أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

باب القضاء

    ج/ 35 ص -355- كتاب القضاء
    قال أبو العباس قدس الله روحهُ ‏:‏
    فائدة نافعة جامعة
    المقصود من القضاء وصول الحقوق إلى أهلها، وقطع المخاصمة‏.‏ فوصول الحقوق هو المصلحة، وقطع المخاصمة إزالة المفسدة‏.‏ فالمقصود هو جلب تلك المصلحة وإزالة هذه المفسدة‏.‏ ووصول الحقوق هو من العدل الذي تقوم به السماء والأرض، وقطع الخصومة هو من باب دفع الظلم والضرر وكلاهما ينقسم إلى إبقاء موجود ودفع مفقود‏.‏ ففي وصول الحقوق إلى مستحقها يحفظ موجودها ويحصل مقصودها، وفي الخصومة يقطع موجودها ويدفع مفقودها‏.‏ فإذا حصل الصلح زالت الخصومة التي هي إحدى المقصودين‏.‏
    وأما الحقوق، فإما أن تكون وصلت معه أو رضى صاحب الحق بتركه وهو جائز، وإذا انفصلت الحقوق بحكم وشهادة ونحو ذلك فقد يكون في فصلها جرح الحكام والشهود ونحو ذلك، وهو من المفاسد التي لا يصار إليها إلا لضرورة، كالمخاصمة، فإنه قد يكون في الفصل الأمر صعبًا بين المتخاصمين وغيرهما‏.‏

    ج/ 35 ص -356-فالأقسام أربعة‏:‏ إما فصل بصلح، فهذا هو الغاية؛ لأنه حصل المقاصد الثلاث على التمام‏.‏ وإما فصل بحكم مر، فقد حصل معه وصول الحق وقطع الخصومة، ولم يحصل معه صلاح ذات البين‏.‏ وإما صلح على ترك بعض ما يدعى أنه حق، فهذا أيضًا قد حصل مقصود الصلح وقطع النزاع، ولم يحصل مقصود وصول الحقوق، لكن ما يقوم مقامه من الترك‏.‏ ومن هنا يتبين أن الحكم بالصلح أحسن من الحكم بالفصل المر؛ لأنهما اشتركا في دفع الخصومة وامتاز ذلك بصلاح ذات البين مع ترك أحدهما لحقه، وامتاز الآخر بأخذ المستحق حقه مع ضغائن، فتلك المصلحة أكمل، لاسيما إن كان الحق إنما هو في الظاهر وقد يكون الباطن بخلافه‏.‏ وأما لا فضل ولا صلح، فهذا لا يصلح، يحصل به مفسدة ترك القضاء‏.‏
    وإن كان الحق في يد صاحبه كالوقف وغيره يخاف إن لم يحفظ بالبينات أن ينسيه شرط ويجحد ولا يأتيه ونحو ذلك، فهنا في سماع الدعوى والشهادة من غير خصم حفظ الحق المجحود عن خصم مقدر، وهذا أحد مقصودى القضاء فلذلك يسمع ذلك‏.‏ ومن قال من الفقهاء‏:‏ لا يسمع ذلك، كما يقوله طوائف من الحنفية والشافعية والحنبلية، فعنده ليس للقضاء فائدة إلا فصل الخصومة ولا خصومة ولا قضاء؛ فلذلك لا تسمع البينة إلا في وجه مدعى عليه لتظهر الخصومة‏.‏ ومن قال بالخصم المسخر، فإنه ينصب للشر ثم يقطعه، ومن قال تسمع، فإنه يحفظ الحق الموجود ويذر الشر المفقود، والله أعلم‏.‏

    ج/ 35 ص -357- وقال شيخ الإسلام قدس الله روحهُ ‏:‏
    فَصْل
    فيما جعل الله للحاكم أن يحكم فيه، وما لم يجعل لواحد من المخلوقين الحكم فيه، بل الحكم فيه على جميع الخلق لله تعالى ولرسوله ﷺ، ليس لأحد من الحكام أن يحكم فيه على غيره، ولو كان ذلك الشخص من آحاد العامة‏.‏ وهذا مثل الأمور العامة الكلية التي أمر الله جميع الخلق أن يؤمنوا بها ويعملوا بها، وقد بينها في كتابه وسنة رسوله ﷺ بما أجمعت عليه الأمة، أو تنازعت الأمة فيه إذا وقع فيه نزاع بين الحكام وبين آحاد المسلمين، من العلماء أو الجند أو العامة، أو غيرهم، لم يكن للحاكم أن يحكم فيها على من ينازعه ويلزمه بقوله ويمنعه من القول الآخر، فضلاً عن أن يؤذيه أو يعاقبه‏.‏
    مثل أن يتنازع حاكم أو غير حاكم في قوله‏:‏
    ‏"‏أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ هل المراد به الجماع كما فسره ابن عباس وغيره‏؟‏ وقالوا‏:‏ إن مس المرأة لا ينقض الوضوء لا لشهوة ولا لغير شهوة‏.‏ أو المراد به اللمس بجميع البشرة إما لشهوة وإما مطلقًا، كما نقل الأول عن ابن عمر‏.‏ والثالث قاله بعض العلماء، وللعلماء في هذا ثلاثة أقوال‏.‏

    ج/ 35 ص -358- والأظهر هو القول الأول، وأن الوضوء لا ينتقض بمس النساء مطلقًا، وما زال المسلمون يمسون نساءهم ولم ينقل أحد قط عن النبي ﷺ، أنه كان يأمر المسلمين بالوضوء من ذلك، ولا نقل عن الصحابة على حياته أنه توضأ من ذلك، ولا نقل عنه قط أنه توضأ من ذلك، بل قد نقل عنه في السنن أنه كان يقبل بعض نسائه ولا يتوضأ، وقد اختلف في صحة هذا الحديث، لكن لا خلاف أنه لم ينقل عنه أنه توضأ من المس‏.‏
    وكذلك تنازع المسلمون في الوضوء من خروج الدم بالفصاد والحجامة، والجرح، والرعاف، وفي القيء وفيه قولان مشهوران، وقد نقل عن النبي ﷺ أنه توضأ من ذلك، وعن كثير من الصحابة، لكن لم يثبت قط أن النبي ﷺ أوجب الوضوء من ذلك، بل كان أصحابه يخرجون في المغازي فيصلون ولا يتوضؤون؛ ولهذا قال طائفة من العلماء‏:‏ إن الوضوء من ذلك مستحب غير واجب، وكذلك قال في الوضوء من مس الذكر ومس المرأة لشهوة‏:‏ إنه يستحب الوضوء من ذلك ولا يجب، وكذلك قالوا في الوضوء من القهقهة ومما مست النار‏:‏ إن الوضوء من ذلك يستحب ولا يجب، فمن توضأ فقد أحسن، ومن لم يتوضأ فلا شيء عليه، وهذا أظهر الأقوال‏.‏
    وليس المقصود ذكر هذه المسائل، بل المقصود ضرب المثل بها‏.‏

    ج/ 35 ص -359- وكذلك تنازعوا في كثير من مسائل الفرائض كالجد والمشركة وغيرهما وفي كثير من مسائل الطلاق والإيلاء وغير ذلك، وفي كثير من مسائل العبادات في الصلاة والصيام والحج، وفي مسائل زيارات القبور، منهم من كرهها مطلقًا، ومنهم من أباحها، ومنهم من استحبها إذا كانت على الوجه المشروع، وهو قول أكثرهم‏.‏
    وتنازعوا في السلام على النبي ﷺ‏:‏ هل يسلم عليه في المسجد وهو مستقبل القبلة، أو مستقبل الحجرة‏؟‏ وهل يقف بعد السلام يدعو له، أم لا‏؟‏
    وتنازعوا أي المسجدين أفضل‏:‏ المسجد الحرام، أو مسجد النبي ﷺ، واتفقوا على أنهما أفضل من المسجد الأقصى، واتفقوا على أنه لا يستحب السفر إلى بقعة للعبادة فيها غير المساجد الثلاثة، واتفقوا على أنه لو نذر الحج أو العمرة لزمه الوفاء بنذره، واتفق الأئمة الأربعة والجمهور على أنه لو نذر السفر إلى غير المساجد الثلاثة لم يلزمه الوفاء بنذره، وتنازعوا فيما إذا نذر السفر إلى المسجدين إلى أمور أخرى يطول ذكرها، وتنازعوا في بعض تفسير الآيات، وفي بعض الأحاديث‏:‏ هل ثبتت عن النبي ﷺ، أو لم تثبت‏؟‏

    ج/ 35 ص -360- فهذه الأمور الكلية ليس لحاكم من الحكام كائنًا من كان ولو كان من الصحابة أن يحكم فيها بقوله على من نازعه في قوله، فيقول‏:‏ ألزمته ألا يفعل ولا يفتي إلا بالقول الذي يوافق لمذهبي، بل الحكم في هذه المسائل لله ورسوله، والحاكم واحد من المسلمين، فإن كان عنده علم تكلم بما عنده، وإذا كان عند منازعه علم تكلم به، فإن ظهر الحق في ذلك وعرف حكم الله ورسوله وجب على الجميع اتباع حكم الله ورسوله، وإن خفي ذلك أقر كل واحد على قوله أقر قائل هذا القول على مذهبه وقائل هذا القول على مذهبه ولم يكن لأحدهما أن يمنع الآخر إلا بلسان العلم والحجة والبيان فيقول ما عنده من العلم‏.‏
    وأما باليد والقهر، فليس له أن يحكم إلا في المعينة التي يتحاكم فيها إليه مثل ميت مات وقد تنازع ورثته في قسم تركته فيقسمها بينهم إذا تحاكموا إليه وإذا حكم هنا بأحد قولي العلماء ألزم الخصم بحكمه، ولم يكن له أن يقول‏:‏ أنا لا أرضي حتى يحكم بالقول الآخر‏.‏ وكذلك إذا تحاكم إليه اثنان في دعوى يدعيها أحدهما فصل بينهما كما أمر الله ورسوله، وألزم المحكموم عليه بما حكم به، وليس له أن يقول‏:‏ أنت حكمت على بالقول الذي لا أختاره، فإن الحاكم عليه أن يجتهد ، كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏
    "‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر‏"‏، وقد يخص الله بعض الأنبياء والعلماء

