ج/ 35 ص -241- باب الأيمان والنذور
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:
القاعدة الخامسة في الأيمان، والنذور قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ " [التحريم: 1، 2]، وقال تعالى: "وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " [البقرة: 224]، وقال تعالى: "لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [البقرة: 225،227]، وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ " [المائدة: 87: 89]،
ج/ 35 ص -242-وفيها قواعد عظيمة لكن تحتاج إلى تقديم مقدمات نافعة جدا في هذا الباب وغيره.
المقدمة الأولى: أن اليمين تشتمل على جملتين: جملة مقسم بها، وجملة مقسم عليها. ومسائل الأيمان إما في حكم المحلوف به، وإما في حكم المحلوف عليه. فأما المحلوف به فالأيمان التي يحلف بها المسلمون مما قد يلزم بها حكم ستة أنواع ليس لها سابع:
أحدها: اليمين بالله، وما في معناها مما فيه التزام كفر على تقدير الخبر؛ كقوله: هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا، على ما فيه من الخلاف بين الفقهاء.
الثاني: اليمين بالنذر الذي يسمى نذر اللجاج والغضب؛ كقوله: على الحج لا أفعل كذا، أو إن فعلت كذا فعلى الحج، أو مالي صدقة إن فعلت كذا، ونحو ذلك.
الثالث: اليمين بالطلاق.
الرابع: اليمين بالعتاق.
الخامس: اليمين بالحرام؛ كقوله: على الحرام لا أفعل كذا.
السادس: الظهار؛ كقوله: أنت على كظهر أمي إن فعلت كذا فهذا مجموع ما يحلف به المسلمون مما فيه حكم.
ج/ 35 ص -243- فأما الحلف بالمخلوقات كالحلف بالكعبة، أو قبر الشيخ، أو بنعمة السلطان، أو بالسيف، أو بجاه أحد من المخلوقين، فما أعلم بين العلماء خلافاً أن هذه اليمين مكروهة منهي عنها، وأن الحلف بها لا يوجب حنثاً، ولا كفارة، وهل الحلف بها محرم، أو مكروه كراهة تنزيه؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره: أصحهما أنه محرم.
ولهذا قال أصحابنا كالقاضي أبي يعلى وغيره: إنه إذا قال: أيمان المسلمين تلزمني إن فعلت كذا، لزمه ما يفعله في اليمين بالله والنذر والطلاق والعتاق والظهار، ولم يذكروا الحرام؛ لأن يمين الحرام ظهار عند أحمد وأصحابه، فلما كان موجبها واحدا عندهم دخل الحرام في الظهار، ولم يدخل النذر في اليمين بالله وإن جاز أن يكفر يمينه بالنذر؛ لأن موجب الحلف بالنذر المسمى بنذر اللجاج والغضب عند الحنث هو التخيير بين التكفير وبين فعل المنذور، وموجب الحلف بالله هو التكفير فقط، فلما اختلف موجبهما جعلوهما يمينين، نعم إذا قالوا بالرواية الأخرى عن أحمد، وهو أن الحلف بالنذر موجبه الكفارة فقط دخلت اليمين بالنذر في اليمين بالله تعالى، أما اختلافهم واختلاف غيرهم من العلماء في أن مثل هذا الكلام، هل تنعقد به اليمين، أولا تنعقد؟ فسأذكره إن شاء الله تعالى، وإنما غرضي هنا حصر الأيمان التي يحلف بها المسلمون.
وأما أيمان البيعة فقالوا: أول من أحدثها الحجاج بن يوسف الثقفي وكانت السنة أن الناس يبايعون الخلفاء كما بايع الصحابة النبي ﷺ
ج/ 35 ص -244- يعقدون البيعة كما يعقدون عقد البيع والنكاح ونحوها، وإما أن يذكروا الشروط التي يبايعون عليها، ثم يقولون: بايعناك على ذلك، كما بايعت الأنصار النبي ﷺ ليلة العقبة، فلما أحدث الحجاج ما أحدث من العسف كان من جملته أن حلف الناس على بيعتهم لعبد الملك بن مروان بالطلاق والعتاق واليمين بالله وصدقة المال، فهذه الأيمان الأربعة هي كانت أيمان البيعة القديمة المبتدعة ثم أحدث المستخلفون عن الأمراء من الخلفاء والملوك وغيرهم أيماناً كثيرة أكثر من تلك، وقد تختلف فيها عاداتهم، ومن أحدث ذلك فعليه إثم ما ترتب على هذه الأيمان من الشر.
المقدمة الثانية: أن هذه الأيمان يحلف بها تارة بصيغة القسم، وتارة بصيغة الجزاء، لا يتصور أن تخرج اليمين عن هاتين الصيغتين، فالأول كقوله: والله لا أفعل كذا، أو الطلاق يلزمني أن أفعل كذا، أو على الحرام لا أفعل كذا، أو على الحج لا أفعل، والثاني كقوله: إن فعلت كذا فأنا يهودي، أو نصراني، أو بريء من الإسلام، أو إن فعلت كذا فامرأتي طالق، أو إن فعلت كذا فامرأتي حرام، أو فهي على كظهر أمي، أو إن فعلت كذا فعلي الحج، أو فمالي صدقة.
ولهذا عقد الفقهاء لمسائل الأيمان بابين أحدهما: باب تعليق الطلاق بالشروط، فيذكرون فيه الحلف بصيغة الجزاء، كإن ومتى، وإذا، وما أشبه
ج/ 35 ص -245- ذلك، وإن دخل فيه صيغة القسم ضمناً وتبعاً، والباب الثاني: باب جامع الأيمان، مما يشترك فيه الحلف بالله والطلاق والعتاق وغير ذلك، فيذكرون فيه الحلف بصيغة القسم، وإن دخلت صيغة الجزاء ضمناً وتبعاً، ومسائل أحد البابين مختلطة بمسائل الباب الآخر، لاتفاقهما في المعنى كثيرا، أو غالباً، وكذلك طائفة من الفقهاء كأبي الخطاب وغيره لما ذكروا في كتاب الطلاق باب تعليق الطلاق بالشروط أردفوه بباب جامع الأيمان، وطائفة أخرى كالخرقي والقاضي أبي يعلى وغيرهما إنما ذكروا باب جامع الأيمان في كتاب الأيمان؛ لأنه أمس. ونظير هذا باب حد القذف منهم من يذكره عند باب اللعان لاتصال أحدهما بالآخر، ومنهم من يؤخره إلى كتاب الحدود؛ لأنه به أخص.
وإذا تبين أن لليمين صيغتين: صيغة القسم، وصيغة الجزاء، فالمقدم في صيغة القسم مؤخر في صيغة الجزاء، والمؤخر في صيغة الجزاء مقدم في صيغة القسم، والشرط المثبت في صيغة الجزاء منفي في صيغة القسم؛ فإنه إذا قال: الطلاق يلزمني لا أفعل كذا، فقد حلف بالطلاق ألا يفعل، فالطلاق مقدم مثبت، والفعل مؤخر منفي. فلو حلف بصيغة الجزاء فقال: إن فعلت كذا فامرأتي طالق كأن يقدم الفعل مثبتاً ويؤخر الطلاق منفياً، كما أنه في القسم قدم الحكم وأخر الفعل،وبهذه القاعدة تنحل مسائل من مسائل الأيمان.
ج/ 35 ص -246- فأما صيغة الجزاء فهي جملة فعلية في الأصل؛ فإن أدوات الشرط لا يتصل بها في الأصل إلا الفعل. وأما صيغة القسم فتكون فعلية، كقوله أحلف بالله، أو تالله، أو والله، ونحو ذلك. وتكون اسمية كقوله: لعمر الله لأفعلن، والحل على حرام لأفعلن. ثم هذا التقسيم ليس من خصائص الأيمان التي بين العبد وبين الله، بل غير ذلك من العقود التي تكون بين الآدميين. تارة تكون بصيغة التعليق الذي هو الشرط والجزاء؛ كقوله في الجعالة: من رد عبدي الآبق فله كذا، وقوله في السبق: من سبق فله كذا. وتارة بصيغة التنجيز: إما صيغة خبر كقوله: بعت وزوجت، وإما صيغة طلب؛ كقوله: بعني واخلعني.
المقدمة الثالثة وفيها يظهر سر مسائل الأيمان ونحوها : أن صيغة التعليق التي تسمى: صيغة الشرط، وصيغة المجازاة، تنقسم إلى ستة أنواع؛ لأن الحالف إما أن يكون مقصوده وجود الشرط فقط، أو وجود الجزاء فقط، أو وجودهما. وإما ألا يقصد وجود واحد منهما
بل يكون مقصوده عدم الشرط فقط، أو الجزاء فقط، أو عدمهما.
فالأول بمنزلة كثير من صور الخلع، والكتابة، ونذر التبرر، والجعالة، ونحوها، فإن الرجل إذا قال لامرأته. إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق، أو فقد خلعتك، أو قال لعبده: إن أديت ألفاً فأنت حر، أو قال: إن رددت عبدي الآبق فلك ألف، أو قال: إن شفي الله مريضي، أو
ج/ 35 ص -247- سلم مالي الغائب، فعلي عتق كذا، والصدقة بكذا، فالمعلق قد لا يكون مقصوده إلا أخذ المال ورد العبد وسلامة العتق والمال، وإنما التزم الجزاء علي سبيل العوض كالبائع الذي إنما مقصوده أخذ الثمن والتزم رد المبيع علي سبيل العوض، فهذا الضرب شبيه بالمعاوضة في البيع والإجارة، وكذلك إذا كان قد جعل الطلاق عقوبة لها مثل أن يقول: إذا ضربت أمي فأنت طالق، أو إن خرجت من الدار فأنت طالق، فإنه في الخلع عاوضها بالتطليق عن المال؛ لأنها تريد الطلاق، وهنا عوضها عن معصيتها بالطلاق.
وأما الثاني فمثل أن يقول لامرأته: إذا طهرت فأنت طالق، أو يقول لعبده: إذا مت فأنت حر، أو إذا جاء رأس الحول فأنت حر، أو فمالي صدقة، ونحو ذلك من التعليق الذي هو توقيت محض، فهذا الضرب بمنزلة المنجز في أن كل واحد منهما قصد الطلاق والعتاق، وإنما أخره إلي الوقت المعين، بمنزلة تأجيل الدين، وبمنزلة من يؤخر الطلاق من وقت إلي وقت لغرض له في التأخير، لا لعوض، ولا لحث علي طلب، أو خبر؛ ولهذا قال الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: إذا حلف أنه لا يحلف مثل أن يقول: واللّه لا أحلف بطلاقك أو إن حلفت بطلاقك فعبدي حر، أو فأنت طالق، فإنه إذا قال: إن دخلت أو لم تدخلي ونحو ذلك مما فيه معني الحض أو المنع فهو حالف ولو كان تعليقًا محضًا، كقوله: إذا طلعت الشمس فأنت طالق، أو إن طلعت الشمس، فاختلفوا فيه، فقال أصحاب الشافعي: ليس بحالف، وقال أصحاب أبي حنيفة والقاضي في الجامع : هو حالف.
ج/ 35 ص -248- وأما الثالث وهو أن يكون مقصوده وجودهما جميعا فمثل الذي قد آذته امرأته حتي أحب طلاقها واسترجاع الفدية منها، فيقول: إن أبرأتني من صداقك أو من نفقتك، فأنت طالق، وهو يريد كلا منهما.
وأما الرابع وهو أن يكون مقصوده عدم الشرط لكنه إذا وجد لم يكره الجزاء، بل يحبه، أو لا يحبه ولا يكرهه فمثل أن يقول لامرأته: إن زنيت فأنت طالق، أو إن ضربت أمي فأنت طالق، ونحو ذلك من التعليق الذي يقصد فيه عدم الشرط، ويقصد وجود الجزاء عند وجوده، بحيث تكون إذا زنت أو إذا ضربت أمه يجب فراقها؛ لأنها لا تصلح له، فهذا فيه معني اليمين ومعني التوقيت، فإنه منعها من الفعل، وقصد إيقاع الطلاق عنده، كما قصد إيقاعه عند أخذ العوض منها، أو عند طهرها، أو طلوع الهلال.
وأما الخامس وهو أن يكون مقصوده عدم الجزاء، وتعليقه بالشرط لئلا يوجد، وليس له غرض في عدم الشرط فهذا قليل، كمن يقول: إن أصبت مائة رمية أعطيتك كذا.
وأما السادس وهو أن يكون مقصوده عدم الشرط والجزاء وإنما تعلق الجزاء بالشرط ليمتنع وجودهما : فهو مثل نذر اللجاج والغضب
ج/ 35 ص -249- ومثل الحلف بالطلاق والعتاق علي حض أو منع أو تصديق أو تكذيب مثل أن يقال له: تصدق، فيقول: إن تصدق فعليه صيام كذا وكذا، أو فامرأته طالق، أو فعبيده أحرار، أو يقول: إن لم أفعل كذا وكذا فعلي نذر كذا، أو امرأتي طالق، أو عبدي حر. أو يحلف علي فعل غيره ممن يقصد منعه كعبده ونسيبه وصديقه ممن يحضه علي طاعته فيقول له: إن فعلت، أو إن لم تفعل، فعلي كذا، أو فامرأتي طالق، أو فعبدي حر، ونحو ذلك، فهذا نذر اللجاج والغضب.
وهذا وما أشبهه من الحلف بالطلاق والعتاق يخالفه في المعني نذر التبرر والتقرب ، وما أشبهه من الخلع و الكتابة؛ فإن الذي يقول: إن سلمني اللّه، أو سلم مالي من كذا، أو إن أعطاني اللّه كذا، فعلي أن أتصدق، أو أصوم، أو أحج، قصده حصول الشرط الذي هو الغنيمة أو السلامة، وقصد أن يشكر اللّه علي ذلك بما نذره له، وكذلك المخالع والمكاتب قصده حصول العوض وبذل الطلاق والعتاق عوضًا عن ذلك،وأما النذر في اللجاج والغضب إذا قيل له: افعل كذا فامتنع من فعله، ثم قال: إن فعلته فعلي الحج أو الصيام، فهنا مقصوده ألا يكون الشرط، ثم إنه لقوة امتناعه ألزم نفسه أن فعله بهذه الأمور الثقيلة عليه؛ليكون لزومها له إذا فعل مانعا له من الفعل،وكذلك إذا قال:إن فعلته فامرأتي طالق، أو فعبيدي أحرار،إنما مقصوده الامتناع والتزم بتقدير الفعل ماهو شديد عليه
ج/ 35 ص -250- من فراق أهله وذهاب ماله،ليس غرض هذا أن يتقرب إلي اللّه بعتق أو صدقة ولا أن يفارق امرأته.
ولهذا سمي العلماء هذا نذر اللجاج والغضب، مأخوذ من قول النبي ﷺ فيما أخرجاه في الصحيحين؛ "لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند اللّه من أن يأتي الكفارة التي فرض اللّه له"، فصورة هذا النذر صورة نذر التبرر في اللفظ، ومعناه شديد المباينة لمعناه. ومن هنا نشأت الشبهة التي سنذكرها في هذا الباب إن شاء اللّه تعالي علي طائفة من العلماء، ويتبين فقه الصحابة رضي اللّه عنهم الذين نظروا إلي معاني الألفاظ لا إلي صورها. إذا ثبتت هذه الأنواع الداخلة في قسم التعليق فقد علمت أن بعضها معناه معني اليمين بصيغة القسم، وبعضها ليس معناه ذلك ، فمتي كان الشرط المقصود حضًا علي فعل، أو منعًا منه، أو تصديقًا لخبر، أو تكذيبًا، كان الشرط مقصود العدم هو وجزاؤه؛ كنذر اللجاج، والحلف بالطلاق علي وجه اللجاج والغضب.
القاعدة الأولى: أن الحالف بالله سبحانه وتعالى قد بين الله تعالى حكمه بالكتاب والسنة والإجماع، فقال تعالى: "وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ " [البقرة: 225]، وقال: "قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ " [التحريم: 2]، وقال تعالى:
ج/ 35 ص -251-"لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " [المائدة: 89].
وأما في السنة ففي الصحيحين عن عبد الله بن سمرة، أن النبي ﷺ قال له: "يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها. وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت علي يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك". فبين له النبي ﷺ حكم الأمانة الذي هو الإمارة، وحكم العهد الذي هو اليمين.
وكانوا في أول الإسلام لا مخرج لهم من اليمين قبل أن تشرع الكفارة؛ ولهذا قالت عائشة: كان أبو بكر لا يحنث في يمين، حتي أنزل الله كفارة اليمين؛ وذلك لأن اليمين بالله عقد بالله فيجب الوفاء به، كما يجب بسائر العقود وأشد؛ لأن قوله: أحلف بالله، أو أقسم بالله، ونحو ذلك، في معنى قوله: أعقد بالله؛ ولهذا عدي بحرف الإلصاق الذي يستعمل في الربط والعقد فينعقد المحلوف عليه بالله كما تنعقد إحدي اليدين بالأخري في المعاقدة؛ ولهذا سماه الله عقدًا في قوله: "وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ" [المائدة:89]، فإذا كان قد عقدها بالله كان الحنث فيها نقضًا لعهد الله وميثاقه لولا ما فرضه الله من التحلة؛ ولهذا سمي حلها حنثًا، والحنث هو الإثم في الأصل، فالحنث فيها سبب للإثم لولا الكفارة الماحية، فإنما الكفارة منعته أن يوجب إثمًا.
ج/ 35 ص -252- ونظير الرخصة في كفارة اليمين بعد عقدها الرخصة أيضًا في كفارة الظهار بعد أن كان الظهار في الجاهلية وأول الإسلام طلاقًا، وكذلك الإيلاء كان عندهم طلاقًا، فإن هذا جار علي قاعدة وجوب الوفاء بمقتضي اليمين، فإن الإيلاء إذا وجب الوفاء بمقتضاه من ترك الوطء صار الوطء محرمًا، وتحريم الوطء تحريمًًا مطلقًا مستلزم لزوال الملك الذي هو الطلاق، وكذلك الظهار إذا وجب التحريم فالتحريم مستلزم لزوال الملك؛ فإن الزوجة لا تكون محرمة علي الإطلاق؛ ولهذا قال سبحانه : "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ " [التحريم:1، 2]، والتحلة مصدر حللت الشيء أحله تحليلاً وتحلة، كما يقال: كرمته تكريمًا وتكرمة. وهذا مصدر يسمي به المحلل نفسه الذي هو الكفارة، فإن أريد المصدر فالمعني: فرض الله لكم تحليل اليمين هو حلها الذي هو خلاف العقد.
ولهذا استدل من استدل من أصحابنا وغيرهم كأبي بكر عبد العزيز بهذه الآية علي التكفير قبل الحنث؛ لأن التحلة لا تكون بعد الحنث؛ فإنه بالحنث تنحل اليمين، وإنما تكون التحلة إذا أخرجت قبل الحنث لتنحل اليمين وإنما هي بعد الحنث كفارة؛ لأنها كفرت ما في الحنث من سبب الإثم لنقض عهد الله، فإذا تبين أن ما اقتضته اليمين من وجوب الوفاء بها رفعه الله عن هذه الأمة بالكفارة التي جعلها بدلاً من الوفاء في جملة ما رفعه عنها من الآصار التي نبه عليها بقوله: "وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ" [الأعراف:157].
ج/ 35 ص -253- فالأفعال ثلاثة: إما طاعة، وإما معصية، وإما مباح. فإذا حلف ليفعلن مباحًا أو ليتركنه فهاهنا الكفارة مشروعة بالإجماع. وكذلك إذا كان المحلوف عليه فعل مكروه أو ترك مستحب وهو المذكور في قوله تعالي: "وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ " [البقرة: 224]. وأما إن كان المحلوف عليه فعل واجب أو ترك محرم فهاهنا لا يجوز الوفاء بالاتفاق، بل يجب التكفير عند عامة العلماء، وأما قبل أن تشرع الكفارة فكان الحالف علي مثل هذا لا يحل له الوفاء بيمينه ولا كفارة له ترفع عنه مقتضي الحنث، بل يكون عاصيا معصية لا كفارة فيها، سواء وفي أو لم يف كما لو نذر معصية عند من لم يجعل في نذره كفارة، وكما إن كان المحلوف عليه فعل طاعة غير واجبة.
فَصْل
فأما الحلف بالنذر الذي هو نذر اللجاج والغضب؛ مثل أن يقول: إن فعلت كذا فعلي الحج،أو فمالي صدقة،أو فعلي صيام يريد بذلك أن يمنع نفسه عن الفعل أو أن يقول: إن لم أفعل كذا فعلي الحج ونحوه، فمذهب أكثر أهل العلم أنه يجزئه كفارة يمين من أهل مكة، والمدينة، والبصرة، والكوفة، وهو قول فقهاء الحديث كالشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وغيرهم وهذا إحدي الروايتين عن أبي حنيفة وهو الرواية المتأخرة عنه.
ج/ 35 ص -254- ثم اختلف هؤلاء فأكثرهم قالوا: هو مخير بين الوفاء بنذره، وبين كفارة يمين، وهذا قول الشافعي، والمشهور عن أحمد. ومنهم من قال: بل عليه الكفارة عينًا، كما يلزمه ذلك في اليمين بالله، وهو الرواية الأخري عن أحمد، وقول بعض أصحاب الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة في الرواية الأخري وطائفة: بل يجب الوفاء بهذا النذر، وقد ذكروا أن الشافعي سئل عن هذه المسألة بمصر فأفتي فيها بالكفارة، فقال له السائل: يا أبا عبد الله، هذا قولك؟ قال: قول من هو خير مني: عطاء بن أبي رباح، وذكروا أن عبد الرحمن بن القاسم حنث ابنه في هذه اليمين، فأفتاه بكفارة يمين بقول الليث بن سعد، وقال: إن عدت أفتيتك بقول مالك، وهو الوفاء به؛ ولهذا يفرع أصحاب مالك مسائل هذه اليمين علي النذر، لعمومات الوفاء بالنذر؛ لقوله ﷺ : "من نذر أن يطيع الله فليطعه"؛ ولأنه حكم جائز معلق بشرط فوجب عند ثبوت شرطه كسائر الأحكام.
والقول الأول هو الصحيح. والدليل عليه مع ما سنذكره إن شاء الله من دلالة الكتاب والسنة ما اعتمده الإمام أحمد وغيره. قال أبو بكر الأثرم في مسائله: سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل قال: ما له في رتاج الكعبة؟ قال كفارة يمين، واحتج بحديث عائشة، قال: وسمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل يحلف بالمشي إلي بيت الله، أو الصدقة بالملك، ونحو ذلك من الأيمان، فقال:
ج/ 35 ص -255- إذا حنث فكفارة، إلا أني لا أحمله علي الحنث، ما لم يحنث قيل له: تفعل. قيل لأبي عبد الله: فإذا حنث كفر؟ قال: نعم. قيل له: أليس كفارة يمين؟ قال: نعم. قال: وسمعت أبا عبد الله يقول في حديث ليلي بنت العجماء حين حلفت بكذا وكذا، وكل مملوك لها حر، فأفتيت بكفارة يمين، فاحتج بحديث ابن عمر وابن عباس حين أفتيا فيمن حلف بعتق جارية وأيمان، فقال: أما الجارية فتعتق. وقال الأثرم: حدثنا الفضل ابن دكين، ثنا حسن عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة، قالت: من قال: مالي في ميراث الكعبة، وكل مالي فهو هدي، وكل مالي في المساكين، فليكفر يمينه.
