ج/ 5 ص -121-سئل شيخ الإسلام ـ قدس اللّه روحه ـ عن علو اللّه ـ تعالى ـ واستوائه على عرشه
فأجاب:
قد وصف اللّه ـ تعالى ـ نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله بالعلو والاستواء على العرش، والفوقية، في كتابه في آيات كثيرة، حتى قال بعض أكابرأصحاب الشافعي: في القرآن ألف دليل أو أزيد، تدل على أن اللّه ـ تعالى ـ عال على الخلق، وأنه فوق عباده.
وقال غيره: فيه ثلاثمائة دليل تدل على ذلك؛ مثل قوله: "إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ" [الأعراف:206]،"وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ" [الأنبياء: 91]؛ فلو كان المراد بأن معنى عنده في قدرته ـ كما يقول الجهمي ـ لكان الخلق كلهم عنده؛ فإنهم كلهم في قدرته ومشيئته، ولم يكن فرق بين من في السموات ومن في الأرض ومن عنده.
كما أن الاستواء على العرش لو كان المراد به الاستيلاء عليه، لكان مستويا على جميع المخلوقات، ولكان مستويا على العرش قبل أن يخلقه دائمًا، والاستواء
ج/ 5 ص -122-مختص بالعرش بعد خلق السموات والأرض، كما أخبر بذلك في كتابه، فدل على أنه تارة كان مستويا عليه، وتارة لم يكن مستويا عليه؛ ولهذا كان العلو من الصفات المعلومة بالسمع مع العقل والشرع عند الأئمة المثبتة، وأما الاستواء على العرش، فمن الصفات المعلومة بالسمع فقط دون العقل.
والمقصود أنه ـ تعالى ـ وصف نفسه بالمعية وبالقرب. والمعية معيتان: عامة، وخاصة. فالأولى قوله تعالى: "وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ" [الحديد:4]. والثانية قوله تعالى: "إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ" [النحل: 128]، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما القرب فهو كقوله: "فَإِنِّي قَرِيبٌ"[البقرة:186]، وقوله: "وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ" [الواقعة:58]
وافترق الناس في هذا المقام أربع فرق:
فـ[الجهمية] النفاة الذين يقولون: لا هو داخل العالم ولا خارج العالم، ولا فوق ولا تحت، لا يقولون بعلوه ولا بفوقيته، بل الجميع عندهم متأول أو مفوض، وجميع أهل البدع قد يتمسكون بنصوص؛كالخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة وغيرهم، إلا الجهمية، فإنه ليس معهم عن الأنبياء كلمة واحدة توافق ما يقولونه من النفي.
ولهذا قال ابن المبارك، ويوسف بن أسباط: الجهمية خارجون عن
ج/ 5 ص -123-الثلاث وسبعين فرقة، وهذا أعدل الوجهين لأصحاب أحمد، ذكرهما أبو عبد اللّه بن حامد وغيره.
وقسم ثان: يقولون: إنه بذاته في كل مكان، كما يقول ذلك النجارية، وكثير من الجهمية عبادهم، وصوفيتهم،وعوامهم. ويقولون: إنه عين وجود المخلوقات، كما يقوله [أهل الوحدة] القائلون بأن الوجود واحد، ومن يكون قوله مركبًا من الحلول والاتحاد.
وهم يحتجون بنصوص المعية والقرب، ويتأولون نصوص العلو والاستواء، وكل نص يحتجون به حجة عليهم؛ فإن المعية أكثرها خاصة بأنبيائه وأوليائه، وعندهم أنه في كل مكان، وفي نصوصهم ما يبين نقيض قولهم، فإنه قال: "سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" [الحديد:1]، فكل من في السموات والأرض يسبح، والمسبِّح غير المسبَّح، وقال: "لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" [الحديد: 2]، فبين أن الملك له، ثم قال: "هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" [الحديد:3]. وفي الصحيح: (أنت الأول فليس قبلك شيء ). .. إلخ.
فإذا كان هو الأول، كان هناك ما يكون بعده، وإذا كان آخرًا، كان هناك ما الرب بعده، وإذا كان ظاهرًا ليس فوقه شيء، كان هناك ما الرب ظاهر عليه، وإذا كان باطنًا ليس دونه شيء، كان هناك أشياء نفي عنها أن تكون دونه.
ج/ 5 ص -124-
ج/ 5 ص -125-وكذلك ذكر الخطيب البغدادي: أن جماعة أنكروا على أبي طالب بعض كلامه في الصفات.
وهذا ـ الصنف الثالث ـ وإن كان أقرب إلى التمسك بالنصوص، وأبعد عن مخالفتها من الصنفين الأولين، فإن الأول لم يتبع شيئًا من النصوص، بل خالفها كلها.
والثاني: ترك النصوص الكثيرة، المحكمة المبينة، وتعلق بنصوص قليلة اشتبهت عليه معانيها.
وأما هذا الصنف فيقول: أنا اتبعت النصوص كلها، لكنه غالط أيضًا، فكل من قال: إن اللّه بذاته في كل مكان فهو مخالف للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة وأئمتها، مع مخالفته لما فطر اللّه عليه عباده، ولصريح المعقول وللأدلة الكثيرة.
وهؤلاء يقولون أقوالًا متناقضة. يقولون: إنه فوق العرش. ويقولون: نصيب العرش منه كنصيب قلب العارف؛ كما يذكر مثل ذلك أبو طالب وغيره، ومعلوم أن قلب العارف نصيبه منه المعرفة والإيمان، وما يتبع ذلك. فإن قالوا: إن العرش كذلك نقضوا قولهم: إنه نفسه فوق العرش. وإن قالوا بحلوله بذاته في قلوب العارفين، كان ذلك قولا بالحلول الخاص.
ج/ 5 ص -126-وقد وقع طائفة من الصوفية ـ حتى صاحب [منازل السائرين] في توحيده المذكور في آخر المنازل ـ في مثل هذا الحلول؛ ولهذا كان أئمة القوم يحذرون عن مثل هذا.
سئل الجنيد عن التوحيد. فقال: هو إفراد الحدوث عن القِدَم. فبين أنه لابد للموحد من التمييز بين القديم الخالق والمحدَث المخلوق، فلا يخلط أحدهما بالآخر. وهؤلاء يقولون في أهل المعرفة ما قالته النصارى في المسيح، والشيعة في أئمتها، وكثير من الحلولية والإباحية ينكر على الجنيد وأمثاله ـ من شيوخ أهل المعرفة المتبعين للكتاب والسنة ـ ما قالوه من نفي الحلول، وما قالوه في إثبات الأمر والنهي، ويرى أنهم لم يكملوا معرفة الحقيقة كما كملها هو وأمثاله من الحلولية والإباحية.
الرابع: هم سلف الأمة وأئمتها، أئمة أهل العلم والدين من شيوخ العلم والعبادة، فإنهم أثبتوا وآمنوا بجميع ما جاء به الكتاب والسنة، من غير تحريف للكلم عن مواضعه، أثبتوا أن اللّه فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، وهم بائنون منه.
وهو ـ أيضًا ـ مع العباد عمومًا بعلمه، ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية، وهو ـ أيضًا ـ قريب مجيب، ففي آية النجوى دلالة على أنه عالم بهم.
وكان النبي ﷺ يقول: (اللهم أنت الصاحب في السفر،
ج/ 5 ص -127-والخليفة في الأهل) فهو مع المسافر في سفره، ومع أهله في وطنه، ولا يلزم من هذا أن تكون ذاته مختلطة بذواتهم، كما قال: "مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ" [الفتح:29] أي: على الإيمان، لا أن ذاته في ذاتهم، بل هم مصاحبون له.
