ج/ 5 ص -262-سئل شيخ الإسلام عمن يعتقد [الجهة]: هل هو مبتدع أو كافر أو لا؟
فأجاب:
أما من اعتقد الجهة؛ فإن كان يعتقد أن اللّه في داخل المخلوقات تحويه المصنوعات، وتحصره السماوات، ويكون بعض المخلوقات فوقه، وبعضها تحته، فهذا مبتدع ضال.
وكذلك إن كان يعتقد أن اللّه يفتقر إلى شيء يحمله ـ إلى العرش، أو غيره ـ فهو أيضًا مبتدع ضال. وكذلك إن جعل صفات اللّه مثل صفات المخلوقين، فيقول: استواء اللّه كاستواء المخلوق، أو نزوله كنزول المخلوق، ونحو ذلك، فهذا مبتدع ضال؛ فإن الكتاب والسنة مع العقل دلت على أن اللّه لا تماثله المخلوقات في شيء من الأشياء، ودلت على أن اللّه غني عن كل شيء، ودلت على أن اللّه مباين للمخلوقات عالٍ عليها.
وإن كان يعتقد أن الخالق ـ تعالى ـ بائن عن المخلوقات، وأنه فوق سمواته على عرشه بائن من مخلوقاته، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأن اللّه غني عن العرش وعن كل ما سواه، لا يفتقر إلى شيء من
ج/ 5 ص -263-المخلوقات، بل هو مع استوائه على عرشه يحمل العرش وحملة العرش بقدرته، ولا يمثل استواء اللّه باستواء المخلوقين؛ بل يثبت للّه ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وينفي عنه مماثلة المخلوقات، ويعلم أن اللّه ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا أفعاله ـ فهذا مصيب في اعتقاده موافق لسلف الأمة وأئمتها.
فإن مذهبهم أنهم يصفون اللّه بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله ﷺ، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فيعلمون أن اللّه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش، وأنه كلم موسى تكليمًا، وتَجَلَّى للجبل فجعله دكًا هشيمًا.
ويعلمون أن اللّه ليس كمثله شيء في جميع ما وصف به نفسه، وينزهون اللّه عن صفات النقص والعيب، ويثبتون له صفات الكمال، ويعلمون أنه ليس له كفو أحد في شيء من صفات الكمال.
قال نعيم بن حماد الخزاعي: من شبه اللّه بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف اللّه به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف اللّه به نفسه ولا رسوله تشبيهًا، واللّه أعلم.
ج/ 5 ص -264-حكاية مناظرة في الجهة والتحيز
صورة ما طلب من الشيخ تقي الدين بن تيمية ـ رحمه اللّه ورضي عنه ـ حين جىء به من دمشق على البريد، واعتقل بالجب بقلعة الجبل، بعد عقد المجلس بدار النيابة، وكان وصوله يوم الخميس السادس والعشرين من شهر رمضان، وعقد المجلس يوم الجمعة السابع والعشرين منه بعد صلاة الجمعة، وفيه اعتقل رحمة اللّه عليه !
وصورة ما طلب منه أن يعتقد نفي الجهة عن اللّه، والتحيز؛ وألا يقول: إن كلام اللّه حرف وصوت قائم به، بل هو معنى قائم بذاته، وإنه ـ سبحانه وتعالى ـ لا يشار إليه بالأصابع إشارة حسية، ويطلب منه ألا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام، ولا يكتب بها إلى البلاد، ولا في الفتاوى المتعلقة بها.
فأجاب عن ذلك:
أما قول القائل: يطلب منه أن يعتقد نفي الجهة عن اللّه والتحيز، فليس في كلامي إثبات هذا اللفظ؛ لأن إطلاق هذا اللفظ نفيا بدعة، وأنا لم أقل إلا ما جاء به الكتاب والسنة، واتفق عليه الأمة.
فإن أراد قائل هذا القول: أنه ليس فوق السموات رب، ولا فوق العرش
ج/ 5 ص -265-إله، وأن محمدًا لم يعرج به إلى ربه، وما فوق العالم إلا العدم المحض، فهذا باطل، مخالف لإجماع سلف الأمة.
وإن أراد بذلك: أن اللّه لا تحيط به مخلوقاته، ولا يكون في جوف الموجودات، فهذا مذكور مصرح به في كلامي، فإني قائله، فما الفائدة في تجديده؟
وأما قول القائل: لا يقول: إن كلام اللّه حرف وصوت قائم به، بل هو معنى قائم بذاته، فليس في كلامي هذا أيضًا، ولا قلته قط، بل قول القائل: إن القرآن حرف وصوت قائم به، بدعة، وقوله معنى قائم بذاته بدعة، لم يقل أحد من السلف، لا هذا ولا هذا، وأنا ليس في كلامي شيء من البدع، بل في كلامى ما أجمع عليه السلف أن القرآن كلام اللّه غير مخلوق.
وأما قول القائل: لا يشار إليه بالأصابع إشارة حسية، فليس هذا اللفظ في كلامي، بل في كلامي إنكار ما ابتدعه المبتدعون من الألفاظ النافية، مثل قوله: إنه لا يشار إليه، فإن هذا النفي ـ أيضًا ـ بدعة.
فإن أراد القائل: أنه لا يشار إليه من أن اللّه ليس محصورًا في المخلوقات، وغير ذلك من المعاني الصحيحة: فهذا حق؛ وإن أراد أن من دعا اللّه لا يرفع إليه يديه؛ فهذا خلاف ما تواترت به السنن عن النبي ﷺ. وما فطر اللّه عليه عباده من رفع الأيدي إلى اللّه في الدعاء.
وقال النبى ﷺ: (إن اللّه يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفرًا).
ج/ 5 ص -266-وإذا سمى المسمى ذلك إشارة حسية، وقال: إنه لا يجوز، لم يقبل ذلك منه.
وأما قول القائل: لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام: فأنا ما فاتحت عاميًا في شيء من ذلك قط.
وأما الجواب بما بعث اللّه به رسوله للمسترشد المستهدي؛ فقد قال النبي ﷺ: (من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجمه اللّه يوم القيامة بلجام من نار). وقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ" [البقرة: 159]. ولا يؤمر العالم بما يوجب لعنة اللّه عليه، واللّه أعلم، والحمد لله رب العالمين.