وقال حدثنا عارم بن الفضل، ثنا معمر بن سليمان قال: قال أبي: حدثنا بكر بن عبد الله، أخبرني أبو رافع، قال: قالت مولاتي ليلي بنت العجماء: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية، وهي نصرانية إن لم تطلق امرأتك، أو تفرق بينك وبين امرأتك، قال: فأتيت زينب بنت أم سلمة، وكانت إذا ذكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب، قال: فأتيتها، فجاءت معي إليها، فقالت: في البيت هاروت وماروت؟! قالت: يازينب، جعلني الله فداك، إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية وهي نصرانية، فقالت: يهودية، ونصرانية! خلي بين الرجل وبين
ج/ 35 ص -256- امرأته، فأتيت حفصة أم المؤمنين فأرسلت إليها فأتتها، فقالت: يا أم المؤمنين، جعلني الله فداك، إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية وهي نصرانية، فقالت: يهودية ونصرانية! خلي بين الرجل وبين امرأته قال: فأتيت عبد الله بن عمر، فجاء معي إليها، فقام علي الباب فسلم، فقال: أمن حجارة أنت؟ أم من حديد أنت؟ أم من أي شيء أنت؟ أفتتك زينب، وأفتتك أم المؤمنين، فلم تقبلي فتياها؟ قالت: يا أبا عبد الرحمن، جعلني الله فداك إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية وهي نصرانية. فقال: يهودية ونصرانية! كفري عن يمينك وخلي بين الرجل وبين امرأته.
وقال الأثرم: حدثنا عبد الله بن رجاء، أنبأنا عمران، عن قتادة، عن زرارة بن أبي أوفي، أن امرأة سألت ابن عباس أن امرأة جعلت بردها عليها هديا إن لبسته، فقال ابن عباس: في غضب، أم في رضي؟ قالوا: في غضب. قال: إن الله تبارك وتعالي لا يتقرب إليه بالغضب، لتكفر عن يمينها. وقال: حدثني ابن الطباع، ثنا أبو بكر بن عياش. عن العلاء بن المسيب، عن يعلي بن النعمان، وعكرمة، عن ابن عباس: سئل عن رجل جعل ماله في المساكين، فقال: امسك عليك مالك، وانفقه علي عيالك، واقض به دينك، وكفر عن يمينك.
ج/ 35 ص -257- وروي الأثرم عن أحمد حدثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج، سئل عطاء عن رجل قال: علي ألف بدنة قال: يمين. وعن رجل قال: علي ألف حجة، قال: يمين. وعن رجل قال: مالي هدي، قال: يمين. وعن رجل قال: مالي في المساكين، قال: يمين. وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن قتادة، عن الحسن وجابر بن زيد، في الرجل يقول: إن لم أفعل كذا وكذا فأنا محرم بحجة، قالا: ليس الإحرام إلا علي من نوي الحج، يمين يكفرها. وقال أحمد: ثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر. عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: يمين يكفرها، وقال حرب الكرماني: حدثنا المسيب بن واضح، ثنا يوسف بن أبي السفر، عن الأوزاعي، عن عطاء بن أبي رباح سألت ابن عباس عن الرجل يحلف بالمشي إلي بيت الله الحرام، قال: إنما المشي علي من نواه، فأما من حلف في الغضب فعليه كفارة يمين.
وأيضًا، فإن الاعتبار في الكلام بمعني الكلام لا بلفظه، وهذا الحالف ليس مقصوده قربة لله، وإنما مقصوده الحض علي فعل أو المنع منه، وهذا معني اليمين، فإن الحالف يقصد الحض علي فعل أو المنع منه، ثم إذا علق ذلك الفعل بالله تعالي أجزأته الكفارة، فلا تجزئه إذا علق به وجوب عبادة، أو تحريم مباح بطريق الأولي؛ لأنه إذا علقه بالله ثم حنث كان موجب حنثه أنه قد هتك إيمانه بالله حيث لم يف بعهده، وإذا علق به وجوب فعل أو تحريمه فإنما يكون موجب حنثه ترك واجب أو فعل محرم،ومعلوم أن الحنث الذي
ج/ 35 ص -258- موجبه خلل في التوحيد أعظم مما موجبه معصية من المعاصي، فإذا كان الله قد شرع الكفارة لإصلاح ما اقتضي الحنث في التوحيد فساده ونحو ذلك وجبره فلأن يشرع لإصلاح ما يقتضي الحنث فساده في الطاعة أولي وأحري.
وأيضًا، فإنا نقول: إن موجب صيغة القسم مثل موجب صيغة التعليق، والنذر نوع من اليمين ، وكل نذر فهو يمين، فقول الناذر: لله علي أن أفعل. بمنزلة قوله: أحلف بالله لأفعلن، موجب هذين القولين التزام الفعل معلقًا بالله. والدليل علي هذا قول النبي ﷺ : "النذر حلف". فقوله: إن فعلت كذا فعلي الحج لله، بمنزلة قوله: إن فعلت كذا فوالله لأحجن. وطرد هذا أنه إذا حلف ليفعلن برًا لزمه فعله ولم يكن له أن يكفر، فإن حلفه ليفعلنه نذر لفعله، وكذلك طرد هذا أنه إذا نذرا ليفعلن معصية أو مباح فقد حلف علي فعلها، بمنزلة ما لو قال: والله لأفعلن كذا، ولو حلف بالله ليفعلن معصية أو مباحًا لزمته كفارة يمين، فكذلك لو قال: الله علي أن أفعل كذا. ومن الفقهاء من أصحابنا وغيرهم من يفرق بين البابين.
فَصْل
فأما اليمين بالطلاق، والعتاق في اللجاج والغضب مثل أن يقصد بها حضًا أو منعًا أو تصديقًا أو تكذيبًا كقوله: الطلاق يلزمني لأفعلن
ج/ 35 ص -259- كذا، أو لا فعلت كذا، وإن فعلت كذا فعبيدي أحرار، أو إن لم أفعله فعبيدي أحرار. فمن قال من الفقهاء المتقدمين: إن نذر اللجاج والغضب يجب فيه الوفاء فإنه يقول هنا يقع الطلاق والعتاق أيضًا.
وأما الجمهور الذين قالوا في نذر اللجاج والغضب تجزئه الكفارة فاختلفوا هنا، مع أنه لم يبلغني عن أحد من الصحابة في الحلف بالطلاق كلام، وإنما بلغنا الكلام فيه عن التابعين ومن بعدهم؛ لأن اليمين به محدثة لم يكن يعرف في عصرهم. ولكن بلغنا الكلام في الحلف بالعتق، كما سنذكره إن شاء الله فاختلف التابعون ومن بعدهم في اليمين بالطلاق والعتاق، فمنهم من فرق بينه وبين اليمين بالنذر، وقالوا: إنه يقع الطلاق والعتاق بالحنث ولا تجزئه الكفارة، بخلاف اليمين بالنذر، هذا رواية عوف عن الحسن، وهو قول الشافعي، وأحمد في الصريح المنصوص عنه، وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد، وغيرهم. فروي حرب الكرماني، عن معتمر بن سليمان، عن عوف عن الحسن قال: كل يمين وإن عظمت، ولو حلف بالحج والعمرة، وإن جعل ماله في المساكين، ما لم يكن طلاق امرأة في ملكه يوم حلف، أو عتق غلام في ملكه يوم حلف، فإنما هي يمين. وقال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يقول لابنه: إن كلمتك فامرأتي طالق. وعبدي حر، فقال: لا يقوم هذا مقام اليمين، ويلزمه ذلك في الغضب والرضا. وقال سليمان بن داود: يلزمه الحنث في الطلاق والعتاق، وبه قال أبو خيثمة، قال
ج/ 35 ص -260- إسماعيل: وأخبرنا أحمد ابن حنبل، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن إسماعيل بن أمية عن عثمان بن أبي حازم، أن امرأة حلفت بمالها في سبيل الله أو في المساكين، وجاريتها حرة إن لم تفعل كذا وكذا، فسألت ابن عمر وابن عباس، فقالا: أما الجارية فتعتق، وأما قولها في المال فإنها تزكي المال.
قال أبو إسحاق الجوزجاني: الطلاق والعتق لا يحلان في هذا محل الأيمان، ولو كان المجري فيها مجري الأيمان، لوجب علي الحالف بها إذا حنث كفارة وهذا مما لا يختلف الناس فيه ألا كفارة فيها.
قلت: أخبر أبو إسحاق بما بلغه من العلم في ذلك، فإن أكثر مفتي الناس في ذلك الزمان من أهل المدينة وأهل العراق أصحاب أبي حنيفة ومالك كانوا لا يفتون في نذر اللجاج والغضب إلا بوجوب الوفاء لا بالكفارة. وإن أكثر التابعين مذهبهم فيها الكفارة، حتي إن الشافعي لما أفتي بمصر بالكفارة كان غريبًا بين أصحابه المالكية، وقال له السائل: يا أبا عبد الله، هذا قولك؟ فقال: قول من هو خير مني عطاء بن أبي رباح، فلما أفتي فقهاء الحديث كالشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وسليمان بن داود، وابن أبي شيبة، وعلي بن المديني ونحوهم في الحلف بالنذر بالكفارة، وفرق من فرق بين ذلك وبين الطلاق والعتاق لما سنذكره صار الذي يعرف قول هؤلاء وقول أولئك
ج/ 35 ص -261- لا يعلم خلافًا في الطلاق والعتاق، وإلا فسنذكر الخلاف إن شاء الله تعالي عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وقد اعتذر الإمام أحمد عما ذكرناه عن الصحابة في كفارة العتق بعذرين؛ أحدهما: انفراد سليمان التيمي بذلك. والثاني: معارضته بما رواه عن ابن عمر وابن عباس أن العتق يقع من غير تكفير.
وما وجدت أحدًا من العلماء المشاهير بلغه في هذه المسألة من العلم المأثور عن الصحابة ما بلغ أحمد. قال المروذي: قال أبو عبد الله: إذا قال: كل مملوك له حر، يعتق عليه إذا حنث؛ لأن الطلاق والعتق ليس فيهما كفارة. وقال: وليس يقول كل مملوك لها حر في حديث ليلي بنت العجماء حديث أبي رافع أنها سألت ابن عمر وحفصة وزينب وذكرت العتق فأمروها بكفارة إلا التيمي، وغيره لم يذكروا العتق، قال: سألت أبا عبد الله عن حديث أبي رافع قصة امرأته وأنها سألت ابن عمر وحفصة فأمروها بكفارة يمين، قلت: فيها المشي؟ قال: نعم أذهب إلي أن فيه كفارة يمين. وقال أبو عبد الله: ليس يقول فيه كل مملوك إلا التيمي. قلت: فإذا حلف بعتق مملوكه، فحنث؟ قال: يعتق، كذا يروي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: الجارية تعتق، ثم قال: ما سمعنا إلا من عبد الرزاق، عن معمر. قلت: فإيش إسناده؟ قال: معمر، عن إسماعيل، عن عثمان بن أبي حازم عن ابن عمر وابن عباس، وقال: إسماعيل بن أمية وأيوب بن موسي وهما مكيان.
ج/ 35 ص -262- فقد فرق بين الحلف بالطلاق والعتق والحلف بالنذر بأنهما لا يكفران واتبع ما بلغه في ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وبه عارض ما روي من الكفارة عن ابن عمر وحفصة وزينب مع انفراد التيمي بهذه الزيادة. وقال صالح بن أحمد: قال أبي: وإذا قال: جاريتي حرة إن لم أصنع كذا وكذا، قال: قال ابن عمر وابن عباس: يعتق. وإذا قال: كل مالي في المساكين لم يدخل فيه جاريته، فيه كفارة، فإن ذا لا يشبهه ذا ألا تري أن ابن عمر فرق بينهما؟! العتق والطلاق لا يكفران.
وأصحاب أبي حنيفة يقولون: إذا قال الرجل: مالي في المساكين أنه يتصدق به علي المساكين، وإذا قال: مالي علي فلان صدقة، وفرقوا بين قوله: إن فعلت كذا فمالي صدقة أو فعلي الحج، وبين قوله: فامرأتي طالق، أو فعبدي حر: بأنه هناك موجب القول وجوب الصدقة والحج لا وجود الصدقة والحج، فإذا اقتضي الشرط وجوب ذلك كانت الكفارة بدلاً عن هذا الواجب، كما يكون بدلاً عن غيره من الواجبات، كما كانت في أول الإسلام بدلاً عن الصوم الواجب، وبقيت بدلاً عن الصوم علي العاجز عنه وكما يكون بدلاً عن الصوم الواجب في ذمة الميت؛ فإن الواجب إذا كان في الذمة أمكن أن يخير بين أدائه وبين أداء غيره. وأما العتق والطلاق فإن موجب الكلام وجودهما، فإذا وجد الشرط وجد العتق والطلاق، وإذا وقعا لم يرتفعا بعد وقوعهما؛ لأنهما لا يقبلان الفسخ، بخلاف ما لو قال: إن فعلت كذا فلله علي أن أعتق، فإنه
ج/ 35 ص -263- هنا لم يعلق العتق، وإنما علق وجوبه بالشرط، فيخير بين فعل هذا الإعتاق الذي أوجبه علي نفسه وبين الكفارة التي هي بدل عنه؛ ولهذا لو قال: إذا مت فعبدي حر. عتق بموته من غير حاجة إلي الإعتاق، ولم يكن له فسخ هذا التدبير عند الجمهور إلا قولاً للشافعي، ورواية عن أحمد، وفي بيعه الخلاف المشهور. ولو وصي بعتقه فقال: إذا مت فاعتقوه كان له الرجوع في ذلك كسائر الوصايا، وكان له بيعه هنا وإن لم يجز بيع المدبر.
وذكر أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن محمد بن عرفة في تاريخه: أن المهدي لما أُري ما أجمع عليه، رأي أهل بيته من العهد إلي ابنه عزم علي خلع عيسي ودعاهم إلي البيعة لموسي، فامتنع عيسي من الخلع. وزعم أن عليه أيمانًا تخرجه من أملاكه، وتطلق نساؤه. فأحضر له المهدي بن علاثة ومسلم بن خالد وجماعة من الفقهاء. فأفتوه بما يخرجه عن يمينه، واعتاض عما يلزمه في يمينه بمال كثير ذكره، ولم يزل إلي أن خلع وبويع للمهدي، ولموسي الهادي بعده.
وأما أبو ثور فقال في العتق المعلق علي وجه اليمين: يجزئه كفارة يمين، كنذر اللجاج والغضب؛ لأجل ما تقدم من حديث ليلي بنت العجماء التي أفتاها عبد الله بن عمر، وحفصة أم المؤمنين وزينب ربيبة رسول الله ﷺ في قولها: إن لم أفرق بينك وبين امرأتك فكل مملوك لي محرر.وهذه القصة هي مما اعتمدها الفقهاء المستدلون في مسألة نذر
ج/ 35 ص -264- اللجاج والغضب، لكن توقف أحمد وأبوعبيد عن العتق فيها لما ذكرته من الفرق. وعارض أحمد ذلك. وأما الطلاق فلم يبلغ أبا ثور فيه أثر فتوقف عنه، مع أن القياس عنده مساواته للعتق، لكن خاف أن يكون مخالفًا للإجماع.
والصواب أن الخلاف في الجميع الطلاق وغيره لما سنذكره ولو لم ينقل في الطلاق نفسه خلاف معين لكان فتيا من أفتي من الصحابة في الحلف بالعتاق بكفارة يمين من باب التنبيه علي الحلف بالطلاق؛ فإنه إذا كان نذر العتق الذي هو قربة لما خرج مخرج اليمين أجزأت فيه الكفارة، فالحلف بالطلاق ليس بقربة إما أن تجزئ فيه الكفارة أو لا يجب فيه شيء، علي قول من يقول: نذر غير الطاعة لا شيء فيه. ويكون قوله: إن فعلت كذا، فأنت طالق. بمنزلة قوله: فعلي أن أطلقك، كما كان عند أولئك الصحابة ومن وافقهم قوله: فعبيدي أحرار، بمنزلة قوله: فعلي أن أعتقهم.
علي أني إلي الساعة لم يبلغني عن أحد من الصحابة كلام في الحلف بالطلاق وذلك والله أعلم لأن الحلف بالطلاق لم يكن قد حدث في زمانهم، وإنما ابتدعه الناس في زمن التابعين ومن بعدهم، فاختلف فيه التابعون ومن بعدهم. فأحد القولين: أنه يقع به، كما تقدم. والقول الثاني: أنه لا يلزم الوقوع. ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن طاوس، عن أبيه: أنه
ج/ 35 ص -265- كان يقول: الحلف بالطلاق ليس شيئًا. قلت: أكان يراه يمينًا؟ قال: لا أدري. فقد أخبر ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يراه موقعًا للطلاق، وتوقف في كونه يمينًا يوجب الكفارة؛ لأنه من باب نذر ما لا قربة فيه.
وفي كون مثل هذا يمينًا خلاف مشهور، وهذا قول أهل الظاهر: كداود، وأبي محمد ابن حزم لكن بناء علي أنه لايقع طلاق معلق ولا عتق معلق. واختلفوا في المؤجل، وهو بناء علي ما تقدم من أن العقود لا يصح منها إلا ما دل نص أو إجماع علي وجوبه أو جوازه، وهو مبني علي ثلاث مقدمات يخالفون فيها.
أحدها: كون الأصل تحريم العقود. الثاني: أنه لا يباح ما كان في معني النصوص.
الثالث: أن الطلاق المؤجل والمعلق لم يندرج في عموم النصوص.
وأما المأخذ المتقدم من كون هذا كنذر اللجاج والغضب، فهذا قياس قول الذين جوزوا التكفير في نذر اللجاج والغضب، وفرقوا بين نذر التبرر ونذر الغضب، فإن هذا الفرق يوجب الفرق بين المعلق الذي يقصد وقوعه عند الشرط وبين المعلق المحلوف به الذي يقصد عدم وقوعه، إلا أن يصح الفرق المذكور بين كون المعلق هو الوجود أو الوجوب. وسنتكلم عليه.
وقد ذكرنا أن هذا القول يخرج علي أصول أحمد من مواضع قد ذكرناها، وكذلك هو أيضًا لازم لمن قال في نذر اللجاج والغضب بكفارة
ج/ 35 ص -266- كما هو ظاهر مذهب الشافعي وإحدي الروايتين عن أبي حنيفة التي اختارها أكثر متأخري أصحابه، وإحدي الروايتين عن ابن القاسم التي اختارها كثير من متأخري المالكية؛ فإن التسوية بين الحلف بالنذر والحلف بالعتق هو المتوجه؛ ولهذا كان هذا من أقوي حجج القائلين بوجوب الوفاء في الحلف بالنذر، فإنهم قاسوه علي الحلف بالطلاق والعتاق، واعتقده بعض المالكية مجمعًا عليه.
وأيضًا، فإذا حلف بصيغة القسم كقوله: عبيدي أحرار لأفعلن، أو نسائي طوالق لأفعلن، فهو بمنزلة قوله: مالي صدقة لأفعلن، وعلي الحج لأفعلن.
والذي يوضح التسوية أن الشافعي إنما اعتمد في الطلاق المعلق علي فدية الخلع، قاله في البويطي وهو كتاب مصري: من أجود كلامه وذلك أن الفقهاء يسمون الطلاق المعلق بسبب طلاقًا بصفة، ويسمون ذلك الشرط صفة. ويقولون: إذا وجدت الصفة في زمان البينونة، وإذا لم توجد الصفة، ونحو ذلك، وهذه التسمية لها وجهان:
أحدهما: أن هذا الطلاق موصوف بصفة ليس طلاقًا مجردًا عن صفة؛ فإنه إذا قال: أنت طالق في أول السنة أو إذا طهرت، فقد وصف الطلاق بالزمان الخاص، فإن الظرف صفة للمظروف، وكذلك إذا قال: إن أعطيتني ألفا فأنت طالق، فقد وصفه بعوضه.
ج/ 35 ص -267-والثاني: أن نحاة الكوفة يسمون حروف الجر ونحوها حروف الصفات، فلما كان هذا معلقا بالحروف التي قد تسمي حروف الصفات سمي طلاقا بصفة كما لو قال: أنت طالق بألف.
والوجه الأول هو الأصل؛ فإن هذا يعود إليه؛ إذ النحاة إنما سمو حروف الجر حروف الصفات؛ لأن الجار والمجرور يصير في المعني صفة لما تعلق به، فإذا كان الشافعي وغيره إنما اعتمدوا في الطلاق الموصوف علي طلاق الفدية، وقاسوا كل طلاق بصفة عليه صار هذا كما أن النذر المعلق بشرط مذكور في قوله تعالي: "وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ " [التوبة: 75] ومعلوم أن النذر المعلق بشرط هو نذر بصفة، فقد فرقوا بين النذر المقصود شرطه وبين النذر المقصود عدم شرطه الذي خرج مخرج اليمين، فلذلك يفرق بين الطلاق المقصود وصفه؛ كالخلع حيث المقصود فيه العوض والطلاق المحلوف به الذي يقصد عدمه وعدم شرطه؛ فإنه إنما يقاس بما في الكتاب والسنة ما أشبهه، ومعلوم ثبوت الفرق بين الصفة المقصودة وبين الصفة المحلوف عليها التي يقصد عدمها كما فرق بينهما في النذر سواء.
والدليل علي هذا القول: الكتاب، والسنة، والأثر، والاعتبار .
ج/ 35 ص -268- أما الكتاب فقوله سبحانه:" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ " [التحريم: 1، 2] فوجه الدلالة أن اللّه قال: " قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ "، وهذا نص عام في كل يمين يحلف بها المسلمون أن اللّه قد فرض لها تحلة، وذكره سبحانه بصيغة الخطاب للأمة بعد تقدم الخطاب بصيغة الإفراد للنبي ﷺ ، مع علمه سبحانه بأن الأمة يحلفون بأيمان شتي، فلو فرض يمين واحدة ليس لها تحلة لكان مخالفا للآية، كيف وهذا عام لم تخص منه صورة واحدة لا بنص ولا بإجماع بل هو عام عموما معنويا مع عمومه اللفظي؛ فإن اليمين معقودة توجب منع المكلف من الفعل، فشرع التحلة لهذه العقدة مناسب لما فيه من التخفيف والتوسعة. وهذا موجود في اليمين بالعتق والطلاق أكثر منه في غيرهما من أيمان نذر اللجاج والغضب.
