ج/ 4 ص -345-سُئلَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ عن آدم لما خلقه اللّه ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته: هل سجد ملائكة السماء والأرض، أم ملائكة الأرض خاصة؟ وهل كان جبرائيل وميكائيل مع من سجد ؟ وهل كانت الجنة التي سكنها جنة الخلد الموجودة ؟ أم جنة في الأرض خلقها اللّه له ؟ ولما أهبط هل أهبط من السماء إلى الأرض، أم من أرض إلى أرض مثل بني إسرائيل؟
فأَجَاب:
الحمد للّه، بل أسجد له جميع الملائكة كما نطق بذلك القرآن في قوله تعالى: "فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ" [الحجر: 30]، فهذه ثلاث صيغ مقررة للعموم وللاستغراق، فإن قوله: "الْمَلآئِكَةُ" يقتضي جميع الملائكة، فإن اسم الجمع المعرف بالألف واللام يقتضى العموم كقوله: (رب الملائكة والروح) فهو رب جميع الملائكة.
الثاني: "كُلُّهُمْ"، وهذا من أبلغ العموم. الثالث: قوله: "أَجْمَعُونَ" وهذا توكيد للعموم.
فمن قال: إنه لم يسجد له جميع الملائكة، بل ملائكة الأرض، فقد رد القرآن
ج/ 4 ص -346-بالكذب والبهتان، وهذا القول ونحوه ليس من أقوال المسلمين واليهود والنصارى؛ وإنما هو من أقوال الملاحدة المتفلسفة، الذين يجعلون [الملائكة] قوى النفس الصالحة، و[الشياطين] قوى النفس الخبيثة، ويجعلون سجود الملائكة طاعة القوى للعقل، وامتناع الشياطين عصيان القوى الخبيثة للعقل؛ ونحو ذلك من المقالات التي يقولها أصحاب [رسائل إخوان الصفا] وأمثالهم من القرامطة الباطنية ومن سلك سبيلهم من ضلال المتكلمة والمتعبدة. وقد يوجد نحو هذه الأقوال في أقوال المفسرين التي لا إسناد لها يعتمد عليه.
ومذهب المسلمين، واليهود، والنصارى، ما أخبر اللّه به في القرآن، ولم يكن في المأمورين بالسجود أحد من الشياطين، لكن أبوهم إبليس هو كان مأمورًا فامتنع وعصى، وجعله بعض الناس من الملائكة لدخوله في الأمر بالسجود، وبعضهم من الجن؛ لأن له قبيلًا وذرية، ولكونه خلق من نار والملائكة خلقوا من نور.
والتحقيق أنه كان منهم باعتبار صورته، وليس منهم باعتبار أصله ولا باعتبار مثاله، ولم يخرج من السجود لآدم أحد من الملائكة لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا غيرهما.
وما ذكره صاحب خواص القرآن وأمثاله من خلاف فأقوالهم باطلة، قد بينا فسادها وبطلانها بكلام مبسوط ليس هذا موضعه.
وهذا مما استدل به أهل السنة على أن آدم وغيره من الأنبياء والأولياء
ج/ 4 ص -347-أفضل من جميع الملائكة؛ لأن اللّه أمر الملائكة بالسجود له إكرامًا له؛ ولهذا قال إبليس: "قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ" [الإسراء: 62]، فدل على أن آدم كرم على من سجد له.
و[الجنة] التي أسكنها آدم وزوجته عند سلف الأمة، وأهل السنة والجماعة هي: جنة الخلد، ومن قال: إنها جنة في الأرض بأرض الهند، أو بأرض جدة، أو غير ذلك، فهو من المتفلسفة والملحدين، أو من إخوانهم المتكلمين المبتدعين، فإن هذا يقوله من يقوله من المتفلسفة والمعتزلة.
والكتاب والسنة يردان هذا القول. وسلف الأمة وأئمتها متفقون على بطلان هذا القول. قال تعالى: "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ" إلى قوله: "وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ" [البقرة: 34-36]. فقد أخبر أنه سبحانه أمرهم بالهبوط وأن بعضهم عدو لبعض ثم قال: "وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ".
وهذا يبين أنهم لم يكونوا في الأرض، وإنما أهبطوا إلى الأرض؛ فإنهم لو كانوا في الأرض وانتقلوا إلى أرض أخرى كانتقال قوم موسى من أرض إلى أرض لكان مستقرهم ومتاعهم إلى حين في الأرض قبل الهبوط وبعده؛ وكذلك قال في الأعراف لما قال إبليس: "أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا" [الأعراف: 12، 13].
ج/ 4 ص -348-فقوله: "قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا" يبين اختصاص السماء بالجنة بهذا الحكم؛ فإن الضمير في قوله: "منها" عائد إلى معلوم غير مذكور في اللفظ، وهذا بخلاف قوله: "اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ" [البقرة: 61]، فإنه لم يذكر هناك ما أهبطوا فيه، وقال هنا: "اهْبِطُواْ" لأن الهبوط يكون من عُلُوٍّ إلى سُفْل وعند أرض السُّراة حيث كان بنو إسرائيل حيال السراة المشرفة على المصر الذي يهبطون إليه. ومن هبط من جبل إلى واد قيل له: هبط. وأيضًا، فإن بني إسرائيل كانوا يسيرون ويرحلون، والذي يسير ويرحل إذا جاء بلدة يقال: نزل فيها؛ لأن في عادته أنه يركب في سيره، فإذا وصل نزل عن دوابه.
قال: نزل العسكر بأرض كذا، ونزل القُفَّل [القُفَّل: الرُّفقة والجماعة في السفر] بأرض كذا؛ لنزولهم عن الدواب. ولفظ النزول كلفظ الهبوط، فلا يستعمل هبط إلا إذا كان من علو إلى سفل.
وقوله: "قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ قَالَ اهْبِطُواْ" الآيتان [الأعراف: 23، 24]، فقوله هنا بعد قوله: "قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ"[الأعراف: 24] يبين أنهم هبطوا إلى الأرض من غيرها، وقال: "قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ" [الأعراف: 25] دليل على أنهم لم يكونوا قبل ذلك بمكان فيه يحيون وفيه يموتون، ومنه يخرجون، وإنما صاروا إليه لما أهبطوا من الجنة.
ج/ 4 ص -349- والنصوص في ذلك كثيرة وكذلك كلام السلف والأئمة.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن النبي ﷺ قال: (احتج آدم وموسى فقال موسى: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك اللّه بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، فلماذا أخرجتنا وذريتك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك اللّه برسالته وكلامه فهل تجد في التوراة: وعصى آدم ربه فغوى؟ قال: نعم. قال: فلماذا تلومني على أمر قدره اللّه علىَّ قبل أن أخلق؟ فقال: فحج آدم موسى)، وموسى إنما لام آدم؛ لما حصل له وذريته بالخروج من الجنة من المشقة والنكد، فلو كان ذلك بستانًا في الأرض، لكان غيره من بساتين الأرض يعوض عنه.
وآدم عليه السلام احتج بالقدر؛ لأن العبد مأمور على أن يصبر على ما قدره اللّه من المصائب، ويتوب إليه، ويستغفره من الذنوب والمعائب. واللّه أعلم.