أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

باب الشهادات

    ج/ 35 ص -409- بَاب الشهادات
    سئل شيخ الإسلام رضي الله عنه عن الرواية‏:‏ هل كل من قبلت روايته قبلت شهادته‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما قوله‏:‏ هل كل من قبلت روايته قبلت شهادته، فذا فيه نزاع فإن العبد تقبل روايته باتفاق العلماء، وفي قبول شهادته نزاع بين العلماء، فمذهب على وأنس وشريح تقبل شهادته، وهو مذهب أحمد وغيره‏.‏ ومذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي لا تقبل شهادته‏.‏ والمرأة تقبل روايتها مطلقا، وتقبل شهادتها في الجملة؛ لكون الشهادة على شخص معين لا يتعدي حكمها إلي الشاهد، بخلاف الرواية؛ فإن الرواية يتعدي حكمها، فإن الراوي روي حكما يشترك فيه هو وغيره؛ فلهذا لم يشترط في الرواية عدد بخلاف الشهادة، وهذا مما فرقوا به‏.‏

    ج/ 35 ص -410-وسئل رحمه الله عن مدين كُتب محضر بإعساره، وشهد الشهود أنه معسر عما لزمه من الدين، ولم يعين مقداره‏:‏ هل يكفي هذا‏؟‏ ولو عينه الشاهد‏:‏ هل يفتقر أن يقول، ولا شيء منه‏؟‏ ولو قال‏:‏ فهل الثلاثة دراهم، أو الدرهم والنصف داخلة في ذلك‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما الشهادة بالإعسار فإذا شهدوا أنه معسر عما لزمه من الدين، وعرفوا قدره، صحت الشهادة، لكن هذا لا يمنع قدرته على وفاء بعضه‏.‏ وتصح الشهادة بذلك وإن لم يعرفوا قدره إذا شهدوا بأنه لا يقدر على وفاء شيء لكن العلم بهذا متعذر في الغالب، ولكن إذا كان الدين عن معاوضة كثمن بيع وبدل قرض وكان له مال معروف، فإذا شهد الشهود بذهاب ماله، صار بمنزلة من لم يعرف له مال‏.‏ وفي مثل هذا القول قوله مع يمينه أنه معسر عاجز عن وفاء ما يحلف عليه إن ادعي العجز عن وفاء قليل أو كثير حلف على ذلك، وحصل المقصود بذلك، وإن ادعي أنه ليس له إلا كذا حلف عليه‏.‏
    وأحد القولين في مذهب أحمد وغيره أنه لابد أن تكون البينة الشاهدة بعسرته ثلاثة إذا كان له مال، للخبر المأثور في ذلك، بخلاف ما لو شهدت

    ج/ 35 ص -411- بتلف ماله بسبب ظاهر‏.‏ والحديث حديث قبيصة بن مخارق الهلالي، الذي رواه مسلم في صحيحه، عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏لا تحل المسألة إلا لثلاثة‏:‏ رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتي يصيب قواماً من عيش، أو قال‏:‏ سداداً من عيش، ثم يمسك‏.‏ ورجل أصابته فاقة حتي يقوم ثلاثة من ذوي الحجي من قومه، فيقولون‏:‏ لقد أصاب فلانًا فاقة فحلت له المسألة حتي يصيب قوامًا من عيش، أو قال‏:‏ سدادًا من عيش، ثم يمسك‏.‏ ورجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتي يصيبها ثم يمسك‏.‏ فما سواهن من المسألة يا قبيصة، فسحت يأكلها صاحبها سحتاً‏"‏‏.‏
    وسئل رحمه الله تعالى عمن أشهد على نفسه وهو في صحة من عقله وبدنه، أن وارثي هذا لم يرثني غيره‏:‏ فهل يجوز ذلك‏؟‏ ولمن يكون الإرث بعده‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    هذه الشهادة لا تقبل، بل إن كان وارثا في الشرع ورثه شاء أم أبي، وإن لم يكن وارثا في الشرع لم يرث‏.‏ وليس لأحد أن يتعدي حدود الله، ولا يغير دين الله، ولو فعل ذلك كرهاً كان فاسقاً من أهل الكبائر، كما قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏من قطع ميراثا قطع الله ميراثه من الجنة‏"‏

    ج/ 35 ص -412-وسئل رحمه الله تعالى‏:‏ هل تقبل شهادة المرضعة، أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إن كان الشاهد ذا عدل قبل قوله في ذلك، لكن في تحليفه نزاع، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ‏:‏ أنه يحلف، فإن كانت كاذبة لم يحل الحول حتى يبيض ثدياها‏.‏
    وسئل رحمه الله تعالى‏:‏ هل تقبل شهادة الضرة‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    لا تقبل شهادة الضرة فيما يبطل نكاح ضرتها، لا برضاع ولا غيره، والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله تعالى عن الشهادة على العاصي والمبتدع‏:‏ هل تجوز بالاستفاضة والشهرة، أم لابد من السماع والمعاينة‏؟‏ وإذا كانت الاستفاضة في ذلك كافية فمن ذهب إليه من

    ج/ 35 ص -413- الأئمة‏؟‏ وما وجه حجيته‏؟‏ والداعي إلي البدعة والمرجح لها‏:‏ هل يجوز الستر عليه‏؟‏ أم تتأكد الشهادة ليحذره الناس‏؟‏ وما حد البدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    ما يجرح به الشاهد وغيره مما يقدح في عدالته ودينه فإنه يشهد به إذا علمه الشاهد به بالاستفاضة، ويكون ذلك قدحا شرعيا، كما صرح بذلك طوائف الفقهاء من المالكية والشافعية والحنبلية وغيرهم في كتبهم الكبار والصغار، صرحوا فيما إذا جرح الرجل جرحاً مفسدا أنه يجرحه الجارح بما سمعه منه، أو رآه، واستفاض‏.‏ وما أعلم في هذا نزاعاً بين الناس، فإن المسلمين كلهم يشهدون في وقتنا في مثل عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وأمثالهما من أهل العدل والدين بما لم يعلموه إلا بالاستفاضة‏.‏ ويشهدون في مثل الحجاج ابن يوسف والمختار بن أبي عبيد، وعمر بن عبيد، وغيلان القدري، وعبد الله بن سبأ الرافضي، ونحوهم من الظلم والبدعة بما لا يعلمونه إلا بالاستفاضة‏.‏
    وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ‏:‏ أنه مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال‏:‏ ‏
    "‏وجبت‏"‏ ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال‏:‏ ‏"‏وجبت، وجبت‏"‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، ما قولك‏:‏ وجبت وجبت‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت‏:‏ وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا، فقلت‏:‏ وجبت لها النار‏.‏ أنتم شهداء الله في الأرض‏"‏ هذا إذا كان المقصود تفسيقه لرد شهادته وولايته‏.‏

    ج/ 35 ص -414- وأما إذا كان المقصود التحذير منه واتقاء شره فيكتفي بما دون ذلك،كما قال عبد الله بن مسعود‏:‏ اعتبروا الناس بأخدانهم،وبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا يجتمع إليه الأحداث فنهي عن مجالسته، فإذا كان الرجل مخالطاً في السير لأهل الشر يحذر عنه‏.‏
    والداعي إلي البدعة مستحق العقوبة باتفاق المسلمين، وعقوبته تكون تارة بالقتل، وتارة بما دونه، كما قتل السلف جهم بن صفوان، والجعد بن درهم، وغيلان القدري، وغيرهم‏.‏ ولو قدر أنه لا يستحق العقوبة أو لا يمكن عقوبته فلابد من بيان بدعته والتحذير منها، فإن هذا من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي أمر الله به ورسوله‏.‏
    والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، فإن عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وغيرهما قالوا‏:‏ أصول اثنتين وسبعين فرقة هي أربع‏:‏ الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، قيل لابن المبارك‏:‏ فالجهمية‏؟‏ قال‏:‏ ليست الجهمية من أمة محمد ﷺ ‏.‏
    والجهمية نفاة الصفات الذين يقولون‏:‏ القرآن مخلوق، وإن الله لا يري في الآخرة، وأن محمدًا لم يعرج به إلي الله، وأن الله لا علم له ولا قدرة ولا حياة ونحو ذلك، كما يقوله المعتزلة والمتفلسفة ومن اتبعهم‏.‏

    ج/ 35 ص -415- وقد قال عبد الرحمن بن مهدي‏:‏ هما صنفان فاحذرهما الجهمية والرافضة‏.‏ فهذان الصنفان شرار أهل البدع، ومنهم دخلت القرامطة الباطنية كالنصيرية والإسماعيلية، ومنهم اتصلت الاتحادية؛ فإنهم من جنس الطائفة الفرعونية‏.‏
    والرافضة في هذه الأزمان مع الرفض جهمية قدرية؛ فإنهم ضموا إلي الرفض مذهب المعتزلة، ثم قد يخرجون إلي مذهب الإسماعيلية ونحوهم من أهل الزندقة والاتحاد، والله ورسوله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله تعالى عن شهود شهدوا بما يوجب الحد، ولما شخص قالوا‏:‏ غلطنا، ورجعوا‏:‏ فهل يقبل رجوعهم‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    نعم، إذا رجع عن شهادته قبل الحكم بها لم يحكم بها وإذا كان يعلم أنه قد غلط وجب عليه أن يرجع، ولا يقدح ذلك في دينه ولا عدالته، والله أعلم‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML