ كلما قام دليل العقل على أنه يدل على التجسيم كان متشابهًا، جواب لا ينقطع به النزاع، ولا يحصل به الانتفاع ولا يحصل به الفرق بين الصحيح والسقيم، والزائغ والقويم‏.‏
    وذلك أنه ما من ناف ينفي شيئًا من الأسماء والصفات، إلا وهو يزعم أنه قد قام عنده دليل العقل على أن يدل على التجسيم، فيكون متشابهًا، فيلزم حينئذ أن تكون جميع الأسماء والصفات متشابهات، وحينئذ فيلزم التعطيل المحض وألا يفهم من أسماء الله تعالى وصفاته معنى، ولا يميز بين معنى الحي والعليم، والقدير والرحيم، والجبار والسلام، ولا بين معنى الخلق والاستواء، وبين الإماتة والإحياء، ولا بين المجىء والإتيان، وبين العفو والغفران‏.‏
    بيان ذلك‏:‏ أن من نفى الصفات من الجهمية والمعتزلة والقرامطة والباطنية ومن وافقهم من الفلاسفة يقولون‏:‏ إذا قلتم‏:‏ إن القرآن غير مخلوق، وإن لله تعالى علمًا وقدرة وإرادة، فقد قلتم بالتجسيم، فإنه قد قام دليل العقل على أن هذا يدل على التجسيم؛ لأن هذه معاني لا تقوم بنفسها، لا تقوم إلا بغيرها، سواء سميت صفاتًا أو أعراضًا أو غير ذلك‏.‏

    ج/ 6 ص -45-قالوا‏:‏ ونحن لا نعقل قيام المعنى إلا بجسم، فإثبات معنى يقوم بغير جسم غير معقول‏.‏ فإن قال المثبت‏:‏ بل هذه المعاني يمكن قيامها بغير جسم، كما أمكن عندنا وعندكم إثبات عالم قادر ليس بجسم، قالت المثبتة‏:‏ الرضا، والغضب والوجه، واليد، والاستواء والمجىء وغير ذلك فأثبتوا هذه الصفات أيضًا وقالوا‏:‏ إنها تقوم بغير جسم‏.‏
    فإن قالوا‏:‏ لا يعقل رضا، وغضب، إلا ما يقوم بقلب هو جسم، ولا نعقل وجهًا ويدًا إلا ما هو بعض من جسم‏.‏ قيل لهم‏:‏ ولا تعقل علمًا إلا ما هو قائم بجسم، ولا قدرة إلا ما هو قائم بجسم، ولا نعقل سمعًا وبصرًا وكلامًا إلا ما هو قائم بجسم‏.‏ فلمَ فرقتم بين المتماثلين‏؟‏ وقلتم‏:‏ إن هذه يمكن قيامها بغير جسم، وهذه لا يمكن قيامها إلا بجسم، وهما في المعقول سواء‏.‏
    فإن قالوا‏:‏ الغضب هو‏:‏ غليان دم القلب لطلب الانتقام، والوجه هو‏:‏ ذو الأنف والشفتين واللسان والخد، أو نحو ذلك‏.‏
    قيل لهم‏:‏ إن كنتم تريدون غضب العبد ووجه العبد، فوزانه أن يقال لكم‏:‏ ولا يعقل بصر إلا ما كان بشَحْمَة ولا سمع إلا ما كان بصِمَاخ ‏[‏المراد بالصماخ‏:‏ الأُذن‏.‏ انظر‏:‏ القاموس، مادة صمخ‏]‏، ولا كلامًا إلا ما كان بشفتين ولسان، ولا إرادة إلا ما كان لاجتلاب منفعة أو استدفاع مضرة، وأنتم تثبتون للرب السمع والبصر والكلام والإرادة على خلاف صفات العبد، فإن كان ما تثبتونه مماثلا لصفات العبد لزمكم التمثيل في الجميع، وإن كنتم تثبتونه على الوجه اللائق بجلال الله تعالى من غير مماثلة بصفات المخلوقات، فأثبتوا الجميع على هذا الوجه المحدود، ولا فرق بين صفة وصفة، فإن ما نفيتموه