    ج/ 35 ص -361- والحكام بعلم دون غيره، كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ‏"‏ [‏الأنبياء‏:‏ 78، 79‏]
    وعلى الحكام ألا يحكموا إلا بالعدل‏.‏ والعدل هو ما أنزل الله، كما قال تعالى‏:‏
    ‏"‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏"‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ‏"‏[‏النساء‏:‏58، 59‏]‏، فأوجب الله طاعة أولى الأمر مع طاعة الرسول، وأوجب على الأمة إذا تنازعوا أن يردوا ما تنازعوا إلى الله ورسوله إلى كتاب الله وسنة رسوله‏.‏
    فإن الله سبحانه وتعالى هو الحكم الذي يحكم بين عباده،والحكم له وحده وقد أنزل الله الكتب وأرسل الرسل ليحكم بينهم، فمن أطاع الرسول كان من أوليائه المتقين، وكانت له سعادة الدنيا والآخرة، ومن عصى الرسول كان من أهل الشقاء والعذاب، قال تعالى‏:‏
    ‏"‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏،

    ج/ 35 ص -362- وفي صحيح مسلم عن عائشة‏:‏ أن النبي ﷺ كان إذا قام يصلي من الليل يقول‏:‏ ‏"‏اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم‏"‏‏.‏
    وقال تعالى‏:
    ‏ ‏"‏وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏، فبين سبحانه وتعالى أنه هداهم وبين لهم الحق، لكن بعضهم يبغي على بعض مع معرفته بالحق فيتبع هواه ويخالف أمر الله، وهو الذي يعرف الحق ويزيغ عنه، كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ الى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عليه يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏175،176‏]‏، فقد بين سبحانه وتعالى أنه بعث الرسل وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ الى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عليه تَوَكَّلْتُ وَاليه أُنِيبُ ‏"‏[‏الشوري‏:‏ 10‏]‏، وقال يوسف‏:‏ ‏"‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ‏"‏[‏يوسف‏:‏39،40‏]‏،

    ج/ 35 ص -363-فالحكم لله وحده ورسله يبلغون عنه، فحكمهم حكمه، وأمرهم أمره وطاعتهم طاعته، فما حكم به الرسول وأمرهم به وشرعه من الدين وجب على جميع الخلائق اتباعه وطاعته؛ فإن ذلك هو حكم الله على خلقه‏.‏
    والرسول يبلغ عن الله، قال تعالى‏:‏ ‏
    "‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ‏"‏[‏النساء‏:‏ 64،65‏]‏، فعلى جميع الخلق أن يحكموا رسول الله ﷺ خاتم النبيين وأفضل المرسلين وأكرم الخلق على الله، ليس لأحد أن يخرج عن حكمه في شيء سواء كان من العلماء أو الملوك أو الشيوخ أو غيرهم‏.‏ ولو أدركه موسي أو عيسي وغيرهما من الرسل كان عليهم اتباعه، كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏، وروي عن غير واحد من السلف علي وابن عباس وغيرهما قالوا‏:‏ لم

    ج/ 35 ص -364- يبعث الله نبيًا من عهد نوح إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه‏.‏
    وهو سبحانه أخذ الميثاق على النبي المتقدم أن يصدق من يأتي بعده وعلى النبي المتأخر أن يصدق من كان قبله؛ ولهذا لم تختلف الأنبياء، بل دينهم واحد كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح‏:‏ ‏
    "‏إنا معشر الأنبياء ديننا واحد‏"‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ‏"‏[‏المؤمنون‏:‏51، 52‏]‏، أي‏:‏ ملتكم ملة واحدة كقولهم‏:‏ ‏"‏إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا على أُمَّةٍ ‏"‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 22‏]‏، أي‏:‏ ملة‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّي بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا اليكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَي وَعِيسَي أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ على الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ اليه‏"‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 13‏]‏‏.‏
    فدين الأنبياء واحد، وهو دين الإسلام، كلهم مسلمون مؤمنون، كما قد بين الله في غير موضع من القرآن، لكن بعض الشرائع تتنوع، فقد يشرع في وقت أمرًا لحكمة، ثم يشرع في وقت آخر أمرًا آخر لحكمة، كما شرع في أول الإسلام

    ج/ 35 ص -365- الصلاة الى بيت المقدس ثم نسخ ذلك وأمر بالصلاة الى الكعبة، فتنوعت الشريعة والدين واحد، وكان استقبال الشام ذلك الوقت من دين الإسلام، وكذلك السبت لموسي من دين الإسلام، ثم لما نسخ صار دين الإسلام هو الناسخ وهو الصلاة الى الكعبة، فمن تمسك بالمنسوخ دون الناسخ فليس هو على دين الإسلام ولا هو متبع لأحد من الأنبياء، ومن بدل شرع الأنبياء وابتدع شرعًا فشرعه باطل لا يجوز اتباعه، كما قال‏:‏ ‏"‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ‏"‏[‏الشوري‏:‏21‏]‏؛ ولهذا كفر اليهود والنصاري؛ لأنهم تمسكوا بشرع مبدل منسوخ، والله أوجب على جميع الخلق أن يؤمنوا بجميع كتبه ورسله، ومحمد ﷺ خاتم الرسل، فعلى جميع الخلق اتباعه واتباع ما شرعه من الدين وهو ما أتي به من الكتاب والسنة، فما جاء به الكتاب والسنة وهو الشرع الذي يجب على جميع الخلق اتباعه، وليس لأحد الخروج عنه، وهو الشرع الذي يقاتل عليه المجاهدون، وهو الكتاب والسنة‏.‏
    وسيوف المسلمين تنصر هذا الشرع وهو الكتاب والسنة، كما قال جابر بن عبد الله‏:‏ أمرنا رسول الله ﷺ أن نضرب بهذا يعني السيف من خرج عن هذا يعني المصحف، قال تعالى‏:‏ ‏
    "‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏"‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏،

    ج/ 35 ص -366-فبين سبحانه وتعالى أنه أنزل الكتاب وأنزل العدل وما به يعرف العدل ليقوم الناس بالقسط، وأنزل الحديد‏.‏ فمن خرج عن الكتاب والميزان قوتل بالحديد‏.‏ فالكتاب والعدل متلازمان، والكتاب هو المبين للشرع، فالشرع هو العدل، والعدل هو الشرع، ومن حكم بالعدل فقد حكم بالشرع، ولكن كثيرًا من الناس ينسبون ما يقولونه الى الشرع وليس من الشرع، بل يقولون ذلك إما جهلاً وإما غلطاً وإما عمدًا وافتراء، وهذا هو الشرع المبدل الذي يستحق أصحابه العقوبة، ليس هو الشرع المنزل الذي جاء به جبريل من عند الله الى خاتم المرسلين فإن هذا الشرع المنزل كله عدل ليس فيه ظلم ولا جهل، قال تعالى‏:‏ ‏"‏وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏"‏ [‏المائدة‏:‏ 42‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ ‏"‏[‏المائدة‏:‏49‏]‏، فالذي أنزل الله هو القسط، والقسط، هو الذي أنزل الله وقال تعالى‏:‏ ‏"‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ الى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏إِنَّا أَنزَلْنَا اليكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 105‏]‏، فالذي أراه الله في كتابه هو العدل‏.‏
    وقد يقول كثير من علماء المسلمين أهل العلم والدين من الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين كالأربعة وغيرهم أقوالا باجتهادهم، فهذه يسوغ

    ج/ 35 ص -367- القول بها، ولا يجب على كل مسلم أن يلتزم إلا قول رسول الله ﷺ، فهذا شرع دخل فيه التأويل والاجتهاد، وقد يكون في نفس الأمر موافقًا للشرع المنزل فيكون لصاحبه أجران، وقد لا يكون موافقًا له، لكن لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فإذا اتقي العبد الله ما استطاع آجره الله على ذلك، وغفر له خطأه‏.‏
    ومن كان هكذا لم يكن لأحد أن يذمه ولا يعيبه ولا يعاقبه ولكن إذا عرف الحق بخلاف قوله، لم يجز ترك الحق الذي بعث الله به رسوله لقول أحد من الخلق، وذلك هو الشرع المنزل من عند الله، وهو الكتاب والسنة وهو دين الله ورسوله لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله لا يجاهدون على قول عالم ولا شيخ متأول، بل يجاهدون ليعبد الله وحده ويكون الدين له، كما في المسند عن ابن عمر قال‏:‏ قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتي يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم‏"‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّي لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه ‏"‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 39‏]‏، وفي الصحيحين عن أبي موسي الأشعري قال‏:‏ قيل‏:‏ يا رسول الله، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله‏"‏‏.‏

    ج/ 35 ص -368- فالمقصود بالجهاد ألا يعبد أحد إلا الله، فلا يدعو غيره، ولا يصلي لغيره ولا يسجد لغيره، ولا يصوم لغيره، ولا يعتمر ولا يحج إلا الى بيته، ولا يذبح القرابين إلا له، ولا ينذر إلا له، ولا يحلف إلا به، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يخاف إلا إياه، ولا يتقي إلا إياه، فهو الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو، ولا يهدي الخلق إلا هو، ولا ينصرهم إلا هو، ولا يرزقهم إلا هو، ولا يغنيهم إلا هو، ولا يغفر ذنوبهم إلا هو، قال تعالى‏:‏ "‏وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَاليه تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏"‏ ‏[‏النحل‏:‏ 51‏:‏ 55‏]‏‏.‏
    والله تعالى قد حرم الشرك كله وأن يجعل له ندًا، فلا يدعي غيره لا الملائكة ولا الأنبياء ولا الصالحون ولا الشمس ولا القمر ولا الكواكب ولا الأوثان، ولا غير ذلك، بل قد بين أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابًا فهو كافر، قال تعالى‏:‏ ‏
    "‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 79، 80‏]‏،

