ج/ 4 ص -489-سُئلَ عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد، ومنهم من يقول: إن الدين فسد من قبل هذه، وهو من حين أخذت الخلافة من علي بن أبي طالب، فإن الذين تولوا مكانه لم يكونوا أهلا للولاية، فلم تصح توليتهم، ولم يصح للمسلمين بعد ذلك عقد من عقودهم، لا عقد نكاح ولا غيره، وأن جميع من تزوج بعد تلك الواقعة فنكاحه فاسد، وكذلك العقود جميعها فاسدة، والولايات وغيرها.
ويزعم قائل هذا: أن اللّه صليب، وأن كل حرف من الجلالة على رأس خط من خطوط الصليب، ويقرر للناس أن اليهود والنصارى على حق، وكذلك المجوس وغيرهم!!
فأَجَابَ رحمه اللّه تعالى:
أما هذا الجاهل فهو شبيه في جهله بالرافضة، الذين يكذبون، وخرافاتهم التي لا تروج إلا على جاهل لا يعرف أصول الإسلام، كالذين ذكروا في هذا السؤال.
وقيل: إنهم يقولون: إن الدين فسد من حين أخذت الخلافة من علي، وذلك
ج/ 4 ص -490-من حين موت النبي ﷺ، وأن الخلفاء الراشدين لم يكونوا أهلًا للولاية، وأن عقود المسلمين باطلة، وأن اللّه صليب، ويقرر دين اليهود والنصارى والمجوس، فإن هذا زنديق من شر الزنادقة، من جنس قرامطة الباطنية، كالنصيرية والإسماعيلية وأتباعهم.
ولهذا يتكلم بالتناقض، فإن من يقرر دين اليهود والنصارى والمجوس، ويطعن في دين الخلفاء الراشدين المهديين، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، لا يكون إلا من أجهل الناس وأكفرهم، ولو كان من المؤمنين، الذين يعلمون أن هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، وأن خير الأمة القرن الأول، ثم الذين يلونه ثم الذين يلونه؛ لما كان مقررًا لدين الكفار، طاعنًا في دين المهاجرين والأنصار، والرد على هذا ونحوه مبسوط في غير هذا الموضع.
وقد ذكرنا في ذلك في الرد على الرافضة ما لا يتسع له هذا الموضع.
ومثل هذا القول لا يقوله من يؤمن بأن محمدًا رسول اللّه، فنجيب من يقر أن محمدًا رسول اللّه، فنبين له مما جاء به ما يزيل شبهته، فأما من يطعن في نبوته، فنكلمه من وجه آخر، ولكل مقام مقال.
ج/ 4 ص -491-سُئلَ رَحمَهُ اللَّه :
هل يصح عند أهل العلم: أن عليًا رضي اللّه عنه قاتل الجن في البئر؟ ومدَّ يده يوم خيبر، فعبر العسكر عليها؟ وأنه حمل في الأحزاب فافترقت قدامه سبع عشرة فرقة؟ وخلف كل فرقة رجل يضرب بالسيف يقول: أنا علي؟ وأنه كان له سيف يقال له: ذو الفقار، وكان يمتد ويقصر، وإنه ضرب به مرحبًا وكان على رأسه جُرْن من رخام فقصم له ولفرسه بضربة واحدة، ونزلت الضربة في الأرض، ومناد ينادي في الهواء: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا عليّ؟ وأنه رمي في المنجنيق إلى حصن الغراب؟ وأنه بعث إلى كل نبي سرًا، وبعث مع النبي ﷺ جهرًا؟ وأنه كان يحمل في خمسين ألفًا، وفي عشرين ألفًا، وفي ثلاثين ألفًا وحده؟ وأنه لما برز إليه مرحب من خيبر ضربه ضربة واحدة فَقَدَّه [أي: قطعة] طولًا، وقد الفرس عرضًا، ونزل السيف في الأرض ذراعين أو ثلاثة؟ وأنه مسك حلقة باب خيبر وهزها فاهتزت المدينة، ووقع من على السور شرفات، فهل صح من ذلك شىء؟!
فَأَجَاب:
الحمد للّه، هذه الأمور المذكورة كذب مُخْتَلَقٌ باتفاق أهل العلم والإيمان،
ج/ 4 ص -492-لم يقاتل عليّ ولا غيره من الصحابة الجن، ولا قاتل الجنَّ أحدٌ من الإنس، لا في بئر ذات العلم ولا غيرها.
والحديث المروي في قتاله للجن موضوع مكذوب باتفاق أهل المعرفة، ولم يقاتل عليّ قط على عهد رسول اللّه ﷺ لعسكر كان خمسين ألفًا أو ثلاثين ألفًا، فضلا عن أن يكون وحده قد حمل فيهم، ومغازيه التي شهدها مع رسول اللّه وقاتل فيها كانت تسعة: بدرًا، وأحدًا، والخندق، وخيبر، وفتح مكة، ويوم حنين، وغيرها.
وأكثر ما يكون المشركون في الأحزاب وهي الخندق، وكانوا محاصرين للمدينة، ولم يقتتلوا هم والمسلمون كلهم، وإنما كان يقتتل قليل منهم وقليل من الكفار، وفيها قتل عليّ عمرو بن عَبْد ود العامري، ولم يبارز عليّ وحده قط إلا واحدًا، ولم يبارز اثنين.
وأما مرحب يوم خيبر، فقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال: (لأعطين الراية رجلًا يحب اللّهَ ورسولَه، ويحبه اللّهُ ورسولُه، يفتح اللّه على يديه)، فأعطاها لعلي، وكانت أيام خيبر أيامًا متعددة، وحصونها، فتح على يد عليّ رضي اللّه عنه بعضها.
وقد روي أثر أنه قتل مرحبًا، وروي أنه قتله محمد بن مسلمة، ولعلهما مرحبان، وقتله القتل المعتاد، ولم يقده جميعه، ولا قد الفرس، ولا نزل
ج/ 4 ص -493-السيف إلى الأرض، ولا نزل لعلي ولا لغيره سيف من السماء، ولا مد يده ليعبر الجيش، ولا اهتز سور خيبر لقلع الباب، ولا وقع شىء من شرفاته، وإن خيبر لم تكن مدينة وإنما كانت حصونًا متفرقة، ولهم مزارع.
ولكن المروي أنه ما قلع باب الحصن حتى عبره المسلمون، ولا رمي في منجنيق قط، وعامة هذه المغازي التي تروى عن عليّ وغيره، قد زادوا فيها أكاذيب كثيرة، مثل ما يكذبون في سيرة عنترة والأبطال. وجميع الحروب التي حضرها علي رضي اللّه عنه بعد وفاة رسول اللّه ﷺ ثلاثة حروب: الجمل، وصفين، وحرب أهل النهروان، واللّه أعلم.
ج/ 4 ص -494-سُئِل عمن قال:
إن عليا قاتل الجن في البئر، وأنه حمل على اثني عشر ألفًا وهزمهم.
فَأَجَاب:
لم يحمل أحد من الصحابة وحده لا في اثني عشر ألفًا ولا في عشرة آلاف، لا علي ولا غيره، بل أكثر عدد اجتمع على النبي ﷺ هم الأحزاب الذين حاصروه بالخندق، وكانوا قريبًا من هذه العدة، وقتل علي رجلا من الأحزاب اسمه: عمرو بن عبد ودٍ العامري.
ولم يقاتل أحد من الإنس للجن، لا علىٌّ ولا غيره، بل عليٌّ كان أجل قدرًا من ذلك، والجن الذين يتبعون الصحابة يقاتلون كفار الجن، لا يحتاجون في ذلك إلى قتال الصحابة معهم.
ج/ 4 ص -495-سُئل عن فاطمة أنها أتت النبي ﷺ، وقالت: يارسول اللّه، إن عليًا يقوم الليالي كلها إلا ليلة الجمعة، فإنه يصلي الوِتْر، ثم ينام إلى أن يطلع الفجر فقال: (إن اللّه يرفع روح علي كل ليلة جمعة تسبح في السماء إلى طلوع الفجر) فهل ذلك صحيح أم لا؟ وهل هذا صحيح عن علي أنه قال: اسألوني عن طرق السماء، فإني أعرف بها من طرق الأرض؟
فأجَاب:
وأما الحديث المذكور عن علي فكذب، ما رواه أحد من أهل العلم.
وأما قوله: (اسألوني عن طرق السماء) فإنه قاله، ولم يرد بذلك طريقًا للهدى، وإنما يريد بمثل هذا الكلام الأعمال الصالحة التي يتقرب بها، واللّه أعلم.
ج/ 4 ص -496-سُئلَ رَحمَهُ اللَّهُ عن رجل قال عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه ليس من أهل البيت، ولا تجوز الصلاة عليه، والصلاة عليه بدعة.
فأَجَاب:
أما كون علي بن أبي طالب من أهل البيت، فهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين، وهو أظهر عند المسلمين من أن يحتاج إلى دليل، بل هو أفضل أهل البيت، وأفضل بني هاشم بعد النبي ﷺ، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه أدار كساءه على علىّ وفاطمة، وحَسَن، وحسين، فقال: (اللّهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرِّجْس وطهرهم تطهيرًا).
وأما الصلاة عليه منفردًا، فهذا ينبني على أنه هل يصلى على غير النبي ﷺ منفردًا ؟ مثل أن يقول: اللهم صل على عمر أو علي. وقد تنازع العلماء في ذلك.
فذهب مالك، والشافعي، وطائفة من الحنابلة إلى أنه لا يصلي على غير النبي ﷺ منفردًا، كما روي عن ابن عباس أنه قال: لا أعلم الصلاة تنبغي علَى أحد إلا على النبي ﷺ.
ج/ 4 ص -497-وذهب الإمام أحمد وأكثر أصحابه إلى أنه لا بأس بذلك؛ لأن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال لعمر بن الخطاب: صلى اللّه عليك، وهذا القول أصح وأولى.
ولكن إفراد واحد من الصحابة والقرابة كعلي أو غيره بالصلاة عليه دون غيره مضاهاة للنبي ﷺ، بحيث يجعل ذلك شعارًا معروفًا باسمه، هذا هو البدعة.
ج/ 4 ص -498-سُئِلَ شَيْخُ الإسْلام قدس اللّهَ رُوحَهُ:
هل صح عند أحد من أهل العلم والحديث، أو من يقتدى به في دين الإسلام، أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال: إذا أنا مت فأركبوني فوق ناقتي وسيبوني، فأينما بركت ادفنوني، فسارت ولم يعلم أحد قبره؟ فهل صح ذلك أم لا؟ وهل عرف أحد من أهل العلم أين دفن أم لا؟ وما كان سبب قتله؟ وفي أي وقت كان ؟ ومن قتله؟
ومن قتل الحسين؟ وما كان سبب قتله؟ وهل صح أن أهل بيت النبي ﷺ سُبُوا؟ وأنهم أركبوا على الإبل عراة، ولم يكن عليهم ما يسترهم، فخلق اللّه تعالى للإبل التي كانوا عليها سنامين استتروا بها. وأن الحسين لما قطع رأسه داروا به في جميع البلاد، وأنه حمل إلى دمشق، وحمل إلى مصر ودفن بها؟ وأن يزيد بن معاوية هو الذي فعل هذا بأهل البيت، فهل صح ذلك أم لا ؟
وهل قائل هذه المقالات مبتدع بها في دين اللّه؟ وما الذي يجب عليه إذا
ج/ 4 ص -499-تحدث بهذا بين الناس؟ وهل إذا أنكر هذا عليه منكر هل يسمى آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر أم لا؟ أفتونا مأجورين، و بينوا لنا بيانًا شافيا.
فَأَجَاب:
الحمد للّه رب العالمين، أما ما ذكر من توصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه إذا مات أركب فوق دابته وتسيب، ويدفن حيث تبرك، وأنه فعل ذلك به، فهذا كذب مختلق باتفاق أهل العلم، لم يوص علي بشىء من ذلك، ولا فعل به شيء من ذلك، ولم يذكر هذا أحد من المعروفين بالعلم والعدل، وإنما يقول ذلك من ينقل عن بعض الكذابين.
ولا يحل أن يفعل هذا بأحد من موتى المسلمين، ولا يحل لأحد أن يوصي بذلك، بل هذا مُثْلَة بالميت، ولا فائدة في هذا الفعل، فإنه إن كان المقصود تعمية قبره، فلابد إذا بركت الناقة من أن يحفر له قبر ويدفن فيه، وحينئذ يمكن أن يحفر له قبر ويدفن به بدون هذه المثلة القبيحة، وهو أن يترك ميتًا على ظهر دابة تسير في البرية.
وقد تنازع العلماء في موضع قبره. والمعروف عند أهل العلم أنه دفن بقصر الإمارة بالكوفة، وأنه أخفى قبره لئلًا ينبشه الخوارج الذين كانوا يكفرونه ويستحلون قتله فإن الذي قتله واحد من الخوارج، وهو عبد الرحمن
ج/ 4 ص -500-ابن مِلْجَم المرادي، وكان قد تعاهد هو وآخران على قتل علي وقتل معاوية، وقتل عمرو بن العاص، فإنهم يكفرون هؤلاء كلهم، وكل من لا يوافقهم على أهوائهم.
وقد تواترت النصوص عن النبي ﷺ بذمهم. خرج مسلم في صحيحه حديثهم من عشرة أوجه، وخرجه البخاري من عدة أوجه، وخرجه أصحاب السنن والمساند من أكثر من ذلك. قال ﷺ فيهم: (يَحْقِر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمِيَّة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد وفي رواية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم عند اللّه يوم القيامة، يقتلون أهل الإسلام).
وهؤلاء اتفق الصحابة رضي اللّه عنهم على قتالهم، لكن الذي باشر قتالهم وأمر به، علي رضي اللّه عنه كما في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي ﷺ قال:(تمرق مارقة على حين فُرْقَةٍ من الناس، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق) فقتلهم علي رضي اللّه عنه بالنَّهْرَوان، وكانوا قد اجتمعوا في مكان يقال له: حَرُورَاء؛ ولهذا يقال لهم: الحرورية.
وأرسل إليهم ابن عباس فناظرهم حتى رجع منهم نحو نصفهم، ثم إن الباقين قتلوا عبد اللّه بن خَبَّاب، وأغاروا على سرح المسلمين، فأمر
ج/ 4 ص -501-علي الناس بالخروج إلى قتالهم. وروى لهم أمر النبي ﷺ بقتالهم وذكر العلامة التي فيهم: أن فيهم رجلًا مُخْدَجَ اليدين ناقص اليد على ثديه مثل البضعة من اللحم تَدَرْدَر. ولما قتلوا وجد فيهم هذا المنعوت.
فلما اتفق الخوارج الثلاثة على قتل أمراء المسلمين الثلاثة، قتل عبد الرحمن بن ملجم عليًا رضي اللّه عنه يوم الجمعة سابع عشر، شهر رمضان، عام أربعين، اختبأ له، فحين خرج لصلاة الفجر ضربه، وكانت السنة أن الخلفاء ونوابهم الأمراء الذين هم ملوك المسلمين، هم الذين يصلون بالمسلمين الصلوات الخمس، والجمع والعيدين، والاستسقاء والكسوف، ونحو ذلك كالجنائز، فأمير الحرب هو أمير الصلاة الذي هو إمامها.
وأما الذي أراد قتل معاوية فقالوا: إنه جرحه، فقال الطبيب: إنه يمكن علاجك، لكن لا يبقى لك نسل، ويقال: إنه من حينئذ اتخذ معاوية المقصورة في المسجد، واقتدى به الأمراء؛ ليصلوا فيها هم وحاشيتهم، خوفًا من وثوب بعض الناس على أمير المؤمنين وقتله، وإن كان قد فعل فيها مع ذلك ما لا يسوغ، وكره من كره الصلاة في نحو هذه المقاصير.
وأما الذي أراد قتل عمرو بن العاص، فإن عمرًا كان قد استخلف ذلك اليوم رجلا اسمه خارجة فظن الخارجي أنه عمرو فقتله، فلما تبين له قال: أردت عمرًا وأراد اللّه خارجة، فصارت مثلا.
ج/ 4 ص -502-فقيل: إنهم كتموا قبر علي وقبر معاوية وقبر عمرو خوفًا عليهم من الخوارج؛ ولهذا دفنوا معاوية داخل الحائط القبلي من المسجد الجامع في قصر الإمارة، الذي كان يقال له الخضراء، وهو الذي تسميه العامة قبر هود، وهود باتفاق العلماء لم يجئ إلى دمشق، بل قبره ببلاد اليمن حيث بعث، وقيل: بمكة حيث هاجر، ولم يقل أحد: إنه بدمشق.
وأما معاوية الذي هو خارج باب الصغير، فإنه معاوية بن يزيد، الذي تولى نحو أربعين يومًا، وكان فيه زهد ودين. فعلي دفن هناك وعفي قبره؛ فلذلك لم يظهر قبره.
وأما المشهد الذي بالنَّجف، فأهل المعرفة متفقون على أنه ليس بقبر علي، بل قيل: إنه قبر المغيرة بن شعبة، ولم يكن أحد يذكر أن هذا قبر علي، ولا يقصده أحد أكثر من ثلاثمائة سنة، مع كثرة المسلمين من أهل البيت، والشيعة وغيرهم، وحكمهم بالكوفة.
وإنما اتخذوا ذلك مشهدًا في ملك بني بويه الأعاجم بعد موت علي بأكثر من ثلاثمائة سنة، ورووا حكاية فيها: أن الرشيد كان يأتي إلى تلك، وأشياء لا تقوم بها حجة.
وأما السؤال عن سَبْي أهل البيت وإركابهم الإبل حتى نبت لها سنامان وهي البَخَاتِيّ؛ ليستتروا بذلك، فهذا من أقبح الكذب وأبينه، وهو مما افتراه الزنادقة
ج/ 4 ص -503-والمنافقون، الذين مقصودهم الطعن في الإسلام، وأهله من أهل البيت، وغيرهم. فإن من سمع مثل هذا وشهرته وما فيه من الكذب قد يظن أو يقول: إن المنقول إلينا من معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء هو من هذا الجنس، ثم إذا تبين أن الأمة سَبتْ أهل بيت نبيها، كان فيها من الطعن في خير أمة أخرجت للناس ما لا يعلمه إلا اللّه؛ إذ كل عاقل يعلم أن الإبل البَخَاِتيّ كانت مخلوقة موجودة قبل أن يبعث اللّه النبي ﷺ، وقبل وجود أهل البيت، كوجود غيرها من الإبل والغنم، والبقر والخيل والبغال والمعز.
وإنما هذا الكذب نظير كذبهم بأن عليًا رضي اللّه عنه نصب يده بخيبر فوطئته البغلة، فقال لها: قطع اللّه نسلك، فإن كل عاقل يعلم أن البغلة لم يكن لها نسل قط. هذا مع أنهم لم يكن معهم بخيبر بغلة، بل لم يكن للمسلمين بغال، وأول بغلة صارت لهم التي أهداها المقوقس صاحب مصر للنبي ﷺ حتى مات وهي عنده.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: (صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما بعد: نساء كاسيات مائلات مُمِيلات، على رؤوسهن مثل أسْنِمَة البُخْت، لا يَدْخُلْنَ الجنة، ولا يَجِدْن ريحها، ورجال معهم سِياط مثل أذناب البقر، يضربون بها عباد اللّه).
فالنبي ﷺ شبه أصحاب العصائب الكبار التي ستكون بعد موته بأسنمة البخاتي، فلولا أنهم كانوا يعرفونها لم يفهموا، وهذه العصائب قد
ج/ 4 ص -504-ظهرت بعده بمدة طويلة في هذا الزمان ونحوه، ثم إن البخاتي لا يستتر راكبها إذا كان عاريًا، ولو شاء اللّه أن يستتر من عري بغيرحق لستره بما يصلح له، كما ستر إبراهيم الخليل لما جرد وألقى في المنجنيق.
ومما يبين ظهور الكذب في هذا، أن المسلمين ما زالوا يسبون الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، ومع هذا فما علم أنهم قط كانوا يرحلون النساء مجردات بادية أبدانهن، بل غاية ما يظهر من المرأة المسْبِيَّة وجهها، أو يداها، أو قدمها.
ولم يعلم في الإسلام أن أهل البيت سبى أحدًا منهم أحد من المسلمين في وقت من الأوقات، مع العلم بأنهم من أهل البيت، اللهم إلا أن يقع في أثناء ما تسبيه المسلمون من لا يعلم أنه من أهل البيت، كامرأة سباها العدو ثم استنقذها المسلمون، وإذا تبين أنها كانت حرة الأصل أرسلوها، وإن كان في ضمن ذلك من لا يعرف من يخفي نسبها ويستحل منها ما حرم اللّه من هو زنديق منافق، فاللّه أعلم بحقيقة ذلك، لكن لم يكن شىء من ذلك علانية في الإسلام قط.
وهذا مما يقوله هؤلاء الجهال، أن الحجاج بن يوسف قتل الأشراف وأراد قطع دابرهم، وهذا من الجهل بأحوال الناس، فإن الحجاج مع كونه مُبِيرًا [أي: مهلك يسرف في إهلاك الناس] سفاكًا للدماء قتل خلقًا كثيرًا لم يقتل من أشراف بني هاشم أحدًا قط، بل سلطانه عبد الملك بن مروان نهاه عن التعرض لبني هاشم وهم الأشراف، وذكر أنه أتى إلى الحرب لما تعرضوا لهم، يعني لما قتل الحسين.
ج/ 4 ص -505-ولا يعلم في خلافة عبد الملك والحجاج نائبه على العراق أنه قتل أحدًا من بني هاشم.
والذي يذكر لنا السبي أكثر ما يذكر مقتل الحسين وحمل أهله إلى يزيد، لكنهم جهال بحقيقة ما جرى، حتى يظن الظان منهم أن أهله حملوا إلى مصر، وأنهم قتلوا بمصر، وأنهم كانوا خلقًا كثيرًا، حتى إن منهم من إذا رأى موتى عليهم آثار القتل قال: هؤلاء من السبي الذين قتلوا، وهذا كله جهل وكذب. والحسين رضي اللّه عنه، ولعن من قتله، ورضي بقتله قتل يوم عاشوراء عام واحد وستين.
وكان الذي حض على قتله الشَّمِر بن ذي الجَوْشَن، صار يكتب في ذلك إلى نائب السلطان على العراق عبيد اللّه بن زياد، وعبيد اللّه هذا أمر بمقاتلة الحسين نائبه عمر ابن سعد بن أبي وقاص، بعد أن طلب الحسين منهم ما طلبه آحاد المسلمين لم يجئ معه مقاتلة، فطلب منهم أن يدعوه إلى أن يرجع إلى المدينة، أو يرسلوه إلى يزيد ابن عمه، أو يذهب إلى الثَّغْرِ يقاتل الكفار، فامتنعوا إلا أن يستأسر لهم أو يقاتلوه، فقاتلوه حتى قتلوه وطائفة من أهل بيته وغيرهم.
ثم حملوا ثقله وأهله إلى يزيد بن معاوية إلى دمشق، ولم يكن يزيد أمرهم بقتله، ولا ظهر منه سرور بذلك ورضى به، بل قال كلامًا فيه ذم لهم حيث نقل عنه أنه قال: لقد كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين، وقال:
ج/ 4 ص -506-لعن اللّه ابن مرْجَانة يعني عبيد اللّه بن زياد واللّه لو كان بينه وبين الحسين رحم لما قتله يريد بذلك الطعن في استلحاقه حيث كان أبوه زياد استلحق حتى كان ينتسب إلى أبي سفيان صخر بن حرب وبنو أمية وبنو هاشم كلاهما بنو عبد مناف.
وروى أنه لما قدم على يزيد ثقل الحسين وأهله ظهر في داره البكاء والصراخ لذلك، وأنه أكرم أهله، وأنزلهم منزلًا حسنًا، وخير ابنه عليًا بين أن يقيم عنده وبين أن يذهب إلى المدينة، فاختار المدينة، والمكان الذي يقال له سجن على بن الحسين بجامع دمشق باطل لا أصل له.
لكنه مع هذا لم يقم حد اللّه على من قتل الحسين رضي اللّه عنه ولا انتصر له، بل قتل أعوانه لإقامة ملكه، وقد نقل عنه أنه تمثل في قتل الحسين بأبيات تقتضي من قائلها الكفر الصريح، كقوله:
لما بدت تلك الحمول وأشرفت تلك الرؤوس إلى ربى جيرون
نعق الغراب فقلت نح أو لا تنح فلقد قضيت من النبي ديوني
وهذا الشعر كفر.
ولا ريب أن يزيد تفاوت الناس فيه، فطائفة تجعله كافرًا، بل تجعله هو وأباه كافرين؛ بل يكفرون مع ذلك أبا بكر وعمر، ويكفرون عثمان، وجمهور المهاجرين والأنصار. وهؤلاء الرافضة من أجهل خلق اللّه وأضلهم، وأعظمهم
ج/ 4 ص -507-كذبًا على اللّه عز وجل ورسوله والصحابة والقرابة وغيرهم، فكذبهم على يزيد مثل كذبهم على أبي بكر وعمر وعثمان، بل كذبهم على يزيد أهون بكثير .
وطائفة تجعله من أئمة الهدى، وخلفاء العدل، وصالح المؤمنين، وقد يجعله بعضهم من الصحابة، وبعضهم يجعله نبيًا، وهذا أيضًا من أبين الجهل والضلال، وأقبح الكذب والمحال، بل كان ملكًا من ملوك المسلمين له حسنات وسيئات، والقول فيه كالقول في أمثاله من الملوك، وقد بسطنا القول في هذا في غير هذا الموضع.
وأما الحسين رضي اللّه عنه فقتل بكَرْبِلاء قريب من الفرات، ودفن جسده حيث قتل، وحمل رأسه إلى قُدام عبيد اللّه بن زياد بالكوفة، هذا الذي رواه البخاري في صحيحه وغيره من الأئمة.
وأما حمله إلى الشام إلى يزيد، فقد روي ذلك من وجوه منقطعة لم يثبت شيء منها، بل في الروايات ما يدل على أنها من الكذب المختلق، فإنه يذكر فيها أن يزيد جعل ينكت بالقضيب على ثناياه، وأن بعض الصحابة الذين حضروه كأنس بن مالك، وأبي بَرْزَة أنكر ذلك، وهذا تلبيس، فإن الذي جعل ينكت بالقضيب إنما كان عبيد اللّه بن زياد، هكذا في الصحيح والمساند. وإنما جعلوا مكان عبيد اللّه بن زياد [يزيد]، وعبيد اللّه لا ريب أنه أمر بقتله، وحمل الرأس إلى بين يديه. ثم إن ابن زياد قتل بعد ذلك لأجل ذلك.
ج/ 4 ص -508-ومما يوضح ذلك أن الصحابة المذكورين كأنس وأبي برزة لم يكونوا بالشام، وإنما كانوا بالعراق حينئذ وإنما الكذابون جهال بما يستدل به على كذبهم.
وأما حمله إلى مصر فباطل باتفاق الناس، وقد اتفق العلماء كلهم على أن هذا المشهد الذي بقاهرة مصر الذي يقال له: مشهد الحسين باطل، ليس فيه رأس الحسين ولا شىء منه، وإنما أحدث في أواخر دولة بني عبيد اللّه بن القداح الذين كانوا ملوكًا بالديار المصرية مائتي عام، إلى أن انقرضت دولتهم في أيام نور الدين محمود وكانوا يقولون: إنهم من أولاد فاطمة، ويدعون الشرف. وأهل العلم بالنسب يقولون: ليس لهم نسب صحيح، ويقال: إن جدهم كان ربيب الشريف الحسيني فادعوا الشرف لذلك.
فأما مذاهبهم وعقائدهم، فكانت منكرة باتفاق أهل العلم بدين الإسلام، وكانوا يظهرون التشيع، وكان كثير من كبرائهم وأتباعهم يبطنون مذهب القرامطة الباطنية، وهو من أخبث مذاهب أهل الأرض، أفسد من اليهود والنصارى؛ ولهذا كان عامة من انضم إليهم أهل الزندقة والنفاق والبدع: المتفلسفة، والمباحية، والرافضة، وأشباه هؤلاء، ممن لا يستريب أهل العلم والإيمان في أنه ليس من أهل العلم والإيمان.
فأحدث هذا المشهد في المائة الخامسة، نقل من عسقلان، وعقيب ذلك بقليل انقرضت دولة الذين ابتدعوه بموت العاضد آخر ملوكهم.
ج/ 4 ص -509-والذي رجحه أهل العلم في موضع رأس الحسين بن علي رضي اللّه عنهما هو ما ذكره الزبير بن بكار في كتاب [أنساب قريش] والزبير بن بكار هو من أعلم الناس وأوثقهم في مثل هذا، ذكر أن الرأس حمل إلى المدينة النبوية ودفن هناك، وهذا مناسب، فإن هناك قبر أخيه الحسن، وعم أبيه العباس، وابنه علي وأمثالهم.
قال [أبو الخطاب] ابن دَحية الذي كان يقال له:[ذو النسبين بين دحية والحسين] في كتاب [العلم المشهور في فضل الأيام والشهور] لما ذكر ما ذكره الزبير بن بكار عن محمد بن الحسن: أنه قدم برأس الحسين وبنو أمية مجتمعون عند عمرو بن سعيد، فسمعوا الصياح فقالوا: ما هذا ؟ فقيل: نساء بني هاشم يبكين حين رأين رأس الحسين ابن علي، قال: وأتي برأس الحسين بن علي، فدخل به على عمرو فقال: واللّه لوددت أن أمير المؤمنين لم يبعث به إلي، قال ابن دحية: فهذا الأثر يدل أن الرأس حمل إلى المدينة ولم يصح فيه سواه، والزبير أعلم أهل النسب وأفضل العلماء بهذا السبب، قال: وما ذكر من أنه في عسقلان في مشهد هناك فشيء باطل، لا يقبله من معه أدنى مُسْكَة [المُسْكَة: ما يمسك الرَّمَق من الطعام والشراب، والمقصود هنا: من معه أدنى بقية من العقل] من العقل والإدراك، فإن بني أمية مع ما أظهروه من القتل والعداوة والأحقاد لا يتصور أن يبنوا على الرأس مشهدًا للزيارة.
هذا، وأما ما افتعله بنو عبيد في أيام إدبارهم، وحلول بوارهم، وتعجيل دمارهم، في أيام الملقب بالقاسم عيسى بن الظافر وهو الذي عقد له بالخلافة
ج/ 4 ص -510-وهو ابن خمس سنين وأيام ؛ لأنه ولد يوم الجمعة الحادي من المحرم سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وبويع له صبيحة قتل أبيه الظافر يوم الخميس سلخ المحرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة. وله من العمر ما قدمنا، فلا تجوز عقوده ولا عهوده، وتوفى وله من العمر إحدى عشرة سنة وستة أشهر وأيام؛لأنه توفى لليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة، فافتعل في أيامه بناء المشهد المحدث بالقاهرة، ودخول الرأس مع المشهديِّ العسقلاني أمام الناس، ليتوطن في قلوب العامة ما أورد من الأمور الظاهرة، وذلك شىء افتعل قصدًا، أو نصب غرضًا، وقضوا ما في نفوسهم لاستجلاب العامة عرضًا، والذي بناه طلائع بن رُزَيْك الرافضي. وقد ذكره جميع من ألف في مقتل الحسين أن الرأس المكرم ما غرب قط، وهذا الذي ذكره أبو الخطاب بن دَحية في أمر هذا المشهد، وأنه مكذوب مفترى، هو أمر متفق عليه عند أهل العلم.
والكلام في هذا الباب وأشباهه متسع، فإنه بسبب مقتل عثمان ومقتل الحسين وأمثالهما جرت فتن كثيرة، وأكاذيب وأهواء، وقع فيها طوائف من المتقدمين والمتأخرين، وكذب على أمير المؤمنين عثمان وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنواع من الأكاذيب، يكذب بعضها شيعتهم ونحوهم، ويكذب بعضها مبغضوهم، لاسيما بعد مقتل عثمان، فإنه عظم الكذب والأهواء.
ج/ 4 ص -511-وقيل في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مقالات من الجانبين، علي برىء منها. وصارت البدع والأهواء والكذب تزداد، حتى حدث أمور يطول شرحها، مثل ما ابتدعه كثير من المتأخرين يوم عاشوراء، فقوم يجعلونه مأتمًا يظهرون فيه النياحة والجزع، وتعذيب النفوس وظلم البهائم، وسب من مات من أولياء اللّه والكذب على أهل البيت، وغير ذلك من المنكرات المنهى عنها بكتاب اللّه وسنة رسوله ﷺ واتفاق المسلمين.
والحسين رضي اللّه عنه أكرمه اللّه تعالى بالشهادة في هذا اليوم، وأهان بذلك من قتله، أو أعان على قتله، أو رضى بقتله، وله أسوة حسنة بمن سبقه من الشهداء، فإنه وأخاه سيدا شباب أهل الجنة، وكانا قد تربيا في عز الإسلام، لم ينالا من الهجرة والجهاد والصبر على الأذى في اللّه ما ناله أهل بيته، فأكرمهما اللّه تعالى بالشهادة؛ تكميلًا لكرامتهما، ورفعا لدرجاتهما، وقتله مصيبة عظيمة، واللّه سبحانه قد شرع الاسترجاع عند المصيبة بقوله تعالى: "وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ" [البقرة: 155-157]. وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (ما من مسلم يصاب بمصيبة فيقول: إنا للّه وإنا إليه راجعون، اللهم أجِرْنِي في مصيبتي، واخْلُفْ لي خيرًا منها، إلا آجره اللّه في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها) ومن أحسن ما يذكر هنا: أنه قد روى الإمام أحمد وابن ماجه عن فاطمة بنت
ج/ 4 ص -512-الحسين عن أبيها الحسين رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه ﷺ: (ما من مسلم يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قَدُمَتْ، فيحدث عندها استرجاعًا، كتب اللّه له مثلها يوم أصيب)، هذا حديث رواه عن الحسين ابنته فاطمة التي شهدت مصرعه.
وقد علم أن المصيبة بالحسين تذكر مع تقادم العهد، فكان في محاسن الإسلام أن بلغ هو هذه السنة عن النبي ﷺ، و هو أنه كلما ذكرت هذه المصيبة يسترجع لها، فيكون للإنسان من الأجر مثل الأجر يوم أصيب بها المسلمون.
وأما من فعل مع تقادم العهد بها ما نهى عنه النبي ﷺ عند حدثان العهد بالمصيبة فعقوبته أشد، مثل لطم الخدود وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية. ففي الصحيحين عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه ﷺ: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية). وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري، رضي اللّه عنه قال: (أنا بريء مما برئ منه رسول اللّه ﷺ، إن رسول اللّه ﷺ برئ من الحالقة، والصالقة، والشاقة).
وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري: أن رسول اللّه ﷺ قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب،
ج/ 4 ص -513-والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت). وقال: (النائحة إذا لم تَتُبْ قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سِرْبَال من قَطِرَان، ودِرْع من جَرَبٍ)، والآثار في ذلك متعددة.
فكيف إذا انضم إلى ذلك ظلم المؤمنين، ولعنهم وسبهم، وإعانة أهل الشقاق والإلحاد على ما يقصدونه للدين من الفساد وغير ذلك، مما لا يحصيه إلا اللّه تعالى.
وقوم من المتسننة رووا ورويت لهم أحاديث موضوعة، بنوا عليها ما جعلوه شعارًا في هذا اليوم، يعارضون به شعار ذلك القوم، فقابلوا باطلًا بباطل، وردوا بدعة ببدعة، وإن كانت إحداهما أعظم في الفساد وأعون لأهل الإلحاد، مثل الحديث الطويل الذي روى فيه: (من اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام، ومن اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد ذلك العام) وأمثال ذلك من (الخضاب يوم عاشوراء والمصافحة فيه) ونحو ذلك. فإن هذا الحديث ونحوه كذب مختلق باتفاق من يعرف علم الحديث، وإن كان قد ذكره بعض أهل الحديث وقال: إنه صحيح وإسناده على شرط الصحيح، فهذا من الغلط الذي لا ريب فيه، كما هو مبين في غير هذا الموضع.
ولم يستحب أحد من أئمة المسلمين الاغتسال يوم عاشوراء، ولا الكحل فيه والخِضاب، وأمثال ذلك، ولا ذكره أحد من علماء المسلمين الذين يقتدى بهم،
ج/ 4 ص -514-ويرجع إليهم في معرفة ما أمر اللّه به ونهى عنه، ولا فعل ذلك رسول اللّه ﷺ، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي .
ولا ذكر مثل هذا الحديث في شىء من الدواوين التي صنفها علماء الحديث، لا في المسندات ؛ كمسند أحمد، وإسحاق، وأحمد بن مَنِيع الحميدي، والدالاني، وأبو يعلى الموصلي، وأمثالها. ولا في المصنفات على الأبواب؛ كالصحاح، والسنن. ولا في الكتب المصنفة الجامعة للمسند والآثار؛ مثل موطأ مالك، ووَكِيع، وعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وأمثالها.
ثم إن أهل الأهواء ظنت أن من يفعل هذا أنه يفعله على سبيل نصب العداوة لأهل البيت والاشتفاء منهم، فعارضهم من تسنن، وأجاب عن ذلك بإجابة بين فيها براءتهم من النصب واستحقاقهم لموالاة أهل البيت، وأنهم أحق بذلك من غيرهم. وهذا حق. لكن دخلت عليهم الشبهة والغلط في ظنهم أن هذه الأفعال حسنة مستحبة، واللّه أعلم بمن ابتدأ وضع ذلك وابتداعه، هل كان قصده عداوة أهل البيت أو عداوة غيرهم؟ فالهدى بغير هدى من اللّه أو غير ذلك ضلالة. ونحن علينا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا من الكتاب والحكمة، ونلزم الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم اللّه عليهم، من النبيين، والصديقين،
ج/ 4 ص -515-والشهداء، والصالحين، ونعتصم بحبل اللّه جميعًا ولا نتفرق، ونأمر بما أمر اللّّه به وهو المعروف، وننهي عما نهى عنه وهو المنكر؛ وأن نتحرى الإخلاص للّه في أعمالنا، فإن هذا هو دين الإسلام قال اللّه تعالى: "بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" [البقرة:112]، وقال تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً" [النساء:125].
وقال تعالى: "وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ"[الأعراف: 28-30]
وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ " إلى قوله: "يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ"[آل عمران: 102-106] قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة.
وقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ" [الأنعام: 159].
ج/ 4 ص -516-وقال تعالى: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ" [البينة: 5].
وليس الكذب في هذا المشهد وحده، بل المشاهد المضافة إلى الأنبياء وغيرهم كذب، مثل القبر الذي يقال له:[قبر نوح] قريب من بعلبك في سفح جبل لبنان، ومثل القبر الذي في قبلي مسجد جامع دمشق، الذي يقال له: قبر هود، فإنما هو قبر معاوية بن أبي سفيان، ومثل القبر الذي في شرقي دمشق الذي يقال له: قبر أبي بن كعب، فإن أبيًّا لم يقدم دمشق باتفاق العلماء.
وكذلك ما يذكر في دمشق من قبور أزواج النبي ﷺ، وإنما توفين بالمدينة النبوية.
وكذلك ما يذكر في مصر من قبر علي بن الحسين أو جعفر الصادق أو نحو ذلك، هو كذب باتفاق أهل العلم. فإن علي بن الحسين وجعفر الصادق إنما توفيا بالمدينة، وقد قال عبد العزيز الكناني الحديث المعروف : ليس في قبور الأنبياء ما ثبت، إلا قبر نبينا قال غيره: وقبر الخليل أيضًا.
وسبب اضطراب أهل العلم بأمر القبور أن ضبط ذلك ليس من الدين، فإن النبي ﷺ قد نهى أن تتخذ القبور مساجد، فلما لم يكن معرفة ذلك من الدين لم يجب ضبطه.
ج/ 4 ص -517-فأما العلم الذي بعث اللّه به نبيه ﷺ فإنه مضبوط ومحروس، كما قال تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَِِِِِِِِِِ"[الحجر: 9] وفي الصحاح عنه ﷺ أنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يَضُرُّهُمْ من خالفهم، ولا من خَذَلَهُمْ، حتى تقوم الساعة).
وأصل هذا الكتاب هو الضلال والابتداع والشرك، فإن الضُّلال ظنوا أن شد الرحال إلى هذه المشاهد، والصلاة عندها، والدعاء والنذر لها، وتقبيلها واستلامها، وغير ذلك، من أعمال البر والدين، حتى رأيت كتابًا كبيرًا قد صنفه بعض أئمة الرافضة محمد بن النُّعْمَان الملقب بالشيخ المُفِيد، شيخ الملقب بالمرتضي وأبي جعفر الطوسي سماه [الحج إلى زيارة المشاهد] ذكر فيه من الآثار عن النبي ﷺ وأهل بيته، وزيارة هذه المشاهد والحج إليها، ما لم يذكر مثله في الحج إلى بيت اللّه الحرام.
وعامة ما ذكره من أوضح الكذب وأبين البهتان، حتى إني رأيت في ذلك من الكذب والبهتان أكثر مما رأيته من الكذب في كثير من كتب اليهود والنصارى، وهذا إنما ابتدعه وافتراه في الأصل قوم من المنافقين والزنادقة؛ ليصدوا به الناس عن سبيل اللّه. ويفسدوا عليهم دين الإسلام، وابتدعوا لهم أصل الشرك المضاد لإخلاص الدين للّه، كما ذكره ابن عباس وغيره من السلف في قوله تعالى عن قوم نوح: "وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا" [نوح: 23، 24]
ج/ 4 ص -518-قالوا: هذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عَكَفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه، وبسطه وبينه في أول كتابه في قصص الأنبياء وغيرها.
ولهذا صنف طائفة من الفلاسفة الصابئين المشركين في تقرير هذا الشرك ما صنفوه، واتفقوا هم والقرامطة الباطنية على المحادة للّه ولرسوله، حتى فتنوا أمما كثيرة وصدوهم عن دين اللّه . وأقل ما صار شعارًا لهم، تعطيل المساجد وتعظيم المشاهد، فإنهم يأتون من تعظيم المشاهد وحجها والإشراك بها، ما لم يأمر اللّه به ولا رسوله ولا أحد من أئمة الدين، بل نهى اللّه عنه ورسوله عباده المؤمنين.
وأما المساجد التي أمر اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فيخربونها، فتارة لا يصلون جمعة ولا جماعة؛ بناء على ما أصلوه من شُعب النفاق، وهو أن الصلاة لا تصح إلا خلف معصوم، ونحو ذلك من ضلالتهم.
وأول من ابتدع القول بالعصمة لعلي، وبالنص عليه في الخلافة، هو رأس هؤلاء المنافقين عبد اللّه بن سبأ الذي كان يهوديًا، فأظهر الإسلام وأراد فساد دين الإسلام، كما أفسد بولص دين النصارى، وقد أراد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قتل هذا لما بلغه أنه يسب أبا بكر وعمر حتى هرب منه،
ج/ 4 ص -519-كما أن عليًا حرق الغالية الذين ادعوا فيه الإلهية. وقال في المفضلة: لا أوتى بأحد يفضلني على أبى بكر وعمر إلا جلدته جلد المفترى.
فهؤلاء الضالون المفترون أتباع الزنادقة المنافقون، يعطلون شعار الإسلام وقيام عموده، وأعظمه سنن الهدى التي سنها رسول اللّه ﷺ، بمثل هذا الإفك والبهتان، فلا يصلون جمعة ولا جماعة.
ومن يعتقد هذا فقد يسوى بين المشاهد والمساجد، حتى يجعل العبادة كالصلاة والدعاء، والقراءة، والذكر، وغير ذلك مشروعًا عند المقابر، كما هو مشروع في المساجد، وربما فضل بحاله أو بقاله العبادة عند القبور، و المشاهد على العبادة في بيوت اللّه التي هي المساجد، حتى تجد أحدهم إذا أراد الاجتهاد في الدعاء والتوبة ونحو ذلك قصد قبر من يعظمه، كشيخه أو غير شيخه، فيجتهد عنده في الدعاء والتضرع، والخشوع والرقة، ما لا يفعله مثله في المساجد، ولا في الأسحار، ولا في سجوده للّه الواحد القهار.
وقد آل الأمر بكثير من جهالهم إلى أن صاروا يدعون الموتى ويستغيثون بهم، كما تستغيث النصارى بالمسيح وأمه، فيطلبون من الأموات تفريج الكربات وتيسير الطلبات، والنصر على الأعداء ورفع المصائب والبلاء، وأمثال ذلك، مما لا يقدر عليه إلا رب الأرض والسماء.
حتى إن أحدهم إذا أراد الحج، لم يكن أكثر همه الفرض الذي فرضه
ج/ 4 ص -520-اللّه عليه وهو[حج بيت اللّه الحرام]، وهو شعار الحنيفية ملة إبراهيم إمام أهل دين اللّه، بل يقصد المدينة.
ولا يقصد ما رغب فيه النبي ﷺ من الصلاة في مسجده، حيث قال في الحديث الصحيح: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام(، ولا يهتم بما أمر اللّه به من الصلاة والسلام على رسوله حيث كان، ومن طاعة أمره، واتباع سنته، وتعزيره، وتوقيره، وهو أن يكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين، بل أن يكون أحب إليه من نفسه، بل يقصد من زيارة قبره أو قبر غيره ما لم يأمر اللّه به ورسوله، ولا فعله أصحابه ولا استحسنه أئمة الدين.
وربما كان مقصوده بالحج من زيارة قبره أكثر من مقصوده بالحج، وربما سوى بين القصدين، وكل هذا ضلال عن الدين باتفاق المسلمين، بل نفس السفر لزيارة قبر من القبور قبر نبي أو غيره منهي عنه عند جمهور العلماء، حتى إنهم لا يجوزون قصد الصلاة فيه، بناء على أنه سفر معصية ؛ لقوله الثابت في الصحيحين: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا) وهو أعلم الناس بمثل هذه المسألة.
وكل حديث يروى في زيارة القبر فهو ضعيف، بل موضوع، بل قد
ج/ 4 ص -521-كره مالك وغيره من أئمة المدينة أن يقول القائل: زرت قبر النبي ﷺ، وإنما المسنون السلام عليه إذا أتى قبره ﷺ، وكما كان الصحابة والتابعون يفعلون إذا أتوا قبره، كما هو مذكور في غير هذا الموضع.
ومن ذلك الطواف بغير الكعبة، وقد اتفق المسلمون على أنه لا يشرع الطواف إلا بالبيت المعمور، فلا يجوز الطواف بصخرة بيت المقدس، ولا بحجرة النبي ﷺ، ولا بالقبة التي في جبل عرفات، ولا غير ذلك.
وكذلك اتفق المسلمون على أنه لا يشرع الاستلام ولا التقبيل إلا للركنين اليمانيين؛ فالحجرالأسود يستلم ويقبل، واليماني يستلم. وقد قيل: إنه يقبل، وهو ضعيف.
وأما غير ذلك فلا يشرع استلامه ولا تقبيله، كجوانب البيت، والركنين الشاميين، ومقام إبراهيم، و الصخرة، والحجرة النبوية، وسائر قبور الأنبياء والصالحين.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي ﷺ أنه قال: (قَاتَل اللّهُ اليهود والنصارى، اتَّخَذُوا قبور أنبيائهم مساجد) وفي رواية لمسلم: (لَعَنَ اللّهُ اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
ج/ 4 ص -522-وفي الصحيحين أيضًا عن عائشة وابن عباس قالا: لما نزل برسول اللّه ﷺ طَفِقَ يطرح خَمِيصَة له على وجهه، فإذا اغْتَمَّ بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: (لعن اللّه اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، يُحَذِّر ما صنعوا.
وفي الصحيحين أيضًا عن عائشة قالت: قال رسول اللّه ﷺ في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن اللّه اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشى أن يتخذ مسجدًا.
وفي صحيح مسلم عن جُنْدُب بن عبد اللّه قال: سمعت رسول اللّه ﷺ قبل موته بخمس وهو يقول: (إني أبرأ إلى اللّه أن يكون لي منكم خليل، فإن اللّه اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ألا وإن من كان قبلكم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك).
وفي صحيح مسلم عن أبي مَرْثَد الغَنوىّ أن رسول اللّه ﷺ قال: (لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه ﷺ: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) رواه أهل السنن،
ج/ 4 ص -523-كأبي داود، والترمذي، وابن ماجه، وعلله بعضهم بأنه روي مرسلًا، وصححه الحافظ.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: لما اشتكى النبي ﷺ ذكر له بعض نسائه أنها رأت كنيسة بأرض الحبشة يقال لها: [مارية]. وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فرفع رأسه فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند اللّه).
وعن ابن عباس رضي اللّه عنه قال: (لعن رسول اللّه ﷺ زَوَّارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرُج). رواه أهل السنن، كأبي داود، والنسائي، والترمذي. وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ صحيح.
وفي موطأ مالك عن النبي ﷺ أنه قال: (اللهم لا تجعل قبري وَثَنًا يُعْبَد)، وفي سنن أبي داود عنه أنه قال: (لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر).
وأما العبادات في المساجد ؛ كالصلاة والقراءة والدعاء، ونحو ذلك، فقد قال تعالى: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا" [البقرة:411]،
ج/ 4 ص -524-وقال تعالى:" إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَالصَّلاَةَ" الآية [التوبة:18 ]
وفي الترمذي عن النبي ﷺ قال: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان، فإن اللّه تعالى يقول: "إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ") الآية [التوبة:18]، وقال تعالى: "قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ"الآية [الأعراف:29]، وقال تعالى: "وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا" [الجن:18]، وقال تعالى: "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ" الآية[النور:36]، وقال تعالى:" وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ" [البقرة:187].
وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: (صلاة الرجل في المسجد تَفْضُلُ على صلاته في بيته وسُوقه بخمس وعشرين درجة). وفي لفظ: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم بخمس وعشرين درجة) وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أنطلق برجال معي، معهم حُزَم من حَطَبٍ، إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنه قال: أتى النبي ﷺ رجل أعمى فقال: يا رسول اللّه، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول اللّه ﷺ أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص
ج/ 4 ص -525-له.فلما ولى دعاه، فقال: (هل تسمع النداء بالصلاة؟) قال: نعم. قال: ( فأجب).
وفيه أيضًا عن أبي سعيد رضي اللّه عنه قال: من سَرَّهُ أن يلقى اللّه غدًا مسلمًا، فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن، فإن اللّه شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم، كما يصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب اللّه له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها خطيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهَادى [وقوله: يُهَادى بين رجلين: أي: يمشي بينهما معتمدًا عليهما من ضعفه وتمايله] بين رجلين حتى يقام في الصف.
وهذا باب واسع، قد نبهنا بما كتبناه على سبيل الهدى في هذا الأمر، الفارق بين أهل التوحيد الحنفاء أهل ملة إبراهيم، المتبعين لدين اللّه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وبين من لبس الحق بالباطل، وشاب الحنيفية بالإشراك.
قال تعالى: "وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ" [الزخرف: 45]، وقال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" [الأنبياء: 25] .
ج/ 4 ص -526-وقال تعالى: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ" [النحل: 36]، وقال تعالى: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء" الآية [البينة: 5]
وقال تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ" [الروم: 30-32]
واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
ج/ 4 ص -527-قَالَ شَيْخُ الإسْلام رَحمَهُ اللَّهُ:
فَصل
وأما الصحابة والتابعون، فقال غير واحد من الأئمة: إن كل من صحب النبي ﷺ أفضل ممن لم يصحبه مطلقًا، وعينوا ذلك في مثل معاوية، وعمر بن عبد العزيز، مع أنهم معترفون بأن سيرة عمر بن عبد العزيز أعدل من سيرة معاوية، قالوا: لكن ما حصل لهم بالصحبة من الدرجة أمر لا يساويه ما يحصل لغيرهم بعلمه.
واحتجوا بما في الصحيحين أنه قال: (لا تَسُبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهبا لما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه)، قالوا: فإذا كان جبل أحد ذهبًا لا يبلغ نصف مد أحدهم، كان في هذا من التفاضل ما يبين أنه لم يبلغ أحد مثل منازلهم التي أدركوها بصحبة النبي ﷺ .
وفي المسألة بسط وبيان لا يحتمله هذا المكان.
ج/ 4 ص -528-سُئلَ رَحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عن رجلين تنازعا في ساب أبي بكر، أحدهما يقول: يتوب اللّه عليه، وقال الآخر: لا يتوب اللّه عليه.
فَأجَابَ:
الصواب الذي عليه أئمة المسلمين أن كل من تاب تاب اللّه عليه، كما قال اللّه تعالى: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [الزمر:53]، فقد ذكر في هذه الآية أنه يغفر للتائب الذنوب جميعًا؛ ولهذا أطلق وَعمَّم. وقال في الآية الأخرى: "إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء" [النساء: 48] فهذا في غير التائب، ولهذا قَيَّد وخصَّص.
وليس سَب بعض الصحابة بأعظم من سب الأنبياء؛ أو سب اللّه تعالى و اليهود والنصارى الذين يسبون نبينا سرًا بينهم إذا تابوا وأسلموا قُبِلَ ذلك منهم باتفاق المسلمين، والحديث الذي يروى: (سَبُّ صحابتي ذَنْبٌ لا يُغْفَر)، كذب على رسول اللّه ﷺ، والشرك الذي لا يغفره اللّه، يغفره
ج/ 4 ص -529-لمن تاب باتفاق المسلمين، وما يقال: إن في ذلك حقًا لآدمي يجاب عنه من وجهين:
أحدهما: أن اللّه قد أمر بتوبة السارق و الملَقِّب ونحوهما من الذنوب التي تعلق بها حقوق العباد، كقوله:"وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [المائدة: 38، 39]
وقال: "وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" [الحجرات: 11]، ومن توبة مثل هذا أن يعوض المظلوم من الإحسان إليه بقدر إساءته إليه.
الوجه الثاني: أن هؤلاء متأولون، فإذا تاب الرافضي من ذلك، واعتقد فضل الصحابة، وأحبهم، ودعا لهم، فقد بَدَّل اللّه السيئة بالحسنة، كغيره من المذنبين.
ج/ 4 ص -530-وَسُئلَ عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد، ومنهم من إذا قرئ عليه أحاديث النبي ﷺ التي يكون راويها عبد اللّه بن مسعود، أو قيل له: هذا مذهب عبد اللّه ابن مسعود شرع في تنقيصه، وأخذ يقدح فيه، ويجعله ضعيف الرواية، ويزعم أنه كان بين الصحابة منقوصا، حتى إن بعضهم لم يثبت في المصاحف قراءته، وأنه كان يحذف من القرآن المعوذتين؟
فَأَجَابَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
ابن مسعود رضي اللّه عنه من أجلاء الصحابة، وأكابرهم، حتى كان يقول فيه عمر بن الخطاب: كُنَيْف [كُنَيْف: هو تصغير تعظيم للكِنْف. والكِنْف: الوِعَاء] مُلِئ علمًا. وقال أبوموسى: ما كنا نعد عبد اللّه بن مسعود إلا من أهل بيت رسول اللّه ﷺ؛ من كثرة ما نرى دخوله وخروجه. وقال له ﷺ: (إذْنُكَ علي أن تَرْفَعَ الحِجَاب، وأن تسمع بسِوَادي حتى أنهاك). وفي السنن: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر، وتمسَّكوا بِهَدْي ابن أم ِّعَبْدٍ).
وفي الصحيح: (من سره أن يقرأ القرآن غَضّا كما أنزل، فليقرأ على قراءة ابن أم عَبْد)، ولما فتح العراق بعثه عليهم ليعلمهم الكتاب والسنة، فهو أعلم الصحابة
ج/ 4 ص -531-الذين بعثهم إلى العراق، وقال فيه أبو موسى: لا تسألوني عن شىء ما دام هذا الحبر فيكم. وكان ابن مسعود يقول: لو أعلم أن أحدًا أعلم بكتاب اللّه مني تبلغه الإبل لأتيته.
وهو أحد الثلاثة الذين سماهم معاذ بن جبل عند موته لما بكى مالك بن يُخَامِر السَّكْسَكِي، فقال له معاذ بن جبل: ما يبكيك؟ فقال: واللّه ما أبكي على رحم بيني وبينك، ولا على دنيا أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أتعلمهما منك، فقال: إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما، اطلب العلم عند أربعة فإن أعياك هؤلاء ؛ فسائر أهل الأرض أعجز، فسَمَّى له ابن مسعود، و أبيّ بن كعب، وعبد اللّه بن سلام وأظن الرابع أبا الدرداء.
وسئل علي عن علماء الناس، فقال: واحد بالعراق ابن مسعود. وابن مسعود في العلم من طبقة عمر، وعلي، وأبي، ومعاذ، وهو من الطبقة الأولى من علماء الصحابة، فمن قدح فيه أو قال: هو ضعيف الرواية فهو من جنس الرافضة الذين يقدحون في أبي بكر وعمر وعثمان، وذلك يدل على إفراط جهله بالصحابة، أو زندقته ونفاقه.
ج/ 4 ص -532-سُئلَ رَحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عن رجل يناظر مع آخر في [مسألة المصراة]، وردها إذا أراد المشتري، فاستدل من ادعى جواز الرد بحديث أبي هريرة المتفق عليه، فعارضه الخصم بأن قال: أبو هريرة لم يكن من فقهاء الصحابة، وقد أنكر عليه عمر بن الخطاب كثرة الرواية، ونهاه عن الحديث، وقال: إن عدت تحدث فعلت وفعلت، وكذا أنكر عليه ابن عباس، وعائشة أشياء. فهل ما ذكره الخصم صحيح أم لا؟وما يجب على من تكلم في أبي هريرة بهذا الكلام؟
فَأَجَاب:
الحمد للّه. هذا الراد مخطئ من وجوه:
أحدها: قوله: [إنه لم يكن من فقهاء الصحابة] فإن عمر بن الخطاب ولى أبا هريرة على البحرين، وهم خيار المسلمين، الذين هاجر وَفْدُهم إلى النبي ﷺ، وهم وفد عبد القيس.
وكان أبو هريرة أميرهم هو الذي يفتيهم بدقيق الفقه، مثل: مسألة
ج/ 4 ص -533-المطلقة دون الثلاث، إذا تزوجت زوجًا أصابها، هل تعود إلى الأول على الثلاث كما هو قول ابن عباس وابن عمر، وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن عمر، بناء على أن إصابة الزوج تهدم ما دون الثلاث كما هدمت الثلاث أو تعود على ما بقى كما هو قول عمر وغيره من أكابر الصحابة وهو مذهب مالك والشافعي، وأحمد في المشهور عنه، بناء على أن إصابة الزوج الثاني إنما هي غاية التحريم الثابت بالطلاق الثلاث، فهو الذي يرتفع بها، والمطلقة دون الثلاث لم تحرم، فلا ترفع الإصابة منها شيئًا، فأفتى أبو هريرة بهذا القول. ثم سأل عمر فأقره على ذلك وقال: لو أفتيتَ بغيره لأوجعتك ضربًا.
وكذلك أفتى أبوهريرة في دقائق مسائل الفقه مع فقهاء الصحابة، كابن عباس وغيره من أشهر الأمور، وأقواله المنقولة في فتاويه تدل على ذلك. وإذا كان عمر وعلى أفقه من عمران بن حُصَين، وأبي موسى الأشعري، لم يخرجا بذلك من الفقه، وكذلك إذا كان معاذ وابن مسعود ونحوهما أفقه من أبي هريرة وعبد اللّه بن عمر ونحوهما، لم يخرجا بذلك من الفقه.
الثاني: أن يقال لهذا المعترض: جميع علماء الأمة عملت بحديث أبي هريرة فيما يخالف القياس والظاهر، كما عملوا جميعهم بحديثه عن النبي ﷺ أنه قال: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها). وعمل أبو حنيفة
ج/ 4 ص -534-مع الشافعي وأحمد وغيرهما بحديثه عن النبي ﷺ: (من أكل أو شرب ناسيًا فلْيُتِمَّ صَوْمَه، فإنما أطعمه اللّه وسَقَاه) مع أن القياس عند أبي حنيفة أنه يفطر، فترك القياس لحديث أبي هريرة، ونظائر ذلك تطول.
ومالك مع الشافعي وأحمد عملوا بحديث أبي هريرة في غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا، مع أن القياس عند مالك أنه لا يغسل؛ لأنه طاهر عنده، بل الأئمة يتركون القياس لما هو دون حديث أبي هريرة، كما ترك أبو حنيفة القياس في مسألة [القهقهة] بحديث مرسل لا يعرف من رواه من الصحابة وحديث أبي هريرة أثبت منه باتفاق الأمة.
الثالث: أن يقال: المحدث إذا حفظ اللفظ الذي سمعه لم يضره ألا يكون فقيها، كالملقنين بحروف القرآن، وألفاظ التشهد والأذان ونحو ذلك. وقد قال ﷺ: (نَضَّر اللّه امرأ سمع حديثًا فبَلَّغَه إلى من لم يسمعه، فَرُبَّ حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، وهذا بين في أنه يؤخذ حديثه الذي فيه الفقه من حامله، الذي ليس بفقيه، ويأخذ عمن هو دونه في الفقه، وإنما يحتاج في الرواية إلى الفقه إذا كان قد روى بالمعنى، فخاف أن غير الفقيه يغير المعنى وهو لا يدري.
و أبو هريرة كان من أحفظ الأمة، وقد دعا له النبي ﷺ بالحفظ قال: فلم أنْسَ شيئًا سمعته بعد؛ ولهذا روى حديث المُصَرَّاة [المُصَرَّاة: الناقة أو البقرة أو الشاة يُجمع اللبن في ضَرْعها ويُحبس قبل بيعها بأيام، وقد نهى النبي ﷺ عن ذلك لأنه خداع وغش] وغيره بلفظ رسول اللّه ﷺ.
ج/ 4 ص -535-الرابع: أن الصحابة كلهم كانوا يأخذون بحديث أبي هريرة، كعمر وابن عمر وابن عباس وعائشة، ومن تأمل كتب الحديث عرف ذلك.
الخامس: أن أحدًا من الصحابة لم يطعن في شىء رواه أبو هريرة، بحيث قال: إنه أخطأ في هذا الحديث، لا عمر ولا غيره، بل كان لأبي هريرة مجلس إلى حجرة عائشة، فيحدث ويقول: يا صاحبة الحجرة، هل تنكرين مما أقول شيئًا ؟ فلما قضت عائشة صلاتها لم تنكر مما رواه، لكن قالت: إن رسول اللّه ﷺ لم يكن يسرد الحديث سردكم، ولكن كان يحدث حديثًا لو عده العاد لحفظه، فأنكرت صفة الأداء لا ما أداه.
وكذلك ابن عمر قيل له: هل تنكر مما يحدث أبو هريرة شيئًا؟ فقال: لا، ولكن أخبر وجبنا، فقال أبو هريرة: ما ذنبي أن كنت حفظت ونسوا.وكانوا يستعظمون كثرة روايته حتى يقول بعضهم: أكثر أبو هريرة، حتى قال أبو هريرة: الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، واللّه الموعد ؛أما إخواني من المهاجرين، فكان يشغلهم الصَّفْقُ [الصَّفْقُ: هو أن يضرب كل من البائع والمشترى يده على يد الآخر، عند البيع، وبهذا يكون قد وجب البيع] بالأسواق. وأما إخواني من الأنصار، فكان يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرأ مسكينا ألزم رسول اللّه ﷺ، فكنت أشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا. ولقد حدثنا رسول اللّه ﷺ حديثًا، ثم قال: (أيكم يبسط ثوبه؟)، فبسطت ثوبي. فدعا لي. فلم أنْسَ بعد شيئا سمعته منه ﷺ.
ج/ 4 ص -536-وروى عنه أنه كان يجزئ الليل ثلاثة أجزاء: ثلثًا يصلي، وثلثًا يكرر على الحديث، وثلثًا ينام.
فقد بين أن سبب حفظه ملازمة النبي ﷺ، وقطع العلائق ودعاؤه له.
وكان عمر بن الخطاب يستدعى الحديث من أبي هريرة، ويسأله عنه ولم ينهه عن رواية ما يحتاج إليه من العلم الذي سمعه من النبي ﷺ، ولا توعده على ذلك. ولكن كان عمر يحب التثبت في الرواية ؛ حتى لا يجترئ الناس فيزاد في الحديث.
ولهذا طلب من أبي موسى الأشعري من يوافقه على حديث الاستئذان، مع أن أبا موسى من أكابر الصحابة وثقاتهم باتفاق الأئمة.
السادس: أن الصحابة كانوا يرجعون في مسائل الفقه إلى من هو دون أبي هريرة في الفقه، كما رجع عمر بن الخطاب إلى حَمَل بن مالك وغيره في دية الجنين، وكما رجع عثمان بن عفان إلى الفُرَيْعَة بنت مالك في لزوم المتوفى عنها لمنزل الوفاة، وكما رجع عمر ابن الخطاب وغيره في توريث المرأة من دية زوجها، إلى الضحاك بن سفيان الكِلابِيّ. وكما رجع زيد بن ثابت وغيره إلى امرأة من الأنصار في سقوط طواف الوداع عن الحائض.
ج/ 4 ص -537-وكذلك ابن مسعود لما أفتى المفوضة المتوفى عنها بمهر المثل، فقام رجال من أشجع فشهدوا أن رسول اللّه ﷺ قضى في بَرْوَع بنت وَاشِق بمثل ما قضيت به، ففرح عبد اللّه بذلك فرحًا شديدًا! وأبو بكر الصديق ورَّث الجدة بحديث المغيرة بن شعبة، ومحمد ابن سلمة، ونظائر هذا كثيرة.
السابع: أن يقال: المخالف لحديث أبي هريرة في المصراة، يقول: إنه يخالف الأصول أو قياس الأصول.
فيقال له: بل القول فيه كالقول في نظائره التي اتبعت فيها النصوص، فهذا الحديث ورد فيما يخالف غيره لا فيما يماثل غيره؛ والقياس هو التسوية بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين، وذلك أن من خالفه يقول: إنه أثبت الرد بالمعيب، وقدر بدل المتلف، بل إن كان من المثليات ضمن بمثله وإلا فقيمته، وهذا مضمون بغير مثل ولا قيمة، وجعل الضمان على المشترى والخراج بالضمان.
فيقال له: الرد يثبت بالتدليس، ويثبت باختلاف الصفة باتفاق الأئمة، والمدلس الذي أظهر أن المبيع على صفة وليس هو عليها كالواصف لها بلسانه، وهذا النوع من الخيار غير خيار الرد بالعيب.
ج/ 4 ص -538-ويقال له: المشترى لم يضمن اللبن الحادث على ملكه، ولكن ضمن ما في الضرع، فإنه لما اشترى المصراة وفيها لبن تلف عنده، كان عليه ضمانه، وإنما قدر الشارع البدل ؛ لأنه اختلط اللبن القديم باللبن الحادث، فلم يبق يعرف مقدار اللبن القديم.
فلهذا لم يمكن ضمانه بمثله ولا بقيمته، فقدر الشارع في ذلك بدلا يقطع به النزاع، كما قدر ديات النفس وديات الأعضاء ومنافعها، ونحو ذلك من المقدرات التي يقطع بها نزاع الناس، فإنه إذا أمكن العلم بمقدار الحق، كان هو الواجب. وإذا تعذر ذلك شرع الشارع ما هو أمثل الطرق وأقربها إلى الحق.
فتارة يأمر بالخَرْصِ [الخَرْصُ: الحَزْر. يقال: خرصت النخلة: إذا حزرت ما عليها من التمر، فهو من الخَرْص، أي: الظن؛ لأن الحزْر إنما هو تقديرُ بِظَنٍّ] إذا تعذر الكيل أو الوزن، إقامة للظن مقام العلم عند تعذر العلم، ويأمر بالاستهام لتعيين المستحق عند كمال الإبهام. وتارة يقدر بدل الاستحقاق إذا لم يكن طريق آخر لقطع الشقاق، ورد المشترى للصاع بدل ما أخذ من اللبن من هذا الباب.
وفي المسألة حكاية ثانية، ذكرها أبو سعيد بن السمعاني عن الشيخ العارف يوسف الهمداني، عن الشيخ الفقيه أبي إسحاق الشيرازي، عن القاضي أبي الطيب الطبري، قال: كنا جلوسًا بالجامع ببغداد، فجاء خراساني سألنا عن المصراة، فأجبناه فيها، واحتججنا بحديث أبي هريرة، فطعن في أبي هريرة،
ج/ 4 ص -539-فوقعت حية من السقف، وجاءت حتى دخلت الحلقة وذهبت إلى ذلك الأعجمي فضربته فقتلته.
ونظير هذه ما ذكره الطبراني في كتاب السنة عن زكريا بن يحيى الساجي قال: كنا نختلف إلى بعض الشيوخ لسماع حديث رسول اللّه ﷺ، فاسترعنا في المشي، ومعنا شاب ماجن. فقال: ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة، لا تكسروها. قال: فما زال حتى جفته رجلاه، ولهذا نظائر، نسأل اللّه تعالى الاعتصام بكتابه، و سنة رسوله ﷺ واتباع ما أقام من دليله، واللّه سبحانه أعلم.
ج/ 4 ص -540-وَسُئِلَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عن فرقة من المسلمين يقرون بالشهادتين ويصومون، ويحجون ويخرجون الزكاة، ويجاهدون أنفسهم في مرضاة اللّه، غير أنهم يكفرون سابِّي صحابة النبي ﷺ، ولم يرجوا لأحد توبة إذا تاب وأن المصر على ذلك مخلد في النار، ومن قال بتوبتهم يسمونهم الرجوية ولا يصلون إلا مع من يتحققون عقيدته، وما يتفوه أحدهم من شىء أو يسأل عن شىء إلا يقول: إن شاء اللّه. فهل هم مصيبون في أفعالهم؟ أم مخطئون في أقوالهم؟
فَأَجَاب:
الحمد للّه، هؤلاء قوم مسلمون لهم ما لأمثالهم من المسلمين، يثيبهم اللّه على إيمانهم باللّه ورسوله، وطاعتهم للّه ورسوله، ولا يذهب بذلك إيمانهم وتقواهم بما غلطوا فيه من هذه المسائل، كسائر طوائف المسلمين الذين أصابوا في جمهور ما يعتقدونه ويعملونه، وقد غلطوا في قليل من ذلك، فهؤلاء بمنزلة أمثالهم من المسلمين.
ج/ 4 ص -541-وقولهم: إن توبة سابِّ الصحابة لا تقبل، وأنه مخلد في النار خطأ، بل الذي عليه السلف والأئمة كالأئمة الأربعة وغيرهم: أن توبة الرافضي تقبل كما تقبل توبة أمثاله، والحديث الذي يروى: (سب صحابتي ذنب لا يغفر) حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم، ولو قدر صحته فالمراد به من لم يتب، فإن اللّه يأخذ حق الصحابة منه.
وأما من تاب فقد قال اللّه تعالى: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [الزمر: 53]، وهذا في حق التائب، أخبر: أنه يغفر جميع الذنوب، وسابُّ الصحابة إذا كان يعتقد جواز ذلك فهذا مبتدع ضال كسائر الضلال، والحق في ذلك للّه، كمن سب الرسول معتقدًا أنه ساحر أو كاذب، فإذا أسلم هذا قبل اللّه إسلامه كذلك الرافضي إذا تبين له الحق وتاب قبل اللّه منه، وإن كان يقر بتحريم ذلك فهذا ظالم، كمن قذف غيره واغتابه، ومظالم العباد تصح التوبة منها، ويدعو لهم ويثني عليهم بقدر ما لعنهم وسبهم، فإن الحسنات يذهبن السيئات.
وإذا قال القائل: هذا حَجَر، وقال: لا أقطع بأن هذا حجر فهذا مخطئ، لكن إن كان مراده أني إذا قطعت بأنه حجر فقد جعلت اللّه عاجزًا عن تغيره، فإنه يقال له: بل هو الآن حجر قطعًا واللّه قادر على تغييره وإن كان مراده بقوله: إن شاء اللّه: أن اللّه قادر
ج/ 4 ص -542-على تغييره، فهذا المعنى صحيح، وإن كان شاكًا في كونه حجرًا فهذا متجاهل، يعزر على ذلك.
وتجوز الصلاة خلف كل مسلم مستور باتفاق الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين، فمن قال: لا أصلي جمعة ولا جماعة إلا خلف من أعرف عقيدته في الباطن، فهذا مبتدع مخالف للصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين الأربعة وغيرهم، واللّه أعلم.
آخر ما وجد من كتاب مفصل الاعتقاد
ويليه كتاب الأسماء والصفات.