وقَوله: "فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ" [النساء:146] يدل على موافقتهم في الإيمان وموالاتهم، فاللّه ـ تعالى ـ عالم بعباده، وهو معهم أينما كانوا وعلمه بهم من لوازم المعية؛ كما قالت المرأة: زوجي طويل النَّجَاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد!! فهذا كله حقيقة، ومقصودها: أن تعرف لوازم ذلك، وهو طول القامة، والكرم بكثرة الطعام؛ وقرب البيت من موضع الأضياف.
وفي القرآن: "أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ" [الزخرف:80]، فإنه يراد برؤيته وسمعه إثبات علمه بذلك، وأنه يعلم هل ذلك خير أو شر؟ فيثيب على الحسنات ويعاقب على السيئات. وكذلك إثبات القدرة على الخلق؛ كقوله: "وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء" [العنكبوت:22]، وقوله: "أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ" [العنكبوت:4]، والمراد التخويف بتوابع السيئات ولوازمها من العقوبة والانتقام.
وهكذا كثير مما يصف الرب نفسه بالعلم بأعمال العباد؛ تحذيرًا وتخويفًا ورغبة للنفوس في الخير. ويصف نفسه بالقدرة، والسمع، والرؤية، والكتاب. فمدلول اللفظ مراد منه، وقد أريد ـ أيضًا ـ لازم ذلك المعنى. فقد أريد ما يدل
ج/ 5 ص -128-عليه اللفظ في أصل اللغة بالمطابقة والالتزام؛ فليس اللفظ مستعملًا في اللازم فقط بل أريد به مدلوله الملزوم، وذلك حقيقة.
وأما القرب فذكره تارة بصيغة المفرد، كقوله: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ" [البقرة:186]، وفي الحديث: (ارْبَعُوا على أنفسكم) إلى أن قال: (إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته).
وتارة بصيغة الجمع كقوله: "وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ" [ق:16]، وهذا مثل قوله: "نَتْلُوا عَلَيْكَ" [القصص:3]، و"نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ" [يوسف:3]، و"إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ" [القيامة:17]، و"ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ" [القيامة:19]، فالقراءة هنا حين يسمعه من جبريل، والبيان هنا بيانه لمن يبلغه القرآن.
ومذهب سلف الأمة وأئمتها وخلفها: أن النبي ﷺ سمع القرآن من جبريل، وجبريل سمعه من اللّه ـ عز وجل. وأما قوله: "نَتْلُوا"، و"نَقُصُّ" ونحوه، فهذه الصيغة في كلام العرب للواحد العظيم، الذي له أعوان يطيعونه، فإذا فعل أعوانه فعلًا بأمره قال: نحن فعلنا. كما يقول الملك: نحن فتحنا هذا البلد. وهو منا هذا الجيش ونحو ذلك.
ومن هذا الباب قوله تعالى: "اللَّهُ يَتَوَفى الْأَنفُسَ" [الزمر:42]، فإنه سبحانه يتوفاها برسله الذين مقدمهم ملك الموت، كما قال: "تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا" [الأنعام: 61]، "قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ" [السجدة: 11]، وكذلك ذوات الملائكة تقرب من المحتضر، وقوله: "وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ" [ق:16].
ج/ 5 ص -129-فإنه ـ سبحانه وتعالى ـ هو وملائكته يعلمون ما توسوس به نفس العبد، من حسنة وسيئة، والهم في النفس قبل العمل. فقوله: "وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ" [ق:16] هو قرب ذوات الملائكة، وقرب علم اللّه؛ فذاتهم أقرب إلى قلب العبد من حبل الوريد؛ فيجوز أن يكون بعضهم أقرب إلى بعضه من بعض؛ ولهذا قال في تمام الآية: "إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ" [ق:17]، فقوله: [إذ] ظرف. فأخبر أنهم أقرب إليه من حبل الوريد حين يتلقى المتلقيان ما يقول. فهذا كله خبر عن الملائكة.
وقوله: "فَإِنِّي قَرِيبٌ" [البقرة:186]، و(هو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)، هذا إنما جاء في الدعاء، لم يذكر أنه قريب من العباد في كل حال، وإنما ذكر ذلك في بعض الأحوال، كما في الحديث: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) ونحو ذلك.
وقوله: (من تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)، فقرب الشيء من الشيء مستلزم لقرب الآخر منه، لكن قد يكون قرب الثاني هو اللازم من قرب الأول، ويكون منه ـ أيضًا ـ قرب بنفسه.
فالأول: كمن تقرب إلى مكة، أو حائط الكعبة، فكلما قرب منه قرب الآخر منه، من غير أن يكون منه فعل.
ج/ 5 ص -130-والثاني: كقرب الإنسان إلى من يتقرب هو إليه، كما تقدم في هذا الأثر الإلهي. فتقرب العبد إلى اللّه، وتقريبه له نطقت به نصوص متعددة، مثل قوله: "أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ" [الإسراء:57] ونحو ذلك، فهذا قرب الرب نفسه إلى عبيده، وهو مثل نزوله إلى سماء الدنيا.
وفي الحديث الصحيح: (أن اللَّه ـ تعالى ـ يدنو عَشِيَّة عَرَفَة، ويباهي الملائكة بأهل عرفة)، فهذا القرب كله خاص في بعض الأحوال دون بعض، وليس في الكتاب والسنة ـ قط ـ قرب ذاته من جميع المخلوقات في كل حال، فعلم بذلك بطلان قول الحلولية؛ فإنهم عمدوا إلى الخاص المقيد فجعلوه عامًا مطلقًا، كما جعل إخوانهم الاتحادية ذلك في مثل قوله: (كنت سمعه) وقوله: (فيأتيهم في صورة غير صورته)، وأن اللَّهَ ـ تعالى ـ قال على لسان نبيه: (سمع اللّه لمن حمده)، وكل هذه النصوص حجة عليهم.
فإذا تبين ذلك؛ فالداعي والساجد يوجه روحه إلى اللّه ـ تعالى ـ والروح لها عروج يناسبها. فتقرب إلى اللّه بلا ريب بحسب تخلصها من الشوائب، فيكون اللّه ـ عز وجل ـ منها قريبًا قربًا يلزم من تقربها، ويكون منه قرب آخر، كقربه عشية عرفة، وفي جوف الليل، وإلى من تقرب منه شبرًا تقرب منه ذراعًا. والناس في آخر الليل يكون في قلوبهم من التوجه، والتقرب، والرقة، مالا يوجد في غير
ج/ 5 ص -131-ذلك الوقت. وهذا مناسب لنزوله إلى سماء الدنيا، وقوله: (هل من داع؟ هل من سائل؟ هل من تائب؟).
ثم إن هذا النزول: هل هو كدنوه عشية عرفة، لا يحصل لغير الحاج في سائر البلاد ـ إذ ليس بها وقوف مشروع، ولا مباهاة الملائكة، وكما أن تفتيح أبواب الجنة، وتغليق أبواب النار، وتصفيد الشياطين إذا دخل شهر رمضان، إنما هو للمسلمين الذين يصومون رمضان؛ لا الكفار الذين لا يرون له حرمة، وكذلك اطلاعه يوم بدر، وقوله لهم: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْْ) كان مختصًا بأولئك ـ أم هو عام؟ فيه كلام ليس هذا موضعه. والكلام في هذا القرب من جنس الكلام في نزوله كل ليلة، ودنوه عشية عرفة، وتكليمه لموسى من الشجرة،وقوله: "أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا" [النمل:8]. وقد ذكرنا في غير هذا الموضع ما قاله السلف في مثل ذلك؛ مثل حماد بن زيد، وإسحاق بن راهويه، وغيرهما، من أنه ينزل إلى سماء الدنيا ولا يخلو منه العرش، وبينا أن هذا هو الصواب، وإن كان طائفة ممن يدعى السنة يظن خلو العرش منه.
وقد صنف أبوالقاسم عبد الرحمن بن مندة في ذلك مصنفًا، وزيف قول من قال: ينزل ولا يخلو منه العرش، وضعف ما قيل في ذلك عن أحمد بن حنبل
ج/ 5 ص -132-في رسالته إلى مُسَدَّد، وطعن في هذه الرسالة. وقال: إنها مكذوبة على أحمد وتكلم على راويها البردعي أحمد بن محمد. وقال: إنه مجهول لا يعرف في أصحاب أحمد.
وطائفة تقف، لا تقول: يخلو، ولا: لا يخلو، وتنكر على من يقول ذلك. منهم: الحافظ عبد الغني المقدسي.
وأما من يتوهم أن السموات تنفرج ثم تلتحم، فهذا من أعظم الجهل، وإن وقع فيه طائفة من الرجال.
والصواب: قول السلف؛ أنه ينزل ولا يخلو منه العرش؟ وروح العبد في بدنه لا تزال ليلًا ونهارًا إلى أن يموت، ووقت النوم تعرج، وقد تسجد تحت العرش، وهي لم تفارق جسده. وكذلك أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، وروحه في بدنه، وأحكام الأرواح مخالف لأحكام الأبدان، فكيف بالملائكة؟! فكيف برب العالمين؟!
والليل يختلف، فيكون ثلث الليل بالمشرق قبل ثلثه بالمغرب، ونزوله الذي أخبر به رسوله إلى سماء هؤلاء في ثلث ليلهم،وإلى سماء هؤلاء في ثلث ليلهم،لا يشغله شأن عن شأن، وكذلك ـ سبحانه ـ لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، بل هو سبحانه يكلم العباد يوم القيامة ويحاسبهم، لا يشغله هذا عن هذا.
ج/ 5 ص -133-وقد قيل لابن عباس: كيف يكلمهم يوم القيامة كلهم في ساعة واحدة؟ قال: كما يرزقهم كلهم في ساعة واحدة. واللّه ـ سبحانه ـ في الدنيا يسمع دعاء الداعين، ويجيب السائلين، مع اختلاف اللغات، وفنون الحاجات، والواحد منا قد يكون له قوة سمع يسمع كلام عدد كثير من المتكلمين، كما أن بعض المقرئين يسمع قراءة عدة، لكن لا يكون إلا عددًا قليلًا قريبًا منه، ويجد في نفسه قربًا ودنوًا، وميلًا إلى بعض الناس الحاضرين والغائبين دون بعض، ويجد تفاوت ذلك الدنو والقرب.
والرب ـ تعالى ـ واسع عليم، وسع سمعه الأصوات كلها، وعطاؤه الحاجات كلها.
ومن الناس من غلط فظن أن قربه من جنس حركة بدن الإنسان، إذا مال إلى جهة انصرف عن الأخرى، وهو يجد عمل روحه يخالف عمل بدنه؛ فيجد نفسه تقرب من نفوس كثيرين من الناس، من غير أن ينصرف قربها إلى هذا عن قربها إلى هذا.
وبالجملة فقرب الرب من قلوب المؤمنين، وقرب قلوبهم منه، أمر معروف لا يجهل؛ فإن القلوب تصعد إليه على قدر ما فيها من الإيمان والمعرفة، والذكر والخشية والتوكل. وهذا متفق عليه بين الناس كلهم، بخلاف القرب
ج/ 5 ص -134-
ج/ 5 ص -135-وإذا كان الرجل قد حصل له إيمان يعبد اللّه به، وأتى آخر بأكثر من ذلك عجز عنه الأول، لم يحمل ما لا يطيق، وإن يحصل له بذلك فتنة، لم يحدث بحديث يكون له فيه فتنة.
فهذا أصل عظيم في تعليم الناس ومخاطبتهم، والخطاب العام بالنصوص التي اشتركوا في سماعها؛ كالقرآن والحديث المشهور، وهم مختلفون في معنى ذلك. واللّه ـ تعالى ـ أعلم.