    ج/ 35 ص -369- وقال تعالى‏:‏ ‏"‏قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ الى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 56، 57‏]‏، ذم ‏[‏من‏]‏ الله سبحانه وتعالى لمن يدعو الملائكة والأنبياء وغيرهم من الصالحين، وبين أن هؤلاء الذين يدعونهم لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله، وأنهم يتقربون الى الله بالوسيلة وهي الأعمال الصالحة، ويرجون رحمته ويخافون عذابه فكيف يدعون المخلوقين ويذرون الخالق‏؟‏‏!‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا ‏"‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 102‏]‏‏.‏
    وهو سبحانه وتعالى عليم بأحوال عباده، رحيم بهم؛ كما في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه رأي امرأة من السبي إذا رأت ولدًا ألصقته ببطنها فقال‏:‏ أترون هذه واضعة ولدها في النار‏؟‏ قالوا‏:‏ لا يا رسول الله، قال‏:‏
    ‏"‏لله أرحم بعباده من هذه بولدها‏"‏ وهو سبحانه سميع قريب قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي الي رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ‏"‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 50‏]‏، وهو تعالى رحيم ودود‏.‏ والود‏:‏ اللطف والمحبة، فهو يود عباده المؤمنين، ويجعل لهم الود في القلوب، كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ‏"‏[‏مريم‏:‏ 96‏]‏، قال ابن عباس وغيره‏:‏ يحبهم ويحببهم إلى عباده‏.‏

    ج/ 35 ص -370- وهو سبحانه لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، بل يحب من يدعوه ويتضرع اليه، ويبغض من لا يدعوه قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏من لا يسأل الله يغضب عليه‏"‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ‏"‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 681‏]‏، قال بعض الصحابة‏:‏ يا رسول الله، ربنا قريب فنناجيه، أو بعيد فنناديه‏؟‏ فأنزل الله هذه الآية‏.‏
    وهو سبحانه وتعالى ليس كالمخلوقين الذين ترفع اليهم الحوائج بالحجاب، بل في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏
    :‏ ‏"‏يقول الله‏:‏ قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد‏:‏‏"‏الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏"‏، قال الله‏:‏ حمدني عبدي‏.‏ فإذا قال‏:‏ ‏"‏الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ‏"‏، قال الله‏:‏ أثني علي عبدي‏.‏ فإذا قال‏:‏"‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ‏"‏، قال الله‏:‏ مجدني عبدي، فإذا قال‏:‏ ‏"‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ‏"‏، قال الله‏:‏ هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل‏.‏ فإذا قال‏:‏ ‏"‏اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عليهمْ غَيرِ المَغضُوبِ عليهمْ وَلاَ الضَّالينَ ‏"‏، قال‏:‏ هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل‏.‏

    ج/ 35 ص -371- وهو سبحانه يتولي كلام عباده يوم القيامة، كما جاء في الصحيح، عن عدي بن حاتم أنه قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه عز وجل ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يري إلا شيئًا قدمه، وينظر أشأم منه فلا يري إلا شيئًا قدمه، وينظر أمامه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل، فإن لم يجد فبكلمة طيبة‏"‏‏.‏ وهو سبحانه قريب ممن دعاه يتقرب ممن عبده وأطاعه، كما في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏يقول الله تعالى‏:‏ أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب الى شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإن تقرب إلى ذراعًا تقربت منه باعًا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة‏"‏‏.‏
    والله سبحانه يولي عباده إحسانًا وجودًا وكرمًا، لا لحاجة اليهم، كما قال تعالى‏:‏
    ‏"‏وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ‏"‏[‏الإسراء‏:‏111‏]‏،ولا يحاسب العباد إلا هو وحده،وهو الذي يجازيهم بأعمالهم ‏"‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ‏"‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7، 8‏]‏‏.‏
    وهو الذي يرزقهم ويعافيهم وينصرهم ويهديهم، لا أحد غيره يفعل ذلك قال تعالى‏:‏ ‏
    "‏أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ‏"‏ ‏[‏الملك‏:‏ 20، 21‏]‏،

    ج/ 35 ص -372-وقال تعالى‏:‏ ‏"‏قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ ‏"‏ [‏الأنبياء‏:‏ 42‏]‏، وأصح القولين في الآية أن معناه من ذا الذي يكلؤكم بدلاً من الله‏؟‏ من الذي يدفع الآفات عنكم التي تخافونها من الإنس والجن‏؟‏
    والرسول هو الواسطة والسفير بينهم وبين الله عز وجل فهو الذي يبلغهم أمر الله ونهيه ووعده ووعيده، وتحليله وتحريمه، فالحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، وليس لأحد أن يخرج عن شيء مما شرعه الرسول ﷺ، وهو الشرع الذي يجب على ولاة الأمر إلزام الناس به، ويجب على المجاهدين الجهاد عليه، ويجب على كل واحد اتباعه ونصره‏.‏
    وليس المراد بالشرع اللازم لجميع الخلق حكم الحاكم ولو كان الحاكم أفضل أهل زمانه، بل حكم الحاكم العالم العادل يلزم قومًا معينين تحاكموا اليه في قضية معينة، لا يلزم جميع الخلق، ولا يجب على عالم من علماء المسلمين أن يقلد حاكمًا لا في قليل ولا في كثير إذا كان قد عرف ما أمر الله به ورسوله، بل لا يجب على آحاد العامة تقليد الحاكم في شيء، بل له أن يستفتي من يجوز له استفتاؤه وإن لم يكن حاكمًا، ومتي ترك العالم ما عَلِمَه من

    ج/ 35 ص -373- كتاب الله وسنة رسوله واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتدًا كافرًا، يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة، قال تعالى‏:‏ ‏"‏المص كِتَابٌ أُنزِلَ اليكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَي لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ اليكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏1، 3‏]
    ولو ضرب وحبس وأوذي بأنواع الأذي ليدع ما علمه من شرع الله ورسوله الذي يجب اتباعه واتبع حكم غيره، كان مستحقًا لعذاب الله بل عليه أن يصبر‏.‏ وإن أوذي في الله فهذه سنة الله في الأنبياء وأتباعهم‏.‏ قال الله تعالى‏:‏
    ‏"‏الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ‏"‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 1، 3‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّي نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ‏"‏ ‏[‏محمد‏:‏13‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏‏.‏
    وهذا إذا كان الحاكم قد حكم في مسألة اجتهادية قد تنازع فيها الصحابة والتابعون فحكم الحاكم بقول بعضهم وعند بعضهم سنة لرسول الله ﷺ تخالف ما حكم به فعلى هذا أن يتبع

    ج/ 35 ص -374-ما علم من سنة رسول الله ﷺ، ويأمر بذلك، ويفتي به ويدعو اليه، ولا يقلد الحاكم‏.‏ هذا كله باتفاق المسلمين‏.‏
    وإن ترك المسلم عالمًا كان أو غير عالم ما علم من أمر الله ورسوله ﷺ لقول غيره كان مستحقًا للعذاب، قال تعالى‏:‏
    ‏"‏فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ اليمٌ ‏"‏[‏النور‏:‏ 63‏]‏، وإن كان ذلك الحاكم قد خفي عليه هذا النص مثل كثير من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم تكلموا في مسائل باجتهادهم وكان في ذلك سنة لرسول الله ﷺ تخالف اجتهادهم فهم معذورون لكونهم اجتهدوا، و‏"‏لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، ولكن من علم سنة رسول الله ﷺ لم يجز له أن يعدل عن السنة الى غيرها قال تعالى‏:‏ ‏"‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَي اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ‏"‏[‏الأحزاب‏:‏ 36‏]
    ومن اتبع ما بعث الله به رسوله كان مهديًا منصورًا بنصرة الله في الدينا والآخرة كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ‏"‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ‏"‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 171‏:‏ 173‏]‏، وإذا أصابت العبد مصيبة كانت بذنبه لا باتباعه للرسول ﷺ، بل باتباعه للرسول ﷺ

    ج/ 35 ص -375- يرحم وينصر، وبذنوبه يعذب ويخذل، قال تعالى‏:‏ ‏"‏وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ‏"‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 30‏]‏‏.‏
    ولهذا لما انهزم المسلمون يوم أحد وكانوا مع النبي ﷺ واستظهر عليهم العدو بين الله لهم أن ذلك بذنوبهم، قال تعالى‏:‏
    ‏"‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَي الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 155‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّي هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 165]‏، وبين سبحانه حكمة ابتلائهم، فقال تعالى‏:‏ ‏"‏قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًي وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 137‏:‏ 141‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ‏"[‏النساء‏:‏ 79‏]‏، والله قدرها، وقدر كل شيء‏.‏
    لكن ما أصاب العبد من عافية ونصر ورزق فهو من إنعام الله عليه وإحسانه اليه، فالخير كله من الله، وليس للعبد من نفسه شيء، بل هو فقير لا يملك

    ج/ 35 ص -376- لنفسه نفعًا ولا ضرًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، وما أصابه من مصيبة فبذنوبه والله تعالى يكفر ذنوب المؤمنين بتلك المصائب، ويؤجرهم على الصبر عليها، ويغفر لمن استغفر، ويتوب على من تاب، قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب، ولا هم ولا غم ولا حزن ولا أذي حتي الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه‏"‏، ولما أنزل الله تعالى قوله‏:‏ ‏"‏مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ‏"‏[‏النساء‏:‏ 123‏]‏، قال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، قد جاءت قاصمة الظهر‏!‏ وأينا لم يعمل سوءًا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏يا أبا بكر، ألست تنصب‏؟‏ ألست تحزن‏؟‏ ألست تصيبك اللأواء‏؟‏ فذلك ما تجزون به‏"‏‏.‏
    وقد قص الله علينا في القرآن أخبار الأنبياء وما أصابهم وما أصاب أتباعهم المؤمنين من الأذي في الله، ثم إنه تعالى نصرهم، وجعل العاقبة لهم، وقص علينا ذلك لنعتبر به قال تعالى‏:‏ ‏"‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَي وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 111‏]‏‏.‏
    فالشرع الذي يجب على كل مسلم أن يتبعه ويجب على ولاة الأمر نصره والجهاد عليه هو الكتاب والسنة‏.‏ وأما حكم الحاكم فذاك يقال له قضاء القاضي، ليس هو الشرع الذي فرض الله على جميع الخلق طاعته، بل القاضي العالم العادل يصيب تارة ويخطئ تارة، ولو حكم الحاكم لشخص بخلاف

    ج/ 35 ص -377- الحق في الباطن لم يجز له أخذه، ولو كان الحاكم سيد الأولين والآخرين كما في الصحيحين عن أم سلمة، قالت‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏إنكم تختصمون الى، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه‏.‏ فإنما أقطع له قطعة من النار‏"‏، فهذا سيد الحكام والأمراء والملوك يقول‏:‏ إذا حكمت لشخص بشيء يعلم أنه لا يستحقه فلا يأخذه‏.‏
    وقد أجمع المسلمون على أن حكم الحاكم بالأملاك المرسلة لا ينفذ في الباطن فلو حكم لزيد بمال عمرو وكان مجتهدًا متحريًا للحق لم يجز له أخذه‏.‏
    وأما في العقود والفسوخ، مثل أن يحكم بنكاح أو طلاق أو بيع أو فسخ بيع ففيه نزاع معروف، وجمهورهم يقولون‏:‏ لا ينفذ أيضًا، وهي مسألة معروفة، وهذا إذا كان الحاكم عالمًا عادلاً وقد حكم في أمر دنيوي‏.‏
    والقضاة ثلاثة أنواع كما في السنن عن النبي ﷺ قال‏:
    ‏ ‏"‏القضاة ثلاثة‏:‏ قاضيان في النار، وقاض في الجنة‏:‏ رجل علم الحق وقضي به فهو في الجنة‏.‏ ورجل قضي للناس على جهل فهو في النار‏.‏ ورجل علم الحق وقضي بخلافه فهو في النار‏"‏، فالقاضي الذي هو من أهل الجنة إذا حكم للإنسان بما يعلم أنه غير حق لم يحل له أخذه، لسنة رسول الله ﷺ وإجماع المسلمين، فكيف إذا حكم في الدين الذي ليس له أن يحكم فيه، بل هو فيه واحد من المسلمين إن كان له علم تكلم، وإلا سكت؛

    ج/ 35 ص -378- مثل أن يحكم بأن السفر الى غير المساجد الثلاثة مشروع مستحب، يثاب فاعله وأن من قال‏:‏ إنه لا يستحب يؤذي ويعاقب أو يحبس، فهذا الحكم باطل بإجماع المسلمين، لا يحل لمن عرف دين الإسلام أن يتبعه، ولا لولي أمر أن ينفذه، ومن نفذ مثل هذا الحكم ونصره كان له حكم أمثاله إن قامت عليه الحجة التي بعث الله بها رسوله وخالفها استحقوا العقاب، وكذلك إن ألزم بمثل هذا جهلاً، وألزم الناس بما لا يعلم، فإنه مستحق للعقاب فإن كان مجتهدًا مخطئًا عفي عنه‏.‏
    وقد فرض الله على ولاة أمر المسلمين اتباع الشرع الذي هو الكتاب والسنة، وإذا تنازع بعض المسلمين في شيء من مسائل الدين ولو كان المنازع من آحاد طلبة العلم لم يكن لولاة الأمور أن يلزموه باتباع حكم حاكم، بل عليهم أن يبينوا له الحق كما يبين الحق للجاهل المتعلم، فإن تبين له الحق الذي بعث الله به رسوله وظهر وعانده بعد هذا استحق العقاب‏.‏ وأما من يقول‏:‏ إن الذي قلته هو قولي، أو قول طائفة من العلماء المسلمين، وقد قلته اجتهادًا أو تقليدًا، فهذا باتفاق المسلمين لا تجوز عقوبته‏.‏
    ولو كان قد أخطأ خطأ مخالفًا للكتاب والسنة، ولو عوقب هذا لعوقب جميع المسلمين، فإنه ما منهم من أحد إلا وله أقوال اجتهد فيها أو قلد فيها وهو مخطئ فيها، فلو عاقب الله المخطئ لعاقب جميع الخلق، بل قد قال الله تعالى في القرآن‏:‏

    ج/ 35 ص -379-"‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ اليه مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَاليكَ الْمَصِيرُ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعليها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ علينَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ على الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا على الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285، 286‏]‏، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ ‏:‏ ‏"‏إن الله استجاب هذا الدعاء‏"‏‏.‏ ولما قال المؤمنون‏:‏ ‏"‏ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ‏"‏، قال الله‏:‏ ‏"‏قد فعلت‏"‏، وكذلك في سائر الدعاء، وقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه‏"‏‏.‏
    فالمفتي والجندي والعامي إذا تكلموا بالشيء بحسب اجتهادهم اجتهادًا أو تقليدًا قاصدين لاتباع الرسول بمبلغ علمهم لا يستحقون العقوبة بإجماع المسلمين وإن كانوا قد أخطؤوا خطأ مجمعًا عليه‏.‏ وإذا قالوا‏:‏ إنا قلنا الحق، واحتجوا بالأدلة الشرعية، لم يكن لأحد من الحكام أن يلزمهم بمجرد قوله، ولا يحكم بأن الذي قاله هو الحق دون قولهم، بل يحكم بينه وبينهم الكتاب والسنة والحق الذي بعث الله به رسوله لا يغطي بل يظهر، فإن ظهر رجع الجميع اليه، وإن لم يظهر سكت هذا عن هذا وسكت هذا عن هذا؛ كالمسائل التي تقع يتنازع فيها أهل المذاهب لا يقول أحد‏:‏ إنه يجب على صاحب مذهب أن يتبع مذهب غيره لكونه حاكمًا، فإن هذا ينقلب، فقد يصير الآخر حاكمًا

    ج/ 35 ص -380- فيحكم بأن قوله هو الصواب، فهذا لا يمكن أن يكون كل واحد من القولين المتضادين يلزم جميع المسلمين اتباعه، بخلاف ما جاء به الرسول ﷺ فإنه من عند الله، حق وهدي وبيان، ليس فيه خطأ قط، ولا اختلاف ولا تناقض قال تعالى‏:‏ ‏"‏ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ‏"‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏‏.‏
    وعلى ولاة الأمر أن يمنعوهم من التظالم، فإذا تعدي بعضهم على بعض منعوهم العدوان، وهم قد ألزموا بمنع ظلم أهل الذمة، وأن يكون اليهودي والنصراني في بلادهم إذا قام بالشروط المشروطة عليهم، لا يلزمه أحد بترك دينه، مع العلم بأن دينه يوجب العذاب، فكيف يسوغ لولاة الأمور أن يمكنوا طوائف المسلمين من اعتداء بعضهم على بعض، وحكم بعضهم على بعض بقوله ومذهبه، هذا مما يوجب تغير الدول وانتقاضها؛ فإنه لا صلاح للعباد على مثل هذا‏.‏
    وهذا إذا كان الحكام قد حكموا في مسألة فيها اجتهاد ونزاع معروف، فإذا كان القول الذي قد حكموا به لم يقل به أحد من أئمة المسلمين، ولا هو مذهب أئمتهم الذين ينتسبون اليهم، ولا قاله أحد من الصحابة والتابعين، ولا فيه آية من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، بل قولهم يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأئمة، فكيف يحل مع هذا أن يلزم علماء المسلمين

    ج/ 35 ص -381- باتباع هذا القول، وينفذ فيه هذا الحكم المخالف للكتاب والسنة والإجماع، وأن يقال‏:‏ القول الذي دل عليه الكتاب والسنة وأقوال السلف لا يقال‏.‏ ولا يفتي به بل يعاقب ويؤذي من أفتي به، ومن تكلم به، وغيرهم، ويؤذي المسلمون في أنفسهم وأهليهم وأموالهم لكونهم اتبعوا ما علموه من دين الإسلام وإن كان قد خفي على غيرهم، وهم يعذرون من خفي عليه ذلك ولا يلزمون باتباعهم، ولا يعتدون عليه، فكيف يعان من لا يعرف الحق بل يحكم بالجهل والظلم، ويلزم من عرف ما عرفه من شريعة الرسول أن يترك ما علمه من شرع الرسول ﷺ لأجل هذا‏؟‏‏!‏
    لا ريب أن هذا أمر عظيم عند الله تعالى وعند ملائكته وأنبيائه وعباده والله لا يغفل عن مثل هذا، وليس الحق في هذا لأحد من الخلق‏.‏ فإن الذين اتبعوا ما علموه من شرع الرسول ﷺ لم يظلموا أحدًا في دم ولا مال ولا عرض، ولا لأحد عليهم دعوي، بل هم قالوا‏:‏ نحن نتبع ما عرفناه من دين الإسلام وما جاء به الكتاب والسنة من توحيد الله وعبادته لا شريك له، فلا نعبد إلا الله وحده، ونعبده بما أمر به رسوله وشرعه من الدين فما دعانا اليه الرسول ﷺ وأمرنا به أطعناه، وما جعله الرسول دينًا وقربة وطاعة وحسنة وعملاً صالحًا وخيرًا سمعنا وأطعنا لله ولرسوله، واعتقدناه قربة وطاعة، وفعلناه وأحببنا من يفعل به، ودعونا اليه، وما نهانا

    ج/ 35 ص -382- عنه الرسول انتهينا عنه وإن كان غيرنا يعتقد أن ذلك قربة، فنحن علينا أن نطيع الرسول، ليس علينا أن نطيع من خالفه وإن كان متأولاً‏.‏
    ومعلوم أن أهل الكتاب وأهل البدع يتعبدون تعبدات كثيرة يرونها قربة وطاعة، وقد نهي عنها رسول الله ﷺ، فمن قال‏:‏ أنا أطيع الرسول ولا أتعبد بهذه العبادات، بل أنهي عما نهي عنه رسول الله ﷺ كيف يسوغ أن يعارض، بل لو كان مخطئًا مع اجتهاده لم يستحق العقوبة بإجماع المسلمين، ولا يجب عليه اتباع حكم أحد بإجماع المسلمين‏.‏ وليس للحاكم أن يحكم بأن هذا أمر به رسول الله ﷺ، وأن هذا العمل طاعة أو قربة، أو ليس بطاعة ولا قربة، ولا بأن السفر الى المساجد والقبور وقبر النبي ﷺ يشرع، أو لا يشرع ليس للحكام في هذا مدخل إلا كما يدخل فيه غيرهم من المسلمين، بل الكلام في هذا لجميع أمة محمد ﷺ، فمن كان عنده علم تكلم بما عنده من العل‏.‏
    وليس لأحد أن يحكم على عالم بإجماع المسلمين، بل يبين له أنه قد أخطأ فإن بين له بالأدلة الشرعية التي يجب قبولها أنه قد أخطأ وظهر خطؤه للناس ولم يرجع بل أصر على إظهار ما يخالف الكتاب والسنة والدعاء الى ذلك وجب أن يمنع من ذلك، ويعاقب إن لم يمتنع، وأما إذا لم يبين له ذلك بالأدلة