    ج/ 6 ص -46-من الصفات يلزمكم فيه نظير ما أثبتموه فإما أن تعطلوا الجميع وهو ممتنع، وإما أن تمثلوه بالمخلوقات وهو ممتنع، وإما أن تثبتوا الجميع على وجه يختص به لا يمثاله فيه غيره‏.‏ وحينئذ، فلا فرق بين صفة وصفة، فالفرق بينهما بإثبات أحدهما ونفي الآخر فرارًا من التشبيه والتجسيم قول باطل، يتضمن الفرق بين المتماثلين، والتناقض في المقالتين‏.‏
    فإن قال‏:‏ دليل العقل دل على أحدهما دون الآخر كما يقال‏:‏ إنه دل على الحياة والعلم والإرادة، دون الرضا والغضب، ونحو ذلك، فالجواب من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن عدم الدليل لا يستلزم عدم المدلول عليه، فهَبْ أنه لم يعلم بالعقل ثبوت أحدها، فإنه لا يعلم نفيه بالعقل أيضًا ولا بالسمع، فلا يجوز نفيه، بل الواجب إثباته إن قام دليل على إثباته وإلا توقف فيه‏.‏
    الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ إنه يمكن إقامة دليل العقل على حبه وبغضه، وحكمته ورحمته، وغير ذلك من صفاته، كما يقام على مشيئته، كما قد بين في غير هذا الموضع‏.‏
    الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ السمع دل على ذلك، والعقل لا ينفيه فيجب العمل بالدليل السالم عن المعارض‏.‏ فإن عاد فقال‏:‏ بل العقل ينفى ذلك؛ لأن هذه الصفات تستلزم التجسيم، والعقل ينفي التجسيم‏.‏ قيل له‏:‏ القول في هذه الصفات التي تنفيها كالقول في الصفات التي أثبتها؛ فإن كان هذا مستلزمًا

    ج/ 6 ص -47-للتجسيم فكذلك الآخر، وإن لم يكن مستلزمًا للتجسيم كذلك الآخر، فدعوى المُدَّعِي الفرق بينهما بأن أحدهما يستلزم التشبيه، أو التجسيم دون الآخر، تفريق بين المتماثلين، وجمع بين النقيضين، فإن ما نفاه في أحدهما أثبته في الآخر، وما أثبته في أحدهما نفاه في الآخر، فهو يجمع بين النقيضين‏.‏
    ولهذا قال المحققون‏:‏ كل من نفى شيئًا من الأسماء والصفات الثابتة بالكتاب والسنة، فإنه متناقض لا محالة؛ فإن دليل نفيه فيما نفاه هو بعينه يقال فيما أثبته، فإن كان دليل العقل صحيحًا بالنفي، وجب نفي الجميع، وإن لم يكن لم يجب نفي شىء من ذلك، فإثبات شىء ونفي نظيره تناقض باطل‏.‏
    فإن قال المعتزلي‏:‏ إن الصفات تدل على التجسيم؛ لأن الصفات أعراض لا تقوم إلا بجسم، فلهذا تأولت نصوص الصفات دون الأسماء، قيل له‏:‏ يلزمك ذلك في الأسماء، فإن ما به استدللت على أن من له حياة وعلم وقدرة لا يكون إلا جسمًا، يستدل به خصمك على أن العليم القدير الحي لا يكون إلا جسمًا، فيقال لك‏:‏ إثبات حي عليم قدير لا يخلو‏:‏ إما أن يستلزم التجسيم أو لا يستلزم، فإن استلزم لزمك إثبات الجسم، فلا يكون لرؤيته محدودًا على التقديرين، وإن لم يستلزم أمكن أن يقال‏:‏ إن إثبات العلم والقدرة والإرادة لا يستلزم التجسيم، فإن كان هذا لا يستلزم فهذا لا يستلزم، وإن كان هذا يستلزم فهذا يستلزم، فلا فرق بينهما، وإن فرق فهو تناقض جلي‏.‏
    فإن قال الجهمي، والقرمطي، والفلسفي الموافق لهما‏:‏ أنا أنفي الأسماء

    ج/ 6 ص -48-والصفات معًا، قيل له‏:‏ لا يمكنك أن تنفي جميع الأسماء؛ إذ لابد من إشارة القلب وتعبير اللسان عما تثبته، فإن قلت‏:‏ ثابت موجود محقق، معلوم قديم واجب‏.‏ أي شىء قلت كنت قد سميته، وهب أنك لا تنطق بلسانك، إما أن تثبت بقلبك موجودًا واجبًا قديما، وإما ألا تثبته، فإن لم تثبته كان الوجود خاليا عن موجد واجب قديم، وحينئذ فتكون الموجودات كلها محدثة ممكنة، وبالاضطرار يعلم أن المحدث الممكن لا يوجد إلا بقديم واجب، فصار نفيك له مستلزماً لإثباته، ثم هذا هو الكفر والتعطيل الصريح الذي لا يقول به عاقل‏.‏
    وإن قلت‏:‏ أنا لا أخطر ببالي النظر في ذلك ولا أنطق فيه بلساني، قيل لك‏:‏ إعراض قلبك عن العلم، ولسانك عن النطق، لا يقتضي قلب الحقائق ولا عدم الموجودات؛ فإن ما كان حقًا موجوداً ثابتًا في نفسه فهو كذلك، علمته أو جهلته، وذكرته أو نسيته، وذلك لا يقتضي إلا الجهل بالله تعالى والغفلة عن ذكر الله، والإعراض عنه و الكفر به، وذلك لا يقتضي أنه في نفسه ليس حقًا موجودًا له الأسماء الحسنى والصفات العُلَى‏.‏
    ولا ريب أن هذا هو غاية القرامطة الباطنية، والمعطلة الدهرية‏:‏ أنهم يبقون في ظلمة الجهل وضلال الكفر، لا يعرفون الله ولا يذكرونه، ليس لهم دليل على نفيه ونفي أسمائه وصفاته، فإن هذا جزم بالنفي وهم لا يجزمون، ولا دليل لهم على النفي، وقد أْعرضوا عن أسمائه وآياته وصاروا جهالاً به، كافرين به، غافلين عن ذكره، موتى القلوب عن معرفته ومحبته وعبادته‏.‏

    ج/ 6 ص -49-ثم إذا فعلوا ذلك بزعمهم لئلا يقعوا في التشبيه والتجسيم، قيل لهم‏:‏ ما فررتم إليه شر مما فررتم عنه، فإن الإقرار بالصانع على أي وجه كان خير من نفيه‏.‏ وأيضًا، فإن هذا العالم المشهود، كالسماء والأرض، إن كان قديمًا واجبًا بنفسه فقد جعلتم الجسم المشهود قديمًا واجبًا بنفسه، وهذا شر مما فررتم منه، وإن لم يكن قديمًا واجبًا بنفسه لزم أن يكون له صانع قديم واجب بنفسه، وحينئذ تتضح معرفته وذكره بأن إثبات الرب بالقلب واللسان حق لا ريب فيه سمعًا وعقلا، فإن كان ذلك مستلزمًا لما سميتموه تشبيهًا وتجسيمًا فلازم الحق حق، وإن لم يكن مستلزمًا له، أمكنكم إثباته بدون هذا الكلام ‏.‏ فظهر تناقض النفاة كيف صرفت عليهم الدلالات، وظهر تناقض من يثبت بعض الصفات دون بعض‏.‏
    فإن قالت النفاة‏:‏ إنما نفينا الصفات؛ لأن دليلنا على حدوث العالم وإثبات الصانع دل على نفيها، فإن الصانع أثبتناه بحدوث العالم، وحدوث العالم إنما أثبتناه بحدوث الأجسام، والأجسام إنما أثبتنا حدوثها بحدوث الصفات التي هي الأعراض، أو قالوا‏:‏ إنما أثبتنا حدوثها بحدوث الأفعال التي هي الحركات، وإن القابل لها لا يخلو منها، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، أو أن ما قبل المجيء والإتيان والنزول كان موصوفًا بالحركة، وما اتصف بالحركة لم يخل منها، أو من السكون الذي هو ضدها، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فإذا ثبت حدوث الأجسام قلنا‏:‏ إن المحدث لابد له من محدث فأثبتنا الصانع بهذا،

    ج/ 6 ص -50-فلو وصفناه بالصفات أو بالأفعال القائمة به لجاز أن تقوم الأفعال والصفات بالقديم، وحينئذ فلا يكون دليلاً على حدوث الأجسام، فيبطل دليل إثبات الصفات ‏.‏
    فيقال لهم‏:‏ الجواب من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن بطلان هذا الدليل المعين لا يستلزم بطلان جميع الأدلة، وإثبات الصانع له طرق كثيرة لا يمكن ضبط تفاصيلها، وإن أمكن ضبط جملها‏.‏
    الثاني‏:‏ أن هذا الدليل لم يستدل به أحد من الصحابة والتابعين ولا من أئمة المسلمين، فلو كانت معرفة الرب عز وجل والإيمان به موقوفة عليه، للزم أنهم كانوا غير عارفين بالله ولا مؤمنين به، وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين‏.‏
    الثالث‏:‏ أن الأنبياء والمرسلين لم يأمروا أحدًا بسلوك هذا السبيل، فلو كانت المعرفة موقوفة عليه وهي واجبة لكان واجبًا، وإن كانت مستحبة كان مستحبًا، ولو كان واجبًا أو مستحبًا لشرعه رسول الله ﷺ، ولو كان مشروعًا لنقلته الصحابة‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML