ج/ 5 ص -153-سئل شيخ الإسلام فريد الزمان بحر العلوم تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية ـ رَحمَهُ اللّه ـ عن رجلين تباحثا في [مسألة الإثبات للصفات، والجزم بإثبات العلو على العرش].
فقال أحدهما: لا يجب على أحد معرفة هذا، ولا البحث عنه، بل يكره له، كما قال الإمام مالك للسائل: وما أراك إلا رجل سوء. وإنما يجب عليه أن يعرف ويعتقد أن اللَّهَ تعالى واحد في ملكه، وهو رب كل شيء وخالقه ومليكه، بل ومن تكلم في شيء من هذا فهو مجسم حشوي.
فهل هذا القائل لهذا الكلام مصيب أم مخطئ؟ فإذا كان مخطئًا فما الدليل على أنه يجب على الناس أن يعتقدوا إثبات الصفات والعلو على العرش ـ الذي هو أعلى المخلوقات ـ ويعرفوه؟ وما معنى التجسيم والحشو؟
أفتونا وابسطوا القول بسطًا شافيًا يزيل الشبهات في هذا مثابين مأجورين إن شاء اللَّه تعالى.
ج/ 5 ص -154-فأجاب:
الحمد للَّهِ رب العالمين، يجب على الخلق الإقرار بما جاء به النبي ﷺ، فما جاء به القرآن العزيز أو السنة المعلومة وجب على الخلق الإقرار به جملة، وتفصيلًا عند العلم بالتفصيل؛ فلا يكون الرجل مؤمنًا حتى يقر بما جاء به النبي ﷺ، وهو تحقيق شهادة لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّهِ.
فمن شهد أنه رسول اللَّه شهد أنه صادق فيما يخبر به عن اللَّهِ ـ تعالى ـ فإن هذا حقيقة الشهادة بالرسالة ؛إذ الكاذب ليس برسول فيما يكذبه، وقد قال اللّه تعالى: "وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ" [الحاقة: 44ـ46].
وبالجملة، فهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، لا يحتاج إلى تقريره هنا، وهو الإقرار بما جاء به النبيﷺ، وهو ما جاء به من القرآن والسنة، كما قال اللّه تعالى: "لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ" [آل عمران:164]، وقال تعالى: "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ" [البقرة:151].
وقال تعالى: "وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ" [البقرة:231]، وقال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ" [النساء:64]، وقال تعالى: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" [النساء: 65]،
ج/ 5 ص -155-وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ" [النساء: 95].
ومما جاء به الرسول رضاه عن السابقين الأولين؛ وعمن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ كما قال تعالى: "وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ" [التوبة: 100].
ومما جاء به الرسول إخباره بأنه ـ تعالى ـ قد أكمل الدين بقوله سبحانه: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا" [المائدة:3].
ومما جاء به الرسول أمر اللّه له بالبلاغ المبين، كما قال تعالى: "وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ" [العنكبوت: 18]، وقال تعالى: "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" [النحل: 44]، وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ" [المائدة:67].
ومعلوم أنه قد بلغ الرسالة كما أمر ولم يكتم منها شيئًا؛ فإن كتمان ما أنزله اللَّهُ إليه يناقض موجب الرسالة؛ كما أن الكذب يناقض موجب الرسالة.
ومن المعلوم من دين المسلمين أنه معصوم من الكتمان لشيء من الرسالة، كما أنه معصوم من الكذب فيها. والأمة تشهد له بأنه بلغ الرسالة كما أمره اللَّه، وبين ما أنزل إليه من ربه، وقد أخبر اللَّه بأنه قد أكمل الدين، وإنما
ج/ 5 ص -156-كمل بما بلغه؛ إذ الدين لم يعرف إلا بتبليغه، فعلم أنه بلغ جميع الدين الذي شرعه اللَّه لعباده كما قال ﷺ: (تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك).
وقال: (ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، وما من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به). وقال أبو ذر: لقد توفي رسول اللَّهِ ﷺ وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا.
إذا تبين هذا، فقد وجب على كل مسلم تصديقه فيما أخبر به عن اللَّه ـ تعالى ـ من أسماء اللَّه وصفاته، مما جاء في القرآن وفي السنة الثابتة عنه، كما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، الذين رضي اللَّهُ عنهم ورضوا عنه.
فإن هؤلاء هم الذين تلقوا عنه القرآن والسنة، وكانوا يتلقون عنه ما في ذلك من العلم والعمل، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي: لقد حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان وعبد اللَّه بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي ﷺ عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا.
وقد قام عبد اللَّه بن عمرـ وهو من أصاغر الصحابة ـ في تعلم البقرة ثماني سنين، وإنما ذلك لأجل الفهم والمعرفة. وهذا معلوم من وجوه:
ج/ 5 ص -157-أحدها: أن العادة المطردة التي جبل اللَّه عليها بني آدم، توجب اعتناءهم بالقرآن ـ المنزل عليهم ـ لفظًا ومعنى، بل أن يكون اعتناؤهم بالمعنى أوكد، فإنه قد علم أنه من قرأ كتابًا في الطب أو الحساب، أو النحو أو الفقه أو غير ذلك، فإنه لابد أن يكون راغبًا في فهمه، وتصور معانيه، فكيف بمن قرؤوا كتاب اللَّه ـ تعالى ـ المنزل إليهم، الذي به هداهم اللَّه، وبه عرفهم الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال، والرشاد والغي؟!
فمن المعلوم أن رغبتهم في فهمه وتصور معانيه أعظم الرغبات، بل إذا سمع المتعلم من العالم حديثًا فإنه يرغب في فهمه، فكيف بمن يسمعون كلام اللَّهِ من المبلغ عنه.
بل ومن المعلوم أن رغبة الرسولﷺ في تعريفهم معاني القرآن أعظم من رغبته في تعريفهم حروفه، فإن معرفة الحروف بدون المعاني لا تحصل المقصود؛ إذ اللفظ إنما يراد للمعنى.
الوجه الثاني: أن اللَّه ـ سبحانه وتعالى ـ قد حضهم على تدبره وتعقله واتباعه في غير موضع، كما قال تعالى: "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ" [ص: 29].
وقال تعالى: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" [محمد: 24]، وقال تعالى: "أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ" [المؤمنون: 68]، وقال تعالى: "أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا" [النساء:28].
فإذا كان قد حض الكفار والمنافقين على تدبره، علم أن معانيه مما يمكن
ج/ 5 ص -158-الكفار والمنافقين فهمها ومعرفتها، فكيف لا يكون ذلك ممكنًا للمؤمنين، وهذا يبين أن معانيه كانت معروفة بينة لهم.
الوجه الثالث: أنه قال تعالى: "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" [يوسف:2]، وقال تعالى: "إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" [الزخرف:3]، فبين أنه أنزله عربيًا لأن يعقلوا، والعقل لا يكون إلا مع العلم بمعانيه.
الوجه الرابع: إنه ذم من لا يفهمه فقال تعالى: "وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا" [الإسراء:45، 46]. وقال تعالى: "فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا" [النساء: 87]، فلو كان المؤمنون لا يفقهونه أيضًا لكانوا مشاركين للكفار والمنافقين فيما ذمهم اللَّه ـ تعالى ـ به.
الوجه الخامس: أنه ذم من لم يكن حظه من السماع إلا سماع الصوت دون فهم المعنى واتباعه، فقال تعالى: "وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ" [البقرة: 171]، وقال تعالى: "أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا" [الفرقان: 44]، وقال تعالى: "وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ" [محمد:16] وأمثال ذلك.