    ج/ 35 ص -383- الشرعية لم تجز عقوبته باتفاق المسلمين،ولا منعه من ذلك القول،ولا الحكم عليه بأنه لا يقوله إذا كان يقول‏:‏إن هذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة كما قاله فلان وفلان من علماء المسلمين، فهذا إذا اجتهد فأخطأ لم يحكم عليه إلا بالكتاب والسنة، والمنازع له يتكلم بلا علم، والحكم الذي حكم به لم يقله أحد من علماء المسلمين، فعلماء المسلمين الكبار لو قالوا بمثل قول الحكام لم يكن لهم إلزام الناس بذلك إلا بحجة شرعية لا بمجرد حكمهم‏.‏
    فإن الله إنما أوجب على الناس اتباع الرسول وطاعته، واتباع حكمه وأمره وشرعه ودينه، وهو حجة الله على خلقه، وهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل، والهدي والضلال، والرشاد والغي، وطريق الجنة وطريق النار، وبه هدي الله الخلق، قال الله تعالى‏:‏ ‏
    "‏ إِنَّا أَوْحَيْنَا اليكَ كَمَا أَوْحَيْنَا الى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا الى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَي وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عليكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عليكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَي تَكْلِيمًا رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ على اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 163‏:‏ 165 ‏]‏ الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏ما أحد أحب اليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين‏"‏، فالحجة على الخلق تقوم بالرسل، وما جاء به الرسول هو الشرع الذي يجب على الخلق قبوله، والى الكتاب والسنة يتحاكم جميع الخلق‏.‏

    ج/ 35 ص -384- ولهذا كان من أصول السنة والجماعة أن من تولي بعد رسول الله ﷺ كالخلفاء الراشدين وغيرهم لا يجب أن ينفرد واحد منهم بعلم لا يعلمه غيره، بل علم الدين الذي سنه الرسول ﷺ يشترك المسلمون في معرفته، وإذا كان عند بعضهم من الحديث ما ليس عند بعض بلغه هؤلاء لأولئك؛ ولهذا كان الخلفاء يسألون الصحابة في بعض الأمور‏:‏ هل عندكم علم عن النبي ﷺ‏؟‏ فإذا تبين لهم سنة الرسول ﷺ حكموا بها، كما سألهم أبو بكر الصديق عن ميراث الجدة لما أتته، فقال‏:‏ ما لك في كتاب الله من شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله شيئًا، ولكن حتي أسأل الناس‏.‏ فسألهم، فأخبره محمد بن مسلمة وغيره أن رسول الله ﷺ أعطاها السدس‏.‏
    وكذلك عمر بن الخطاب لما سألهم عن الجنين إذا قتل، قام بعض الصحابة فأخبره أن النبي ﷺ قضي فيه بغرة عبد أو أمة، أي من قتل جنينًا ضمنه بمملوك أو جارية لورثته، فقضي بذلك، قالوا‏:‏ وتكون قيمته بقدر عشر دية أمه، وعمر بن الخطاب قد قال النبي ﷺ فيه‏:‏
    ‏"‏إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر‏"‏، وروي أنه ضرب الحق على لسانه وقلبه وقال‏:‏ ‏"‏لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر‏"‏ ومع هذا فما كان يلزم أحدًا بقوله، ولا يحكم في الأمور العامة، بل كان يشاور الصحابة، ويراجع، فتارة يقول قولاً فترده

    ج/ 35 ص -385- عليه امرأة فيرجع اليها، كما أراد أن يجعل الصداق محدودًا لا يزاد على صداقات أزواج النبي ﷺ، وقال‏:‏ من زاد جعلت الزيادة في بيت المال وكان المسلمون يعجلون الصداق قبل الدخول، لم يكونوا يؤخرونه إلا أمرًا نادرًا فقالت امرأة‏:‏ يا أمير المؤمنين، لم تحرمنا شيئًا أعطانا الله إياه في كتابه ‏؟‏ فقال‏:‏ وأين‏؟‏ فقالت في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏20‏]‏، فرجع عمر الى قولها، وقال‏:‏ امرأة أصابت، ورجل أخطأ‏.‏
    وكان في مسائل النزاع مثل مسائل الفرائض والطلاق يري رأيًا ويري علي بن أبي طالب رأيًا، ويري عبد الله بن مسعود رأيًا، ويري زيد بن ثابت رأيًا، فلم يلزم أحدًا أن يأخذ بقوله، بل كل منهم يفتي بقوله، وعمر رضي الله عنه إمام الأمة كلها، وأعلمهم، وأدينهم، وأفضلهم، فكيف يكون واحد من الحكام خيرًا من عمر، هذا إذا كان قد حكم في مسألة اجتهاد‏.‏
    فكيف إذا كان ما قاله لم يقله أحد من أئمة المسلمين، لا الأربعة ولا من قبلهم من الصحابة والتابعين، وإنما يقوله مثله وأمثاله ممن لا علم لهم بالكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة، وإنما يحكمون بالعادات التي تربوا عليها، كالذين قالوا‏:‏ ‏
    "‏ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ‏"‏[‏الزخرف‏:‏ 32‏]‏، وكما تحكم

    ج/ 35 ص -386- الأعراب بالسوالف التي كانت لهم وهي عادات، كما يحكم التتر بالياساق الذي جرت به عاداتهم، وأما أهل الإيمان والإسلام والعلم والدين فإنما يحكمون بكتاب الله وسنة رسوله، كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ‏"‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 50‏]‏‏.‏
    والله سبحانه لم يرض بحكم واحد بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما فإنه لا يعلم أيهما الظالم، وليس بينهما بينة، بل أمر بحكمين، وألا يكونا متهمين، بل حكمًا من أهل الرجل وحكمًا من أهل المرأة، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "‏ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا ‏"‏[‏النساء‏:‏ 35‏]‏، أي الحكمين ‏"‏ يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا ‏"‏ أي‏:‏ بين الزوجين‏.‏ فإن رأيا المصلحة أن يجمعا بين الزوجين جمعا، وإن رأيا المصلحة أن يفرقا بينهما فرقا‏:‏ إما بعوض تبذله المرأة فتكون الفرقة خلعًا إن كانت هي الظالمة، وإن كان الزوج هو الظالم فرق بينهما بغير اختياره‏.‏ وأكثر العلماء على أن هذين حكمان، كما سماهما الله حكمين، يحكمان بغير توكيل الزوجين، وهذا قول مالك والشافعي والإمام أحمد في أحد قوليهما، وقيل‏:‏ هما وكيلان كقول أبي حنيفة والقول الآخر في المذهبين‏.‏

    ج/ 35 ص -387- فهنا لما اشتبه الحق لم يجعل الله الحكم لواحد، وهو في قضية معينة بين زوجين، ولو حكم حاكم واحد بين الزوجين في أمر ظاهر لم ينفذ حكمه باتفاق المسلمين، فيكف بأمور الدين والعبادات التي يشترك فيها جميع المسلمين، وقد اشتبهت على كثير من الناس‏.‏ هذا بإجماع المسلمين لا يحكم فيه إلا الله ورسوله، فمن كان عنده علم مما جاء به الرسول ﷺ، بينه وأوضحه للمسلمين، والمسلمون إذا عرفوا شرع نبيهم لم يعدلوا عنه‏.‏
    وإن كان كل قوم يقولون‏:‏ عندنا علم من الرسول ولم يكن هناك أمر ظاهر يجمعون فيما تنازعوا فيه كان أحد الحزبين لهم أجران، والآخرون لهم أجر واحد، كما قال تعالى‏:‏
    ‏"‏ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَفَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 78، 79‏]
    وولي الأمر إن عرف ماجاء به الكتاب والسنة حكم بين الناس به، وإن لم يعرفه وأمكنه أن يعلم ما يقول هذا وما يقول هذا حتي يعرف الحق حكم به‏.‏ وإن لم يمكنه لا هذا ولا هذا ترك المسلمين على ما هم عليه كل يعبد الله على حسب اجتهاده، وليس له أن يلزم أحدًا بقبول قول غيره وإن كان حاكمًا‏.‏

    ج/ 35 ص -388- وإذا خرج ولاة الأمور عن هذا فقد حكموا بغير ما أنزل الله، ووقع بأسهم بينهم قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏ما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا وقع بأسهم بينهم‏"‏، وهذا من أعظم أسباب تغيير الدول كما قد جري مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا، ومن أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره فيسلك مسلك من أيده الله ونصره، ويجتنب مسلك من خذله الله وأهانه، فإن الله يقول في كتابه‏:‏ ‏"‏ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏"‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40، 41‏]‏، فقد وعد الله بنصر من ينصره، ونصره هو نصر كتابه ودينه ورسوله، لا نصر من يحكم بغير ما أنزل الله، ويتكلم بما لا يعلم، فإن الحاكم إذا كان دَيِّنا لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار، وإن كان عالمًا لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار، وإذا حكم بلا عدل ولا علم كان أولي أن يكون من أهل النار، وهذا إذا حكم في قضية معينة لشخص‏.‏ وأما إذا حكم حكمًا عامًا في دين المسلمين فجعل الحق باطلاً والباطل حقًا، والسنة بدعة والبدعة سنة، والمعروف منكرًا والمنكر معروفًا، ونهي عما أمر الله به ورسوله، وأمر بما نهي الله عنه ورسوله، فهذا لون آخر‏.‏ يحكم فيه رب العالمين، وإله المرسلين مالك يوم الدين، الذي ‏"‏ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَي وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَاليه تُرْجَعُونَ ‏"‏[‏القصص‏:‏ 70‏]‏، ‏"‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَي وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ على الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَي بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏"‏[‏الفتح‏:‏ 28‏]‏، والحمد لله رب العالمين‏.‏ وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم‏.