فإن الرجل إذا حلف بالطلاق ليقتلن النفس، أو ليقطعن رحمه، أو ليمنعن الواجب عليه من أداء أمانة ونحوها، فإنه يجعل الطلاق عرضة ليمينه أن يبر ويتقي ويصلح بين الناس أكثر مما يجعل اللّه عرضة ليمينه، ثم إن وفي بيمينه كان عليه من ضرر الدنيا والدين ما قد أجمع المسلمون علي تحريم الدخول فيه، وإن طلق امرأته ففي الطلاق أيضًا من ضرر الدين والدنيا مالا خفاء فيه. أما الدين فإنه مكروه باتفاق الأمة مع استقامة حال الزوجين،
ج/ 35 ص -269- إما كراهة تنزيه، أو كراهة تحريم، فكيف إذا كانا في غاية الاتصال، وبينهما من الأولاد والعشرة ما يكون في طلاقهما من ضرر الدين أمر عظيم، وكذلك ضرر الدنيا كما يشهد به الواقع، بحيث لو خير أحدهما بين أن يخرج من ماله ووطنه وبين الطلاق لاختار فراق ماله ووطنه علي الطلاق؟! وقد قرن اللّه فراق الوطن بقتل النفس؛ ولهذا قال الإمام أحمد في إحدي الروايتين عنه متابعة لعطاء: إنها إذا أحرمت بالحج فحلف عليها زوجها بالطلاق أنها لا تحج صارت محصرة، وجاز لها التحلل، لما عليها في ذلك من الضرر الزائد علي ضرر الإحصار بالعدو أو القريب منه، وهذا ظاهر فيما إذا قال: إن فعلت كذا فعلي أن أطلقك، أو أعتق عبيدي، فإن هذا في نذر اللجاج والغضب بالاتفاق، كما لو قال: واللّّه لأطلقنك، أو لأعتقن عبيدي، وإنما الفرق بين وجود العتق ووجوبه هو الذي اعتمده المفرقون. وسنتكلم عليه إن شاء اللّه تعالي.
وأيضاً، فإن اللّه قال: " لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " [التحريم: 1] وذلك يقتضي أنه ما من تحريم لما أحل اللّه إلا واللّه غفور لفاعله رحيم به، وأنه لا علة تقتضي ثبوت ذلك التحريم؛ لأن قوله: "لم" لأي شيء. استفهام في معني النفي والإنكار، والتقدير لا سبب لتحريمك " مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ "، " وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " فلو كان الحالف بالنذر والعتاق والطلاق علي أنه لا يفعل شيئا لا رخصة له لكان هنا سبب يقتضي تحريم الحلال، ولا يبقي موجب المغفرة والرحمة علي هذا الفاعل.
ج/ 35 ص -270- وأيضًا، قوله سبحانه وتعالي: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ " إلي قوله:" ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ " [المائدة: 87: 89]، والحجة منها كالحجة من الأولي وأقوي؛ فإنه قال: " لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ " وهذا عام لتحريمها بالأيمان من الطلاق وغيرها، ثم بين وجه المخرج من ذلك بقوله: " لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ " أي: فكفارة تعقيدكم أو عقدكم الأيمان، وهذا عام؛ ثم قال: " ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ " وهذا عام كعموم قوله: " وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ ". ومما يوضح عمومه أنهم قد أدخلوا الحلف بالطلاق في عموم قوله ﷺ : "من حلف فقال: إن شاء اللّه، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك"،فأدخلوا فيه الحلف بالطلاق والعتاق والنذر والحلف باللّه.
وإنما لم يدخل مالك وأحمد وغيرهما تنجيز الطلاق موافقة لابن عباس؛ لأن إيقاع الطلاق ليس بحلف، وإنما الحلف المنعقد ما تضمن محلوفا به ومحلوفا عليه: إما بصيغة القسم، وإما بصيغة الجزاء، وما كان في معني ذلك، كما سنذكره إن شاء اللّه تعالي. وهذه الدلالة تنبيه علي أصول الشافعي وأحمد ومن وافقهم في مسألة نذر اللجاج والغضب، فإنهم احتجوا علي التكفير فيه بهذه الآية، وجعلوا قوله: " تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ " [التحريم: 2] " كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ " [المائدة: 89] عاما في اليمين باللّه واليمين بالنذر، ومعلوم أن شمول اللفظ لنذر اللجاج والغضب في الحج والعتق ونحوهما سواء.
ج/ 35 ص -271- فإن قيل:المراد في الآية اليمين باللّه فقط،فإن هذا هو المفهوم من مطلق اليمين، ويجوز أن يكون التعريف بالألف واللام والإضافة في قوله: " عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ " [المائدة: 89] و " تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ " [التحريم: 2] منصرفا إلي اليمين المعهودة عندهم وهي اليمين بالله، وحينئذ فلا يعم اللفظ إلا المعروف عندهم. والحلف بالطلاق ونحوه لم يكن معروفا عندهم، ولو كان اللفظ عاما فقد علمنا أنه لم يدخل فيه اليمين التي ليست مشروعة كاليمين بالمخلوقات فلا يدخل فيه الحلف بالطلاق ونحوه؛ لأنه ليس من اليمين المشروعة؛ لقوله: "من كان حالفا فليحلف باللّه أو فليصمت"، وهذا سؤال من يقول: كل يمين غير مشروعة فلا كفارة لها ولا حنث.
فيقال: لفظ اليمين شمل هذا كله، بدليل استعمال النبي ﷺ والصحابة والعلماء اسم اليمين في هذا كله، كقوله ﷺ : "النذر حلف"، وقول الصحابة لمن حلف بالهدي والعتق: كفر يمينك. وكذلك فهمه الصحابة من كلام النبي ﷺ ، كما سنذكره. ولإدخال العلماء لذلك في قوله ﷺ : "من حلف فقال إن شاء اللّه، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك"، ويدل علي عمومه في الآية أنه سبحانه قال: " لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ " ثم قال: " قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ " [التحريم: 1، 2] فاقتضي هذا أن نفس تحريم الحلال يمين، كما استدل به ابن عباس وغيره. وسبب نزول الآية: إما تحريمه العسل، وإما تحريمه مارية
ج/ 35 ص -272- القبطية. وعلي التقديرين فتحريم الحلال يمين علي ظاهر الآية، وليس يمينا بالله؛ ولهذا أفتي جمهور الصحابة كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وغيرهم أن تحريم الحلال يمين مكفرة: إما كفارة كبري كالظهار، وإما كفارة صغري كاليمين باللّه. ومازال السلف يسمون الظهار ونحوه يمينا.
وأيضًا ، فإن قوله: " لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ "، إما أن يراد به لم تحرم بلفظ الحرام، وإما لم تحرمه باليمين بالله تعالي ونحوها، وإما لم تحرمه مطلقا. فإن أريد الأول والثالث فقد ثبت أن تحريمه بغير الحلف بالله يمين، فيعم. وإن أريد به تحريمه بالحلف باللّه فقد سمي الله الحلف باللّه تحريما للحلال، ومعلوم أن اليمين بالله لم توجب الحرمة الشرعية، لكن لما أوجبت امتناع الحالف من الفعل فقد حرمت عليه الفعل تحريما شرطيا لا شرعيا، فكل يمين توجب امتناعه من الفعل فقد حرمت عليه الفعل، فيدخل في عموم قوله: " لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ "، وحينئذ فقوله: " قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ "، لابد أن يعم كل يمين حرمت الحلال؛ لأن هذا حكم ذلك الفعل، فلابد أن يطابق صوره؛ لأن تحريم الحلال هو سبب قوله:" قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ "، وسبب الجواب إذا كان عاما كان الجواب عاما لئلا يكون جوابا عن البعض مع قيام السبب المقتضي للتعميم، وهذا التقدير في قوله تعالي: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ " إلي قوله: " ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ " [المائدة: 87: 89].
ج/ 35 ص -273- وأيضاً، فإن الصحابة فهمت العموم، وكذلك العلماء عامتهم حملوا الآية علي اليمين بالله وغيرها.
وأيضًا، فنقول: علي الرأس، سلمنا أن اليمين المذكورة في الآية المراد بها اليمين بالله تعالي وأن ما سوي اليمين باللّه تعالي لا يلزم بها حكم، فمعلوم أن الحلف بصفاته كالحلف به، كما لو قال: وعزة الله تعالي، أو: لعمر اللّه، أو: والقرآن العظيم، فإنه قد ثبت جواز الحلف بهذه الصفات ونحوها عن النبي ﷺ والصحابة، ولأن الحلف بصفاته كالاستعاذة بها وإن كانت الاستعاذة لا تكون إلا باللّه في مثل قول النبي ﷺ : "أعوذ بوجهك"، "وأعوذ بكلمات اللّه التامات"، "وأعوذ برضاك من سخطك"، ونحو ذلك، وهذا أمر متقرر عند العلماء.
وإذا كان كذلك فالحلف بالنذر والطلاق ونحوهما هو حلف بصفات اللّه؛ فإنه إذا قال: إن فعلت كذا فعلي الحج، فقد حلف بإيجاب الحج عليه، وإيجاب الحج عليه حكم من أحكام اللّه تعالي وهو من صفاته. وكذلك لو قال: فعلي تحرير رقبة. وإذا قال: فامرأتي طالق، وعبدي حر، فقد حلف بإزالة ملكه الذي هو تحريمه عليه، والتحريم من صفات اللّه، كما أن الإيجاب من صفات اللّه، وقد جعل اللّه ذلك من آياته في قوله: " وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا " [البقرة: 231]، فجعل صدوره في النكاح والطلاق والخلع من آياته، لكنه إذا حلف بالإيجاب والتحريم فقد عقد اليمين للّه كما يعقد النذر للّه، فإن قوله: علي الحج والصوم. عقد
ج/ 35 ص -274- للّه، ولكن إذا كان حالفا فهو لم يقصد العقد للّه بل قصد الحلف به، فإذا حنث ولم يوف به فقد ترك ما عقد للّه، كما أنه إذا فعل المحلوف فقد ترك ما عقده للّه.
يوضح ذلك أنه إذا حلف باللّه أو بغير اللّه مما يعظمه بالحلف فإنما حلف به ليعقد به المحلوف عليه ويربطه به؛ لأنه يعظمه في قلبه إذا ربط به شيئا لم يحله، فإذا حل ما ربطه به فقد انتقصت عظمته من قلبه، وقطع السبب الذي بينه وبينه. وكما قال بعضهم: اليمين العقد علي نفسه لحق من له حق؛ ولهذا إذا كانت اليمين غموساً كانت من الكبائر الموجبة للنار كما قال تعالي: " إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " [آل عمران: 77]، وذكرها النبي ﷺ في عد الكبائر؛ وذلك أنه إذا تعمد أن يعقد بالله ما ليس منعقداً به فقد نقص الصلة التي بينه وبين ربه بمنزلة من أخبر عن الله بما هو منزه عنه، أوتبرأ من الله، بخلاف ما إذا حلف علي المستقبل فإنه عقد بالله فعلاً قاصداً لعقده علي وجه التعظيم لله، لكن الله أباح له حل هذا العقد الذي عقده، كما يبيح له ترك بعض الواجبات لحاجة، أو يزيل عنه وجوبها.
ولهذا قال أكثر أهل العلم: إذا قال: هو يهودي، أو نصراني إن لم يفعل ذلك، فهي يمين، بمنزلة قوله: والله لأفعلن؛ لأنه ربط عدم
ج/ 35 ص -275- الفعل بكفره الذي هو براءته من الله، فيكون قد ربط الفعل بأيمانه بالله، وهذا هو حقيقة الحلف بالله، فربط الفعل بأحكام الله من الإيجاب أو التحريم أدني حالاً من ربطه بالله.
يوضح ذلك أنه إذا عقد اليمين بالله فهو عقد لها بأيمانه بالله، وهو ما في قلبه من جلال الله وإكرامه، الذي هو جد الله، ومثله الأعلي في السموات والأرض، كما أنه إذا سبح الله وذكره فهو مسبح لله وذاكر له بقدر ما في قلبه من معرفته وعبادته؛ ولذلك جاء التسبيح تارة لاسم الله، كما في قوله: " وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا " [الإنسان: 25]، مع قوله: " وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا " [الأحزاب: 41]، فحيث عظم العبد ربه بتسبيح اسمه أو الحلف به أو الاستعاذة به، فهو مسبح له بتوسط المثل الأعلي الذي في قلبه من معرفته وعبادته وعظمته ومحبته علماً وفضلاً وإجلالاً وإكراماً، وحكم الإيمان والكفر إنما يعود إلي ما كسبه قلبه من ذلك، كما قال سبحانه: " لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ " [البقرة: 225]، وكما في موضع آخر: " وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ " [المائدة: 89].
فلو اعتبر الشارع ما في لفظ القسم من انعقاده بالأيمان وارتباطه به دون قصد الحلف لكان موجبه أنه إذا حنث بغير إيمانه تزول حقيقته، كما قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"، وكما أنه إذا حلف علي ذلك يميناً
ج/ 35 ص -276- فاجرة كانت من الكبائر، وإذا اشتري بها مالا معصوماً فلا خلاق له في الآخرة،ولا يكلمه الله يوم القيامة، ولا يزكيه،وله عذاب أليم، لكن الشارع علم أن الحالف بها ليفعلن أو لا يفعلن ليس غرضه الاستخفاف بحرمة اسم الله والتعلق به لغرض الحالف باليمين الغموس فشرع له الكفارة، وحل هذا العقد، وأسقطها عن لغو اليمين؛ لأنه لم يعقد قلبه شيئاً من الجناية علي إيمانه فلا حاجة إلي الكفارة.
وإذا ظهر أن موجب لفظ اليمين انعقاد الفعل بهذا اليمين الذي هو إيمانه بالله،فإذا عدم الفعل كان مقتضي لفظه عدم إيمانه،هذا لولا ما شرع الله من الكفارة،كما أن مقتضي قوله: إن فعلت كذا أوجب علي كذا؛أنه عند الفعل يجب ذلك الفعل لولا ما شرع الله من الكفارة.
يوضح ذلك أن النبي ﷺ قال: "من حلف بغير ملة الإسلام فهو كما قال" أخرجاه في الصحيحين، فجعل اليمين الغموس في قوله: هو يهودي، أو نصراني إن فعل كذا، كالغموس في قوله: والله ما فعلت كذا، إذ هو في كلا الأمرين قد قطع عهده من الله حيث علق الإيمان بأمر معدوم، والكفر بأمر موجود، بخلاف اليمين علي المستقبل. وطرد هذا المعني: أن اليمين الغموس إذا كانت في النذر أو الطلاق أو العتاق وقع المعلق به ولم ترفعه الكفارة، كما يقع الكفر بذلك في أحد قولي العلماء، وبهذا يحصل الجواب عن قولهم: المراد به اليمين المشروعة.
ج/ 35 ص -277- وأيضاً، قوله سبحانه وتعالي : " وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " [البقرة: 224]، فإن السلف مجمعون أو كالمجمعين علي أن معناها: أنكم لا تجعلوا الله مانعاً لكم إذا حلفتم به من البر والتقوي والإصلاح بين الناس، بأن يحلف الرجل ألا يفعل معروفاً مستحباً أو واجباً، أو ليفعلن مكروها أو حراماً ونحوه، فإذا قيل له: افعل ذلك أو لا تفعل هذا، قال: قد حلفت بالله، فيجعل الله عرضة ليمينه. فإذًا كان قد نهي عباده أن يجعلوا نفسه مانعاً لهم في الحلف من البر والتقوي.
والحلف بهذه الأيمان إن كان داخلا في عموم الحلف به وجب ألا يكون مانعاً من باب التنبيه بالأعلي علي الأدني، فإنه إذا نهي أن يكون هو سبحانه عرضة لأيماننا أن نبر ونتقي فغيره أولي أن نكون منهيين عن جعله عرضة لأيماننا، وإذا تبين أننا منهيون عن أن نجعل شيئاً من الأشياء عرضة لأيماننا أن نبر ونتقي ونصلح بين الناس فمعلوم أن ذلك إنما هو لما في البر والتقوي والإصلاح مما يحبه الله ويأمر به ، فإذا حلف الرجل بالنذر أو بالطلاق أو بالعتاق ألا يبر ولا يتقي ولا يصلح فهو بين أمرين: إن وفي بذلك فقد جعل هذه الأشياء عرضة ليمينه أن يبر ويتقي ويصلح بين الناس ، وإن حنث فيها وقع عليه الطلاق ووجب عليه فعل المنذور ، فقد يكون خروج أهله منه أبعد عن البر والتقوي من الأمر المحلوف عليه، فإن أقام علي يمينه ترك البر والتقوي ، وإن خرج عن أهله وماله ترك البر والتقوي، فصارت عرضة ليمينه أن يبر ويتقي، فلا يخرج عن ذلك إلا بالكفارة.
ج/ 35 ص -278- وهذا المعنى هو الذي دلت عليه السنة، ففي الصحيحين من حديث همام، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ : "لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه". ورواه البخاري أيضاً من حديث عكرمة، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ : "من استلج في أهله بيمين فهو أعظم إثماً"، فأخبر النبي ﷺ أن اللجاج باليمين في أهل الحالف أعظم من التكفير. واللجاج: التمادي في الخصومة، ومنه قيل: رجل لجوج إذا تمادي في الخصومة؛ ولهذا تسمي العلماء هذا نذر اللجاج، والغضب، فإنه يلج حتي يعقده، ثم يلج في الامتناع من الحنث. فبين النبي ﷺ أن اللجاج باليمين أعظم إثماً من الكفارة، وهذا عام في جميع الأيمان.
وأيضاً، فإن النبي ﷺ قال لعبد الرحمن بن سمرة: "إذا حلفت علي يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك". أخرجاه في الصحيحين. وفي رواية في الصحيحين: "فكفر عن يمينك، وأت الذي هو خير"، وروي مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال: "من حلف علي يمين فرأي غيرها خيراً منها، فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير" وفي رواية: "فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه"، وهذا نكرة في
ج/ 35 ص -279- سياق الشرط، فيعم كل حلف علي يمين كائناً ما كان الحلف، فإذا رأي غير اليمين المحلوف عليها خيراً منها وهو أن يكون اليمين المحلوف عليها تركاً لخير فيري فعله خيراً من تركه، أو يكون فعلاً لشر فيري تركه خيراً من فعله، فقد أمر النبي ﷺ أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه، وقوله هنا: [علي يمين]، هو - والله أعلم - من باب تسمية المفعول باسم المصدر، سمي الأمر المحلوف عليه يميناً، كما يسمي المخلوق خلقاً، والمضروب ضرباً، والمبيع بيعاً، ونحو ذلك.
وكذلك أخرجاه في الصحيحين، عن أبي موسي الأشعري في قصته وقصة أصحابه، لما جاؤوا إلي النبي ﷺ ليستحملوه فقال: "والله ما أحملكم، وما عندي ما أحملكم عليه"، ثم قال: "إني والله إن شاء الله لا أحلف علي يمين فأري غيرها خيراً منها إلا آتيت الذي هو خير، وتحللتها"، وفي روايةفي الصحيحين "إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير" وروي مسلم في صحيحه، عن عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله ﷺ : "إذا حلف أحدكم علي اليمين فرأي غيرها خيراً منها فيكفرها وليأت الذي هو خير"، وفي رواية لمسلم أيضاً : "من حلف علي يمين فرأي غيرها خيًرا منها فليكفرها، وليأت الذي هو خير"، وقد رويت هذه السنة عن النبي ﷺ من غير هذه الوجوه من حديث عبد الله ابن عمر، وعوف بن مالك الجشمي.
ج/ 35 ص -280- فهذه نصوص رسول الله ﷺ المتواترة أنه أمر من حلف علي يمين فرأي غيرها خيراً منها أن يكفر يمينه ويأتي الذي هو خير ولم يفرق بين الحلف بالله أو النذر ونحوه. وروي النسائي عن أبي موسي، قال: قال رسول الله ﷺ : "ما علي الأرض يمين أحلف عليها فأري غيرها خيراً منها إلا أتيته"، وهذا صريح بأنه قصد تعميم كل يمين في الأرض.
وكذلك الصحابة فهموا منه دخول الحلف بالنذر في هذا الكلام، فروي أبو داود في سننه، حدثنا محمد بن المنهال، حدثنا يزيد بن زريع حدثنا خبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب: أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة. فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك، كفر عن يمينك، وكلم أخاك، سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب، ولا في قطيعة الرحم وفيما لا يملك"، فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أمر هذا الذي حلف بصيغة الشرط ونذر نذر اللجاج والغضب بأن يكفر يمينه، وألا يفعل ذلك المنذور، واحتج بما سمعه من النبي ﷺ أنه قال: "لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب، ولا في قطيعة الرحم، وفيما لا يملك"، ففهم من هذا أن من حلف بيمين أو نذر علي معصية أو قطيعة فإنه لا وفاء عليه في ذلك النذر، وإنما عليه الكفارة، كما أفتاه عمر، ولولا أن هذا النذر
ج/ 35 ص -281- كان عنده يميناً لم يقل له: كفر عن يمينك، وإنما قال ﷺ : "لا يمين ولا نذر" ؛ لأن اليمين ما قصد بها الحض أو المنع، والنذر ما قصد به التقرب، وكلاهما لا يوفي به في المعصية والقطيعة.
وفي هذا الحديث دلالة أخري، وهو أن قول النبي ﷺ : "لا يمين ولا نذر في معصية الرب، ولا في قطيعة رحم" ، يعم جميع ما يسمي يميناً أو نذراً، سواء كانت اليمين بالله أو كانت بوجوب ما ليس بواجب من الصدقة أو الصيام أو الحج أو الهدي، أو كانت بتحريم الحلال كالظهار والطلاق والعتاق. ومقصود النبي ﷺ إما أن يكون نهيه عن المحلوف عليه من المعصية والقطيعة فقط، أو يكون مقصوده مع ذلك لا يلزمه ما في اليمين والنذر من الإيجاب والتحريم، وهذا الثاني هو الظاهر؛ لاستدلال عمر بن الخطاب به؛ فإنه لولا أن الحديث يدل علي هذا لم يصح استدلال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ما أجاب به السائل من الكفارة دون إخراج المال في كسوة الكعبة؛ ولأن لفظ النبي ﷺ يعم ذلك كله.
وأيضاً، فمما يبين دخول الحلف بالنذر والطلاق والعتاق في اليمين والحلف في كلام الله? تعالي وكلام رسوله ﷺ ما روي ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: "من حلف على يمين فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه". رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي، وقال: حديث حسن
ج/ 35 ص -282- وأبو داود ولفظه: حدثنا أحمد بن حنبل، ثنا سفيان؛ عن أيوب،عن نافع، عن ابن عمر يبلغ به النبي ﷺ قال: "من حلف على يمين فقال: إن شاء الله، فقد استثني" ورواه أيضا من طريق عبد الرزاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ: "من حلف فاستثني فإن شاء رجع وإن شاء ترك غير حنث". وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث". رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، ولفظه: "فله ثنياه" والنسائي، وقال: "فقد استثني".
ثم عامة الفقهاء أدخلوا الحلف بالنذر وبالطلاق وبالعتاق في هذا الحديث، وقالوا: ينفع فيه الاستثناء بالمشيئة، بل كثير من أصحاب أحمد يجعل الحلف بالطلاق لا خلاف فيه في مذهبه، وإنما الخلاف فيما إذا كان بصيغة الجزاء. وإنما الذي لا يدخل عند أكثرهم هو نفس إيقاع الطلاق والعتاق، والفرق بين إيقاعهما والحلف بهما ظاهر، وسنذكر إن شاء الله قاعدة الاستثناء فإذا كانوا قد أدخلوا الحلف بهذه الأشياء في قوله: "من حلف على يمين فقال إن شاء الله، فلا حنث عليه" ، فكذلك يدخل في قوله: "من حلف على يمين فرأي غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه" ، فإن كلا اللفظين سواء، وهذا واضح لمن تأمله، فإن قوله ﷺ: "من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه"، العموم فيه مثله في قوله:
ج/ 35 ص -283- "من حلف على يمين فرأي غيرهما خيرًا منها فليأت الذي خير، وليكفر عن يمينه" وإذا كان لفظ رسول الله ﷺ في حكم الاستثناء هو لفظه في حكم الكفارة وجب أن يكون كل ما ينفع فيه الاستثناء ينفع فيه التكفير، وكل ما ينفع فيه التكفير ينفع فيه الاستثناء، كما نص عليه أحمد في غير موضع.
ومن قال: إن رسول الله ﷺ قصد بقوله: "من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه" جميع الأيمان التي يحلف بها من اليمين بالله، وبالنذر، وبالطلاق، وبالعتاق وبقوله: "من حلف على يمين فرأي غيرها خيرًا منها"، إنما قصد به اليمين بالله أو اليمين بالله والنذر. فقوله ضعيف فإن حضور موجب أحد اللفظين بقلب النبي ﷺ مثل حضور موجب اللفظ الآخر، إذ كلاهما لفظ واحد، والحكم فيهما من جنس واحد وهو رفع اليمين، إما بالاستثناء، وإما بالتكفير.
وبعد هذا فاعلم أن الأمة انقسمت في دخول الطلاق والعتاق في حديث الاستثناء على ثلاثة أقسام :
فقوم قالوا: يدخل في ذلك الطلاق والعتاق أنفسهما، حتى لو قال: أنت طالق إن شاء الله، وأنت حر إن شاء الله، دخل ذلك في عموم الحديث. وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وغيرهما.
ج/ 35 ص -284- وقوم قالوا: يدخل في ذلك الطلاق والعتاق، لا إيقاعهما ولا الحلف بهما، بصيغة الجزاء ولا بصيغة القسم وهذا أشهر القولين في مذهب مالك وإحدي الروايتين عن أحمد.
والقول الثالث: أن إيقاع الطلاق والعتاق لا يدخل في ذلك، بل يدخل فيه الحلف بالطلاق والعتاق، وهذه الرواية الثانية عن أحمد. ومن أصحابه من قال: إن كان الحلف بصيغة القسم دخل في الحديث ونفعته المشيئة رواية واحدة، وإن كان بصيغة الجزاء ففيه روايتان.
وهذا القول الثالث هو الصواب المأثورمعناه عن أصحاب رسول الله ﷺ، وجمهور التابعين؛ كسعيد بن المسيب، والحسن، لم يجعلوا في الطلاق استثناء ولم يجعلوه من الأيمان، ثم قد ذكرنا عن الصحابة وجمهور التابعين أنهم جعلوا الحلف بالصدقة والهدي والعتاق ونحو ذلك يمينا مكفرة، وهذا معني قول أحمد في غير موضع: الاستثناء في الطلاق والعتاق ليسا من الأيمان، قال أيضا: الاستثناء في الطلاق لا أقول به؛ وذلك أن الطلاق والعتاق حرفان واقعان. وقال أيضا: إنما يكون الاستثناء فيما يكون فيه كفارة، والطلاق والعتاق لا يكفران.
وهذا الذي قاله ظاهر، وذلك أن إيقاع الطلاق والعتاق ليسا يمينا أصلا وإنما هو بمنزلة العفو عن القصاص، والإبراء من الدين؛ولهذا لو قال: والله لا أحلف على يمين، ثم إنه أعتق عبدًا له، أو طلق امرأته، أو أبرأ
ج/ 35 ص -285- غريمه من دم أو مال أو عرض، فإنه لا يحنث،ما علمت أحدًا خالف في ذلك. فمن أدخل إيقاع الطلاق والعتاق في قول النبي ﷺ: "من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث"، فقد حمل العام ما لا يحتمله، كما أن من أخرج من هذا العام قوله: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا، أو لا أفعله إن شاء الله، أو إن فعلته فامرأتي طالق إن شاء الله، فقد أخرج من القول العام ما هو داخل فيه، فإن هذا يمين بالطلاق والعتاق.
وهنا ينبغي تقليد أحمد بقوله: الطلاق والعتاق ليسا من الأيمان؛ فإن الحلف بهما كالحلف بالصدقة والحج ونحوهما، وذلك معلوم بالاضطرار عقلا وعرفا وشرعا؛ ولهذا لو قال: والله لا أحلف على يمين أبدًا. ثم قال: إن فعلت كذا فامرأتي طالق، حنث. وقد تقدم أن أصحاب رسول الله ﷺ سموه يمينا، وكذلك الفقهاء كلهم سموه يمينا، وكذلك عامة المسلمين سموه يمينا.
ومعني اليمين موجود فيه، فإنه إذا قال: أحلف بالله لأفعلن إن شاء الله، فإن المشيئة تعود عند الإطلاق إلي الفعل المحلوف عليه، والمعني إني حالف على هذا الفعل إن شاء الله فعله، فإذا لم يفعل لم يكن قد شاء. فلا يكون ملتزما له. فلو نوي عوده إلي الحلف بأن يقصد أي الحالف إن شاء الله أن أكون حالفا كان معني هذا مغايرًا الاستثناء في الإنشاءات كالطلاق،
ج/ 35 ص -286- وعلى مذهب الجمهور لا ينفعه ذلك، وكذلك قوله: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا إن شاء الله، تعود المشيئة عند الإطلاق إلي الفعل، فالمعني: لأفعلنه إن شاء الله فعله، فمتي لم يفعله لم يكن الله قد شاءه فلا يكون ملتزما للطلاق، بخلاف ما لو عني بالطلاق يلزمني إن شاء الله لزومه إياه، فإن هذا بمنزلة قوله: أنت طالق إن شاء الله.
وقول أحمد: إنما يكون الاستثناء فيما فيه حكم الكفارة، والطلاق والعتاق لا يكفران، كلام حسن بليغ، لما تقدم من أن النبي ﷺ أخرج حكم الاستثناء وحكم الكفارة مخرجا واحدا بصيغة الجزاء وبصيغة واحدة،فلا يفرق بين ما جمعه النبي ﷺ، بل إن الاستثناء إنما يقع لما علق به الفعل، فإن الأحكام التي هي الطلاق والعتاق ونحوهما لا تعلق على مشيئة الله تعالي بعد وجود أسبابها: فإنها واجبة بوجوب أسبابها؛ فإذا انعقدت أسبابها فقد شاءها الله، وإنما تعلق على المشيئة الحوادث التي قد يشاؤها الله وقد لا يشاؤها من أفعال العباد ونحوها، والكفارة إنما شرعت لما يحصل من الحنث في اليمين التي قد يحصل فيها الموافقة بالبر تارة، والمخالفة بالحنث أخري. ووجوب الكفارة بالحنث في اليمين التي تحتمل الموافقة والمخالفة كارتفاع اليمين بالمشيئة التي تحتمل التعليق وعدم التعليق، فكل من حلف على شيء ليفعلنه فلم يفعله،فإنه إن علقه بالمشيئة فلا حنث عليه،وإن لم يعلقه بالمشيئة لزمته الكفارة، فالاستثناء والتكفير يتعاقبان اليمين إذا لم يحصل فيها الموافقة
ج/ 35 ص -287- فهذا أصل صحيح يدفع ما وقع في هذا الباب من الزيادة أو النقص، فهذا على ما أوجبه كلام رسول الله ﷺ.
ثم يقال بعد ذلك قول أحمد وغيره: الطلاق والعتاق لا يكفران. كقوله وقول غيره: لا استثناء فيهما، وهذا في إيقاع الطلاق والعتاق. وأما الحلف بهما فليس تكفيرًا لهما، وإنما هو تكفير للحلف بهما، كما أنه إذا حلف بالصلاة والصيام والصدقة والحج والهدي ونحو ذلك في نذر اللجاج والغضب، فإنه لم يكفر الصلاة والصيام والصدقة والحج والهدي، وإنما يكفر الحلف بهم، وإلا فالصلاة لا كفارة فيها، وكذلك هذه العبادات لا كفارة فيها لمن يقدر عليها، وكما أنه إذا قال: إن فعلت كذا فعلى أن أعتق، فإن عليه الكفارة بلا خلاف في مذهب أحمد وموافقيه من القائلين بنذر اللجاج والغضب، وليس ذلك تكفيرًا للعتق، وإنما هو تكفير للحلف به. فلازم قول أحمد هذا أنه إذاجعل الحلف بهما يصح فيه الاستثناء كان الحلف بهما تصح فيه الكفارة وهذا موجب سنة رسول الله ﷺ كما قدمناه.
وأما من لم يجعل الحلف بهما يصح فيه الاستثناء كأحد القولين في مذهب أحمد ومذهب مالك فهو قول مرجوح، ونحن في هذا المقام إنما نتكلم بتقدير تسليمه، وسنتكلم إن شاء الله في مسألة الاستثناء على حدة.
ج/ 35 ص -288- وإذا قال أحمد أو غيره من العلماء: إن الحلف بالطلاق والعتاق لا كفارة فيه؛ لأنه لا استثناء فيه، لزم من هذا القول أن الاستثناء في الحلف بهما.
وأما من فرق من أصحاب أحمد فقال: يصح في الحلف بهما الاستثناء ولاتصح الكفارة، فهذا الفرق لم أعلمه منصوصا عليه عن أحمد، ولكنهم معذورون فيه من قوله حيث لم يجدوه نص في تكفير الحلف بهما على روايتين، كما نص في الاستثناء في الحلف بهما على روايتين، لكن هذا القول لازم على إحدي الروايتين عنه التي ينصرونها. ومن سوي الأنبياء يجوز أن يلزم قوله لوازم لا يتفطن للزومها، ولو تفطن لكان إما أن يلتزمها أو لا يلتزمها، بل يرجع عن الملزوم، أو لا يرجع عنه ويعتقد أنها غير لوازم.
والفقهاء من أصحابنا وغيرهم إذا خرجوا على قول عالم لوازم قوله وقياسه، فإما ألا يكون نص على ذلك اللازم لا بنفي ولا إثبات، أو نص على نفيه. وإذا نص على نفيه فإما أن يكون نص على نفي لزومه أو لم ينص،فإن كان قد نص على نفي ذلك اللازم وخرجوا عنه خلاف المنصوص عنه في تلك المسألة مثل أن ينص في مسألتين متشابهتين على قولين مختلفين، أو يعلل مسألة بعلة ينقضها في موضع آخر، كما علل أحمد هنا عدم التكفير بعدم الاستثناء، وعنه في الاستثناء روايتان، فهذا مبني على تخريج ما لم يتكلم فيه بنفي ولا إثبات هل يسمي ذلك مذهبا، أو لا يسمي؟ ولأصحابنا فيه خلاف مشهور.
ج/ 35 ص -289- فالأثرم والخرقي وغيرهما يجعلونه مذهبا له، والخلال وصاحبه وغيرهما لا يجعلونه مذهبا له. والتحقيق أن هذا قياس قوله ولازم قوله،فليس بمنزلة المذهب المنصوص عنه، ولا أيضا بمنزلة ما ليس بلازم قوله: بل هو منزلة بين منزلتين، هذا حيث أمكن ألا يلازمه.
وأيضا، فإن الله شرع الطلاق مبيحا له أو آمرًا به أو ملزما له إذا أوقعه صاحبه، وكذلك العتق، وكذلك النذر. وهذه العقود من النذر والطلاق والعتاق تقتضي وجوب أشياء على العبد، أو تحريم أشياء عليه، والوجوب والتحريم إنما يلزم العبد إذا قصده أو قصد سببه؛ فإنه لو جري على لسانه هذا الكلام بغير قصد لم يلزمه شيء بالاتفاق، ولو تكلم بهذه الكلمات مكرها لم يلزمه حكمها عندنا وعند الجمهور، كما دلت عليه السنة وآثار الصحابة؛ لأن مقصوده إنماهو دفع المكروه عنه، لم يقصد حكمها، ولا قصد التكلم بها ابتداء. فكذلك الحالف إذا قال: إن لم أفعل كذا فعلى الحج، أو الطلاق، ليس بقصد التزام حج ولا طلاق، ولا تكلم بما يوجبه ابتداء، وإنما قصده الحض على ذلك الفعل، أو منع نفسه منه، كما أن قصد المكره دفع المكروه عنه، ثم قال على طريق المبالغة في الحض والمنع: إن فعلت كذا فهذا لي لازم، أو هذا على حرام؛ لشدة امتناعه من هذا اللزوم والتحريم علق ذلك به، فقصده منعهما جميعا، لا ثبوت أحدهما ولا ثبوت سببه. وإذا لم يكن قاصدًا للحكم ولا لسببه، وإنما قصده عدم الحكم لم يجب أن يلزمه الحكم.
ج/ 35 ص -290- وأيضا، فإن اليمين بالطلاق بدعة محدثة في الأمة لم يبلغني أنه كان يحلف بها على عهد قدماء الصحابة، ولكن قد ذكروها في أيمان البيعة التي رتبها الحجاج بن يوسف، وهي تشتمل على اليمين بالله وصدقة المال والطلاق والعتاق. ولم أقف إلي الساعة على كلام لأحد من الصحابة في الحلف بالطلاق، وإنما الذي بلغنا عنهم الجواب في الحلف بالعتق، كما تقدم.
ثم هذه البدعة قد شاعت في الأمة وانتشرت انتشارًا عظيما، ثم لما اعتقد من اعتقد أن الطلاق يقع بها لا محالة، صار في وقوع الطلاق بها من الأغلال على الأمة ما هو شبيه بالأغلال التي كانت على بني إسرائيل، ونشأ عن ذلك خمسة أنواع من الحيل والمفاسد في الأيمان، حتى اتخذوا آيات الله هزوًا، وذلك أنهم يحلفون بالطلاق على ترك أمور لابد لهم من فعلها إما شرعا وإما طبعا، وعلى فعل أمور يصلح فعلها إما شرعا وإما طبعا، وغالبا ما يحلفون بذلك في حال اللجاج والغضب، ثم فراق الأهل فيه من الضرر في الدين والدنيا ما يزيد على كثير من أغلال اليهود، وقد قيل: إن الله إنما حرم المطلقة ثلاثاً حتى تنكح زوجا غيره لئلا يسارع الناس إلي الطلاق؛ لما فيه من المفسدة. فإذا حلفوا بالطلاق على الأمور اللازمة أو الممنوعة وهم محتاجون إلي فعل تلك الأمور أو تركها مع عدم فراق الأهل قدحت الأفكار لهم أربعة أنواع من الحيل، أخذت عن الكوفيين وغيرهم.
ج/ 35 ص -291- الحيلة الأولي : في المحلوف عليه، فيتأول لهم خلاف ما قصدوه، وخلاف ما يدل عليه الكلام في عرف الناس وعاداتهم، وهذا هو الذي وصفه بعض المتكلمين في الفقه ويسمونه باب المعاياة وباب الحيل في الأيمان، وأكثره مما يعلم بالاضطرارمن الدين أنه لا يسوغ في الدين، ولا يجوز حمل كلام الحالف عليه؛ ولهذا كان الأئمة كأحمد وغيره يشددون النكير على من يحتال في هذه الأيمان.
الحيلة الثانية : إذا تعذر الاحتيال في الكلام المحلوف عليه احتالوا للفعل المحلوف عليه، بأن يأمروه بمخالعة امرأته ليفعل المحلوف عليه في زمن البينونة، وهذه الحيلة أحدث من التي قبلها، وأظنها حدثت في حدود المائة الثالثة؛ فإن عامة الحيل إنما نشأت عن بعض أهل الكوفة، وحيل الخلع لا تمشي على أصلهم؛ لأنهم يقولون: إذا فعل المحلوف عليه في العدة وقع به الطلاق؛ لأن المعتدة من فرقة بائنة يلحقها الطلاق عندهم، فيحتاج المحتال بهذه الحيلة أن يتربص حتى تنقضي العدة ثم يفعل المحلوف عليه بعد انقضائها وهذا فيه ضرر عليه من جهة طول المدة، فصار يفتي بها بعض أصحاب الشافعي. وربما ركبوا معها أحد قوليه الموافق لأشهرالروايتين عن أحمد من أن الخلع فسخ، وليس بطلاق، فيصير الحالف كلما أراد الحنث خلع زوجته وفعل المحلوف عليه ثم تزوجها؛ فإما أن يفتوه بنقص عدد الطلاق، أو يفتوه بعدمه وهذا الخلع الذي هو خلع الأيمان، شبيه بنكاح المحلل سواء، فإن ذلك
ج/ 35 ص -292- عقد عقدًا لم يقصده وإنما قصد إزالته، وهذا فسخ فسخا لم يقصده وإنما قصد إزالته، وهذه حيلة محدثة باردة قد صنف أبو عبد الله ابن بطة جزءًا في إبطالها، وذكر عن السلف في ذلك من الآثار ما قد ذكرت بعضه في غير هذا الموضع.
الحيلة الثالثة : إذا تعذر الاحتيال في المحلوف عليه احتالوا في المحلوف به، فيبطلونه بالبحث عن شروطه، فصار قوم من المتأخرين من أصحاب الشافعي يبحثون عن صفة عقد النكاح لعله اشتمل على أمر يكون به فاسدًا؛ ليرتبوا على ذلك أن الطلاق في النكاح الفاسد لا يقع، ومذهب الشافعي في أحد قوليه وأحمد في إحدي روايته: أن الولي الفاسق لا يصح نكاحه، والفسوق غالب على كثير من الناس، فينفق سوق هذه المسألة بسبب الاحتيال لرفع يمين الطلاق حتى رأيت من صنف في هذه المسألة مصنفا مقصوده به الاحتيال لرفع الطلاق، ثم تجد هؤلاء الذين يحتالون بهذه الحيلة إنما ينظرون في صفة عقد النكاح، وكون ولاية الفاسق لا تصح عند إيقاع الطلاق الذي قد ذهب كثير من أهل العلم أو أكثرهم إلي أنه يقع في الفاسد في الجملة. وأما عند الوطء والاستمتاع الذي أجمع المسلمون على أنه لا يباح في النكاح الفاسد فلا ينظرون في ذلك، ولا ينظرون في ذلك أيضا عند الميراث وغيره من أحكام النكاح الصحيح، بل عند وقوع الطلاق خاصة، وهذا نوع من اتخاذ آيات الله هزوًا، ومن المكر في آيات الله، إنما أوجبه الحلف بالطلاق، والضرورة إلي عدم وقوعه.
ج/ 35 ص -293- الحيلة الرابعة: الشرعية في إفساد المحلوف به أيضاً لكن لوجود مانع، لا لفوات شرط؛ فإن أبا العباس ابن سُرَيج وطائفة بعده اعتقدوا أنه إذا قال لامرأته: إذا وقع عليك طلاقي وإذا طلقتك فأنت طالق قبل ثلاثاً، فإنه لا يقع عليه بعد ذلك طلاق أبدًا؛ لأنه إذا وقع المنجز لزم وقوع المعلق، وإذا وقع المعلق امتنع وقوع المنجز، فيفضي وقوعه إلي عدم وقوعه فلا يقع، وأما عامة فقهاء الإسلام من جميع الطوائف فأنكروا ذلك، بل رأوه من الزلات التي يعلم بالاضطرار كونها ليست من دين الإسلام؛ حيث قد علم بالضرورة من دين محمد بن عبد الله ﷺ أن الطلاق أمر مشروع في كل نكاح، وأنه ما من نكاح إلا ويمكن فيه الطلاق، وسبب الغلط أنهم اعتقدوا صحة هذا الكلام، فقالوا: إذا وقع المنجز وقع المعلق. وهذا الكلام ليس بصحيح؛ فإنه مستلزم وقوع طلقة مسبوقة بثلاث، ووقوع طلقة مسبوقة بثلاث ممتنع في الشريعة. فالكلام المشتمل على ذلك باطل. وإذا كان باطلا لم يلزم من وقوع المنجز وقوع المعلق؛ لأنه إنما يلزم إذا كان التعليق صحيحًا.
ثم اختلفوا هل يقع من المعلق تمام الثلاث؟ أم يبطل التعليق ولا يقع إلا المنجز؟ على قولين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما.
وما أدري هل استحدث ابن سريج هذه المسألة للاحتيال على رفع الطلاق، أم قاله طردًا لقياس اعتقد صحته، واحتال بها من بعده؟ لكني رأيت
ج/ 35 ص -294- مصنفا لبعض المتأخرين بعد المائة الخامسة صنفه في هذه المسألة، ومقصوده بها الاحتيال على عدم وقوع الطلاق.
ولهذا صاغوها بقوله: إذا وقع عليك طلاقي، فأنت طالق قبله ثلاثاً؛ لأنه لو قال: إذا طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثاً لم تنفعه هذه الصيغة في الحيلة، وإن كان كلاهما في الدور سواء؛ وذلك لأن الرجل إذا قال لامرأته: إذا طلقتك فعبدي حر، أو فأنت طالق، لم يحنث إلا بتطليق ينجزه بعد هذه اليمين، أو يعلقه بعدها على شرط فيوجد. فإن كل واحد من التنجيز والتعليق الذي وجد شرطه تطليق، أما إذا كان قد علق طلاقها قبل هذه اليمين بشرط ووجد الشرط بعد هذه اليمين لم يكن مجرد وجود الشرط ووقوع الطلاق به تطليقا؛ لأن التطليق لابد أن يصدر عن المطلق، ووقوع الطلاق بصفة يفعلها غيره ليس فعلا منه. فأما إذا قال: إذا وقع عليك طلاقي، فهذا يعم المنجز والمعلق بعد هذا بشرط، والواقع بعد هذا بشرط تقدم تعليقه. فصوروا المسألة بصورة قوله: إذا وقع عليك طلاقي.حتى إذا حلف الرجل بالطلاق لا يفعل شيئا قالوا له: قل إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا، فيقول ذلك، فيقولون له: افعل الآن ما حلفت عليه؛ فإنه لا يقع عليك طلاق!!
فهذا التسريح المنكر عند عامة أهل الإسلام المعلوم يقينا أنه ليس من الشريعة التي بعث الله بها محمدًا ﷺ إنما نفقه في الغالب وأحوج كثيرا من الناس إلا الحلف بالطلاق، وإلا فلولا ذلك لم يدخل فيه أحد؛ لأن العاقل لا يكاد يقصد انسداد باب الطلاق عليه إلا نادرًا.
ج/ 35 ص -295- الحيلة الخامسة: إذا وقع الطلاق ولم يمكن الاحتيال لا في المحلوف عليه قولا ولا فعلا،ولا في المحلوف به إبطالا ولا منعا، احتالوا لإعادة النكاح بنكاح المحلل الذي دلت السنة وإجماع الصحابة مع دلالة القرآن وشواهد الأصول على تحريمه وفساده، ثم قد تولد من نكاح المحلل من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، كما قد نبهنا على بعضه في [كتاب إقامة الدليل على بطلان التحليل] وأغلب ما يحوج الناس إلي نكاح المحلل هو الحلف بالطلاق، وإلا فالطلاق الثلاث لا يقدم عليه الرجل في الغالب إلا إذا قصده، ومن قصده لم يترتب عليه من الندم والفساد ما يترتب على من اضطر لوقوعه لحاجته إلي الحنث.
فهذه المفاسد الخمس التي هي الاحتيال على نقض الأيمان وإخراجها من مفهومها ومقصودها، ثم الاحتيال بالخلع وإعادة النكاح، ثم الاحتيال بالبحث عن فساد النكاح، ثم الاحتيال بمنع وقوع الطلاق، ثم الاحتيال بنكاح المحلل: في هذه الامورمن المكر والخداع، والاستهزاء بآيات الله، واللعب الذي ينفر العقلاء عن دين الإسلام، ويوجب طعن الكفار فيه، كما رأيته في بعض كتب النصاري وغيرها، وتبين لكل مؤمن صحيح الفطرة أن دين الإسلام بريء منزه عن هذه الخزعبلات التي تشبه حيل اليهود ومخاريق الرهبان.
ج/ 35 ص -296- وأكثر ما أوقع الناس فيها وأوجب كثرة إنكار الفقهاء فيها واستخراجهم لها هو حلف الناس بالطلاق، واعتقاد وقوع الطلاق عند الحنث لا محالة، حتى لقد فرع الكوفيون وغيرهم من فروع الأيمان شيئا كثيرًا مبناه على هذا الأصل، وكثير من الفروع الضعيفة التي يفرعها هؤلاء ونحوهم هي كما كان الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله يقول: مثالها مثال رجل بني دارًا حسنة على حجارة مغصوبة، فإذا نوزع في استحقاق تلك الحجارة التي هي الأساس فاستحقها غيره، انهدم بناؤه؛ فإن الفروع الحسنة إن لم تكن على أصول محكمة وإلا لم يكن لها منفعة.
فإذا كان الحلف بالطلاق واعتقاد لزوم الطلاق عند الحنث قد أوجب هذه المفاسد العظيمة التي قد غيرت بعض أمور الإسلام عند من فعل ذلك وصار في هؤلاء شبه من أهل الكتاب كما أخبر به النبي ﷺ، مع أن لزوم الطلاق عند الحلف به ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا أفتي به أصحاب رسول الله ﷺ ، بل ولا أحد منهم فيما أعلمه ولا اتفق عليه التابعون لهم بإحسان والعلماء بعدهم، ولا هو مناسب لأصول الشريعة، ولا حجة لمن قاله أكثر من عادة مستمرة، أسندت إلي قياس معتضد بتقليد لقوم أئمة علماء محمودين عند الأمة، وهم ولله الحمد فوق ما يظن بهم، لكن لم نؤمر عند التنازع إلا بالرد إلي الله وإلي الرسول، وقد خالفهم من ليس دونهم، بل مثلهم أو فوقهم. فإنا قد ذكرنا عن أعيان من الصحابة
ج/ 35 ص -297- كعبد الله بن عمر المجمع على إمامته وفقهه ودينه، وأخته حفصة أم المؤمنين وزينب ربيبة رسول الله ﷺ وهي من أمثل فقيهات الصحابة الإفتاء بالكفارة في الحلف بالعتق، والطلاق أولي منه. وذكرنا عن طاووس وهو من أفاضل علماء التابعين علما وفقها ودينا : أنه لم يكن يري اليمين بالطلاق موقعة له.
فإذا كان لزوم الطلاق عند الحنث في اليمين به مقتضيا لهذه المفاسد، وحاله في الشريعة هذه الحال، كان هذا دليلا على أن ما أفضي إلي هذا الفساد لم يشرعه الله ولا رسوله، كما نبهنا عليه في ضمان الحدائق من يزدرعها ويستثمرها، ويبيع الخضر ونحوها.
وذلك أن الحالف بالطلاق إذا حلف ليقطعن رحمه، وليعقن أباه، وليقتلن عدوه المسلم المعصوم، وليأتين الفاحشة، وليشربن الخمر، وليفرقن بين المرء وزوجه، ونحو ذلك من كبائر الإثم والفواحش فهو بين ثلاثة أمور:
إما أن يفعل هذا المحلوف عليه، فهذا لا يقوله مسلم؛ لما فيه من ضرر الدنيا والآخرة، مع أن كثيرًا من الناس بل والمفتين إذا رأوه قد حلف بالطلاق كان ذلك سببا لتخفيف الأمر عليه، وإقامة عذره.
ج/ 35 ص -298- وإما أن يحتال ببعض تلك الحيل المذكورة، كما استخرجه قوم من المفتين: ففي ذلك من الاستهزاء بآيات الله ومخادعته، والمكر في دينه، والكيد له، وضعف العقل والدين، والاعتداء لحدوده، والانتهاك لمحارمه، والإلحاد في آياته ما لا خفاء به، وإن كان في إخواننا الفقهاء من قد يستجيز بعض ذلك، فقد دخل من الغلط في ذلك وإن كان مغفورًا لصاحبه المجتهد المتقي لله ما فساده ظاهر لمن تأمل حقيقة الدين.
وإما ألا يحتال ولا يفعل المحلوف عليه، بل يطلق امرأته، كما يفعله من يخشي الله إذا اعتقد وقوع الطلاق، ففي ذلك من الفساد في الدين والدنيا ما لا يأذن الله به ولا رسوله.
أما فساد الدين فإن الطلاق منهي عنه مع استقامة حال الزوج باتفاق العلماء، حتى قال النبي ﷺ: "إن المختلعات والمنتزعات هن المنافقات" وقال: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة"، وقد اختلف العلماء هل هو محرم، أو مكروه؟ وفيه روايتان عن أحمد. وقد استحسنوا جواب أحمد رضي الله عنه لما سئل عمن حلف بالطلاق وحرم ليطأن امرأته وهي حائض، فقال: ويطلقها ولا يطأها، قد أباح الله الطلاق وحرم وطء الحائض. وهذا الاستحسان يتوجه على أصلين: إما على قوله: إن الطلاق ليس بحرام، وإما أن يكون تحريمه دون تحريم الوطء. وإلا فإذا كان كلاهما حراما لم يخرج من حرام إلا إلى حرام.
ج/ 35 ص -299- وأما ضرر الدنيا فأبين من أن يوصف؛ فإن لزوم الطلاق والمحلوف به في كثير من الأوقات يوجب من الضرر ما لم تأت به الشريعة في مثل هذا قط، فإن المرأة الصالحة تكون في صحبة زوجها الرجل الصالح سنين كثيرة، وهي متاعه الذي قال فيها رسول الله ﷺ : "الدنيا متاع وخير متاعها المرأة المؤمنة، إن نظرت إليها أعجبتك، وإن أمرتها أطاعتك، وإن غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك"، وهي التي أمر بها النبي ﷺ في قوله لما سأله المهاجرون: أي المال نتخذ؟ فقال: "لسانا ذاكرًا، وقلبا شاكرًا، أو امرأة صالحة تعين أحدكم على إيمانه"،رواه الترمذي من حديث سالم بن أبي الجعد عن ثوبان، ويكون منها من المودة والرحمة ما امتن الله تعالي بها في كتابه، فيكون ألم الفراق أشد عليها من الموت أحيانا، وأشد من ذهاب المال، وأشد من فراق الأوطان، خصوصا إن كان بأحدهما علاقة من صاحبه، أو كان بينهما أطفال يضيعون بالفراق ويفسد حالهم ثم يفضي ذلك إلي القطيعة بين أقاربها ووقوع الشر لما زالت نعمة المصاهرة التي امتن الله تعالي بها في قوله: "فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا " [الفرقان: 54]، ومعلوم أن هذا من الحرج الداخل في عموم قوله: "وَمَا جَعَلَ عليكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ " [الحج: 78]، ومن العسر المنفي بقوله: "يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ " [البقرة: 185].
وأيضاً، فإذا كان المحلوف عليه بالطلاق فعل بر وإحسان، من صدقة أو عتاقة، وتعليم علم،وصلة رحم وجهاد في سبيل الله وإصلاح بين الناس
ج/ 35 ص -300- ونحو ذلك من الأعمال الصالحة التي يحبها الله ويرضاها،فإنه لما عليه من الضرر العظيم في الطلاق أعظم ألا يفعل ذلك، بل ولا يؤمر به شرعا؛ لأنه قد يكون الفساد الناشئ من الطلاق أعظم من الصلاح الحاصل من هذه الأعمال. وهذه المفسدة هي التي أزالها الله ورسوله بقوله تعالي: "وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ " [البقرة: 224] وقوله ﷺ: "لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يأتي الكفارة".
فإن قيل: فهو الذي أوقع نفسه في أحد هذه الضرائر الثلاث، فلا ينبغي له أن يحلف.
قيل: ليس في شريعتنا ذنب إذا فعله الإنسان لم يكن له مخرج منه بالتوبة إلا بضرر عظيم؛ فإن الله لم يحمل علينا إصرًا كما حمله على الذين من قبلنا، فهب هذا قد أتي كبيرة من الكبائر في حلفه بالطلاق، ثم تاب من تلك الكبيرة، فكيف يناسب أصول شريعتنا أن يبقي أثر ذلك الذنب عليه لا يجد منه مخرجا؟!! وهذا بخلاف الذي ينشئ الطلاق لا بالحلف عليه، فإنه لا يفعل ذلك إلا وهو مريد الطلاق: إما لكراهة المرأة، أو غضب عليها، ونحو ذلك. وقد جعل الله الطلاق ثلاثة، فإذا كان إنما يتكلم بالطلاق باختياره، وله ذلك ثلاث مرات، كان وقوع الضرر بمثل هذا نادرًا، بخلاف الأول؛ فإن مقصوده لم يكن الطلاق، إنما كان أن
ج/ 35 ص -301- يفعل المحلوف عليه أولا يفعله، ثم قد يأمره الشرع أو تضطره الحاجة إلي فعله أو تركه، فيلزمه الطلاق بغير اختيار لا له ولا لسببه.
وأيضاً، فإن الذي بعث الله تعالي به محمدًا ﷺ في باب الأيمان تخفيفها بالكفارة؛ لا تثقيلها بالإيجاب أو التحريم، فإنهم كانوا في الجاهلية يرون الظهار طلاقا، واستمروا على ذلك في أول الإسلام حتى ظاهر أوس بن الصامت من امرأته.
وأيضاً، فالاعتبار بنذر اللجاج والغضب، فإنه ليس بينهما من الفرق إلا ما ذكرناه، وسنبين إن شاء الله عدم تأثيره. والقياس بإلغاء الفارق أصح ما يكون من الاعتبار باتفاق العلماء المعتبرين، وذلك أن الرجل إذا قال: إن أكلت أو شربت فعلى أن أعتق عبدي، أو فعلى أن أطلق امرأتي، أو فعلى الحج، أو فأنا محرم بالحج، أو فمالي صدقة، أو فعلى صدقة، فإنه تجزئه كفارة يمين عند الجمهور، كما قدمناه، بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، فكذلك إذا قال: إن أكلت هذا أو شربت هذا فعلى الطلاق. أو فالطلاق لي لازم. أو فامرأتي طالق. أو فعبيدي أحرار؛ فإن قوله على الطلاق لا أفعل كذا، أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا، فهو بمنزلة قوله: على الحج لا أفعل كذا، أو الحج لي لازم لا أفعل كذا. وكلاهما يمينان محدثان ليستا مأثورتين عن العرب ، ولا معروفتين عن الصحابة ، وإنما
ج/ 35 ص -302- المتأخرون صاغوا من هذه المعاني أيمانا، وربطوا إحدي الجملتين بالأخري، كالأيمان التي كان المسلمون من الصحابة يحلفون بها وكانت العرب تحلف بها، لا فرق بين هذا وهذا إلا أن قوله: إن فعلت فمالي صدقة، يقتضي وجوب الصدقة عند الفعل، وقوله: فامرأتي طالق، يقتضي وجود الطلاق، فالكلام يقتضي وقوع الطلاق بنفس الشرط وإن لم يحدث بعد هذا طلاقا، ولا يقتضي وقوع الصدقة حتى يحدث صدقة.
وجواب هذا الفرق الذي اعتمده الفقهاء المفرقون من وجهين:
أحدهما: منع الوصف الفارق في بعض الأصول المقيس عليها وفي بعض صور الفروع المقيس عليها.
والثاني: بيان عدم التأثير.
أما الأول: فإنه إذا قال: إن فعلت كذا فمالي صدقة، أو فأنا محرم أو فبعيري هدي، فالمعلق بالصفة وجود الصدقة والإحرام والهدي لا وجوبهما كما أن المعلق في قوله: فعبدي حر، وامرأتي طالق. وجود الطلاق والعتق لا وجوبهما؛ ولهذا اختلف الفقهاء من أصحابنا وغيرهم فيما إذا قال: هذا هدي، وهذا صدقة لله: هل يخرج عن ملكه، أو لا يخرج؟ فمن قال: يخرج عن ملكه فهو كخروج زوجته وعبده عن ملكه، وأكثر ما في الباب أن الصدقة
ج/ 35 ص -303- والهدي يتملكهما الناس بخلاف الزوجة والعبد، وهذا لا تأثير له، وكذلك لو قال: على الطلاق لأفعلن كذا، أو الطلاق يلزمني لأفعلن كذا، فهو كقوله: على الحج لأفعلن كذا فهو جعل المحلوف به هاهنا وجوب الطلاق؛ لا وجوده، كأنه قال: إن فعلت كذا فعلى أن أطلق، فبعض صور الحلف بالطلاق يكون المحلوف به صيغة وجوب. كما أن بعض صور الحلف بالنذر يكون المحلوف به صيغة وجود.
وأما الجواب الثاني: فنقول: هب أن المعلق بالفعل هنا وجود الطلاق والعتاق، والمعلق هناك وجوب الصدقة والحج والصيام والإهداء، أليس موجب الشرط ثبوت هذا الوجوب؟ بل يجزئه كفارة يمين، كذلك عند الشرط لا يثبت هذا الوجوب، بل يجزيه كفارة يمين عند وجوب الشرط، فإن كان عند الشرط لا يثبت ذلك الوجوب، كذلك عند الشرط لا يثبت هذا الوجود، بل كما لو قال: هو يهودي أو نصراني أو كافر إن فعل كذا، فإن المعلق هنا وجود الكفر عند الشرط ثم إذا وجد الشرط لم يوجد الكفر بالاتفاق، بل يلزمه كفارة يمين، أو لا يلزمه شيء.
ولو قال ابتداء: هو يهودي أو نصراني أو كافر يلزمه الكفر، بمنزلة قوله ابتداء: عبدي حر، وامرأتي طالق، وهذه البدنة هدي، وعلي صوم
ج/ 35 ص -304- هدي، وعلى صوم يوم الخميس، ولو علق الكفر بشرط يقصد وجوده كقوله: إذا هل الهلال فقد برئت من دين الإسلام لكان الواجب أنه يحكم بكفره، لكن لا يناجز الكفر؛ لأن توقيته دليل على فساد عقيدته.
قيل: فالحلف بالنذر إنما عليه فيه الكفارة فقط، قيل: مثله في الحلف بالعتق، وكذلك الحلف بالطلاق، كما لو قال: فعلى أن أطلق امرأتي. ومن قال إنه إذا قال: فعلى أن أطلق امرأتي، لا يلزمه شيء، فقياس قوله في الطلاق لا يلزمه شيء؛ ولهذا توقف طاووس في كونه يمينا. وإن قيل: إنه يخير بين الوفاء به والتكفير فكذلك هنا يخير بين الطلاق والعتق وبين التكفير؛ فإن وطئ امرأته كان اختيارًا للتكفير، كما أنه في الظهار يكون مخيرًا بين التكفير وبين تطليقها؛ فإن وطئها لزمته الكفارة، لكن في الظهار لا يجوز له الوطء حتى يكفر؛ لأن الظهار منكر من القول وزور حرمها عليه. وأما هنا فقوله: إن فعلت فهي طالق، بمنزلة قوله: فعلى أن أطلقها. أو قال: والله لأطلقنها. إن لم يطلقها فلا شيء عليه، وإن طلقها فعليه كفارة يمين.
يبقي أن يقال: هل تجب الكفارة على الفور إذا لم يطلقها حينئذ كما لو قال: والله لأطلقها الساعة ولم يطلقها؟ أو لا تجب إلا إذا عزم على إمساكها؟ أو لا تجب حتى يوجد منه ما يدل على الرضا بها من قول أو فعل، كالذي يخير
ج/ 35 ص -305- بين فراقها وإمساكها لعيب ونحوه وكالمعتقة تحت عبده، أو لا تجب بحال حتى يفوت الطلاق؟ قيل: الحكم في ذلك كما لوقال: فثلث مالي صدقة أو هدي ونحو ذلك، والأقيس في ذلك أنه مخير بينهما على التراخي ما لم يوجد منه ما يدل على الرضا بأحدهما، كسائر أنواع الخيار.
فصل
موجب نذر اللجاج، والغضب عندنا أحد شيئين على المشهور: إما التكفير، وإما فعل المعلق، ولا ريب أن موجب اللفظ في مثل قوله: إن فعلت كذا فعلى صلاة ركعتين، أو صدقة ألف، أو فعلى الحج، أو صوم شهر، هو الوجوب عند الفعل، فهو مخير بين هذا الوجوب وبين وجوب الكفارة. فإذا لم يلتزم الوجوب المعلق ثبت وجوب الكفارة، فاللازم له أحد الوجوبين، كل منهما ثابت بتقدير عدم الآخر، كما في الواجب المخير. وكذلك إن قال: إن فعلت كذا فعلى عتق هذا العبد، أو تطليق هذه المرأة، أو على أن أتصدق أو أهدي، فإن ذلك يوجب استحقاق العبد للإعتاق، والمال للتصدق، والبدنة للهدي.
ولو أنه نجز ذلك فقال: هذا المال صدقة، وهذه البدنة هدي، وعلى عتق هذا العبد، فهل يخرج عن ملكه بذلك؟ أو يستحق الإخراج؟ فيه خلاف
ج/ 35 ص -306- وهو يشبه قوله: هذا وقف. فأما إذا قال:هذا العبد حر، وهذه المرأة طلاق. فهو إسقاط؛ بمنزلة قوله: ذمة فلان برية من كذا، أو من دم فلان، أو من قذفي، فإن إسقاط حق الدم والمال والعرض من باب إسقاط حق الملك بملك البضع وملك اليمين.
فإن قال: إن فعلت فعلى الطلاق، أو فعلى العتق، أو فامرأتي طالق أو فعبيدي أحرار. وقلنا إن موجبه أحد الأمرين؛ فإنه يكون مخيرًا بين وقوع ذلك و بين وجوب الكفارة، كما لو قال: فهذا المال صدقة أو هذه البدنة هدي، ونظير ذلك ما لو قال: إذا طلعت الشمس فعبيدي أحرار، أو نسائي طوالق، وقلنا: التخيير إليه؛ فإنه إذا اختار أحدهما كان ذلك بمنزلة اختياره أحد الأمرين من الوقوع أو وجوب الكفارة.
ومثال ذلك أيضا إذا أسلم وتحته أكثر من أربع، أو أختان فاختار إحداهما، فهذه المواضع التي تكون الفرقة أحد اللازمين: إما فرقة معين أو نوع الفرقة، لا يحتاج إنشاء طلاق، لكن لا يتعين الطلاق إلا بما يوجب تعيينه كما في النظائر المذكورة.
ثم إذا اختار الطلاق، فهل يقع من حين الاختيار، أو من حين الحنث؟ يخرج على نظير ذلك، فلو قال في جنس مسائل نذر اللجاج والغضب: اخترت
ج/ 35 ص -307- التكفير، أو اخترت فعل المنذور: هل يتعين بالقول؟ أو لا يتعين إلا بالفعل؟ إن كان التخيير بين الوجوبين تعين بالقول، كما في التخيير بين الإنشاء وبين الطلاق والعتق، وإن كان بين الفعلين لم يتعين إلا بالفعل كالتخيير بين خصال الكفارة، وإن كان بين الفعل والحكم كما في قوله: إن فعلت كذا فعبدي حر، أو امرأتي طالق، أو دمي هدر، أو مالي صدقة، أو بدنتي هدي، تعين الحكم بالقول ولم يتعين الفعل إلا بالفعل. والله أعلم.
فصل جليل القدر
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى :
اليمين المتضمنة حضًا أو منعا لنفسه كقوله؛ لأفعلن، ولا أفعل. فيها معني الطلب والخبر، وكذلك الوعد والوعيد، بخلاف الخبر المحض كقوله: "والذي نفسي بيده، لينزلن فيكم ابن مريم حكمًا عدلا وإماما مقسطا"، أو: والله ليقدمن الركب. فإن هذا إخبار محض بأمر سيكون، كما يخبر عن الماضي بمثل ذلك، وبخلاف الطلب المحض، كقوله لغيره: افعل، أو بالله افعل، ونحو ذلك، إذا لم يكن منه إلا مجرد الطلب وهو لا يدري أيطيعه أم يعصيه؛ ولهذا لا يحسن الاستثناء في هذا الضرب، ولا كفارة فيه لعدم المخالفة،
ج/ 35 ص -308- فإنه طلب محض مؤكد بالله، كقوله: سألتك بالله إلا ما فعلت، أو سألتك بالله لا تفعل، فأما إذا كان المخصوص أو الممنوع ممن يغلب علي ظنه موافقته له كعبده وزوجته وولده فهو كنفسه فيها معني الطلب والخبر؛ فإنه لكونه مطيعا له في العادة جري مجري طاعة نفسه لنفسه، فطلب الفعل منهما طلبا قرنه بالإخبار عن كونه.
فقوله:لأقومن غدًا، يتضمن أمرين: أحدهما: أني مريد القيام غدًا. والثاني: سيكون القيام غدًا، بخلاف القسم الخبري المحض فإنه بمعني سيكون، وبخلاف القسم الطلبي المحض فإنه بمعني أريد منك وأطلب منك أن تقوم، والحنث في اليمين لم يجئ لمخالفة المطلوب كما تقدم في الطلب المحض وإنما جاء لمخالفة الخبر، كما لو كان خبرًا محضًا عن مستقبل، والاستثناء يعلق الفعل بالمشيئة فيصير المعني ليكونن هذا إن شاء الله، فإن لم يشأ الله لم يكن مخبرًا بكونه، فلا مخالفة، فلا حنث؛ ولهذا يصح الاستثناء.
فالخبر المحض كقوله: "لأطوفن الليلة علي تسعين امرأة، فلتأتين كل امرأة بفارس يقاتل في سبيل الله"، والولادة ليست من فعله المقدور عليه، وكما تقول: والله ليجيء زيد إن شاء الله.
فصار لقائل: لأفعلن كذا إن شاء الله ثلاث نيات.
ج/ 35 ص -309- تارة يكون غرضه تعليق الإرادة، والمعني إن شاء الله كنت الساعة مريدًا له وطالبا، وإلا فلا. فهذا لا يصح أن يكون مريدًا، ولا ترتفع الكفارة بهذا وحده، كما في قوله: أنت طالق إن شئت، فقالت: قد شئت إن شئت. أن المشيئة لا يصح تعليقها فكذا هذا. فمتي قال هذا، لم تكن إرادته حاصلة، فهذا مثل الذي يطلب منه شيء فيقول: أعطيك إن شاء الله فلا وعد له، وإذا نوي هذا في اليمين صح لكن لا يرفع الكفارة؛ لأن مخالفة الطلب لم توجب الكفارة وإنما أوجبه مخالفة الخبر، فلو كان خبرًا لا طلب معه غير تعليق وجبت الكفارة. فأكثر ما في هذا انتفاء الطلب والحض من اليمين.