ج/ 5 ص -159-وهؤلاء المنافقون سمعوا صوت الرسول ﷺ ولم يفهموا وقالوا: ماذا قال آنفا؟ أي الساعة، وهذا كلام من لم يفقه قوله، فقال تعالى: "أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ" [محمد:16]
فمن جعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، غير عالمين بمعاني القرآن، جعلهم بمنزلة الكفار والمنافقين فيما ذمهم اللَّه ـ تعالى ـ عليه.
الوجه السادس: أن الصحابة ـ رضي اللَّه عنهم ـ فسروا للتابعين القرآن، كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره، أقف عند كل آية منه وأسأله عنها.
ولهذا قال سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.وكان ابن مسعود يقول: لو أعلم أحدًا أعلم بكتاب اللَّه مني تبلغه الإبل لأتيته. وكل واحد من أصحاب ابن مسعود وابن عباس نقل عنه من التفسير ما لا يحصيه إلا اللَّه. والنقول بذلك عن الصحابة والتابعين ثابتة معروفة عند أهل العلم بها.
فإن قال قائل: قد اختلفوا في تفسير القرآن اختلافًا كثيرًا، ولو كان ذلك معلومًا عندهم عن الرسول ﷺ لم يختلفوا فيه.
ج/ 5 ص -160-فيقال: الاختلاف الثابت عن الصحابة، بل وعن أئمة التابعين في القرآن، أكثره لا يخرج عن وجوه:
أحدها: أن يعبر كل منهم عن معنى الاسم بعبارة غير عبارة صاحبه، فالمسمى واحد، وكل اسم يدل على معنى لا يدل عليه الاسم الآخر، مع أن كلاهما حق، بمنزلة تسمية اللَّه ـ تعالى ـ بأسمائه الحسنى، وتسمية الرسول ﷺ بأسمائه، وتسمية القرآن العزيز بأسمائه، فقال تعالى: "قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى" [الإسراء:110].
فإذا قيل: الرحمن الرحيم، الملك القدوس السلام، فهي كلها أسماء لمسمى واحد ـ سبحانه وتعالى ـ وإن كان كل اسم يدل على نعت للّه ـ تعالى ـ لا يدل عليه الاسم الآخر.
ومثال هذا التفسير كلام العلماء في تفسير [الصراط المستقيم] فهذا يقول: هو الإسلام، وهذا يقول: هو القرآن، أي: اتباع القرآن، وهذا يقول: السنة والجماعة، وهذا يقول: طريق العبودية، وهذا يقول: طاعة اللَّه ورسوله.
ومعلوم أن الصراط يوصف بهذه الصفات كلها، ويسمى بهذه الأسماء كلها، ولكن كل واحد منهم دل المخاطب على النعت الذي به يعرف الصراط، وينتفع بمعرفة ذلك النعت.
ج/ 5 ص -161-الوجهالثاني: أن يذكر كل منهم من تفسير [الاسم] بعض أنواعه أو أعيانه على سبيل التمثيل للمخاطب، لا على سبيل الحصر والإحاطة، كما لو سأل أعجمي عن معنى لفظ [الخبز] فأرى رغيفًا وقيل: هذا هو، فذاك مثال للخبز وإشارة إلى جنسه، لا إلى ذلك الرغيف خاصة.
ومن هذا ما جاء عنهم في قوله تعالى: "فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ" [فاطر:32].
فالقول الجامع:أن [الظالم لنفسه]: هو المفرط بترك مأمور أو فعل محظور، و[المقتصد]: القائم بأداء الواجبات وترك المحرمات، و[السابق بالخيرات]: بمنزلة المقرب الذي يتقرب إلى اللَّه بالنوافل بعد الفرائض حتى يحبه الحق.
ثم إن كلا منهم يذكر نوعًا من هذا. فإذا قال القائل: [الظالم]: المؤخر للصلاة عن وقتها، و[المقتصد]: المصلي لها في وقتها، و[السابق]: المصلي لها في أول وقتها حيث يكون التقديم أفضل.
وقال آخر: [الظالم لنفسه]: هو البخيل الذي لا يصل رحمه ولا يؤدي زكاة ماله، و[المقتصد]: القائم بما يجب عليه من الزكاة وصلة الرحم وقرى الضيف والإعطاء في النائبة، و [السابق]: الفاعل المستحب بعد الواجب كما
ج/ 5 ص -162-فعل [الصدِّيق الأكبر] حين جاء بماله كله، ولم يكن مع هذا يأخذ من أحد شيئًا.
وقال آخر: [الظالم لنفسه]: الذي يصوم عن الطعام، لا عن الآثام، و[المقتصد]: الذي يصوم عن الطعام والآثام، و[السابق]: الذي يصوم عن كل ما لا يقربه إلى اللَّه ـ تعالى ـ وأمثال ذلك ـ لم تكن هذه الأقوال متنافية بل كل ذكر نوعًا مما تناولته الآية.
لاالوجه الثالث: أن يذكر أحدهم لنزول الآية سببًا ويذكر الآخر سببًا آخر ـ لا ينافي الأول ـ ومن الممكن نزولها لأجل السببين جميعًا، أو نزولها مرتين؛ مرة لهذا، ومرة لهذا.
وأما ما صح عن السلف أنهم اختلفوا فيه [اختلاف تناقض]، فهذا قليل بالنسبة إلى ما لم يختلفوا فيه، كما أن تنازعهم في بعض مسائل السنة ـ كبعض مسائل الصلاة والزكاة، والصيام والحج، والفرائض والطلاق ونحو ذلك ـ لا يمنع أن يكون أصل هذه السنن مأخوذًا عن النبي ﷺ؛ وجملها منقولة عنه بالتواتر.
وقد تبين أن اللَّه ـ تعالى ـ أنزل عليه الكتاب والحكمة، وأمر أزواج نبيه ﷺ أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات اللَّه والحكمة.
ج/ 5 ص -163-وقد قال غير واحد من السلف: إن [الحكمة] هي السنة؛ وقد قال ﷺ: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه).
فما ثبت عنه من السنة فعلينا اتباعه، سواء قيل:إنه في القرآن، ولم نفهمه نحن، أو قيل: ليس في القرآن، كما أن ما اتفق عليه السابقون الأولون، والذين اتبعوهم بإحسان، فعلينا أن نتبعهم فيه، سواء قيل:إنه كان منصوصًا في السنة ولم يبلغنا ذلك، أو قيل: إنه مما استنبطوه واستخرجوه باجتهادهم من الكتاب والسنة.
ج/ 5 ص -164-فصــل
فإذا تبين ذلك، فوجوب إثبات العلو للّه ـ تعالى ـ ونحوه، يتبين من وجوه:
أحدها: أن يقال: إن القرآن والسنن المستفيضة المتواترة وغير المتواترة وكلام السابقين والتابعين، وسائر القرون الثلاثة ـ مملوء بما فيه إثبات العلو للَّه ـ تعالى ـ على عرشه بأنواع من الدلالات، ووجوه من الصفات، وأصناف من العبارات، تارة يخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش. وقد ذكر الاستواء على العرش في سبعة مواضع.
وتارة يخبر بعروج الأشياء وصعودها، وارتفاعها إليه، كقوله تعالى: "بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" [النساء:158]، "إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ" [آل عمران:55]، "تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ" [المعارج:4]، وقوله تعالى: "إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ" [فاطر:10] وتارة يخبر بنزولها منه أو من عنده، كقوله تعالى: "وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ" [الأنعام:114]، "قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ" [النحل: 201]، "حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" [فصلت: 1، 2]، "حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ" [الأحقاف: 1، 2].
ج/ 5 ص -165- وتارة يخبر بأنه العلى الأعلى، كقوله تعالى: "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى" [الأعلى:1] وقوله: "وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ" [البقرة:255].
وتارة يخبر بأنه في السماء كقوله تعالى: "أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ" [الملك: 16، 17].
فذكر السماء دون الأرض، ولم يعلق بذلك ألوهية أو غيرها، كما ذكر في قوله تعالى: "وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ" [الزخرف: 48]، وقال تعالى: "وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ" [الأنعام: 3].
وكذلك قال النبي ﷺ: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟)، وقال للجارية: (أين اللَّه) ؟ قالت: في السماء. قال: (أعتقها فإنها مؤمنة).
وتارة يجعل بعض الخلق عنده دون بعض، كقوله تعالى: "وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" [الأنبياء: 19]، ويخبر عمن عنده بالطاعة، كقوله: "إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ" [الأعراف:206]، فلو كان موجب (العندية) معنى عامًا، كدخولهم تحت قدرته ومشيئته وأمثال ذلك ـ لكان كل مخلوق عنده، ولم يكن أحد مستكبرًا عن عبادته، بل مسبحًا له ساجدًا ، وقد قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" [غافر:60]، وهو
ج/ 5 ص -166-سبحانه ـ وصف الملائكة بذلك ردًا على الكفار المستكبرين عن عبادته، وأمثال هذا في القرآن لا يحصى إلا بكلفة.
وأما الأحاديث والآثار عن الصحابة والتابعين، فلا يحصيها إلا اللَّه ـ تعالى.
فلا يخلو، إما أن يكون ما اشتركت فيه هذه النصوص من إثبات علو اللَّه نفسه على خلقه هو الحق، أو الحق نقيضه؛ إذ الحق لا يخرج عن النقيضين، وإما أن يكون نفسه فوق الخلق، أو لا يكون فوق الخلق ـ كما تقول الجهمية .
ثم تارة يقولون: لا فوقهم ولا فيهم، ولا داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين، ولا محايث. وتارة يقولون: هو بذاته في كل مكان، وفي المقالتين كلتيهما يدفعون أن يكون هو نفسه فوق خلقه.
فإما أن يكون الحق إثبات ذلك، أو نفيه، فإن كان نفي ذلك هو الحق، فمعلوم أن القرآن لم يبين هذا قط ـ لا نصًا ولا ظاهرًا ـ ولا الرسول، ولا أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين؛ لا أئمة المذاهب الأربعة، ولا غيرهم، ولا يمكن أحد أن ينقل عن واحد من هؤلاء أنه نفي ذلك أو أخبر به.
وأما ما نقل من الإثبات عن هؤلاء، فأكثر من أن يحصى أو يحصر،
ج/ 5 ص -167-فإن كان الحق هو النفي ـ دون الإثبات ـ والكتاب والسنة والإجماع إنما دل على الإثبات ولم يذكر النفي أصلًا ـ لزم أن يكون الرسول والمؤمنون لم ينطقوا بالحق في هذا الباب، بل نطقوا بما يدل ـ إما نصًا وإما ظاهرًا ـ على الضلال والخطأ المناقض للهدى والصواب.
ومعلوم أن من اعتقد هذا في الرسول والمؤمنين، فله أوفر حظ من قوله تعالى: "وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا" [النساء:115].
فإن القائل إذا قال: هذه النصوص أريد بها خلاف ما يفهم منها، أو خلاف ما دلت عليه، أو أنه لم يرد إثبات علو اللَّه نفسه على خلقه، وإنما أريد بها علو المكانة ونحو ذلك، كما قد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
فيقال له:فكان يجب أن يبين للناس الحق الذي يجب التصديق به باطنًا وظاهرًا، بل ويبين لهم ما يدلهم على أن هذا الكلام لم يرد به مفهومه ومقتضاه؛ فإن غاية ما يقدر أنه تكلم بالمجاز المخالف للحقيقة، والباطن المخالف للظاهر.
ومعلوم باتفاق العقلاء أن المخاطب المبين إذا تكلم بمجاز، فلابد أن يقرن بخطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي؛ فإذا كان الرسول المبلغ المبين الذي بين للناس ما نزل إليهم، يعلم أن المراد بالكلام خلاف مفهومه ومقتضاه، كان
ج/ 5 ص -168-عليه أن يقرن بخطابه ما يصرف القلوب عن فهم المعنى الذي لم يرد، لا سيما إذا كان باطلًا لا يجوز اعتقاده في اللّه، فإن عليه أن ينهاهم عن أن يعتقدوا في اللَّه ما لا يجوز اعتقاده إذا كان ذلك مخوفًا عليهم، ولو لم يخاطبهم بما يدل على ذلك، فكيف إذا كان خطابه هوالذي يدلهم على ذلك الاعتقاد الذي تقول النفاة: هو اعتقاد باطل ؟
فإذا لم يكن في الكتاب، ولا السنة، ولا كلام أحد من السلف والأئمة ما يوافق قول النفاة أصلًا، بل هم دائمًا لا يتكلمون إلا بالإثبات، امتنع حينئذ ألا يكون مرادهم الإثبات، وأن يكون النفي هو الذي يعتقدونه ويعتمدونه، وهم لم يتكلموا به قط ولم يظهروه، وإنما أظهروا ما يخالفه وينافيه، وهذا كلام مبين، لا مخلص لأحد عنه، لكن للجهمية المتكلمة هنا كلام، وللجهمية المتفلسفة كلام.
أما المتفلسفة، والقرامطة فيقولون: إن الرسل كلموا الخلق بخلاف ما هو الحق، وأظهروا لهم خلاف ما يبطنون، وربما يقولون: إنهم كذبوا لأجل مصلحة العامة، فإن مصلحة العامة لا تقوم إلا بإظهار الإثبات، وإن كان في نفس الأمر باطلًا.
وهذا مع ما فيه من الزندقة البينة، والكفر الواضح، قول متناقض في نفسه، فإنه يقال: لو كان الأمر كما تقولون، والرسل من جنس رؤسائكم،
ج/ 5 ص -169-لكان خواص الرسل يطلعون على ذلك، ولكانوا يطلعون خواصهم على هذا الأمر، فكان يكون النفي مذهب خاصة الأمة، وأكملها عقلا وعلمًا ومعرفة، والأمر بالعكس؛فإن من تأمل كلام [السلف والأئمة] وجد أعلم الأمةـ عند الأمة ـ كأبي بكر وعمر، وعثمان، وعلى، وابن مسعود ومعاذ بن جبل، وعبد اللَّه بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبي بن كعب، وأبي الدرداء، وعبد اللَّه بن عباس، وعبد اللَّه بن عمر، وعبد اللّه بن عمرو وأمثالهم، هم أعظم الخلق إثباتًا.
وكذلك أفضل التابعين، مثل سعيد بن المسيب وأمثاله، والحسن البصري وأمثاله، وعلي ابن الحسين وأمثاله، وأصحاب ابن مسعود وأصحاب ابن عباس، وهم من أجل التابعين.
بل النقول عن هؤلاء في الإثبات، يجبن عن إثباته كثير من الناس، وعلى ذلك تأول يحيى بن عمار وصاحبه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري ما يروى: (إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا أهل العلم باللَّه، فإذا ذكروه لم ينكره إلا أهل الغِرَّة [أي: أهل الغفلة. انظر: المصباح المنير، مادة غرر] باللَّه) تأولوا ذلك على ما جاء من الإثبات؛ لأن ذلك ثابت عن رسول اللَّه ﷺ، والسابقين والتابعين لهم بإحسان، بخلاف النفي فإنه لا يوجد عنهم، ولا يمكن حمله عليه.
وقد جمع علماء الحديث من المنقول عن السلف في الإثبات، ما لا يحصى
ج/ 5 ص -170-عدده إلا رب السموات، ولم يقدر أحد أن يأتي عنهم في النفي بحرف واحد، إلا أن يكون من الأحاديث المختلقة، التي ينقلها من هو من أبعد الناس عن معرفة كلامهم.
ومن هؤلاء من يتمسك بمجملات سمعها، بعضها كذب، وبعضها صدق، مثل ما ينقلونه عن عمر أنه قال: كان النبي ﷺ وأبوبكر يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما. فهذا كذب باتفاق أهل العلم بالأثر. وبتقدير صدقه فهو مجمل. فإذا قال أهل الإثبات كان ما يتكلمان فيه من هذا الباب لموافقته ما نقل عنهما، كان أولى من قول النفاة أنهما يتكلمان بالنفي.
وكذلك حديث جراب أبي هريرة لما قال: حفظت عن رسول اللَّه ﷺ جرابين: أما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا البلعوم. فإن هذا حديث صحيح، لكنه مجمل.
وقد جاء مفسرًا: أن الجراب الآخر كان فيه حديث الملاحم والفتن، ولو قدر أن فيه ما يتعلق بالصفات فليس فيه ما يدل على النفي، بل الثابت المحفوظ من أحاديث أبى هريرة كحديث [إتيانه يوم القيامة] وحديث [النزول] و[الضحك] وأمثال ذلك، كلها على الإثبات، ولم ينقل عن أبي هريرة حرف واحد من جنس قول النفاة.
وأما الجهمية المتكلمة فيقولون: إن القرينة الصارفة لهم عما دل عليه الخطاب هوالعقل، فاكتفي بالدلالة العقلية الموافقة لمذهب النفاة.
ج/ 5 ص -171-فيقال لهم أولًا: فحينئذ إذا كان ما تكلم به إنما يفيدهم مجرد الضلال، وإنما يستفيدون الهدى من عقولهم، كان الرسول قد نصب لهم أسباب الضلال، ولم ينصب لهم أسباب الهدى، وأحالهم في الهدى على نفوسهم، فيلزم على قولهم أن تركهم في الجاهلية خير لهم من هذه الرسالة، التي لم تنفعهم، بل ضرتهم.
ويقال لهم ثانيًا: فالرسول ﷺ قد بين الإثبات الذي هو أظهر في العقل من قول النفاة؛ مثل ذكره لخلق اللّه وقدرته، ومشيئته وعلمه، ونحو ذلك ـ من الأمور التي تعلم بالعقل ـ أعظم مما يعلم نفي الجهمية، وهو لم يتكلم بما يناقض هذا الإثبات، فكيف يحيلهم على مجرد العقل في النفي الذي هو أخفي وأدق؟ وكلامه لم يدل عليه، بل دل على نقيضه وضده، ومن نسب هذا إلى الرسول ﷺ فاللَّه حسيبه على ما يقول .
والمراتب ثلاث إما أن يتكلم بالهدى، أوبالضلال، أو يسكت عنهما. ومعلوم أن السكوت عنهما خير من التكلم بما يضل، وهنا يعرف بالعقل أن الإثبات لم يسكت عنه؛ بل بَيَّنه، وكان ما جاء به السمع موافقًا للعقل، فكان الواجب فيما ينفيه العقل أن يتكلم فيه بالنفي؛كما فعل فيما يثبته العقل، وإذا لم يفعل ذلك كان السكوت عنه أسلم للأمة.
أما إذا تكلم فيه بما يدل على الإثبات، وأراد منهم ألا يعتقدوا إلا النفي ؛لكون مجرد عقولهم تعرفهم به، فإضافة هذا إلى الرسول ﷺ من أعظم أبواب الزندقة والنفاق.
ج/ 5 ص -172-ويقال لهم ثالثا: من الذي سلم لكم أن العقل يوافق مذهب النفاة، بل العقل الصريح إنما يوافق ما أثبته الرسول، وليس بين المعقول الصريح والمنقول الصحيح تناقض أصلًا، وقد بسطنا هذا في مواضع، بينا فيها أن مايذكرون من المعقول المخالف لما جاء به الرسول ﷺ، إنما هو جهل وضلال تقلده متأخروهم عن متقدميهم، وسموا ذلك عقليات، وإنما هي جهليات، ومن طلب منه تحقيق ماقاله أئمة الضلال بالمعقول لم يرجع إلا إلى مجرد تقليدهم.
فهم يكفرون بالشرع ويخالفون العقل، تقليدًا لمن توهموا أنه عالم بالعقليات، وهم مع أئمتهم الضلال كقوم فرعون معه، حيث قال اللَّه تعالى: "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ"
[الزخرف:45]، وقال تعالى عنه: "وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ" [القصص:39ـ42]. وفرعون هو إمام النفاة.
ولهذا صرح محققو النفاة بأنهم على قوله، كما يصرح به الاتحادية من الجهمية النفاة؛ إذ هو أنكر العلو وكذب موسى فيه، وأنكر تكليم اللَّه لموسى، قال تعالى: "وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا" [غافر: 36، 37].
ج/ 5 ص -173-واللّه ـ تعالى ـ قد أخبر عن فرعون أنه أنكر الصانع بلسانه، فقال: "وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ" [الشعراء:32] ؟ وطلب أن يصعد ليطلع إلى إله موسى، فلو لم يكن موسى أخبره أن إلهه فوق لم يقصد ذلك؛ فإنه هو لم يكن مقرًا به، فإذا لم يخبره موسى به لم يكن إثبات العلو لا منه ولا من موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فلا يقصد الاطلاع، ولا يحصل به ما قصده من التلبيس على قومه، بأنه صعد إلى إله موسى، ولكان صعوده إليه كنزوله إلى الآبار والأنهار، وكان ذلك أهون عليه، فلا يحتاج إلى تكلف الصرح.
ونبينا ﷺ لما عرج به ليلة الإسراء، وجد في السماء الأولى آدم ـ عليه السلام ـ وفي الثانية يحيى وعيسى، ثم في الثالثة يوسف، ثم في الرابعة إدريس، ثم في الخامسة هارون، ثم وجد موسى وإبراهيم، ثم عرج إلى ربه ففرض عليه خمسين صلاة، ثم رجع إلى موسى فقال له: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فإن أمتك لا تطيق ذلك. قال: (فرجعت إلى ربي فسألته التخفيف لأمتي) وذكر أنه رجع إلى موسى، ثم رجع إلى ربه مرارًا، فصدق موسى في أن ربه فوق السموات، وفرعون كذب موسى في ذلك.
والجهمية النفاة : موافقون لآل فرعون أئمة الضلال.
وأهل السنة والأثبات: موافقون لآل إبراهيم أئمة الهدى، وقال تعالى: "وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ" [الأنبياء:72، 73]
ج/ 5 ص -174-وموسى ومحمد من آل إبراهيم؛ بل هم سادات آل إبراهيم ـ صلوات اللّه عليهم أجمعين.
الوجه الثاني ـ في تبيين وجوب الإقرار بالإثبات، وعلو اللَّه على السموات أن ـ يقال: من المعلوم أن اللّه ـ تعالى ـ أكمل الدين، وأتم النعمة، وأن اللَّه أنزل الكتاب تبيانًا لكل شيء، وأن معرفة ما يستحقه اللَّه وما ينزه عنه هو من أجل أمور الدين، وأعظم أصوله، وأن بيان هذا وتفصيله أولى من كل شيء؛ فكيف يجوز أن يكون هذا الباب لم يبينه الرسول ﷺ، ولم يفصله، ولم يعلم أمته ما يقولون في هذا الباب ؟! وكيف يكون الدين قد كمل وقد تركوا على الطريقة البيضاء، وهم لا يدرون بماذا يعرفون ربهم: أبما تقوله النفاة، أو بأقوال أهل الإثبات؟!
الوجه الثالث: أن يقال: كل من فيه أدنى محبة للعلم أو أدنى محبة للعبادة، لابد أن يخطر بقلبه هذا الباب، ويقصد فيه الحق، ومعرفة الخطأ من الصواب، فلا يتصور أن يكون الصحابة والتابعون كلهم كانوا معرضين عن هذا لا يسألون عنه، ولا يشتاقون إلى معرفته، ولا تطلب قلوبهم الحق، وهم ـ ليلًا ونهارًا ـ يتوجهون بقلوبهم إليه، ويدعونه تضرعًا وخيفة، ورَغَبًا ورهبًا، والقلوب مجبولة مفطورة على طلب العلم بهذا، ومعرفة الحق فيه، وهي مشتاقة إليه أكثر من شوقها إلى كثير من الأمور، ومع الإرادة الجازمة والقدرة يجب حصول
ج/ 5 ص -175-المراد، وهم قادرون على سؤال الرسول ﷺ، وسؤال بعضهم بعضًا.
وقد سألوه عما هو دون هذا؛ سألوه: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فأجابهم، وسأله أبو رَزِين: أيضحك ربنا؟ فقال: (نعم). فقال: (لن نعدم من رب يضحك خيرًا).
ثم إنهم لما سألوه عن [الرؤية] قال: (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر) فشبه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي.
والنفاة لا يقولون: يرى كما ترى الشمس والقمر، بل قولهم الحقيقي أنه لا يرى بحال، ومن قال: يرى، موافقة لأهل الإثبات ومنافقة لهم، فسَّر الرؤية بمزيد علم، فلا تكون كرؤية الشمس والقمر.
والمقصود هنا أنهم لابد أن يسألوه عن ربهم الذي يعبدونه، وإذا سألوه فلابد أن يجيبهم. ومن المعلوم بالاضطرار أن ما تقوله الجهمية النفاة لم ينقل عن أحد من أهل التبليغ عنه، وإنما نقلوا عنه ما يوافق قول أهل الإثبات.
الوجه الرابع: أن يقال: إما أن يكون اللَّه يحب منا أن نعتقد قول النفاة، أو نعتقد قول أهل الإثبات، أو لا نعتقد واحدًا منهما. فإن كان مطلوبه منا اعتقاد قول النفاة: وهو أنه لا داخل العالم ولا خارجه؛ وأنه ليس فوق
ج/ 5 ص -176-السموات رب، ولا على العرش إله، وأن محمدًا ﷺ لم يعرج به إلى اللَّه، وإنما عرج به إلى السموات فقط لا إلى اللَّه، وأن الملائكة لا تعرج إلى اللَّه بل إلى ملكوته، وأن اللَّه لا ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء، وأمثال ذلك . وإن كانوا يعبرون عن ذلك بعبارات مبتدعة فيها إجمال وإبهام وإيهام، كقولهم ليس بمتحيز ولا جسم، ولا جوهر، ولا هو في جهة، ولا مكان، وأمثال هذه العبارات التي تفهم منها العامة تنزيه الرب ـ تعالى ـ عن النقائص، ومقصدهم بها أنه ليس فوق السموات رب؛ ولا على العرش إله يعبد ولا عرج بالرسول إلى اللّه.
والمقصود: أنه إن كان الذي يحبه اللَّه لنا أن نعتقد هذا النفي، فالصحابة والتابعون أفضل منا، فقد كانوا يعتقدون هذا النفي، والرسول ﷺ كان يعتقده، وإذا كان اللّه ورسوله يرضاه لنا وهو إما واجب علينا أو مستحب لنا، فلابد أن يأمرنا الرسول ﷺ بما هو واجب علينا، ويندبنا إلى ماهو مستحب لنا، ولابد أن يظهر عنه وعن المؤمنين ما فيه إثبات لمحبوب اللّه ومرضيه وما يقرب إليه، لاسيما مع قوله عز وجل: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي" [المائدة:3]، لا سيما والجهمية تجعل هذا أصل الدين، وهو عندهم التوحيد الذي لا يخالفه إلا شقي، فكيف لا يعلم الرسول ﷺ أمته التوحيد؟ وكيف لا يكون [التوحيد] معروفًا عند الصحابة والتابعين؟! والفلاسفة والمعتزلة ومن اتبعهم يسمون مذهب
ج/ 5 ص -177-النفاة التوحيد، وقد سمى صاحب المرشدة أصحابه الموحدين؛ إذ عندهم مذهب النفاة هو التوحيد.
وإذا كان كذلك، كان من المعلوم أنه لابد أن يبينه الرسول ﷺ، وقد علم بالاضطرار أن الرسول ﷺ وأصحابه لم يتكلموا بمذهب النفاة.
فعلم أنه ليس بواجب ولا مستحب، بل علم أنه ليس من التوحيد الذي شرعه اللَّه ـ تعالى ـ لعباده.
وإن كان يحب منا مذهب الإثبات، وهو الذي أمرنا به، فلابد ـ أيضًا ـ أن يبين ذلك لنا. ومعلوم أن في الكتاب والسنة من إثبات العلو والصفات أعظم مما فيهما من إثبات الوضوء والتيمم، والصيام، وتحريم ذوات المحارم، وخبيث المطاعم، ونحو ذلك من الشرائع.
فعلى قول أهل الإثبات يكون الدين كاملًا، والرسول ﷺ مبلغًا مبينًا، والتوحيد عن السلف مشهورًا معروفًا.
والكتاب والسنة يصدق بعضه بعضًا؛والسلف خير هذه الأمة وطريقهم أفضل الطرق.
والقرآن كله حق ليس فيه إضلال، ولا دل على كفر ومحال، بل هو الشفاء والهدى
والنور. وهذه كلها لوازم ملتزمة ونتائج مقبولة، فقولهم مؤتلف غير مختلف، ومقبول غير مردود.
ج/ 5 ص -178-وإن كان الذي يحبه اللّه منا ألا نثبت ولا ننفي، بل نبقى في الجهل البسيط، وفي ظلمات بعضها فوق بعض، لا نعرف الحق من الباطل ولا الهدى من الضلال، ولا الصدق من الكذب، بل نقف بين المثبتة والنفاة موقف الشاكين الحيارى "مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء" [النساء:143]، لا مصدقين ولا مكذبين، لزم من ذلك أن يكون اللَّه يحب منا عدم العلم بما جاء به الرسول ﷺ، وعدم العلم بما يستحقه اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ من الصفات التامات، وعدم العلم بالحق من الباطل، ويحب منا الحيرة والشك.
ومن المعلوم أن اللَّه لا يحب الجهل، ولا الشك، ولا الحيرة، ولا الضلال، وإنما يحب الدين والعلم واليقين.
وقد ذم [الحيرة] بقوله تعالى: "قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ" [الأنعام:71، 72].
وقد أمرنا اللّه تعالى أن نقول: "اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ" [ الفاتحة: 6، 7].
وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة ـ رضي اللَّه عنها ـ أن النبي ﷺ
ج/ 5 ص -179-كان إذا قام من الليل يصلي يقول: (اللّهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل؛ فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
فهو ﷺ يسأل ربه أن يهديه لما اختلف فيه من الحق، فكيف يكون محبوب اللّه عدم الهدى في مسائل الخلاف؟ وقد قال اللّه تعالى له: "وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا" [طه: 114].