    ج/ 35 ص -389-وقال شيخ الإسلام رحمه الله‏:‏
    الدعاوي التي يحكم فيها ولاة الأمور، سواء سموا قضاة، أو ولاة، أو تسمي بعضهم في بعض الأوقات ولاة الأحداث، أو ولاة المظالم، أو غير ذلك من الأسماء العرفية الاصطلاحية، فإن حكم الله تبارك وتعالى شامل لجميع الخلائق‏.‏ وعلى كل من ولي أمر الأمة أو حكم بين اثنين أن يحكم بالعدل والقسط، وأن يحكم بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وهذا هو الشرع المنزل من عند الله، قال الله تعالى‏:‏
    ‏"‏ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ‏"‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ الى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إِنَّا أَنزَلْنَا اليكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 105‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏‏.‏
    فالدعاوي قسمان‏:‏ دعوي تهمة، وغير تهمة‏.‏ فدعوي التهمة أن يدعي فعلا يحرم على المطلوب، يوجب عقوبته، مثل قتل، أو قطع طريق

    ج/ 35 ص -390- أو سرقة، أو غير ذلك من أنواع العدوان المحرم كالذي يستخفي به بما يتعذر إقامة البينة عليه في غالب الأوقات في العادة‏.‏
    وغير التهمة أن يدعي دعوي عقد من بيع أو قرض أو رهن أو ضمان أو دعوي لا يكون فيها سبب فعل محرم، مثل دين ثابت في الذمة من ثمن بيع، أو قرض، أو صداق، أو دية خطأ، أو غير ذلك‏.‏
    فكل من القسمين قد يكون دعوي حد لله عز وجل محض، كالشرب والزنا، وقد يكون حقًا محضًا لآدمي كالأموال‏.‏ وقد يكون فيه الأمران، كالسرقة، وقطع الطريق‏.‏
    فهذان القسمان إذا أقام المدعي فيه حجة شرعية وإلا فالقول قول المدعي عليه مع يمينه؛ لما روي مسلم في صحيحه عن ابن عباس، قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏
    ‏"‏لو يعطي الناس بدعواهم لإدعي ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعي عليه‏"‏‏.‏ وفي رواية في الصحيحين، عن ابن عباس‏:‏ أن النبي ﷺ قضي باليمين على المدعي عليه، فهذا الحديث نص أن أحدًا لا يعطي بمجرد دعواه، ونص في أن الدعوي المتضمنة للإعطاء تجب فيها اليمين ابتداء على المدعي عليه، وليس فيه أن الدعاوي الموجبة للعقوبات لا توجب إلا اليمين على المدعي عليه، بل ثبت عنه ﷺ أنه قال

    ج/ 35 ص -391- للأنصار لما اشتكوا اليه لأجل قتيلهم الذي قتل بخيبر، وهو عبد الله بن سهل، فجاء الى النبي ﷺ أخوه عبد الله وأبناء عمه حويصة ومحيصة وكان محيصة معه بخيبر، وقال‏:‏ ‏"‏أتحلفون خمسين يمينًا وتستحقون قاتلكم‏"‏ قالوا‏:‏ وكيف نحلف، ولم نشهد، ولم نر‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏فتبريكم يهود بخمسين يمينًا‏"‏، قالوا‏:‏ وكيف نأخذ بأيمان قوم كفار‏؟‏ أخرجه أصحاب الصحاح والسنن جميعهم، مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وفي رواية في الصحيحين، قال‏:‏ ‏"‏يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته‏"‏ ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبي ﷺ قضي بشاهد ويمين ‏.‏ رواه الترمذي وابن ماجه من حديث جابر ‏.‏ ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة ، وروي ذلك عن النبي ﷺ من وجوه كثيرة‏.‏ وهذه الأحاديث أصح وأشهر ما روي عن النبي ﷺ، في هذا الباب‏.‏ وابن عباس الذي يروي عن النبي ﷺ أنه قضي باليمين مع الشاهد وأن هذا قضي به في دعاوي وقضي بهذا في دعاوي‏.‏
    وأما الحديث المشهور في ألسنة الفقهاء ‏"‏البينة على من ادعي واليمين على من أنكر‏"‏ فهذا قد روي أيضًا، لكن ليس إسناده في الصحة والشهرة مثل غيره، ولا رواه عامة أهل السنن المشهورة، ولا قال بعمومه أحد من علماء الملة، إلا طائفة من فقهاء الكوفة مثل أبي حنيفة وغيره، فإنهم

    ج/ 35 ص -392- يرون اليمين دائمًا في جانب المنكر، حتي في القسامة يحلفون المدعي عليه، ولا يقضون بالشاهد واليمين، ولايرون اليمين على المدعي عند النكول، واستدلوا بعموم هذا الحديث‏.‏
    وأما سائر علماء الملة من أهل المدينة ومكة والشام وفقهاء الحديث وغيرهم مثل ابن جريج، ومالك، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم فتارة يحلفون المدعي، وتارة يحلفون المدعي عليه، كما جاءت بذلك سنن رسول الله ﷺ‏.‏
    والأصل عند جمهورهم أن اليمين مشروعة في أقوي الجانبين‏.‏ والبينة عندهم اسم لما يبين الحق‏.‏ وبينهم نزاع في تفاريع ذلك، فتارة يكون لوثاً مع أيمان القسامة، وتارة يكون شاهدًا ويمينًا، وتارة يكون دلائل غير الشهود كالصفة للقطة‏.‏
    وأجابوا عن ذلك الحديث‏:‏ تارة بالتضعيف، وتارة بأنه عام وأحاديثهم خاصة‏.‏ وتارة بأن أحاديثهم أصح وأكثر وأشهر، فالعمل بها عند التعارض أولي‏.‏
    وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه طلب البينة من المدعي واليمين من المنكر، في حكومات معينة، ليست من جنس دعاوي التهم،

    ج/ 35 ص -393- مثل ما خرجا في الصحيحين عن الأشعث بن قيس أنه قال‏:‏ كانت بيني وبين رجل حكومة في بئر ، فاختصمنا الى النبي ﷺ، فقال‏:‏ ‏"‏شاهداك أو فيمينه‏"‏ فقلت‏:‏ إذًا يحلف، ولا يبالى، فقال‏:‏ ‏"‏من حلف على يمين صبر يقطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان‏"‏‏.‏ وفي رواية، فقال‏:‏ ‏"‏بينتك أنها بئرك، وإلا فيمينه‏"‏، وعن وائل بن حجر قال‏:‏ جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة الى النبي ﷺ، فقال الحضرمي‏:‏ يا رسول الله، إن هذا قد غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي‏:‏ هي أرضي وبيدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال النبي ﷺ للحضرمي‏:‏ ‏"‏ألك بينة‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فلك يمينه‏"‏، فقال‏:‏ يا رسول الله، الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، فليس يتورع من شيء، فقال‏:‏ ‏"‏ليس لك منه إلا ذلك‏"‏، فقال رسول الله ﷺ لما أدبر الرجل‏:‏ ‏"‏أما لئن حلف على مال ليأكله ظلماً ليلقين الله وهو عنه معرض‏"‏‏.‏ رواه مسلم والترمذي وصححه‏.‏
    ففي هذا الحديث الصحيح أنه لم يوجب على المطلوب إلا اليمين مع ذكر المدعي لفجوره، وقال‏:‏ ‏"‏ليس لك منه إلا ذلك‏"‏، وكذلك في الحديث الأول كان خصم الأشعث يهوديًا، هكذا جاء في الصحيحين، ومع هذا لم يوجب عليه إلا اليمين، وفي حديث القسامة أن الأنصار لما قالوا‏:‏

    ج/ 35 ص -394- كيف نقبل أيمان قوم كفار‏؟‏ لم ينكر ذلك عليهم، فعلم أن الدعاوي مختلفة في ذلك‏.‏
    وهذا القسم لا أعلم فيه نزاعًا، أعني أن القول فيه قول المدعي عليه مع اليمين إذا لم يأت المدعي بحجة شرعية، وهي البينة‏.‏
    والبينة التي هي الحجة الشرعية‏.‏ تارة تكون بشاهدين عدلين رجلين، وتارة رجل وامرأتين، وتارة أربعة شهداء، وتارة ثلاثة عند بعض العلماء من أصحاب أحمد وبعض أصحاب الشافعي، وهو دعوي الإفلاس فيمن علم أن له مال، فقد جاء في صحيح مسلم عن قبيصة بن مخارق الهلالي أن النبي ﷺ قال‏
    :‏ ‏"‏لا تحل المسألة لأحد إلا لثلاثة‏:‏ رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتي يصيبها، ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتي يصيب قواماً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتي يقوم ثلاثة من ذوي الحجي من قومه يقولون‏:‏ لقد أصابت فلانًا فاقة فحلت له المسألة حتي يصيب قوامًا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتًا‏"‏ ولأن الغني من الأمور الخفية التي تقوي بها التهمة بإخفاء المال‏.‏ وتارة تكون الحجة شاهدًا ويمين الطالب عند جمهور فقهاء الإسلام من أهل الحجاز وفقهاء الحديث، وتارة تكون الحجة نساء‏:‏ إما امرأة عند أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، وإما امرأتين عند مالك وأحمد في رواية، وإما أربع نسوة عند الشافعي، وتارة تكون الحجة غير ذلك‏.‏

    ج/ 35 ص -395- وتارة تكون الحجة اللوث واللطخ والشبهة مع أيمان المدعي خمسين يمينًا، وهي القسامة التي يبدأ فيها بأيمان المدعي عند عامة فقهاء الحجاز وأهل الحديث‏.‏ وتمتاز عن غيرها بأن اليمين فيها خمسون يمينًا، كما امتازت أيمان اللعان بأن كانت أربع شهادات بالله، لأن كل يمين أقيمت مقام شاهد‏.‏ والقسامة توجب القود عند مالك وأحمد، وتوجب الدية فقط عند الشافعي‏.‏ وأهل الرأي لا يحلفون فيها إلا المدعي عليه، كما تقدم، مع أنهم مع تحليفه يوجبون عليه الدية‏.‏ على تفصيل معروف ليس الغرض هنا ذكره، وإنما الغرض التنبيه على مجامع الأحكام في الدعاوي، فإنه باب عظيم، والحاجة اليه شديدة عامة‏.‏
    وقد وقع فيه التفريط من بعض ولاة الأمور، والعدوان من بعضهم، ما أوجب الجهل بالحق، والظلم للخلق، وصار لفظ الشرع غير مطابق لمسماه الأصلي، بل لفظ الشرع في هذه الأزمنة ثلاثة أقسام‏:‏
    أحدها‏
    :‏ الشرع المنزل، وهو الكتاب والسنة، واتباعه واجب من خرج عنه وجب قتله، ويدخل فيه أصول الدين وفروعه، وسياسة الأمراء وولاة المال، وحكم الحكام، ومشيخة الشيوخ، وغير ذلك، فليس لأحد من الأولين والآخرين خروج عن طاعة الله ورسوله‏.‏
    والثاني‏:‏ الشرع المؤول وهو موارد النزاع والاجتهاد بين الأمة، فمن أخذ فيما يسوغ فيه الاجتهاد أقر عليه، ولم تجب على جميع الخلق موافقته، إلا بحجة لامرد لها من الكتاب والسنة‏.‏

    ج/ 35 ص -396-والثالث‏:‏ الشرع المبدل، مثل ما يثبت من شهادات الزور، أو يحكم فيه بالجهل والظلم بغير العدل والحق حكمًا بغير ما أنزل الله، أو يؤمر فيه بإقرار باطل لإضاعة حق مثل أمر المريض أن يقر لوارث بما ليس بحق ليبطل به حق بقية الورثة فإن الأمر بذلك والشهادة عليه محرمة، وإن كان الحاكم الذي لم يعرف باطن الأمر إذا حكم بما ظهر له من الحق لم يأثم، فقد قال سيد الحكام ﷺ في الحديث المتفق عليه‏:‏ ‏"‏إنكم تختصمون الى، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار‏"‏‏.‏
    القسم الآخر من الدعاوي دعاوي التهم، وهي دعوي الجناية والأفعال المحرمة، مثل‏:‏ دعوي القتل؛ وقطع الطريق، والسرقة، والعدوان على الخلق بالضرب وغيره، فهذا ينقسم المدعي عليه الى ثلاثة أقسام‏:‏ فإن المتهم إما أن يكون ليس من أهل تلك التهمة، أو فاجرًا من أهل تلك التهمة، أو يكون مجهول الحال لا يعرف الحاكم حاله‏.‏
    فإن كان برًا لم تجز عقوبته بالاتفاق، واختلفوا في عقوبة المتهم له مثل أن يوجد في يد رجل عدل مال مسروق، ويقول ذو اليد‏:‏ ابتعته من السوق لا أدري

    ج/ 35 ص -397- من باعه، فلا عقوبة عليه بالاتفاق، ثم قال أصحاب مالك وغيرهم‏:‏ يحلف المستحق أنه ملكه ما خرج عن ملكه، ويأخذه، قال هؤلاء‏:‏ لا يمين على المطلوب، ثم اختلفوا في العقوبة للمتهم له‏؟‏ فقال مالك وأشهب‏:‏ لا أدب على المدعي، إلا أن يقصد أذيته وعيبه وشتمه فيؤدب، وقال أصبغ‏:‏ يؤدب قصد أذيته أو لم يقصد، وكذلك عامة العلماء يقولون إن الحدود التي لله لا يحلف فيها المدعي عليه، فإذا أخذ المستحق ماله لم يبق على ذوي اليد دعوي إلا لأجل الحد ولا يحلف‏.‏
    القسم الثاني‏:‏ أن يكون المتهم مجهول الحال لا يعرف ببر أو فجور، فهذا يحبس حتي ينكشف حاله عند عامة علماء الإسلام، والمنصوص عند أكثر الأئمة أنه يحبسه القاضي والوالي، هكذا نص عليه مالك وأصحابه، وهو منصوص الإمام أحمد ومحققي أصحابه، وذكره أصحاب أبي حنيفة، وقال الإمام أحمد‏:‏ قد حبس النبي ﷺ في تهمة، قال أحمد‏:‏ وذلك حتي يتبين للحاكم أمره، وذلك لما رواه أبو داود في سننه والخلال وغيرهما، عن بهز ابن حكيم، عن أبيه عن جده‏:‏ أن النبي ﷺ حبس في تهمة‏.‏ وروي الخلال عن أبي هريرة‏:‏ أن النبي ﷺ حبس في تهمة يومًا وليلة‏.‏
    والأصول المتفق عليها بين الأئمة توافق ذلك، فإنهم متفقون على أن المدعي إذا طلب المدعي عليه الذي يجب إحضاره وجب على الحاكم إحضاره إلى مجلس

    ج/ 35 ص -398- الحكم حتي يفصل بينهما ،ويحضره من مسافة الدعوي التي هي عند بعضهم بريد، وهو ما لا يمكن الذهاب اليه والعود في يوم، كما يقوله من قاله من أصحاب الشافعي وأحمد في إحدي الروايتين، وعند بعضهم أن مسافة القصر أربعة برد مسيرة يومين قاصدين كما يقوله أحمد في إحدي الروايتين، ثم الحاكم قد يكون مشغولاً عن تعجيل الفصل، وقد يكون عنده حكومات سابقة، فيبقي المطلوب محبوسًا معوقًا من حين يطلب الى حين يفصل بينه وبين خصمه وهذا حبس بدون التهمة، ففي التهمة أولى‏.‏
    فإن الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيق وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد، أو كان بتوكيل نفس الخصم أو وكيل الخصم عليه؛ ولهذا سماه النبي ﷺ أسيرًا، كما روي أبو داود وابن ماجه عن الهرماس بن حبيب، عن أبيه، قال‏:‏ أتيت النبي ﷺ بغريم لي، فقال لي‏:‏ الزمه ثم قال‏:‏
    ‏"‏يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك‏؟‏‏"‏ وفي رواية ابن ماجه‏:‏ ثم مر بي آخر النهار، فقال‏:‏ ‏"‏ما فعل أسيرك يا أخا بني تميم‏؟‏‏"‏ وهذا هو الحبس على عهد النبي ﷺ، ولم يكن على عهد النبي ﷺ وأبي بكر حبسًا معداً لسجن الناس، ولكن لما انتشرت الرعية في زمن عمر بن الخطاب ابتاع بمكة دارًا، وجعلها سجنًا، وحبس فيها‏.‏ ولقد

    ج/ 35 ص -399- تنازع العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم هل يتخذ الإمام حبسًا‏؟‏ على قولين فمن قال‏:‏ لا يتخذ حبسًا، قال‏:‏ يعوقه بمكان من الأمكنة، أو يقام عليه حافظ، وهو الذي يسمي الترسيم‏.‏
    ولهذا لما كان حضور مجلس الحاكم تعويقًا ومنعًا من جنس السجن والحبس تنازع العلماء هل يحضر الخصم المطلوب بمجرد الدعوي أم لا يحضر إذا كان ممن يتبذل بالحضور حتي يبين لمدعي الدعوي أصل‏؟‏ على قولين، هما روايتان عن أحمد‏.‏ والثاني‏:‏ قول مالك‏.‏ والأول‏:‏ قول أبي حنيفة والشافعي‏.‏
    ومن العلماء من قال‏:‏ الحبس في التهمة إنما هو للوالى والى الحرب، دون القاضي، وقد ذكرها طائفة من أصحاب الشافعي كأبي عبد الله الزبيري وأقضي القضاة الماوردي، وغيرهما‏.‏ وطائفة من أصحاب أحمد المصنفين في أدب القضاة وغيرهم‏.‏
    واختلفوا في مقدار الحبس في التهمة‏:‏ هل هو مقدر‏؟‏ أو مرجعه الى اجتهاد الإمام‏؟‏ على قولين، ذكرهما القاضي أبو يعلى، والقاضي الماوردي، وغيرهما‏.‏ وقيل هو مقدر بشهر، وهو قول أبي عبد الله الزبيري‏.‏ وقيل‏:‏ هو غير مقدر، وهو اختيار الماوردي‏.‏

    ج/ 35 ص -400- القسم الثالث‏:‏ أن يكون المتهم معروفا بالفجور، مثل المتهم بالسرقة إذا كان معروفا بها
    قبل ذلك، والمتهم بقطع طريق إذا كان معروفا به، والمتهم بالقتل، أو كان أحد هؤلاء معروفًا بما يقتضي ذلك‏.‏ فإذا جاز حبس المجهول فحبس المعروف بالفجور أولي، وما علمت أحدًا من أئمة المسلمين المتبعين من قال‏:‏ إن المدعي عليه في جميع هذه الدعاوي يحلف ويرسل بلا حبس ولا غيره من جميع ولاة الأمور، فليس هذا على إطلاقه مذهب أحد من الأئمة، ومن زعم أن هذا على إطلاقه وعمومه هو الشرع، فهو غالط غلطًا فاحشًا مخالفًا لنصوص رسول الله ﷺ ولإجماع الأمة، وبمثل هذا الغلط الفاحش استجرأ الولاة على مخالفة الشرع، وتوهموا أن مجرد الشرع لا بسياسة العالم وبمصالح الأمة، واعتدوا حدود الله في ذلك‏.‏ وتولد من جهل الفريقين بحقيقة الشرع خروج الناس عنه إلي أنواع من البدع السياسية، فهذا القسم فيه مسائل القسامة والحكم فيها معروف، ولا يحتاج إلي ذكرها هاهنا‏.‏ وأما التهمة في السرقة وقطع الطريق ونحوهما فقد تقدم ذكر الحبس فيهما‏.‏
    وأما الامتحان بالضرب ونحوه فاختلف فيه‏:‏ هل يشرع للقاضي والوالي، أم يشرع للوالي دون القاضي‏؟‏ أم يشرع الضرب لواحد منهما‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏:‏

    ج/ 35 ص -401-أحدها‏:‏ أنه يضرب فيها القاضي والوالي، وهذا قول طائفة من العلماء من أصحاب مالك وغيرهم منهم أشهب قاضي مصر قال أشهب‏:‏ يمتحن بالسجن والأدب، ويضرب بالسوط مجردا‏.‏
    والقول الثاني‏:‏ لا يضرب بل يحبس كما تقدم، وهذا قول أصبغ من أصحاب مالك، وقول كثير من الحنفية والشافعية وغيرهم، لكن حبس المتهم عندهم أبلغ من حبس المجهول؛ فلذلك اختلفوا هل يحبس حتي يموت‏؟‏ فقال عمر بن عبد العزيز وجماعة من أصحاب مالك كمطرف، وابن الماجشون وغيرهما‏:‏ أنه يحبس حتي يموت‏.‏ وهكذا روي عن الإمام أحمد فيمن لم ينته عن بدعته أنه يحبس حتي يموت، وقال مالك‏:‏ لا يحبس حتي يموت‏.‏
    والقول الثالث‏:‏ أنه يضربه الوالي دون القاضي، وهذا القول ذكره طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد؛ كالقاضي أبي الحسن الماوردي، والقاضي أبي يعلى، وغيرهما‏.‏ وبسطوا القول في ذلك في كتب الأحكام السلطانية وقالوا‏:‏ إن ولاة الحرب معتمد العقوبة على الجرائم والمنع من الفساد في الأرض،وذلك لا يتم إلا بالعقوبة للمتهمين المعروفين بالإجرام، بخلاف ولاية الحكم فإن مقصودها يحصل بدون ذلك، وهذا القول هو قول بجواز ذلك في الشريعة،لكن كل ولي أمر يفعل ما فوض إليه فكما أن والي الصدقات لا يملك من القبض والصرف ما يملكه والي