الثاني: أن يكون غرضه تعليق الإخبار. والمعني أن قيامي كائن إن شاء الله أو أن قيامك كائن إن شاء الله فأنا مخبر بوقوعه إن شاء الله وقوعه، وإن لم يشأ فلا أخبر به. وإذا لم يخبر به فلا مخالفة فلا حنث وإن كنت مريدًا له الساعة جزما، فهذا هو المعني الذي يرفع الكفارة فكأنه قال: أنا شاك في الوقوع فلست أخبر بوقوعه جزما، وإنما أخبر بوقوعه عند هذه الصفة، كقوله: لأقومن إن قدم زيد، وإن أعطيتني مائة، ونحو ذلك، وهو وعد أو وعيد معلق بشرط، وإن كان الواعد أو المتواعد مريدًا في الحال لإنفاذه؛ ولهذا قلنا: إن قوله: لأصومن غدًا إن شاء الله من رمضان لا يقدح؛ لأن التعليق عاد إلي الإخبار لا إلي الإرادة. ومن الفقهاء
ج/ 35 ص -310- من قال: هذا يقدح في إرادته، وهؤلاء يقولون: إنه إذا نوي عود الاستثناء إلي طلبه وإرادته، نفعه في الكفارة، أو لا ترتفع إلا بهذا الشرط. وعلي خاطري هنا قول لا أستثبته.
الثالث: ألا يكون غرضه تعليق واحد منهما؛ لأنه جازم بإرادته وجازم بأنه سيكون، كما لو كان خبرًا محضًا مثل قوله: لينزلن ابن مريم وليخرجن الدجال، ولتقومن الساعة. وهذه أيمان أمر الله رسوله بنوع منها كقوله: " وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي " [يونس: 53]، فهذا ماض وحاضر، وقال: " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ " [سبأ: 3]، وقال: " زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ " [التغابن: 7]، فأمره أن يحلف علي وقوع إتيان الساعة وبعث الناس من قبورهم، وهما مستقلان من فعل غيره، وهذا كقول النبي ﷺ لعمر: "لآتينه، ولأطوفن به"، فهنا إذا قال: إن شاء الله فقد لا يكون غرضه تعليق الإخبار وإنما غرضه تحقيقه كقوله: "لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ " [الفتح: 27]، فإن هذا كلام صحيح، إذ الحوادث كلها لا تكون إلا بمشيئة الله، مثل ما لو قال: ليكونن إن اتفقت أسباب كونه. والناس يعلمون أنه إن شاء الله وإن اتفقت أسباب كونه كان، فإن لم يكن هو مخبرًا لهم بذلك كان متكلما بما لا يفيد.
ج/ 35 ص -311- فهذا إذا نواه هل يرفع الكفارة؟ فبالنظر إلي قصده وجزمه في الخبر قد حصلت المخالفة وبالنظر إلي لفظه وأنه إنما جزم بمشروط لا بمطلق لم تقع المخالفة، وإن أخطأ اعتقاده، كما لو حلف علي من يظنه كما حلف عليه فتبين بخلافه، فإنه لما أخبر عن الماضي بموجب اعتقاده لم يحنث، بخلاف ما إذا تعمد الكذب.
وكذلك هذا لم يتأل علي الله،لكن يقال: كان ينبغي له أن يشك، فلما تألي علي الله وأكد المشيئة قاصدًا بها تحقيق جزمه بالإخبار صار وجودها زائدًا له في التألي لا معلقا. فقد يقال في معارضة هذا: الجزم يرجع إلي اعتقاده، لا إلي كلامه، وأما كلامه فلم يتأل فيه علي الله، بل أخبر أن هذا يكون إن شاء الله، وقال مع ذلك: أنا معتقد أنه يكون جازم به. فالكفارة وجبت لمخالفة خبري مخبره، أو لمخالفة اعتقادي معتقده، إنما وجبت لمخالفة الخبر، فإني لو قلت: إني اعتقد أن هذا يكون وأنا جازم باعتقادي لم يكن علي حنث إذا لم يكن. ومعني كلامي: أني جازم بأن هذا سيكون، وأخبركم أنه يكون إن شاء الله فعلقت لكم إخباري لا اعتقادي وإلا لم يكن في قولي: إن شاء الله فائدة؛ إذ لو كان المعني أني جازم بأنه سيكون إن شاء الله، لم أكن جازما مطلقا. وكذلك لو كان المعني أن اعتقادي وإخباري إن شاء الله كان هو القسم الأول، وإنما المعني أن اعتقادي ثابت به، وإخباري لكم معلق به، علقته به؛ لأنه لا ينبغي لأحد أن يخبر بالمستقبلات إلا معلقا بمشيئة الله، فهذا فيه نظر.
ج/ 35 ص -312- وبهذا التقسيم يظهر قول من قال: إن نوي بالاستثناء معني قوله: "وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ " [الكهف:23، 24] فإن الرجل مأمور ألا يقول لأفعلنه غدًا إلا أن يقول: إن شاء الله.
ويتبين بهذا البحث الذي ذكرناه أن الاستثناء الرافع للكفارة إنما يعلق ما في اليمين من معني الخبر المحض أو المشوب، لا يعلق ما فيها من معني الطلب المحض أو المشوب؛ إذ مخالفة الطلب لا توجب كفارة وإنما يوجبها مخالفة الخبر؛ وذلك لأن الرفع إنما يكون إذا كان في المشيئة تعليق، والتعليق إنما يكون فيما لم يقع، بخلاف ما قد وقع.
ومن هنا يعلم أن الاستثناء لا يرفع الإنشاءات بأسرها لا الطلاق ولا غيره، كما لا يرفع موجب الطلب، وينبغي أن يؤخد من هذه أن هذه الصيغ المغلب عليها حكم الإنشاءات؛ لامتناع الاستثناء فيها، وأن الاستثناء فيها بأسرها استثناء تحقيق، لا تعليق، كقوله: كان هذا بمشيئة الله، وكان بقدرة الله.
ويخرج من هذا الاستثناء في الأيمان إن عاد إلي الموافاة فعلي بابه؛ لأن إطلاق الاسم يقتضي استحقاق الجنة كما قاله ابن مسعود، وخالفه فيه صاحب معاذ بتأويل صحيح، وتركه جائز. وإن كان فعله أحسن
ج/ 35 ص -313- من تركه، وهذا معني كلام أحمد في ومن أصحابنا من أوجبه كما أن المرجئة تحظره، ومن الناس من قد يري تركه أحسن. فالأقسام فيه: إما واجب، أو مستحب، أو ممنوع. حظرًا، أو كراهة، أو مسنونا، أو مستوي الحالتين.
وبهذا الذي ذكرناه في اليمين يظهر معني الوعد والوعيد من جواز نسخ ذلك أو الخلف فيه؛ فإن من رآهما خبرًا قال: النسخ يقتضي الكذب، والآخر يقول: هو خبر متضمن معني الطلب. فإذا قال: إن فعلت هذا ضربتك، تضمن أني مريد الساعة لضربك إذا فعلته، ومخبرك به، فليس هو خبرًا محضًا فيكون النسخ عائدًا إلي ما فيه من الطلب تغليبا للطلب علي الخبر كما أنه في باب المشيئة والكفارة غلب الخبر علي الطلب؛ لأن الكلام إذا تضمن معنيان فقد يغلب أحدهما بحسب الضمائم؛ ولهذا فرق في الخلف بين الوعد والوعيد؛ لأن الواعد لما تضمن كلامه طلب الخبر الموعود به من نفسه في معرض المقابلة صار ذلك بمنزلة التزامه الأعواض من العقود؛ فإنه أمر وجب لغيره عليه فلا يجوز إبطاله، والمتوعد تضمن كلامه طلب الشر المتوعد به في معرض المقابلة، بمنزلة إلزامه لغيره عوضا إذا بذل هو ما يجب عليه، وما وجب له علي الغير فله التزامه وله ترك التزامه.
ج/ 35 ص -314- فقولك: بعتك هذا بألف، في معني المواعد بالألف عند حصول المبيع وفي معني المطالب بالمبيع عند بذل الألف، فمطالبته بالوعيد الذي هو العقوبة ليس بأحسن حالا من مطالبته بسائر الحقوق الواجبة له علي سبيل المقابلة؛ فإن أخذ الحقوق من الناس فيها شوب الألم، فلا يخلص من نوع عقوبة وإن لم تسم بها، فإنما الغرض تمثيل هذا بهذا فيما يجب للمتكلم وما يجب عليه، فإذا كان الوعد والوعيد وإن تضمنا خبرًا فهما متضمنين طلبا صيرهما ذلك بمنزلة الإنشاء الذي وإن كان صيغته صيغة الخبر عن الماضي فهو إنشاء لأمر حاضر. وهذان وإن كان لفظهما لفظ الخبر عن المستقبل فهما إنشاء للإرادة والطلب، فإذا كان وعد وجب فسمي خلفه كذبا، كما قال لمن قال: "لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا " إلي قوله: "وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ " [الحشر: 11]، وإذا كان وعيدًا لم يجب إنفاذه لتضمنه معني بيان الاستحقاق.
وعلي هذا فيجوز نسخ الوعيد، كما ذكره السلف في قوله: "وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ " [البقرة: 284]، وأما الوعد بعد الاستحقاق فلا يجوز نسخه؛ لأنه موجب المشروط.وأما قبل العمل فيتوجه جواز نسخه، كفسخ التعليقات الجائزة غير اللازمة من الجعالة ونحوها؛ فإنه إذا قال: من رد عبدي الآبق فله درهم، فله فسخ ذلك قبل العمل. والفسخ كالنسخ. هذا فسخ لإنشاءات هي العقود المتضمنة التزام إرادة له أو عليه، وهذا فسخ لطلب أيضا. وكما أن المنصور في الفسخ أنه رفع الحكم الذي هو الطلب أو الإذن
ج/ 35 ص -315- فالفسخ رفع الحكم الذي هو الإرادة أو الإباحة، وكذلك الوعد والوعيد رفع الحكم الذي هو إرادة الإعطاء أو الإباحة.
فهذا كله إنما كان لأن من الكلام ما تضمن معني الطلب والخبر، وهو الأيمان والنذور، والوعد والوعيد، والعقود، فهذا القسم الثالث المركب هو الذي اضطرب الناس في أحكامه؛ ولهذا قسم بعضهم الكلام إلي خبر وإنشاء؛ ليكون الإنشاء أعم من الطلب؛ لأنه ينشئ طلبًا وإذنًا وما ثم غير الطلب والإذن؛ لأنه إما أن يطلب من نفسه أو من غيره وجودًا أو عدمًا. وقد يقال: الإذن يتضمن معني الطلب؛ لأنه طلب من نفسه تمكين المأذون له، كما أن الالتزام متضمن معني الطلب؛ لأنه جعل علي نفسه حقًا يطلبه المستحق وجوبا، وهناك جعله له مباحًا، فهذا هذا، والله أعلم، فيعود الأمر إلي طلب أو خبر، أو مركب منهما، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.
فصل
وبما قدمناه من الأصل تظهر مسألة الاستثناء في الظهار، فإن قوله: أنت علي حرام، وأنت علي كظهر أمي، قال أحمد: يصح فيه الاستثناء؛ لأن موجبه الكفارة إذا حنث بالعود. وأصل أحمد: أن كل ما شرعت فيه الكفارة شرع فيه اليمين وإلا فلا.
ج/ 35 ص -316- وقال طائفة من أصحابه منهم ابن بطة والعكبري وابن عقيل : لا يصح فيه الاستثناء؛ لأنه إنشاء بمنزلة التطليق والإعتاق؛ فإنه ليس من جملتين كالقسم، وإنما هو جملة واحدة كسائر الإنشاءات، فقوله: أنت علي حرام كقوله: أنت طالق، ليس هنا فعل مستقبل يعلق بالمشيئة، كما في قوله: لأخرجن، وهذا في بادئ الرأي أقوي للمشابهة الصورية.
لكن قول أحمد أفقه وأدخل في المعني، وإنما هو والله أعلم في ذلك بمنزلة من عد نذر اللجاج والغضب كنذر التبرر؛ للاستواء في الصورة اللفظية. ومن عده يمينا لمشابهة اليمين في معني وصفها وهو المحلوف عليه، ومن أعطاه حكمهما لجمعه معناهما. فإن نصفه يشبه اليمين في المعني ونصفه يشبه النذر.
ولهذا سائر الألفاظ المعلق بها الأحكام قد ينظر ناظر إلي صورتها، وآخر إلي معناها، وآخر إليهما معًا، كما في قوله: لأفعلن. الصورة صورة الخبر، والمعني قد يكون خبرًا وقد يكون طلبًا، وقد يجتمعان. فقوله: أنت علي كظهر أمي، كان في الجاهلية إنشاءً محضًا للتحريم، والتحريم لا يثبت بدون الطلاق، فكان عندهم طلاقا علي موجب ظاهر لفظه؛ لأن الطلاق يستلزم التحريم. فجعلوا اللازم دليلاً علي الملزوم، فأبطل الله ذلك؛ لأنه منكر من القول وزور، فإن الحلال لا يكون كالحرام المؤبد ولم يجعله طلاقا وإن عني به الطلاق؛ لأن الطلاق لا يثبت إلا بعد ثبوت المعني الفاسد وهو المشابهة
ج/ 35 ص -317- المحرمة، فصار كقوله: أنت يهودية أو نصرانية. إذا عني به الطلاق، فإن هذا لا يثبت إلا بعد ثبوت الكفر الذي لا يجوز له أن يثبته فيها. أو أنت أتان أو ناقة أو أنت علي كالأتان والناقة.
ومن هنا قال أكثر الصحابة: إن قوله: أنت علي حرام أيضا يمين ليس بطلاق، وصرح بعضهم بأنه يمين مغلظة كظهار،وهو مذهب أحمد. فصار قوله: أنت علي كظهر أمي، بمنزلة لا أقربنك؛لأن إثبات المشابهة للأم يقتضي امتناعه من وطئها،ويقتضي رفع العقد. فأبطل الشارع رفع العقد؛ لأن هذا إلي الشارع،لا إليه،فإن العقود والفسوخ إثبات الله لا تثبت إلا بإذن الشارع،وأثبت امتناعه من الفعل؛لأن فعل الوطء وتركه إليه،هو مخير فيه، فلما صار بمنزلة قوله: لا ينبغي مني وطؤك، فهذا معني اليمين، لكنه جعله يمينا كبري ليس بمنزلة اليمين بالله؛ لأن تلك اليمين شرع الحلف بها فلم يعص في عقدها، وهذه اليمين منكر من القول وزور؛ ولأن هذه اليمين تركها واجب فكانت الكفارة عوضا عن ذلك.
ولهذا كانت اليمين بالله لا توجب تحريم الفعل إلي التكفير، وهذه اليمين توجب تحريم الحنث إلي التكفير، فلم يكن له أن يحنث فيها حتي يحلها ووجبت فيها الكفارة الكبري. وكونها جملة واحدة لايمتنع اندراجها في اسم اليمين، كلفظ النذر هو يمين وجملة واحدة، وإنما العبرة بما تضمن عهدًا
ج/ 35 ص -318- وقد سمي الله كل تحريم يمينا بقوله:" لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ " إلي قوله: "قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ " [التحريم: 1، 2]، كما سمي الصحابة نذر اللجاج والغضب يمينا وهو جملة شرطية؛ نظرًا إلي المعني.
يوضح ذلك أن الظهار لو كان إنشاءً محضًا لأوجب حكمه، ولم يكن فيه كفارة؛ إذ الكفارة لا تكون لرفع عقد أو فسخ، وإنما تكون لرفع إثم المخالفة التي تضمنها عقده؛ ولهذا لما كان كل من عقد اليمين وعقد الظهار لا يوجب الكفارة إلا إذا وجدت المخالفة علم أنه يمين. والشافعي يقول: يوجب لفظ الظهار ترك العقد، فإذا أمسكها مقدار ما يمكنه إزالته، وجبت الكفارة. وأما أحمد والجمهور فعندهم يوجب لفظه الامتناع من الوطء علي وجه يكون حرامًا، فالكفارة ترفع هذا التحريم فلا يجوز الوطء قبل ارتفاعه.
وكذلك يقول أحمد في قوله: أنت علي حرام، أن موجبه الامتناع من الوطء علي جهة التحريم، لكن من يفرق بينهما يقول: إنه في الظهار ما كان يمكن أن يعطي اللفظ ظاهره؛ فإنه لا تصير مثل أمه في دين الإسلام فاقتصر به علي بعضه وهو ترك الوطء، دون ترك العقد، كما كانوا في الجاهلية.
ج/ 35 ص -319- لفظ الحرام يمكن إثبات موجبه. وقد يقول أحمد: إن الحرام لا يمكن إثبات موجبه؛ فإن تحريم العين لا يثبت أبدًا، والتحريم العارض لا يثبت بدون شبيه، إذ ليس هو المفهوم من مطلق التحريم، وإنما هو تحريم مقيد، فاستعمل بعض موجب اللفظ وهو تحريم الفعل الذي هو وطء؛ ولأن التحريم المضاف إلي العين إنما يراد به الفعل، فكأنه وطئك حرام. وهذا في معني قوله: والله لا أطؤك، فكما أن الإيلاء لا يكون طلاقا ولو نوي به الطلاق فكذلك التحريم؛ إذ الإيلاء نوع من الأيمان القسمية والظهار نوع من الأيمان التحريمية، والبحث فيه يتوجه أن يقال: نضعه علي أدني درجات التحريم؛ لأن اللفظ مطلق فلا تثبت الزيادة إلا بسبب، كما في قوله: أنت طالق، لا يقع إلا واحدة، وكما اكتفي في التشبيه بالتحريم. أما إذا نوي الطلاق، فيقال: وإن نوي الطلاق بالظهار.
فصل
ويتصل بهذا [ إذا حلف بالظهار أو بالحرام ] علي حظ أو منع، كقوله: إن فعلت هذا فأنت علي كظهر أمي، أو حرام، أو الحرام يلزمني، أو الظهار لا أفعله، أو لأفعله، فهذا قول أصحابنا فيه إذا حنث بالظهار، كما أنه يقع به الطلاق والعتق؛ ولهذا قالوا في أيمان المسلمين: منها الظهار.
ج/ 35 ص -320- وكنت أفتي بهذا تقليدًا، ولما ذكروه من الحجة من أنه حكم معلق بشرط كما لو قال: إن فعلت هذا فأنت علي حرام، عقوبة لها علي فعله.
وأفتيت بعد هذا أن عليه كفارة يمين إذا كان مقصوده عدم الفعل وعدم التحريم، كما قلناه في مسألة نذر اللجاج والغضب وكما قلناه في قوله: هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا، وقوله: هو يستحل الخمر والميتة إن فعل كذا، فإنه لما لم يكن مقصوده الحكم عند الشرط، وإنما الغرض الامتناع من فعل، فكذلك إذا قال: الحل علي حرام إن فعل كذا، وليس غرضه تحريم الحلال عند الفعل، وإنما غرضه الامتناع من الفعل وذكر التزام ذلك تقديرًا تحقيقا للمنع، كما ذكر التزام التهود والتنصر تقديرًا، كما أنه معني اليمين بالله هتكت حرمة الإيمان بالله إن فعلت هذا، أو نقصت حرمة الله،أو استخففت بحرمة الله إن فعلت.
وموجب الأيمان كلها من جهة اللفظ الوفاء، وأنه متي حنث فقد هتك إيمانه، وأنه تهود وتنصر، كما أن موجب نذر اللجاج والغضب من اللفظ وجوب الوفاء؛ فإن الحكم المعلق بشرط يجب عند وجوده، والحالف بشيء علي فعل قد التزم ذلك الفعل وجعله معلقا بمعظمه المحلوف به فمتي لم يفعله فقد هتك تلك الحرمة.
ج/ 35 ص -321- وقوله: أحلف بالله، أو بكذا، في معني قوله: أعقده به، وألصقه به؛ ولهذا يسمي المصاحب حليفًا كما كان يقال لعثمان: حليف المحراب وعلته لا يتخلف؛ ولهذا قيل: إن الباء لإلصاق المحلوف عليه بالمحلوف به، وإنما أتي بلام القسم توكيدًا ثانيا، كأنه قال: ألصق وأعتقد بالله مضمون قولي لأفعلن.
ولهذا سمي التكفير قبل الحنث تحلة؛ لأنه يحل هذا العقد الذي عقد بالمحلوف به، مثل فسخ البيع الذي يحل ما بين البائع والمشتري من الانعقاد. فالشارع جعل الأيمان من باب العقود الجائزة بهذا البدل؛ لا من اللازمة مطلقا، ولما كان العقد بين المحلوف عليه والمحلوف به وهو الله سبحانه سوغ سبحانه لعبده أن يحل هذا العقد الذي عقد لي وبي بالكفارة التي هي عبادة وقربة، وكان العبد مخيرًا بين تمام عقده، وبين حله بالبدل المشروع؛ إذ كان العبد هو الذي عقد هذا المحلوف عليه بالله سبحانه كما كانوا في أول الإسلام مخيرين بين الصيام الذي أوجبه وبين تركه بالكفارة، وكما أن المعتمر في أشهر الحج إذا أراد أن يحج من عامه مخير بين أن ينشئ للحج سفرًا وبين أن يتركه بهدي التمتع، فهو مخير في إكمال الحج بالسفر أو بالهدي.
ولهذا قلنا: ليس جبرانًا؛ لأن دم الجبران لا يخير في سببه كترك الواجبات، وإنما هو هدي واجب، كأنه مخير بين العبادة البدنية المحضة
ج/ 35 ص -322- أو البدنية المالية وهو: الهدي، ولكن قد يقال: إذا كان واجبًا فلا يؤكل منه بخلاف التطوع؟ قلنا هدي النذر أيضا فيه خلاف، وما وجب معينًا يأكل منه باتفاق؛ لأن نفس الذابح لله مهديا إلي بيته أعظم المقصودين؛ ولهذا اختلف العلماء في وجوب تفرقته في الحرم، وإن كنا نحن نوجب ذلك فيما هو هدي دون ما هو نسك؛ ليظهر تحقيقه بتسميته هديا، وهو الإهداء إلي الكعبة.
فإذا ظهر أن المقتضي للوفاء قائم وإنما الشارع جعل الكفارة رخصة، ثم قد يجب وقد يستحب كما في أكل المضطر للميتة، فهذا المعني موجود في نذر اللجاج والغضب وما أشبهه، وكذلك في قوله: إن فعلت كذا فأنت علي حرام، بخلاف ما لو أراد ثبوت التحريم عقوبة لها، مثل أن يقول لها أو لأمها: إن فعلت كذا فأنت علي حرام، فهنا يكون مقصوده ثبوت التحريم كما أن في نذر التبرر مقصوده ثبوت الوجوب، وكما في الخلع مقصوده أخذ العوض، ونحو ذلك، فهذا التفريق متوجه علي أصلنا فإنا كما فرقنا في التزام الإيجاب المعلق ينبغي أن نفرق في التزام التحريم المعلق. وينبغي أن نخيره إذا حنث بين الوفاء بالتحريم وبين تكفير يمينه كما خيرناه في النذر.
ج/ 35 ص -323- ثم إن طردنا في الطلاق والعتاق كما يتخرج علي أصولنا وكما يؤثر عن الصحابة جعل العتق داخلا في نذر اللجاج. وعن طاووس وغيره أنهم كانوا لا يرون الحلف بالطلاق
شيئا، وتوقف الراوي: هل كان طاووس يعدها يمينا؟ فهو متوجه، وهو أقوى إن شاء الله ولا حول قوة إلا بالله
فرقنا بين الطلاق والعتق وبين الحرام والظهار فمتوجه أيضا لأنه هناك علق نفس الوقوع الذي لا يعلق بمشيئة، وهناك علق يمينا، كأنه قال: إن فعلت هذا فعلى يمين حرام، أو فعلى يمين ظهار، أو إن فعلت هذا صرت مظاهرًا ومحرمًا. وهو إذا صار مظاهرًا محرما لم يقع به شيء، وإنما يثبت تحريم تزيله الكفارة، فصار مثل قوله: إن فعلت كذا فعلى حجة، أو فأنا حاج، أو أنا محرم، وهذا فيه نظر فليتحقق.
ج/ 35 ص -324- وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
فصل
في رجل حلف أنه من حين عقل لم يفعل الذنب وكان قد فعل هذا الذنب وله نحو عشرين سنة، ونوى بقلبه أنه لم يفعله من حين بلغ: فهذا ينظر إلى مراده بقوله: من حين عقل. فإن كان مراده من حين بلغ الحلم، فهو بار ولا حنث عليه بلا ريب. وإن كان مراده: أنه لم يفعله من حين ميز. فابن عشر سنين يميز، فهذا إذا كان يعلم كذب نفسه فيمينه غموس، وهي من الكبائر، عليه أن يتوب إلى الله منها. فإن كانت من الأيمان المكفرة ففيها قولان: جمهور أهل العلم يقولون هي أعظم من أن تكفر، وإنما تمحى بالتوبة الصحيحة، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في أشهر الروايتين عنه. والقول الثاني: أن فيها الكفارة، وهو مذهب الشافعى وأحمد في الرواية الثانية عنه فاليمين بالله مكفرة باتفاق العلماء.
وأما الحلف بالنذر والظهار والحرام والطلاق والعتاق والكفر، كقوله: إن فعلت كذا وكذا فعلى الحج، أو مالي صدقة، أو على الحرام، أو الطلاق
ج/ 35 ص -325- يلزمني لأفعلن كذا، وإن كنت فعلت كذا فعبيدي أحرار، أو إن كنت فعلت كذا فإني يهودي أو نصراني، فهذه المسألة للعلماء فيها ثلاثة أقوال: فقيل: إذا حنث يلزمه التوبة. وقيل: لا شيء عليه. وقيل: بل عليه كفارة يمين، وهو أظهر الأقوال، كما بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.
فإن كان قد حلف بهذه الأيمان يمينًا غموسًا فمن أوجب الكفارة في اليمين الغموس وقال: إن هذه الأيمان تكفر فإنه يوجب فيها كفارة. وأما من قال: اليمين الغموس أعظم من أن تكفر، فلهم قولان:
أحدهما: أن هذه يلزمه فيها ما التزمه من نذر وطلاق وعتاق وكفر، وإن قيل: إن ذلك لا تلزمه اليمين المغفورة، وهي الحلف على المستقبل، وهذا قول طائفة من أصحاب أبي حنيفة وأحمد. واحتجوا بقول النبي ﷺ لإسلام كاذبًا فهو كما قال، قالوا: لأن هذه اليمين غير منعقدة بل الحنث فيها مقارن للعفو فلا كفارة فيها، وقد التزم فيها ما التزمه مع علمه بكذبه فيجب إلزامه بذلك عقوبة له على كذبه وزجرًا لمن يحلف يمينًا كاذبة، بخلاف اليمين المنعقدة فإن صاحبها مطيع لله ليس بعاص.
ج/ 35 ص -326-والقول الثاني: وهو قول الأكثرين ألا يلزمه ما التزمه من كفر وغيره، كما لا يلزمه ذلك في اليمين على المستقبل، وإنما قصد في كلا الموضعين اليمين، فهو لم يقصد إذا كان كاذبًا أن يكون كافرًا، ولا أن يلزمه ما التزمه من نذر وطلاق وعتاق وغير ذلك، كما لم يقصد إذا حنث في اليمين على المستقبل أن يلزمه ذلك، بل حقيقة كلامه ومقصوده هو اليمين في الموضعين، فما فرق فيه بين الكفر والنذر والطلاق والعتاق في أحد الموضعين وبين الحلف بذلك يفرق به في الموضع الآخر، لكن هو في الموضعين قد أتى كبيرة من الكبائر بيمينه الغموس فعليه أن يتوب إلى الله منها كما يتوب من غيرها من الكبائر، وإذا تاب من الذنب كان كمن لا ذنب له، ولا يصدر كفر ولا نذر ولا طلاق ولا عتاق، بل إنما صدر منه الحلف بذلك، والله أعلم.
ج/ 35 ص -327-وسئل رحمه الله تعالى عمن حلف بالمشي إلى مكة هل يلزمه المشي؟ أو الحج راكبًا ويفتدي أو يلزمه كفارة يمين؟
فأجاب:
الحمد لله ، بل يجزيه كفارة يمين عند جماهير علماء المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان مثل عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله بن عمر، وحفصة بنت عمر، وزينب ربيبة رسول الله ﷺ ، وغير هؤلاء رضي الله عنهم وهو مذهب الشافعي وأحمد، وهو الرواية المتأخرة عن أبي حنيفة، وبذلك أفتى ابن القاسم ابنه لما حنث في هذه اليمين، وعلى هذا القول دل الكتاب والسنة. كما بسط في غير موضع، والله أعلم.
ج/ 35 ص -328- وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى :
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
قال الله تعالى: "وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " [البقرة: 224،227] وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " [المائدة:87: 89].
ج/ 35 ص -329-فذكر الله اسم الأيمان في أربعة مواضع في قوله: " لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ "، وقوله: " بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ "، وقوله: " ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ "، وقوله: " وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ "، وقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ " [التحريم: 1، 2]، وهذا الاستفهام استفهام إنكار يتضمن النهي؛ فإن الله لا يستفهم لطلب الفهم والعلم فإنه بكل شيء عليم، ولكن مثل هذا يسميه أهل العربية استفهام إنكار، واستفهام الإنكار يكون بتضمن الإنكار مضمون الجملة: إما إنكار نفى إن كان مضمونها خبرًا، وإما إنكار نهى إن كان مضمونها إنشاء. والكلام إما خبر وإما إنشاء. وهذا كقوله: " عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ " [التوبة:43]، وقوله: " لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ " [الصف:2]، ونحو ذلك.
فالله تعالى نهى نبيه عن تحريم الحلال كما نهى المؤمنين، وأخبر أنه فرض لهم تحلة أيمانهم، كما ذكر كفارة اليمين بعد النهي عن تحريم الحلال في سورة المائدة، وقوله: " قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ " [التحريم: 2] هو ما ذكره
ج/ 35 ص -330- في سورة المائدة. وكان سبب نزول التحريم تحريم النبي ﷺ الحلال: إما أمته مارية القبطية، وإما العسل، وإما كلاهما. وكذلك آية المائدة فإن طائفة من المسلمين كانوا قد حرموا الطيبات إما تبتلاً وترهبًا، كما عزم على ذلك عثمان بن مظعون ومن وافقه من الصحابة حتى نهاهم النبي ﷺ عن ذلك، وإما غير ذلك. وبين الله لهم أن الله جعل لمن حرم الحلال من هذه الأمة مخرجًا، وأن اليمين المتضمنة تحريمه للحلال له منها مخرج بالكفارة التي شرعها الله.
ليسوا كالذين من قبلهم الذين كانوا إذا حرموا شيئًا حرم عليهم ولم يكن لهم أن يكفروا، قال تعالى:" كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ " [آل عمران:93]، ولذلك قد قيل: إنهم كانوا إذا حلفوا على فعل شيء لزمهم ولم يكن لهم أن يكفروا؛ولهذا قالت عائشة:كان أبو بكر الصديق لا يحنث في اليمين حتى أنزل الله كفارة اليمين؛ولهذا أمر الله أيوب بما يحلل يمينه؛لأنه لم يكن لهم كفارة.
فإن اليمين على الأشياء: تارة تكون حضًا وإلزامًا، وتارة تكون منعًا وتحريمًا، كما أن عهد الله ورسوله وحكمه على خلقه ينقسم إلى هذين القسمين ولذا كان الظهار في الجاهلية وأول الإسلام طلاقًا حتى أنزل الله فيه الكفارة، وكذلك كان الإيلاء طلاقًا حتى أنزل الله حكمه؛ وذلك لأن الظهار نوع من التحريم فموجبه رفع الملك، إذ الزوجة لا تكون محرمة على التأبيد. والإيلاء يقتضي عندهم تحريم الوطء، وذلك ينافي النكاح.
ج/ 35 ص -331- وقد ذكر الله لفظ [ اليمين] في مواضع من كتابه، فقال تعالى: " تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ " إلى قوله: " فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ " [المائدة:106: 108] وقال تعالى في سورة براءة في سياق ذكر معاهدة المشركين: " فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ" [التوبة:12، 13] وقال تعالى:" وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ " [النحل:91، 92] وقال تعالى: " وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا " [الأنعام: 109]، " وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ " [النحل: 38]، " وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لَّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ " [النور: 53].
قال أهل اللغة وهذا لفظ الجوهري : اليمين القسم، والجمع أيمن وأيمان، فقال: سمى بذلك؛ لأنهم كانوا إذا تحالفوا يمسك كل امرئ منهم على يمين صاحبه.
ج/ 35 ص -332-فصل
ولفظ اليمين في كتاب الله، وكذا في لفظ أصحاب رسول الله ﷺ الذين خوطبوا بالقرآن أولاً يتناول عندهم ما حلف عليه بالله بأي لفظ كان الحلف، وبأي اسم من أسمائه كان الحلف. وكذلك الحلف بصفاته كعزته و... وأحكامه، كالتحريم والإيجاب؛ فإن التحريم والإيجاب من أحكامه. والحالف إذا قال: أحلف بالله ليكونن، فهو قد التزم ذلك الفعل، وأوجبه على نفسه، أو حرمه على نفسه، وعقد اليمين بالله، فجعل لزوم الفعل معقودًا بالله لئلا يمكن فسخه ونقضه، فموجب يمينه في نفسها لزوم ذلك الفعل له، أو انتقاض إيمانه بالله الذي عقد به اليمين. وهذا الثاني لا سبيل له إليه فتعين الأول، لكن الشارع في شريعتنا لم يجعل له ولاية التحريم على نفسه والإيجاب على نفسه مطلقًا، بل شرع له تحلة يمينه، وشرع له الكفارة الرافعة لموجب الإثم الحاصل بالحنث في اليمين إذا كان الحنث والتكفير خيرًا من المقام على اليمين.
وقد تنازع الفقهاء في اليمين: هل تقتضي إيجابًا وتحريمًا ترفعه الكفارة، أو لا تقتضي ذلك؟ أو هي موجبة لذلك لولا ما جعله الشرع مانعًا من هذا الاقتضاء؟ على ثلاثة أقوال: أصحها الثالث كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى.
ج/ 35 ص -333- أن نذكر من أقوال الصحابة ما يبين معنى اليمين في كتاب الله وسنة رسوله وفي لغتهم، ففي سنن أبي داود: حدثنا محمد بن المِنهْاَل، حدثنا يزيد بن زُرَيُع، حدثنا حبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رِتَاج الكعبة فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك، كفر عن يمينك وكلم أخاك، سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك".
وهذا الرجل تكلم بصيغة التعليق صيغة الشرط والجزاء وعلق وجوب صرف ماله في رِتَاج الكعبة على مسألته القسمة، وهذه الصيغة يقصد بها نذر التبرر، كقوله: إن شفا الله مريضي وسلم مالي الغائب فثلث مالي صدقة، ويقصد بها نذر اليمين الذي يسمى نذر اللجاج والغضب كما قصد هذا المعلق. والصيغة في الموضعين صيغة تعليق. لكن المعنى والقصد متباين، فإنه في أحد الموضعين مقصوده حصول الشرط الذي هو نعمة من الله كشفاء المريض وسلامة المال. والتزم طاعة الله شكرًا لله على نعمته وتقربًا إليه، وفي النوع الآخر مقصوده أن يمنع نفسه أو غيره من فعل أو يحضه عليه وحلف، فالوجوب لامتناعه من وجوب هذا عليه، وكراهة ذلك وبغضه إياه، كما يمتنع من الكفر ويبغضه ويكرهه فيقول: إن فعلت فهو
ج/ 35 ص -334- يهودي أو نصراني. وليس مقصوده أنه يكفر، بل لفرط بغضه للكفر به حلف أنه لا يفعل؛ قصدًا لانتفاء الملزوم بانتفاء اللازم؛ فإن الكفر اللازم يقصد نفيه فقصد به الفعل لنفى الفعل أيضًا، كما إذا حلف بالله فلعظمة الله في قلبه عقد به اليمين ليكون المحلوف عليه لازمًا لإيمانه بالله، فيلزم من وجود الملزوم وهو الإيمان بالله وجود اللازم وهو لزوم الفعل الذي حلف عليه، وكذلك إذا حلف ألا يفعل أمرًا جعل امتناعه منه لازمًا لإيمانه بالله وهذا هو عقد اليمين، وليس مقصوده رفع إيمانه، بل مقصوده ألا يرتفع إيمانه ولا ما عقده به من الامتناع، فسمى عمر بن الخطاب هذا يمينًا واستدل على أنه ليس عليه الفعل المعلق بالشرط بقول النبي ﷺ: "لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب، ولا في قطعية الرحم ولا فيما لا يملك".
والنبي ﷺ ذكر اليمين والنذر، كما ذكر الله في كتابه اليمين والنذر؛ فإن اليمين مقصودها الحض أو المنع من الإنشاء أو التصديق أو التكذيب في الخبر. والنذر ما يقصد به التقرب إلى الله ولهذا أوجب سبحانه الوفاء بالنذر؛ لأن صاحبه التزم طاعة لله، فأوجب على نفسه ما يحبه الله ويرضاه قصدًا للتقرب بذلك الفعل إلى الله. وهذا كما أوجب الشارع على من شرع في الحج والعمرة إتمام ذلك لله؛ لقوله:
ج/ 35 ص -335- "وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ " [البقرة: 196] وإن كان الشارع متطوعًا وتنازع العلماء في وجوب إتمام غيرهما . ولم يوجب سبحانه الوفاء باليمين لأن مقصود صاحبها الحض والمنع، ليس مقصوده التقرب إلى الله تعالى.
ولكن صيغة النذر تكون غالبًا بصيغة التعليق صيغة المجازات كقوله: إن شفا الله مريضى،كان على عتق رقبة. وصيغة اليمين غالبًا تكون بصيغة القسم، كقوله: والله لأفعلن كذا. وقد يجتمع القسم والجزاء كقوله: "وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ " [التوبة:75: 77].
ولهذا ترجم الفقهاء على إحدى الصيغتين: باب التعليق بالشروط، كتعليق الطلاق والعتاق والنذر وغير ذلك، وعلى الأخرى باب جامع الأيمان كما يشترك فيه اليمين بالله والطلاق والعتاق والظهار والحرام وغير ذلك. ومسائل أحد البابين مختلطة بمسائل الآخر؛ ولهذا كان من الفقهاء من ذكر مسائل جامع الأيمان مع مسائل التعليق، ومنهم من ذكرها في باب الأيمان والمنفي بإحدى الصيغتين مثبت بالأخرى، والمقدم في إحداهما مؤخر في الأخرى. فإذا قال: إن فعلت كذا فمالي حرام، أو عبدي حر، أو امرأتي طالق، أو مالي صدقة، أو فعلي كذا وكذا حجة، أو صوم شهر، أو نحو ذلك،
ج/ 35 ص -336- فهو بمنزلة أن يقول: الطلاق يلزمه لا يفعل كذا، أو العتق أو الحرام يلزمه والمشي إلى مكة يلزمه لا يفعل كذا ونحو ذلك. ففي صيغة الجزاء أثبت الفعل وقدمه وأخر الحكم. ولما أخر الفعل ونفاه وقدم الحكم والمحلوف به مقصوده ألا يكون ولا يهتك حرمته، وكذلك إذا قال: إن فعلت كذا فأنا كافر، أو يهودي، أو نصراني، فهو كقوله: والله لأنه كذا.
ولهذا كان نظر النبي ﷺ وأصحابه إلى معنى الصيغة ومقصود المتكلم، سواء كانت بصيغة المجازات أو بصيغة القسم. فإذا كان مقصوده الحظ أو المنع جعلوه يمينًا، وإن كان بصيغة المجازات، وإن كان مقصوده التقرب إلى الله جعلوه ناذرًا وإن كان بصيغة القسم؛ ولهذا جعل النبي ﷺ الناذر حالفًا؛ لأنه ملتزم للفعل بصيغة المجازاة. فإن كان المنذور مما أمر الله به أمره به، وإلا جعل عليه كفارة يمين. وكذلك الحالف إنما أمره أن يكفر يمينه إذا حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها اعتبارًا بالمقصود في الموضعين، فإذا كان المراد ما يحبه الله ويرضاه أمر به، وهو النذر الذي يوفي به وإن كان بصيغة القسم. وإن كان غيره أحب إلى الله وأرضى منه أمر بالأحب الأرضى لله وإن كان بصيغة النذر، وأمر بكفارة يمين. وهذا كله تحقيقًا لطاعة الله ورسوله، وأن يكون الدين كله لله، وأن كل يمين أو نذر أو عقد أو شرط تضمن ما يخالف أمر الله ورسوله فإنه لا يكون لازمًا، بل يجب تقديم أمر الله ورسوله على كل ذلك.
ج/ 35 ص -337- فكل ما يقصده العباد من الأفعال والتروك إن كان مما أمر الله به ورسوله فإن الله يأمر به وبالإعانة عليه، وإن كان مما نهى الله عنه ورسوله فإن الله ينهى عنه وعن الإعانة عليه، وإن كان من المباحات فهو مع النية الحسنة يكون طاعة، ومع النية السيئة يكون ذنبًا، ومع عدم كل منهما لا هذا ولا هذا.
فالشرع دائمًا في الأيمان والنذور والشروط والعقود يبطل منها ما كان مخالفًا لأمر الله ورسوله؛ لكن إذا كان قد علق تلك الأمور بإيمانه بالله شرعت الكفارة ماحية لمقتضى هذا العقد؛ فإنه لولا ذلك لكان موجبه الإثم إذا خالف يمينه؛ ولهذا سمى [حنثًا] قال تعالى: "وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ " [البقرة: 224] وقد تواترت الآثار عن الصحابة والتابعين وغيرهم بأن معنى هذه الآية أنه لا يحلف أحدكم على أنه لا يبر ولا يتقى الله ولا يصل رحمه،فإذا أمر بذلك قال: أنا قد حلفت بالله،فيجعل الحلف بالله مانعًا له من طاعة الله ورسوله.فإذا كان قد نهى سبحانه أن يجعل الله أي الحلف بالله مانعًا من طاعة الله فغير ذلك أولى أن ينهى عن كونه مانعًا من طاعة الله. والأيمان الشرعية الموجبة للكفارة كلها تعود إلى الحلف بالله، كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى.
وإنما المقصود هنا ذكر بعض الآثار، قال أبو بكر الأثرم في سننه: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يسأل عن رجل قال: ماله في رتاج الكعبة
ج/ 35 ص -338- قال: كفارة يمين، واحتج بحديث عائشة، قال: وسمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يحلف بالمشى إلى بيت الله أو الصدقة بالملك أو نحو هذه الأيمان فقال: إذا حنث فكفارة يمين، إلا أني لا أحمله على الحنث ما لم يحنث، قيل له لا يفعل. قيل لأبي عبد الله: فإذا حنث كفر؟ قال: نعم. قيل له: أليس كفارة يمين؟ قال: نعم.
قال الأثرم: حدثنا الفضل بن دُكَيْن، حدثنا حسن عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة، قالت: من قال مالي في ميراث الكعبة، وكل مالي فهو هدى، وكل مالي فهو في المساكين، فليكفر يمينه.
وقال الأثرم: حدثنا عارم بن الفضل، حدثنا معتمر بن سليمان، قال: قال أبي: حدثنا بكر بن عبد الله، أخبرني أبو رافع قال: قالت مولاتي ليلى بنت العجماء: كل مملوك لها محرر، وكل مال لها هدى، وهي يهودية وهي نصرانية إن لم تطلق امرأتك، أو تفرق بينك وبين امراتك. قال: فأتيت زينب ابنة أم سلمة، وكانت إذا ذكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب، قال: فأتيتها، فجاءت معى إليها، فقالت: في البيت هاروت وماروت؟!!. قالت: يا زينب جعلني الله فداك، إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدى، وهي يهودية، وهي نصرانية، فقالت: يهودية ونصرانية!! خلي بين الرجل وامرأته فأتيت حفصة أم المؤمنين فأرسلت إليها فأتتها، فقالت: يا أم المؤمنين، جعلني الله
ج/ 35 ص -339- فداك إنها قالت: كل مملوك لها حر وكل مال لها هدى، وهي يهودية وهي نصرانية، فقالت: يهودية ونصرانية!! خلي بين الرجل وبين امرأته، قال: فأتيت عبد الله بن عمر، فجاء معى إليها فقام على الباب فسلم ، فقالت بينا أنت وبينا أبوك . فقال: أمن حجارة أنت؟! أمن حديد أنت؟! أي شيء أنت؟! أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين فلم تقبلي فتياهما، قالت؛ يا أبا عبد الرحمن، جعلنى الله فداك، إنها قالت كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدى، وهي يهودية وهي نصرانية، فقال: يهودية ونصرانية، كفري عن يمينك، وخلي بين الرجل وبين امرأته.
وذكر هذا عبد الرزاق في مصنفه عن التيمي عن معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن بكر ابن عبد الله المزني، قال: أخبرني أبو رافع، قال: قالت لي مولاتي ليلى ابنة العجماء: كل مملوك لها حر، وكل مالها هدى، وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق امراتك. قال: فأتتنا زينب بنت أم سلمة وكان إذا ذكرت امرأة فقيهة ذكرت زينب فذكرت ذلك لها، فقالت: خلي بين الرجل وبين امرأته، وكفري عن يمينك، قال: فأتتنا حفصة زوج النبي ﷺ فقلت: يا أم المؤمنين، جعلني الله فداك، وذكرت لها يمينها ، فقالت: كفري عن يمينك، قال: وأتينا عبد الله بن عمر، فقلنا: يا أبا عبد الرحمن، وذكرت له يمينها، فقال: كفري يمينك، وخلي بين الرجل وامرأته.
ج/ 35 ص -340- قال ابن عبد البر: قوله: وكل مملوك لها حر. هو من رواية سليمان التيمي وأشعث الحمراني،عن بكر المزني مع هذا الحديث، وفي رواية أشعث في هذا الحديث ابن عباس وأبو هريرة وابن عمر وحفصة وعائشة وأم سلمة؛ وإنما هو زينب بنت أم سلمة.
وقال الأثرم: حدثنا عبد الله بن رجاء، أخبرنا عمران، عن قتادة، عن زرارة بن أبي أوفى، أن امرأة سألت ابن عباس: أن امرأة جعلت بردها عليها هديا إن لبسته، فقال ابن عباس: أفي غضب، أم في رضا؟ قالوا: في غضب. قال: إن الله تبارك وتعالى لا يتقرب إليه بالغضب، لتكفر عن يمينها.
قلت: ابن عباس استفسر النذر هل مقصودها التقرب بالمنذور كما قد يقول القائل: إن سلم مالي تصدقت به ، أو مقصودها الحلف أنها لا تلبسه فيكون عليها كفارة يمين، فقال: أفي غضب، أم رضا؟ فلما قالوا: في غضب علم أنها حالفة، لا ناذرة؛ ولهذا سمى الفقهاء هذا نذر اللجاج والغضب فهو يمين وإن كان صيغته صيغة الجزاء.
وقال الأثرم: حدثني ابن الطباع، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن العلاء بن المسيب عن يعلى بن النعمان، عن عكرمة، عن ابن عباس: سئل عن رجل جعل ماله في المساكين؟ قال: أمسك عليك مالك، وأنفقه على
ج/ 35 ص -341- عيالك، واقض به دينك، وكفر عن يمينك. وقال حرب الكرماني في مسائله: حدثنا المسيب بن واضح، حدثنا يوسف بن أبي السفر، عن الأوزاعي؛ عن عطاء بن أبي رباح، قال: سألت ابن عباس عن الرجل يحلف بالمشي إلى بيت الله الحرام؟ قال: إنما المشي على من نواه، فأما من حلف في الغضب فعليه كفارة يمين. وقال الأثرم: حدثنا أبو بكر بن أبي الأسود، حدثنا معتمر، عن أبيه، عن ابن عمر والحسن، قال: إذا كان نذر الشكر فعليه وفاء نذره، والنذر في المعصية والغضب يمين.
وقال الأثرم: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا ابن جريج، قال: سئل عطاء عن رجل قال: على ألف بدنة، فقال: يمين، وعن رجل قال: على ألف حجة، قال يمين. وعن رجل قال: مالي هدى قال: يمين. وعن رجل قال: مالي في المساكين، قال: يمين. وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن وجابر بن زيد في الرجل يقول: إن لم أفعل كذا وكذا فأنا محرم بحجة، قال: ليس الإحرام إلا على من نوي الحج، يمين يكفرها. وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه قال: يمين يكفرها. وقال الأثرم: حدثنا أبو عبد الله حدثنا وكيع عن سفيان، عن ليث ، عن المنهال، عن أبي وائل في رجل قال: هو محرم بحجة، قال: يمين، وقال: حدثنا أبو عبد الله، حدثنا محمد بن يزيد الواسطي، عن أيوب يعنى أبا العلاء عن
ج/ 35 ص -342- قتادة ومنصور، عن الحسن: في رجل قال: إن دخل منزل فلان فعليه مشى إلى بيت الله؟ قال: عليه كفارة يمين، قال: فإن نذر أن يمشي فعليه المشي، وإن لم يطق المشي ركب فأهدى. وقال أبو عبد الله: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثنا عاصم بن محمد، عن أخيه عمر بن محمد، قال: جاء إنسان فاستفتى القاسم بن محمد ابن أبي بكر، فقال: يا أبا محمد، كيف ترى في رجل جعل عليه مشيًا إلى بيت الله؟ فقال القاسم: أجعله نذرًا؟ قال: لا. قال: أو جعله لله؟ قال: لا. قال: فليكفر عن يمينه.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله :
ذكر ابن عساكر ما ذكره حنبل، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: يقال مروان بن الحكم كان عنده قضاء، وكان يتبع قضاء عمر، وذكر ما ذكره أبو زرعة الدمشقي، قال: الاختلاف بين الناس في هذين الرجلين: محمد بن الوليد الزبيدي وسعيد بن أبي حمزة، وقد أخبرني الحكم بن نافع أنه رآهما جميعًا الزبيدي، وسعيد بن أبي حمزة. ورأيته للزبيدي أكثر تعظيمًا، وهما صاحبا الزهري بالرصافة من قبل هشام بن عبد الملك، محمد بن الوليد الزُبَيدْي على بيت المال، وسعيد بن أبي حمزة على نفقات هشام. وعن بقية قال: قال لنا الأوزاعي: ما فعل محمد بن الوليد الزبيدي؟ قال: قلت: ولي بيت المال. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ج/ 35 ص -343- وذكر ما ذكره الذهلي من حديث الزهري، حدثنا سعيد بن كثير بن عفير، أخبرنا عبد الله بن وهب عن يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني قبيصة بن ذؤيب، أن امرأة نذرت أن تنحر ابنها عند الكعبة في أمر إن فعلته، ففعلت ذلك الأمر، فقدمت المدينة تستفتي عن نذرها، فجاءت عبد الله بن عمر فقال لها عبد الله: لا أعلم الله أمر في النذر إلا بالوفاء، قالت المرأة: فأنحر ابني؟ فقال عبد الله بن عمر: قد نهاكم الله أن تقتلوا أنفسكم، ثم لم يزدها ابن عمر على ذلك. فجاءت عبد الله بن عباس فاستفته عن ذلك، فقال: أمر الله بوفاء النذر، ونهاكم أن تقتلوا أنفسكم. وقد كان عبد المطلب بن هاشم نذر أن توافى له عشرة رهط أن ينحر أحدهم، فلما توافى له عشرة وأقرع بينهم أيهم ينحر، فصارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب وكان أحب الناس إلى عبد المطلب فقال عبد المطلب: اللهم أهو أو مائة من الإبل، ثم أقرع بينه وبين مائة من الإبل في الجاهلية، وصارت القرعة على نحر مائة من الإبل فقال ابن عباس للمرأة: فإني أرى أن تنحرى مائة من الإبل مكان ابنك، فبلغ الحديث مروان بن الحكم وهو أمير المدينة، فقال: ما أرى ابن عمر وابن عباس أصابا الفتيا " إنه لا نذر في معصية الله" استغفري الله وتوبي إليه، واعملي ما استطعت من الخير، فأما أن تنحري ابنك فإن الله قد نهاك عن ذلك. قال: فسر الناس بذلك، وأعجبهم قول مروان، ورأوا أن قد أصاب الفتوى، فلم يزل الناس يفتون بأن لا نذر في معصية الله.
ج/ 35 ص -344- قلت: ابن عمر كان من حاله أن يتوقف عن النذر للمعصية لا يأمر فيه لا بوفاء ولا ترك، كما سئل عمن نذر صوم يوم العيد فقال: أمر الله بالوفاء بالنذر، ونهى رسول الله ﷺ عن صوم هذا اليوم؛ وذلك أنه تعارض عنده دليلان: الأمر، والنهي. ولم يتبين له أن الأمر بوفاء النذر مقيد بطاعة الله؛ ولهذا نقل مالك في موطئه: الحديث الذي أخرجه البخاري بعده عن عائشة، أن رسول الله ﷺ قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن ندر أن يعصى الله فلا يعصه"، مع أن القرآن ليس فيه أمر بالوفاء بالنذر بلفظ النذر مطلقًا؛ إذ قوله: "يُوفُونَ بِالنَّذْرِ " [الإنسان:7] خبر وثناء، وقوله: "وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ " [الحج:29] خاص، لكن الله أمر بالوفاء بالعهود والعقود، والنذر من ذلك، فهذا والله أعلم معنى قولهما: أمر الله بالوفاء بالنذر. وهذه حال من يجعل العهود والعقود مقتضية للوفاء مطلقًا من غير اعتبار في المعقود عليه. وهذا كثيرًا ما يعرض لبعض أهل الورع كما عرض لابن عمر، حتى إنهم يمتنعون عن نقض كثير من العهود والعقود المخالفة للشريعة، وهم يتورعون أيضًا عن مخالفة الشريعة، فيبقون في الحيرة!
وأما ابن عباس فعنه في هذه المسألة روايتان: إحداهما: هذا، والأخرى: عليه ذبح كبش، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وقول أبي حنيفة وغيره، وهذا هو الذي يناسب الشريعة، دون الاحتجاج بقصة عبد المطلب، فإن عمل أهل الجاهلية لا يحتج به أصلاً إلا إذا أقره الإسلام،
ج/ 35 ص -345- لكن ابن عباس احتج به؛ لكون الدية أقرها الإسلام وهي بدل النفس، فرأى هذا البدل يقوم مقام المبدل في الافتداء، ثم جعل الافتداء بالكبش اتباعًا لقصة إبراهيم وهو الأنسب، والرواية الأخرى عن أحمد عليه كفارة يمين كسائر نذور المعصية.
والذي أفتى به مروان أنه لا شيء عليه هو قول الشافعي وأحمد في رواية وكل من يقول: نذر المعصية لا شيء فيه.
وهذا النذر ظاهره نذر يمين، لكن المعروف عن ابن عمر وابن عباس أن ذلك يمين يكفرها. فتبين أنه كان نذر تبرر كنذر عبد المطلب، ولكن مالك وغيره من أهل المدينة لا يفرقون بين البابين فرووا القصة بالمعنى الذي عندهم.
وقال رحمه الله تعالى :
فصل
قد كتبت في قاعدة العهود والعقود: القاعدة في العهود الدينية في القواعد المطلقة، والقاعدة في العقود الدنيوية في القواعد الفقهية، وفي كتاب النذر أيضًا أن ما وجب بالشرع إذا نذره العبد أو عاهد الله عليه أو بايع عليه الرسول أو الإمام أو تحالف عليه جماعة فإن هذه العهود
ج/ 35 ص -346- والمواثيق تقتضي له وجوبًا ثانيًا غير الوجوب الثابت بمجرد الأمر الأول فتكون واجبة من وجهين، بحيث يستحق تاركها من العقوبة ما يستحقه ناقض العهود والميثاق، وما يستحقه عاصى الله ورسوله. هذا هو التحقيق.
ومن قال من أصحابنا إنه إذا نذر واجبًا فهو بعد النذر، كما كان قبل النذر، بخلاف نذر المستحب، فليس كما قال، بل النذر إذا كان يوجب فعل المستحب فإيجابه لفعل الواجب أولى، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل هما وجوبان من نوعين لكل نوع حكم غير حكم الآخر، مثل الجدة إذا كانت أم أم أم، وأم أم أب، فإن فيها سببين كل منهما تستحق به السدس.
وكذلك من قال من أصحابنا: إن الشروط التي هي من مقتضى العقد لا يصح اشتراطها، أو قال: تفسد حتى قال بعض أصحاب الشافعي إذا قال: زوجتك على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان كان النكاح فاسدًا؛ لأنه شرط فيه الطلاق، فهذا كلام فاسد جدًا؛ فإن العقود إنما وجبت موجباتها لإيجاب المتعاقدين لها على أنفسهما، ومطلق العقد له معنى مفهوم، فإذا أطلق كانا قد أوجبا ما هو المفهوم منه، فإن موجب العقد هو واجب بالعقد كموجب النذر لم يوجبه الشارع ابتداء وإنما أوجب الوفاء بالعقود، كما أوجب الوفاء بالنذر. فإذا كان له موجب معلوم بلفظ مطلق أو بعرف وصرح المتعاقدان بإيجابه بلفظ خاص كان هذا من باب عطف الخاص على العام، فيكون العاقد
ج/ 35 ص -347- قد أوجبه مرتين، أو جعل له إيجابًا خاصًا يستغنى به عن الإيجاب العام. وفي القرآن من هذا نظائر مثل قوله: "وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ " [البقرة: 98] وقوله: "مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ " [الأحزاب: 7] ، وقوله: "حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى " [البقرة: 238] وقوله: "قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ " [الأحزاب: 59] وقوله: "يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى " [النحل: 90].
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل أمر أجيره أن يرهن شيئًا عند شخص فرهنه عند غيره، فعدم الرهن، فحلف صاحب الرهن إن لم يأته به لم يستعمله، معتقدًا أنه لم يعدم، ثم تبين له عدمه: فهل يحنث إذا استعمله؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا كان حين حلف معتقدًا أن الرهن باق بعينه لم يعدم فحلف ليحضر لم يحنث والحالة هذه، والله أعلم.
وسئل رحمه الله عن رجل حلف على ولده لا يدخل الدار حتى يعطيه الكساء الذي أخذه، ثم تبين له أنه لم يأخذ شيئًا: فهل يحنث إذا دخل أم لا؟
ج/ 35 ص -348-فأجاب:
إذا دخل منزله فلا حنث عليه إذا كانت الحالة ما ذكر؛ لكون المحلوف عليه ممتنعًا لذاته، كما لو حلف ليشربن الماء الذي في هذا الإناء، وليس فيه ماء في أصح القولين، ولأنه إنما حلف لاعتقاده أن ابنه أخذه وتبين بخلاف ذلك. ومثل هذا فيه أيضًا نزاع. والصحيح أنه لا حنث فيه، فصار غير حانث في هذين الوجهين. والمسألة المشهورة إذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه، فإن هذا جهل بالمحلوف عليه بنفسه، وذلك جهل بصفة المحلوف عليه، والله أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل حلفت عليه والدته ألا يصالح زوجته. وإن صالحها ما ترجع تكلمه، فما يجب في أمره وصالح زوجته، وأمر والدته في الشرع المطهر؟
فأجاب:
إذا صالح زوجته كما أمر الله ورسوله فينبغي لها أن تكلمه وتكفر عن يمينها. وكفارة اليمين إما عتق رقبة، وإما إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين رطلان من الخبز. وينبغي أن يأدمه مما يؤكل بالموز والجبن واللحم وغيره، وإما كسوة عشرة مساكين ثوبًا ثوبًا، ويجوز أن يكفر عنها بإذنها الحالف أو زوجته.
ج/ 35 ص -349-وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى :
كفارة اليمين هي المذكورة في سورة المائدة قال تعالى: " فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ "[المائدة:89]، فمتى كان واجدًا فعليه أن يكفر بإحدى الثلاث، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وإذا اختار أن يطعم عشرة مساكين فله ذلك.
ومقدار ما يطعم مبنى على أصل، وهو أن إطعامهم: هل هو مقدر بالشرع، أو بالعرف؟ فيه قولان للعلماء. منهم من قال: هو مقدر بالشرع، وهؤلاء على أقوال. منهم من قال: يطعم كل مسكين صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو نصف صاع من بر، كقول أبى حنيفة، وطائفة. ومنهم من قال: يطعم كل واحد نصف صاع من تمر وشعير، أو ربع صاع من بر؛ وهو مد، كقول أحمد وطائفة. ومنهم من قال: بل يجزئ فى الجميع مد من الجميع، كقول الشافعى وطائفة.
والقول الثانى: أن ذلك مقدر بالعرف لا بالشرع، فيطعم أهل كل بلد من أوسط ما يطعمون أهليهم قدرًا ونوعًا. وهذا معنى قول مالك،قال إسماعيل
ج/ 35 ص -350- بن إسحاق:كان مالك يرى في كفارة اليمين أن المد يجزئ بالمدينة، قال مالك: وأما البلدان فإن لهم عيشًا غير عيشنا فأرى أن يكفروا بالوسط من عيشهم؛ لقول الله تعالى: "مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ " وهو مذهب داود وأصحابه مطلقًا.
والمنقول عن أكثر الصحابة والتابعين هذا القول؛ ولهذا كانوا يقولون: الأوسط خبز ولبن، خبز وسمن، خبز وتمر. والأعلى خبز ولحم. وقد بسطنا الآثار عنهم في غير هذا الموضع وبينا أن هذا القول هو الصواب الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار،وهو قياس مذهب أحمد وأصوله، فإن أصله أن ما لم يقدره الشارع فإنه يرجع فيه إلى العرف، وهذا لم يقدره الشارع فيرجع فيه إلى العرف، لا سيما مع قوله تعالى: "مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ "، فإن أحمد لا يقدر طعام المرأة والولد ولا المملوك، ولا يقدر أجرة الأجير المستأجر بطعامه وكسوته في ظاهر مذهبه، ولا يقدر الضيافة الواجبة عنده قولاً واحدًا، ولا يقدر الضيافة المشروطة على أهل الذمة للمسلمين في ظاهر مذهبه: هذا مع أن هذه واجبة بالشرط، فكيف يقدر طعامًا واجبًا بالشرع؟ بل ولا يقدر الجزية في أظهر الروايتين عنه، ولا الخراج، ولا يقدر أيضًا الأطعمة الواجبة مطلقًا، سواء وجبت بشرع أو شرط، ولا غير الأطعمة مما وجبت مطلقًا، فطعام الكفارة أولى ألا يقدر.
ج/ 35 ص -351- والأقسام ثلاثة فما له حد في الشرع أو اللغة رجع في ذلك إليهما، وما ليس له حد فيهما رجع فيه إلى العرف، ولهذا لا يقدر للعقود ألفاظًا بل أصله في هذه الأمور من جنس أصل مالك، كما أن قياس مذهبه أن مذهبه أن يكون الواجب في صدقة الفطر نصف صاع من بر، وقد دل على ذلك كلامه أيضًا كما قد بين في موضع آخر وإن كان المشهور عنه تقدير ذلك بالصاع كالتمر والشعير.
وقد تنازع العلماء في الأدم هل هو واجب أو مستحب ؟ على قولين. والصحيح أنه إن كان يطعم أهله بأدم أطعم المساكين بأدم. وإن كان إنما يطعم بلا أدم لم يكن له أن يفضل المساكين على أهله بل يطعم المساكين من أوسط ما يطعم أهله.
وعلى هذا فمن البلاد من يكون أوسط طعام أهله مدًا من حنطة كما يقال عن أهل المدينة، وإذا صنع خبزًا جاء نحو رطلين بالعراقي، وهو بالدمشقي خمسة أواق وخمسة أسباع أوقية، فإن جعل بعضه أدمًا كما جاء عن السلف كان الخبز نحوا من أربعة أواق، وهذا لا يكفي أكثر أهل الأمصار؛ فلهذا قال جمهور العلماء: يطعم في غير المدينة أكثر من هذا: إما مدان، أو مد ونصف على قدر طعامهم، فيطعم من الخبز إما نصف رطل بالدمشقي، وإما ثلثا رطل، وإما رطل وإما أكثر. إما مع الأدم على قدر عادتهم في الأكل في وقت؛ فإن عادة الناس تختلف بالرخص
ج/ 35 ص -352- الغلاء، واليسار والإعسار، وتختلف بالشتاء والصيف، وغير ذلك. وإذا حسب ما يوجبه أبو حنيفة خبزًا كان رطلاً وثلثًا بالدمشقي؛ فإنه يوجب نصف صاع عنده ثمانية أرطال. وأما ما يوجبه من التمر والشعير فيوجب صاعًا ثمانية أرطال، وذلك بقدر ما يوجبه الشافعي ست مرات، وهو بقدر ما يوجبه أحمد بن حنبل ثلاث مرات.
والمختار أن يرجع في ذلك إلى عرف الناس وعادتهم، فقد يجزئ في بلد ما أوجبه أبوحنيفة، وفي بلد ما أوجبه أحمد، وفي بلد آخر ما بين هذا وهذا على حسب عادته، عملاً بقوله تعالى: "مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ " [المائدة: 89].
وإذا جمع عشرة مساكين وعشاهم خبزًا وأدمًا من أوسط ما يطعم أهله أجزأه ذلك عند أكثر السلف، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين وغيرهم، وهو أظهر القولين في الدليل، فإن الله تعالى أمر بإطعام، لم يوجب التمليك، وهذا إطعام حقيقة.
ومن أوجب التمليك احتج بحجتين: إحداهما: أن الطعام الواجب مقدر بالشرع، ولا يعلم إذا أكلوا أن كل واحد يأكل قدر حقه. والثانية: أنه بالتمليك يتمكن من التصرف الذي لا يمكنه مع الإطعام. وجواب الأولى أنا لا نسلم أنه مقدر بالشرع، وإن قدر أنه مقدر به، فالكلام
ج/ 35 ص -353- إنما هو إذا أشبع كل واحد منهم غداء وعشاء، وحينئذ فيكون قد أخذ كل واحد قدر حقه وأكثر. وأما التصرف بما شاء فالله تعالى لم يوجب ذلك إنما أوجب فيها التمليك؛ لأنه ذكرها باللام بقوله تعالى: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ "؛ ولهذا حيث ذكر الله التصرف بحرف الظرف، كقوله: "وَفِي الرِّقَابِ "، "وَفِي سَبِيلِ اللّهِ " [التوبة:60]، فالصحيح أنه لا يجب التمليك، بل يجوز أن يعتق من الزكاة وإن لم يكن ذلك تمليكًا للمعتق، ويجوز أن يشتري منها سلاحًا يعين به في سبيل الله وغير ذلك؛ ولهذا قال من قال من العلماء: الإطعام أولى من التمليك؛ لأن المملك قد يبيع ما أعطيته ولا يأكله، بل قد يكنزه، فإذا أطعم الطعام حصل مقصود الشارع قطعًا.
وغاية ما يقال: أن التمليك قد يسمى إطعامًا، كما يقال: أطعم رسول الله ﷺ الجدة السدس، وفى الحديث: "ما أطعم الله نبيًا طعمة إلا كانت لمن يلى الأمر بعده"، لكن يقال: لا ريب أن اللفظ يتناول الإطعام المعروف بطريق الأولى؛ ولأن ذلك إنما يقال إذا ذكر المطعم، فيقال: أطعمه كذا، فأما إذا أطلق وقيل: أطعم هؤلاء المساكين، فإنه لا يفهم منه إلا نفس الإطعام، لكن لما كانوا يأكلون ما يأخذونه سمى التمليك للطعام إطعامًا؛ لأن المقصود هو الإطعام. أما إذا كان المقصود مصرفًا غير الأكل، فهذا لا يسمى إطعامًا عند الإطلاق.
ج/ 35 ص -354- وقال قدسَ الله روحهُ :
وأما النذر فهو نوعان: طاعة، ومعصية. فمن نذر صلاة أو صومًا أوصدقة فعليه أن يوفى به، وإن نذر ما ليس بطاعة مثل النذر لبعض المقابر والمشاهد وغيرها زيتا أو شمعًا أو نفقة أو غير ذلك، فهذا نذر معصية، وهو شبيه من بعض الوجوه بالنذر للأوثان، كاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، فهذا لا يجوز الوفاء به بالاتفاق، لكن من العلماء من يوجب كفارة يمين، كالإمام أحمد وغيره. ومنهم من لا يوجب شيئًا، وهو قول أبي حنيفة والشافعي.
وإذا صرف الرجل ذلك المنذور في قربة مشروعة مثل أن يصرف الدهن في تنوير المساجد التي هي بيوت الله، ويصرف النفقة إلى صالحي الفقراء، كان هذا عملاً صالحًا يتقبله الله منه، مع أن أصل عقد النذر مكروه، فإن النبي ﷺ قد ثبت عنه أنه نهى عن النذر، وقال: إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل، والله أعلم.