وما يذكره بعض الناس عنه أنه قال: [زدني فيك تحيرًا] كذب باتفاق أهل العلم بحديثه ﷺ، بل هذا سؤال من هو حائر، وقد سأل المزيد من الحيرة، ولا يجوز لأحد أن يسأل ويدعو بمزيد الحيرة إذا كان حائرًا، بل يسأل الهدى والعلم، فكيف بمن هو هادي الخلق من الضلالة؟ وإنما ينقل مثل هذا عن بعض الشيوخ الذين لا يقتدى بهم في مثل هذا إن صح النقل عنه، وقول هؤلاء الواقفة الذين لا يثبتون ولا ينفون، وينكرون الجزم بأحد القولين، يلزم عليه أمور: أحدها: أن من قال هذا، فعليه أن ينكر على النفاة، فإنهم ابتدعوا ألفاظًا ومعاني لا أصل لها في الكتاب، ولا في السنة.
وأما المثبتة إذا اقتصروا على النصوص، فليس له الإنكار عليهم، وهؤلاء
ج/ 5 ص -180-الواقفة هم في الباطن يوافقون النفاة أو يقرونهم، وإنما يعارضون المثبتة، فعلم أنهم أقروا أهل البدعة، وعادوا أهل السنة.
الثاني: أن يقال: عدم العلم بمعاني القرآن والحديث ليس مما يحبه اللّه ورسوله، فهذا القول باطل.
الثالث: أن يقال: الشك والحيرة ليست محمودة في نفسها باتفاق المسلمين. غاية ما في الباب أن من لم يكن عنده علم بالنفي ولا الإثبات يسكت.
فأما من علم الحق بدليله الموافق لبيان رسوله ـ صلى اللّه تعالى عليه وسلم ـ فليس للواقف الشاك الحائر أن ينكر على هذا العالم الجازم المستبصر المتبع للرسول، العالم بالمنقول والمعقول.
الرابع: أن يقال: السلف كلهم أنكروا على الجهمية النفاة، وقالوا بالإثبات وأفصحوا به، وكلامهم في الإثبات والإنكار على النفاة أكثر من أن يمكن إثباته في هذا المكان، وكلام الأئمة المشاهير ـ مثل مالك، والثوري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وعبد الرحمن بن مهدي، ووَكِيع بن الجراح، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وأئمة أصحاب مالك وأبي حنيفة، والشافعي وأحمد ـ موجود كثير لا يحصيه أحد.
وجواب مالك في ذلك صريح في الإثبات، فإن السائل قال له: يا أبا عبد اللّه، "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" [طه:5] كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء
ج/ 5 ص -181-معلوم، والكيف مجهول، وفي لفظ: استواؤه معلوم - أو معقول - والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. فقد أخبر ـ رضي اللّه عنه ـ بأن نفس الاستواء معلوم، وأن كيفية الاستواء مجهولة، وهذا بعينه قول أهل الإثبات. وأما النفاة، فما يثبتون استواء حتى تجهل كيفيته، بل عند هذا القائل الشاك وأمثاله أن الاستواء مجهول، غير معلوم، وإذا كان الاستواء مجهولًا لم يحتج أن يقال: الكيف مجهول، لا سيما إذا كان الاستواء منتفيًا، فالمنتفي المعدوم لا كيفية له حتى يقال: هي مجهولة أو معلومة. وكلام مالك صريح في إثبات الاستواء، وأنه معلوم، وأن له كيفية، لكن تلك الكيفية مجهولة لنا لا نعلمها نحن.
ولهذا بدع السائل الذي سأله عن هذه الكيفية، فإن السؤال إنما يكون عن أمر معلوم لنا، ونحن لا نعلم كيفية استوائه، وليس كل ما كان معلومًا وله كيفية تكون تلك الكيفية معلومة لنا، يبين ذلك أن المالكية وغير المالكية نقلوا عن مالك أنه قال: اللّه في السماء وعلمه في كل مكان، حتى ذكر ذلك مكي ـ خطيب قرطبةـ في [كتاب التفسير] الذي جمعه من كلام مالك، ونقله أبو عَمْرو الطلمنكي، وأبو عمر بن عبد البر، وابن أبي زيد في المختصر، وغير واحد، ونقله أيضًا عن مالك غير هؤلاء ممن لا يحصى عددهم: مثل أحمد بن حنبل، وابنه عبد اللّه، والأثرم، والخلال، والآجرى، وابن بطة، وطوائف
ج/ 5 ص -182-غير هؤلاء من المصنفين في السنة، ولو كان مالك من الواقفه أو النفاة لم ينقل هذا الإثبات.
والقول الذي قاله مالك قاله قبله ربيعة بن أبي عبد الرحمن ـ شيخه ـ كما رواه عنه سفيان بن عيينة.
وقال عبد العزيز بن عبد اللّه بن أبي سلمة الماجشون كلامًا طويلاً، يقرر مذهب الإثبات، ويرد على النفاة، قد ذكرناه في غير هذا الموضع.
وكلام المالكية في ذم الجهمية النفاة مشهور في كتبهم، وكلام أئمة المالكية وقدمائهم في الإثبات كثير مشهور، حتى علماءهم حكوا إجماع أهل السنة والجماعة على أن اللّه بذاته فوق عرشه. وابن أبي زيد إنما ذكر ما ذكره سائر أئمة السلف، ولم يكن من أئمة المالكية من خالف ابن أبى زيد في هذا. وهو إنما ذكر هذا في مقدمة الرسالة لتلقن لجميع المسلمين؛ لأنه عند أئمة السنة من الاعتقادات التي يلقنها كل أحد.
ولم يرد على ابن أبى زيد في هذا إلا من كان من أتباع الجهمية النفاة، لم يعتمد من خالفه على أنه بدعة، ولا أنه مخالف للكتاب والسنة، ولكن زعم من خالف ابن أبي زيد وأمثاله إن ما قاله مخالف للعقل. وقالوا: إن ابن أبي زيد لم يكن يحسن فن الكلام الذي يعرف فيه ما يجوز على اللّه ـ عز وجل ـ وما لا يجوز.
ج/ 5 ص -183-والذين أنكروا على ابن أبي زيد وأمثاله من المتأخرين تلقوا هذا الإنكار عن متأخري الأشعرية ـ كأبي المعالي وأتباعه ـ وهؤلاء تلقوا هذا الإنكار عن الأصول التي شاركوا فيها المعتزلة ونحوهم من الجهمية، فالجهمية ـ من المعتزلة وغيرهم ـ هم أصل هذا الإنكار.
وسلف الأمة وأئمتها متفقون على الإثبات، رادون على الواقفة والنفاة، مثل ما رواه البيهقي وغيره عن الأوزاعي قال: كنا ـ والتابعون متوافرون ـ نقول: إن اللّه فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته.
وقال أبو مطيع البلخي في كتاب [الفقه الأكبر] المشهور: سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض. قال: قد كفر؛ لأن اللّه ـ عز وجل ـ يقول: "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" [طه: 5]، وعرشه فوق سبع سمواته، فقلت: إنه يقول: على العرش استوى ، ولكن لا يدري العرش في السماء أو في الأرض، فقال: إذا أنكر أنه في السماء كفر؛ لأنه ـ تعالى ـ في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل.
وقال عبد اللّه بن نافع: كان مالك بن أنس يقول: اللّه في السماء، وعلمه في كل مكان. وقال مَعْدَان: سألت سفيان الثورى عن قوله تعالى: "وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ" [الحديد: 4] قال: علمه.
وقال حماد بن زيد فيما ثبت عنه من غير وجه ـ رواه ابن أبي حاتم والبخاري
ج/ 5 ص -184-وعبد اللّه بن أحمد وغيرهم ـ: إنما يدور كلام الجهمية على أن يقولوا: ليس في السماء شيء.
وقال على بن الحسن بن شَقِيق: قلت لعبد اللّه بن المبارك: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه. قلت: بحَدّ؟ قال: بحد لا يعلمه غيره، وهذا مشهور عن ابن المبارك، ثابت عنه من غير وجه، وهو ـ أيضًا ـ صحيح ثابت عن أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغير واحد من الأئمة.
وقال رجل لعبد اللّه بن المبارك: يا أبا عبد الرحمن، قد خفت اللّه من كثرة ما أدعو على الجهمية. قال: لا تخف، فإنهم يزعمون أن إلهك الذي في السماء ليس بشيء.
وقال جرير بن عبد الحميد: كلام الجهمية أوله شَهْد وآخره سُم، وإنما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء إله. رواه ابن أبي حاتم. ورواه هو وغيره بأسانيد ثابتة عن عبدالرحمن بن مهدي، قال: إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن يكون اللّه ـ عز وجل ـ كلم موسى بن عمران، وأن يكون على العرش، أرى أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم. وقال يزيد بن هارون: من زعم أن اللّه على العرش استوى، على خلاف ما يقر في قلوب العامة، فهو جهمي.
وقال سعيد بن عامر الضبعي ـ وذكر عنده الجهمية ـ فقال: هم أشر قولًا من اليهود والنصاري، قد أجمع أهل الأديان مع المسلمين على أن اللّه على العرش، وقالوا هم: ليس عليه شيء.
ج/ 5 ص -185-وقال عباد بن العوام الواسطي: كلمت بشرًا المريسي وأصحابه، فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا: ليس في السماء شيء، أرى واللّه ألا يناكحوا ولا يوارثوا. وهذا كثير في كلامهم.
وهكذا ذكر أهل الكلام ـ الذين ينقلون مقالات الناس ـ مقالة ـ أهل السنة وأهل الحديث ـ كما ذكره أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي صنفه في [اختلاف المصلين، ومقالات الإسلاميين]، فذكر فيه أقوال الخوارج والروافض والمعتزلة والمرجئة وغيرهم.
ثم قال: ذكر [مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث]، وجملة قولهم: الإقرار باللّه ـ عز وجل ـ وملائكته، وكتبه ورسله، وبما جاء من عند اللّه، وبما رواه الثقات عن رسول اللّه ﷺ، لا يردون من ذلك شيئًا ـ إلى أن قال ـ: وأن اللّه على عرشه كما قال: "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" [طه: 5]، وأن له يدين بلا كيف كما قال تعالى: "لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ" [ص:75].
وأقروا أن للّه علما كما قال: "أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ" [النساء:166]، "وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ" [ فاطر:11]، وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن اللّه كما نفته المعتزلة، وقالوا: إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء اللّه، وأن الأشياء تكون بمشيئة اللّه، كما قال: "وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ" [الإنسان:30] ـ إلى أن قال ـ: ويقولون إن القرآن كلام اللّه غير مخلوق؛ ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول اللّه
ج/ 5 ص -186-ﷺ ، مثل: (إن اللّه ينزل إلى سماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟) كما جاء في الحديث. ويقرون أن اللّه يجىء يوم القيامة كما قال: "وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا" [الفجر:22] ، وأن اللّه يقرب من خلقه كيف شاء، كما قال: "وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ" [ق:16]. وذكر أشياء كثيرة، إلى أن قال: فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب.
قال الأشعري أيضًا في [مسألة الاستواء] قال أهل السنة وأصحاب الحديث: ليس بجسم، ولا يشبه الأشياء، وأنه على عرشه، كما قال: "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" [طه: 5].
ولا نتقدم بين يدي اللّه ورسوله في القول، بل نقول: استوى بلا كيف، وأن له يدين بلا كيف كما قال تعالى: "لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ" [ص:75].
وإن اللّه ينزل إلى سماء الدنيا، كما جاء في الحديث.
قال:وقالت المعتزلة: استوى على عرشه بمعنى استولى. وقال الأشعري ـ أيضًا ـ في كتابه [الإبانة في أصول الديانة] في [باب الاستواء]:إن قال قائل:ما تقولون في الاستواء؟ قيل:نقول له:إن اللّه مستو على عرشه كما قال: "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" [طه: 5].، وقال: "إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ" [فاطر:10]، وقال: "بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" [النساء: 158].
وقال حكاية عن فرعون: "وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا" [غافر: 36 ،37] كذب فرعون موسى في قوله:
ج/ 5 ص -187-إن اللّه فوق السموات. وقال اللّه تعالى: "أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ" [الملك:16]. فالسموات فوقها العرش، وكل ما علا فهو سماء، وليس إذا قال: "أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء" يعني: جميع السموات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات، ألا ترى أنه ذكر السموات فقال: "وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا" [نوح:16]، ولم يرد أنه يملأ السموات جميعًا؟
ورأينا المسلمين جميعًا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأن اللّه مستوٍ على العرش الذي هو فوق السموات، فلولا أن اللّه على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش.
وقد قال قائلون من المعتزلة، والجهمية والحرورية: إن معنى استوى: استولى وملك وقهر، وأن اللّه في كل مكان، وجحدوا أن يكون اللّه على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، فلو كان كما قالوا، كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة؛ لأن اللّه قادر على كل شيء، والأرض فاللّه قادر عليها وعلى الحشوش والأخلية، فلو كان مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء، لجاز أن يقال: هو مستو على الأشياء كلها، ولما لم يجز عند أحد من المسلمين أن يقال: إن اللّه مستو على الأشياء كلها، وعلى الحشوش والأخلية، بطل أن يكون معنى الاستواء، على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها.
وقد نقل هذا عن الأشعري غير واحد من أئمة أصحابه، كابن فُورَك والحافظ ابن عساكر في كتابه الذي جمعه في [تبيين كذب المفترى، فيما ينسب
ج/ 5 ص -188-إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري]، وذكر اعتقاده الذي ذكره في أول [الإبانة] وقوله فيه: فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون.
قيل له: قولنا الذي به نقول، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب اللّه ـ تعالى ـ وسنة نبيه ﷺ، وما روى عن الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل ـ نضراللّه وجهه ـ قائلون، ولما خالف قوله مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان اللّه به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح المنهاج به، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة اللّه عليه من إمام مقدم، وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين.
وجملة قولنا: إنا نقر باللّه وملائكته، وكتبه ورسله، وما جاء من عند اللّه، وما رواه الثقات عن رسول اللّه ﷺ. وذكر ما تقدم وغيره من جمل كثيرة أوردت في غير هذا الموضع.
وقال أبو بكر الآجري في [كتاب الشريعة] :الذي يذهب إليه أهل العلم:أن اللّه ـ تعالى ـ على عرشه فوق سمواته، وعلمه محيط بكل شيء، قد أحاط بجميع ما خلق في السموات العلى، وجميع ما في سبع أرضين، يرفع إليه أفعال العباد.
فإن قال قائل: أي شيء معنى قوله: "مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ" [المجادلة:7]. قيل له: علمه، واللّه على عرشه وعلمه محيط
ج/ 5 ص -189-بهم، كذا فسره أهل العلم. والآية يدل أولها وآخرها أنه العلم، وهو على عرشه. هذا قول المسلمين.
والقول الذي قاله الشيخ محمد بن أبي زيد [وإنه فوق عرشه المجيد بذاته، وهو في كل مكان بعلمه] قد تأوله بعض المبطلين بأن رفع المجيد. ومراده أن اللّه هو المجيد بذاته، وهذا مع أنه جهل واضح، فإنه بمنزلة أن يقال: الرحمن بذاته، والرحيم بذاته، والعزيز بذاته.
وقد قال ابن أبي زيد: في خطبة [الرسالة] أيضًا:على العرش استوى، وعلى الملك احتوى ، ففرق بين الاستواء والاستيلاء على قاعدة الأئمة المتبوعين، ومع هذا فقد صرح ابن أبى زيد في [المختصر] بأن اللّه في سمائه دون أرضه، هذا لفظه، والذي قاله ابن أبي زيد ما زالت تقوله أئمة أهل السنة من جميع الطوائف.
وقد ذكر أبو عمرو الطلمنكي الإمام في كتابه الذي سماه [الوصول إلى معرفة الأصول]: إن أهل السنة والجماعة متفقون على أن اللّه استوى بذاته على عرشه. وكذلك ذكره محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حافظ الكوفة في طبقة البخاري ونحوه، ذكر ذلك عن أهل السنة و الجماعة.
وكذلك ذكره يحيى بن عمار السجستاني الإمام، في رسالته المشهورة في السنة التي كتبها إلى ملك بلاده.
ج/ 5 ص -190-وكذلك ذكر أبو نصر السجزي الحافظ في كتاب [الإبانة] له. قال: وأئمتنا كالثوري، ومالك، وابن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وابن المبارك، وفضيل بن عياض، وأحمد، وإسحاق، متفقون على أن اللّه فوق العرش بذاته، وأن علمه بكل مكان، وكذلك ذكر شيخ الإسلام الأنصاري، وأبو العباس الطرقي، والشيخ عبد القادر الجيلي، ومن لا يحصى عدده إلا اللّه من أئمة الإسلام وشيوخه.
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني ـ صاحب [حلية الأولياء] وغير ذلك من المصنفات المشهورة في الاعتقاد الذي جمعه ـ: طريقنا طريق السلف المتبعين الكتاب والسنة وإجماع الأمة. قال: ومما اعتقدوه: أن اللّه لم يزل كاملًا بجميع صفاته القديمة لا يزول ولا يحول، لم يزل عالمًا بعلم، بصيرًا ببصر، سميعًا بسمع، متكلمًا بكلام، وأحدث الأشياء من غير شيء، وأن القرآن كلام اللّه، وكذلك سائر كتبه المنزلة كلامه غير مخلوق، وأن القرآن من جميع الجهات مقروءًا ومتلوا، ومحفوظًا ومسموعًا، ومكتوبًا، وملفوظا، كلام اللّه حقيقة لا حكاية ولا ترجمة، وأنه بألفاظنا كلام اللّه غير مخلوق، وأن الواقفة واللفظية من الجهمية، وأن من قصد القرآن بوجه من الوجوه يريد به خلق كلام اللّه، فهو عندهم من الجهمية، وأن الجهمي عندهم كافر. وذكر أشياء إلى أن قال:
ج/ 5 ص -191-وإن الأحاديث التي ثبتت عن النبى ﷺ في [العرش واستواء اللّه عليه] يقولون بها ويثبتونها، من غير تكييف، ولا تمثيل، وأن اللّه بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم، وهو مستوٍ على عرشه في سمائه دون أرضه. وذكر سائر اعتقاد السلف وإجماعهم على ذلك.
وقال يحيى بن عثمان[هو أبو زكريا يحيى بن عثمان بن صالح بن صفوان السهمي المصري، العلامة الحافظ الإخباري، كان عالمًا بأخبار مصر وبموت العلماء، مات في ذي القعدة سنة 282هـ]. في [رسالته]: لا نقول كما قالت الجهمية: إنه بداخل الأمكنة، وممازج كل شيء، ولا نعلم أين هو، بل نقول: هو بذاته على عرشه، وعلمه محيط بكل شيء، وسمعه وبصره وقدرته مدركة لكل شيء، وهو معنى قوله: "وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ" [الحديد:4].
وقال الشيخ العارف معمر بن أحمد ـ شيخ الصوفية في هذا العصرـ: أحببت أن أوصى أصحابي بوصية من السنة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين. فذكر أشياء من الوصية إلى أن قال فيها: وإن اللّه استوى على عرشه بلا كيف ولا تأويل، والاستواء معلوم، والكيف مجهول؛وأنه مستو على عرشه، بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، بلا حلول ولا ممازجة ولا ملاصقة، وأنه ـ عز وجل ـ سميع، بصير، عليم، خبير، يتكلم، ويرضى، ويسخط، ويضحك، ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء، بلا كيف ولا تأويل، ومن أنكر النزول، أو تأول، فهو مبتدع ضال.
ج/ 5 ص -192-وقال الإمام أبوعثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني النيسابوري في كتاب [الرسالة في السنة] له: ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون أن اللّه فوق سبع سمواته على عرشه، كما نطق به كتابه، وعلماء الأمة وأعيان سلف الأمة، لم يختلفوا أن اللّه ـ تعالى ـ على عرشه، وعرشه فوق سمواته.
قال: وإمامنا أبو عبد اللّه الشافعي احتج في كتابه [المبسوط] في مسألة إعتاق الرقبة المؤمنة في الكفارة، وإن الرقبة الكافرة لا يصح التكفير بها، بخبر معاوية بن الحكم، وأنه أراد أن يعتق الجارية السوداء عن الكفارة، وسأل النبي ﷺ عن إعتاقه إياها، فامتحنها ليعرف أنها مؤمنة أم لا ! فقال لها: (أين ربك)؟ فأشارت إلى السماء، فقال: (أعتقها فإنها مؤمنة)، فحكم بإيمانها لما أقرت أن ربها في السماء، وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: باب القول في الاستواء:
قال اللّه تعالى: "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" [ طه: 5]، "ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ" [الفرقان: 59]، "وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ" [ الأنعام:18]، "يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" [النحل:50]، "إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ" [فاطر:10]، "أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء" [ الملك: 16] وأراد من فوق السماء؛ كما قال: "وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ" [طه:71] بمعنى: على جذوع النخل. وقال: "فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ" [التوبة: 2] أي: على الأرض، وكل ما علا فهو سماء، والعرش أعلى السموات. فمعنى الآية: أأمنتم من على العرش، كما صرح به في سائر الآيات. قال:
ج/ 5 ص -193- وفيما كتبنا من الآيات دلالة على إبطال قول من زعم من الجهمية: أن اللّه بذاته في كل مكان، وقوله: "وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ" [الحديد: 4]: إنما أراد بعلمه لا بذاته.
وقال أبو عمر بن عبد البر في [شرح الموطأ] ـ لما تكلم على حديث النزول ـ قال: هذا حديث لم يختلف أهل الحديث في صحته، وفيه دليل أن اللّه في السماء على العرش من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة ـ قال: وهذا أشهر عند الخاصة والعامة، وأعرف من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم.
وقال أبو عمر ـ أيضًا ـ: أجمع علماء الصحابة والتابعين، الذين حمل عنهم التأويل، قالوا في تأويل قوله: "مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ" [المجادلة:7]: هو على العرش وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله. فهذا ما تلقاه الخلف عن السلف؛ إذ لم ينقل عنهم غير ذلك؛ إذ هو الحق الظاهر الذي دلت عليه الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، فنسأل اللّه العظيم أن يختم لنا بخير ولسائر المسلمين، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، بمنه وكرمه، إنه أرحم الراحمين، والحمد للّه وحده.