    ج/ 35 ص -402- الخراج،وإن كان كلاهما مالا شرعيا،وكذلك والي الحرب ووالي الحكم كل منهما يفعل ما اقتضته ولايته الشرعية، مع رعاية العدل وأصول الشريعة‏.‏
    وأما عقوبة من عرف أن الحق عنده وقد جحده أو منعه، فمتفق عليها بين العلماء، ولا أعلم منازعاً في أن من وجب عليه حق من دين أو عين وهو قادر على وفائه، ويمتنع من أنه يعاقب حتي يؤديه، وقد نصوا على عقوبته بالضرب، وذكر ذلك المالكية والشافعية والحنبلية وغيرهم؛ لقول النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏لي الواجد يحل عرضه وعقوبته‏"‏‏.‏ رواه أهل السنن مثل أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، وثبت في الصحيحين عنه ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏مطل الغني ظلم‏"‏، والظالم يستحق العقوبة‏.‏
    واتفق العلماء على أن التعزير مشروع في كل معصية ليس فيها حد‏.‏ والمعصية نوعان‏:‏ ترك واجب، أو فعل محرم‏.‏ إن ترك الواجبات مع قدرته كقضاء الديون، وأداء الأمانات إلي أهلها من الوكالات والودائع وأموال اليتامي والوقوف والأموال السلطانية‏.‏ أورد المغصوب والمظالم، فإنه يعاقب حتي يؤديها‏.‏
    وكذلك من وجب عليه إحضار نفس؛ لاستيفاء حق وجب عليه، مثل أن يقطع رجل الطريق ويفر إلي بعض ذوي قدرة فيحول بينه وبين أخذ الحدود والحقوق منه، فهذا محرم بالاتفاق، وقد روي مسلم في صحيحه عن

    ج/ 35 ص -403- علي، قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏لعن الله من أحدث حدثا أو آوي محدثا‏"‏، وروي أبو داود في سننه عن ابن عمر، عن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏من خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتي ينزع‏.‏ ومن حالت شفاعته دون حد في حدود الله، فقد ضاد الله في أمره، ومن قال في مسلم ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتي يخرج مما قال‏"‏‏.‏ فما وجب إحضاره من النفوس والأموال استحق الممتنع من فعل الواجب العقوبة حتي يفعله‏.‏
    وأما إذا كان الإحضار إلي من يظلمه، أو إحضار المال إلي من يأخذه بغير حق‏.‏ فهذا لا يجب، بل ولا يجوز، فإن الإعانة على الظلم ظلم، قال الله تعالي‏:‏
    ‏"‏وَتَعَاوَنُواْ على الْبرِّ وَالتَّقْوَي وَلاَ تَعَاوَنُواْ على الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَي‏"‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 9‏]‏‏.‏
    وأما مواطن الاشتباه المشتملة على الظلم من الجانبين‏:‏ مثل ولاة الأموال السلطانية إذا أخذوا ما لا يستحقونه، وكان المستخرج لها ظالمًا في صرفها أيضًا، فهذا ليس على أحد أن يعين الظالم القادر على إبقائها بيده، ولا يعين الظالم الطالب أيضًا في قبضها، بل إن ترجيح أحد الجانبين بنوع من الحق أعان على الحق، وإن كان كل منهما ظالم ولا يمكن صرفها إلى مستحق

    ج/ 35 ص -404- عدل بين الظالمين في ذلك، فإن العدل مأمور به في جميع الأمور بحسب الإمكان، ومن العدل في ذلك ألا يمكن أحدهما من البغي على الآخر، بل يفعل أقرب الممكن إلي العدل‏.‏
    واختلف العلماء إذا أقر حال الامتحان بالحبس أو الضرب‏:‏ هل يسوغ ذلك‏؟‏ فمنهم من قال‏:‏ يؤخذ بذلك الإقرار إذا ظهر صدقه‏:‏ مثل أن يخرج السرقة بعينها، ولو رجع عن ذلك بعد الضرب لم يقبل، بل يؤخذ به، وهذا قول أشهب في القاضي والوالي، وهو الذي ذكره القاضيان الماوردي وأبو يعلى في الوالي‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ لابد من إقرار آخر بعد الضرب وإذا رجع عن الإقرار لم يؤخذ به‏.‏ وهذا قول ابن القاسم، وكثير من الشافعية والحنبلية وغيرهم‏.‏
    وأما مقدار الضرب فإذا كان الضرب على ترك واجب‏:‏ مثل أن يضرب حتي يؤدي الواجب، فهذا لا يتقدر، بل يضرب يوما فإن فعل الواجب وإلا ضرب يومًا آخر، لكن لا يزيد كل مرة على التعزير عند من يقدر أعلاه‏.‏
    وقد تنازع العلماء في مقدار أعلا التعزير الذي يقام بفعل المحرمات على أقوال‏:‏

    ج/ 35 ص -405-أحدها وهو أحسنها وهو قول طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما ‏:‏ أنه لا يبلغ في التعزير في كل جريمة الحد المقدر فيها، وإن زاد على حد مقدر في غيرها، فيجوز التعزير في المباشرة المحرمة، وفي السرقة من غير حرز بالضرب الذي يزيد على حد القذف، ولا يبلغ بذلك الرجم والقطع‏.‏
    القول الثاني‏:‏ أنه لا يبلغ بالتعزير أدني الحدود‏:‏ إما أربعين، وإما ثمانين، وهو قول كثير من أصحاب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة‏.‏
    والقول الثالث‏:‏ ألا يزاد في التعزير على عشرة أسواط، وهو أحد الأقوال في مذهب أحمد وغيره‏.‏
    وعلى القول الأول‏:‏ هل يجوز أن يبلغ بها القتل، مثل قتل الجاسوس المسلم‏؟‏ في ذلك قولان‏:‏
    أحدهما‏:‏ قد يبلغ بها القتل، فيجوز قتل الجاسوس المسلم إذا قصد المصلحة، وهو قول مالك وبعض أصحاب أحمد كابن عقيل، وقد ذكر نحو ذلك بعض أصحاب الشافعي وأحمد في قتل الداعية إلي البدع، ومن لا يزول فساده إلا بالقتل، وكذلك مذهب مالك قتل الداعية إلي البدع، كالقدرية ونحوهم‏.‏
    والقول الثاني‏:‏ أنه لا يقتل الجاسوس، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، والقاضي أبي يعلى من أصحاب أحمد

    ج/ 35 ص -406- والمنصوص عن أحمد التوقف في المسألة‏.‏
    وممن يجوز التعزير بالقتل في الذنوب الكبار‏:‏ أصحاب أبي حنيفة في مواضع يسمون القتل فيها سياسة، كقتل من تكرر لواطه، أو قتله بالمثقل، فإنهم يجوزون قتله سياسة وتعزيرًا، وإن كان أبو حنيفة لا يوجب ذلك بل ولا يجوزه فيمن فعله مرة واحدة، وأما صاحباه فمع سائر الأئمة فيخالفون في أنه يجب القود في القتل، وفي وجوب قتل اللوطي إما مطلقا سواء كان محصنا أو غير محصن كمذهب مالك وأحمد في أشهر روايتيه والشافعي في أحد قوليه‏.‏ وإما أن يكون حده مثل حد الزاني كقول صاحبي أبي حنيفة والشافعي في أشهر قوليه وأحمد في أحد روايتيه‏.‏
    والمنقول عن النبي ﷺ وخلفائه الراشدين يوافق القول الأول، فإن النبي ﷺ أمر بجلد الذي أحلت امرأته له جاريتها مائة، وجلد أبو بكر وعمر رجلا وجد مع امرأة في فراش مائة، وعمر بن الخطاب ضرب الذي زور عليه خاتمه فأخذ من بيت المال مائة، ثم ضربه في اليوم الثاني، والثالث مائة مائة‏.‏ وليس هذا موضع بسط أصناف التعزير فإنها كثيرة الشعب‏.‏
    فأما ضرب المتهم إذا عرف أن المال عنده وقد كتمه وأنكره ليقر بمكانه فهذا لا ريب فيه، فإنه ضرب ليؤدي الواجب من التعريف بمكانه، كما يضرب

    ج/ 35 ص -407- ليؤدي ما عليه من المال الذي يقدر على وفائه، وقد جاء في ذلك حديث ابن عمر في الصحيح‏:‏ أن النبي ﷺ لما صالح أهل خيبر على الصفراء والبيضاء سأل زيد بن سعية عم حيي بن أخطب، فقال‏:‏ ‏"‏أين كنز حيي بن أخطب‏؟‏‏"‏ فقال‏:‏ يا محمد، أذهبته الحروب، فقال للزبير‏:‏ ‏"‏دونك هذا‏"‏، فمسه الزبير بشيء من العذاب فدلهم عليه في خربة، وكان حليا في مسك ثور، فهذا أصل في ضرب المتهم الذي علم أنه ترك واجبا أو فعل محرما، والله أعلم‏.
    وسئل رحمه الله تعالى عن رجل تولي حكومة على جماعة من رماة البندق، ويقول‏:‏ هذا شرع البندق، وهو ناظر على مدرسة وفقهاء‏:‏ فهل إذا تحدث في هذا الحكم والشرع الذي يذكره تسقط عدالته من النظر، أم لا‏؟‏ وهل يجب على حاكم المسلمين الذي يثبت عدالته عنده إذا سمع أنه يتحدث في شرع البندق الذي لم يشرعه الله ولا رسوله أن يعزله من النظر، أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، ليس لأحد أن يحكم بين أحد من خلق الله، لا بين المسلمين، ولا الكفار، ولا الفتيان، ولا رماة البندق، ولا الجيش ولا الفقراء، ولا غير ذلك إلا بحكم الله ورسوله‏.‏ ومن ابتغي غير ذلك تناوله

    ج/ 35 ص -408- قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 50‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏، فيجب على المسلمين أن يحكموا الله ورسوله في كل ما شجر بينهم، ومن حكم بحكم البندق وشرع البندق، أو غيره مما يخالف شرع الله ورسوله، وحكم الله ورسوله، وهو يعلم ذلك، فهو من جنس التتار الذين يقدمون حكم الياساق على حكم الله ورسوله، ومن تعمد ذلك فقد قدح في عدالته ودينه، ووجب أن يمنع من النظر في الوقف، والله أعلم‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML