أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

باب حكم المرتد

    ج/ 35 ص -99- باب حكم المرتد
    سئل شيخ الإسلام رضي الله عنه عن رجلين تكلما في ‏[‏مسألة التأبير‏]‏ فقال أحدهما‏:‏ من نقص الرسول ﷺ، أو تكلم بما يدل علي نقص الرسول كفر، لكن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين؛ فإن بعض العلماء قد يتكلم في مسألة باجتهاده فيخطئ فيها فلا يكفر، وإن كان قد يكفر من قال ذلك القول إذا قامت عليه الحجة المكفرة، ولو كفرنا كل عالم بمثل ذلك لزمنا أن نكفر فلانا وسمي بعض العلماء المشهورين الذين لا يستحقون التكفير وهو الغزالي فإنه ذكر في بعض كتبه تخطئة الرسول في مسألة تأبير النخل‏:‏ فهل يكون هذا تنقيصًا بالرسول بوجه من الوجوه‏؟‏ وهل عليه في تنزيه العلماء من الكفر إذا قالوا مثل ذلك تعزير، أم لا‏؟‏ وإذا نقل ذلك وتعذر عليه في الحال نفس الكتاب الذي نقله منه وهو معروف بالصدق‏:‏ فهل عليه في ذلك تعزير أم لا‏؟‏ وسواء أصاب في النقل عن العالم أم أخطأ‏؟‏ وهل يكون في ذلك تنقيص بالرسول ﷺ ومن اعتدي علي مثل هذا، أو نسبه إلي تنقيص بالرسول، أو العلماء، وطلب عقوبته علي ذلك‏:‏ فما يجب عليه‏؟‏ أفتونا مأجورين‏؟‏

    ج/ 35 ص -100-فأجاب‏:‏
    الحمد لله، ليس في هذا الكلام تنقص بالرسول ﷺ بوجه من الوجوه باتفاق علماء المسلمين، ولا فيه تنقص لعلماء المسلمين، بل مضمون هذا الكلام تعظيم الرسول وتوقيره، وأنه لا يتكلم في حقه بكلام فيه نقص، بل قد أطلق القائل تكفير من نقص الرسول ﷺ أو تكلم بما يدل علي نقصه، وهذا مبالغة في تعظيمه، ووجوب الاحتراز من الكلام الذي فيه دلالة علي نقصه‏.‏
    ثم هو مع هذا بين أن علماء المسلمين المتكلمين في الدنيا باجتهادهم لا يجوز تكفير أحدهم بمجرد خطأ أخطأه في كلامه، وهذا كلام حسن تجب موافقته عليه؛ فإن تسليط الجهال علي تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين؛لما يعتقدون أنهم أخطؤوا فيه من الدين‏.‏ وقد اتفق أهل السنة والجماعة علي أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ، وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق، بل ولا يأثم، فإن الله تعالي قال في دعاء المؤمنين‏:‏
    ‏"‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وفي الصحيح عن النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏أن الله تعالي قال‏:‏ قد فعلت‏"‏‏.‏
    واتفق علماء المسلمين علي أنه لا يكفر أحد من علماء المسلمين المنازعين في عصمة الأنبياء، والذين قالوا‏:‏ إنه يجوز عليهم الصغائر والخطأ ولا يقرون

    ج/ 35 ص -101- علي ذلك لم يكفر أحد منهم علي ذلك باتفاق المسلمين؛ فإن هؤلاء يقولون‏:‏ إنهم معصومون من الإقرار علي ذلك، ولو كفر هؤلاء لزم تكفير كثير من الشافعية، والمالكية، والحنفية، والحنبلية، والأشعرية، وأهل الحديث، والتفسير، والصوفية، الذين ليسوا كفارًا باتفاق المسلمين، بل أئمة هؤلاء يقولون بذلك‏.‏
    فالذي حكاه عن الشيخ أبي حامد الغزالي قد قال مثله أئمة أصحاب الشافعي أصحاب الوجوه الذين هم أعظم في مذهب الشافعي من أبي حامد، كما قال الشيخ أبو حامد الإسفرائيني، الذي هو إمام المذهب بعد الشافعي، وابن سريج في تعليقه‏:‏ وذلك أن عندنا أن النبي ﷺ يجوز عليه الخطأ كما يجوز علينا، ولكن الفرق بيننا أنا نقر علي الخطأ والنبي ﷺ لا يقر عليه، وإنما يسهو ليسن، وروي عنه أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏إنما أسهو لأسن لكم‏"‏‏.‏
    وهذه المسألة قد ذكرها في أصول الفقه هذا الشيخ أبو حامد، وأبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وكذلك ذكرها بقية طوائف أهل العلم؛ من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة ومنهم من ادعي إجماع السلف علي هذا القول، كما ذكر ذلك عن أبي سليمان الخطابي ونحوه، ومع هذا فقد اتفق المسلمون علي أنه لا يكفر أحد من هؤلاء الأئمة، ومن كفرهم بذلك استحق العقوبة الغليظة التي تزجره

    ج/ 35 ص -102- وأمثاله عن تكفير المسلمين، وإنما يقال في مثال ذلك‏:‏ قولهم صواب أو خطأ‏.‏ فمن وافقهم قال‏:‏ إن قولهم الصواب‏.‏ ومن نازعهم قال‏:‏ إن قولهم خطأ، والصواب قول مخالفهم‏.‏
    وهذا المسؤول عنه كلامه يقتضي أنه لا يوافقهم علي ذلك، لكنه ينفي التكفير عنهم‏.‏ ومثل هذا تجب عقوبة من اعتدي عليه، ونسبه إلي تنقيص الرسول ﷺ أو العلماء، فإنه مصرح بنقيض هذا، وهذا‏.‏
    وقد ذكر القاضي عياض هذه المسألة، وهو من أبلغ القائلين بالعصمة، قسم الكلام في هذا الباب، إلي أن قال‏:‏ ‏[‏الوجه السابع‏]‏‏:‏ أن يذكر ما يجوز علي النبي ﷺ، ويختلف في إقراره عليه، وما يطرأ من الأمور البشرية منه ويمكن إضافتها إليه، أو يذكر ما امتحن به وصبر في ذات الله علي شدته من مقاسات أعدائه وأذاهم له، ومعرفة ابتداء حاله، وسيرته، وما لقيه من بؤس زمنه، ومر عليه من معانات عيشه، كل ذلك علي طريق الرواية، ومذاكرة العلم ومعرفة ما صحت به العصمة للأنبياء، وما يجوز عليهم‏.‏ فقال‏:‏ هذا فن خارج من هذه الفنون الستة؛ ليس فيه غمض ولا نقص ولا إزراء ولا استخفاف، ولا في ظاهر اللفظ ولا في مقصد اللافظ، لكن يجب أن يكون الكلام مع أهل العلم، وطلبة الدين ممن يفهم مقاصده، ويحققون فوائده، ويجنب ذلك ممن عساه لا يفقه، أو يخشى به فتنة‏.‏

    ج/ 35 ص -103- وقد ذكر القاضي عياض قبل هذا‏:‏ أن يقول القائل شيئاً من أنواع السب حاكيًا له عن غيره، وآثرًا له عن سواه‏:‏ فهذا ينظر في صورة حكايته، وقرينة مقالته، ويختلف الحكم باختلاف ذلك علي ‏[‏أربعة وجوه‏]‏ الوجوب، والندب، والكراهة، والتحريم‏.‏ ثم ذكر أنه يحمل من ذلك ما ذكره علي وجه الشهادة ونحوها مما فيه إقامة الحكم الشرعي علي القائل، أو علي وجه الرذالة والنقص علي قائله، بخلاف من ذكره لغير هذين‏.‏ قال‏:‏ وليس التفكه بعرض النبي ﷺ، والتمضمض بسوء ذكره لأحد لاذاكرًا، ولا آثرًا لغير غرض شرعي مباح‏.‏
    فقد تبين من كلام القاضي عياض أن ما ذكره هذا القائل ليس من هذا الباب فإنه من مسائل الخلاف، وأن ما كان من هذا الباب ليس لأحد أن يذكره لغير غرض شرعي مباح‏.‏
    وهذا القائل إنما ذكر لدفع التكفير عن مثل الغزالي وأمثاله من علماء المسلمين، ومن المعلوم أن المنع من تكفير علماء المسلمين الذين تكلموا في هذا الباب، بل دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطؤوا هو من أحق الأغراض الشرعية، حتى لو فرض أن دفع التكفير عن القائل يعتقد أنه ليس بكافر حماية له، ونصرًا لأخيه المسلم، لكان هذا غرضًا شرعيًا حسنًا، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيه فأخطأ فله أجر واحد‏.‏

    ج/ 35 ص -104- فبكل حال هذا القائل محمود علي ما فعل، مأجور علي ذلك، مثاب عليه إذا كانت له فيه نية حسنة ، والمنكر لما فعله أحق بالتعزير منه ؛ فإن هذا يقتضي قوله القدح في علماء المسلمين من الكفر ، ومعلوم أن الأول أحق بالتعزير من الثاني إن وجب التعزير لأحدهما ، وإن كان كل منهما مجتهدًا اجتهادًا سائغًا بحيث يقصد طاعة الله ورسوله بحسب استطاعته فلا إثم علي واحد منهما ، وسواء أصاب في هذا النقل أو أخطاء فليس في ذلك تنقيص للنبي ﷺ ‏.‏
    وكذلك أحضر النقل أو لم يحضره؛ فإنه ليس في حضوره فائدة، إذ ما نقله عن الغزالي قد قال مثله من علماء المسلمين من لا يحصي عددهم إلا الله تعالي، وفيهم من هو أجل من الغزالي، وفيهم من هو دونه‏.‏ ومن كفر هؤلاء استحق العقوبة باتفاق المسلمين، بل أكثر علماء المسلمين وجمهور السلف يقولون مثل ذلك، حتى المتكلمون، فإن أبا الحسن الأشعري قال‏:‏ أكثر الأشعرية والمعتزلة يقولون بذلك، ذكره في ‏[‏أصول الفقه‏]‏ وذكره صاحبه أبو عمرو بن الحاجب‏.‏ والمسألة عندهم من الظنيات، كما صرح بذلك الأستاذ أبو المعالي، وأبو الحسن الآمدي، وغيرهما، فكيف يكفر علماء المسلمين في مسائل الظنون‏؟‏‏!‏ أم كيف يكفر جمهور علماء المسلمين، أو جمهور سلف الأئمة وأعيان العلماء بغير حجة أصلاً‏؟‏‏!‏ والله تعالى أعلم‏.

    ج/ 35 ص -105-وسئل رحمه الله‏:‏
    ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في رجل قال‏:‏ أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ولم يصل، ولم يقم بشيء من الفرائض، وأنه لم يضره، ويدخل الجنة، وأنه قد حرم جسمه علي النار‏؟‏ وفي رجل يقول‏:‏ أطلب حاجتي من اللهومنك‏:‏ فهل هذا باطل، أم لا‏؟‏ وهل يجوز هذا القول، أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، إن من لم يعتقد وجوب الصلوات الخمس، والزكاة المفروضة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق، ولا يحرم ما حرم اللهورسوله من الفواحش، والظلم، والشرك، والإفك، فهو كافر مرتد، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل باتفاق أئمة المسلمين، ولا يغني عنه التكلم بالشهادتين‏.‏
    وإن قال‏:‏ أنا أقر بوجوب ذلك عَلَي، وأعلم أنه فرض، وأن من تركه كان مستحقًا لذم الله وعقابه، لكني لا أفعل ذلك، فهذا أيضًا مستحق للعقوبة

    ج/ 35 ص -106- في الدنيا والآخرة باتفاق المسلمين، ويجب أن يصلي الصلوات الخمس باتفاق العلماء‏.‏ وأكثر العلماء يقولون‏:‏ يؤمر بالصلاة، فإن لم يصل وإلا قتل‏.‏ فإذا أصر علي الجحود حتي قتل كان كافرًا باتفاق الأئمة، لا يغسل ولا يصلي عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين‏.‏
    ومن قال‏:‏ إن كل من تكلم بالشهادتين، ولم يؤد الفرائض، ولم يجتنب المحارم، يدخل الجنة، ولا يعذب أحد منهم بالنار، فهو كافر مرتد‏.‏ يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ بل الذين يتكلمون بالشهادتين أصناف؛ منهم منافقون في الدرك الأسفل من النار، كما قال تعالي‏:‏ ‏"
    ‏ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ‏"‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 145، 146‏]‏ وقال تعالي‏:‏ ‏"‏ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى‏"‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏142‏]‏، وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق؛ يرقب الشمس حتي إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعًا لا يذكر اللهفيها إلا قليلاً‏"‏، فبين النبي ﷺ أن الذي يؤخر الصلاة وينقرها منافق، فكيف بمن لا يصلي‏؟‏‏!‏ وقد قال تعالي‏:‏ ‏"‏ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِين َهُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ ‏"‏ ‏[‏الماعون‏:‏4‏:‏ 6‏]‏ قال العلماء‏:‏ الساهون عنها‏:‏ الذين يؤخرونها عن وقتها، والذين يفرطون في واجباتها‏.‏ فإذا كان هؤلاء المصلون الويل لهم، فكيف بمن لا يصلي‏؟‏‏!‏

    ج/ 35 ص -107- وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه يعرف أمته بأنهم غُرٌّ مُحَجَّلُون من آثار الوضوء‏"‏، وإنما تكون الغرة والتحجيل لمن توضأ وصلى، فابيض وجهه بالوضوء، وابيضت يداه ورجلاه بالوضوء، فصلى أغرا محجلا‏.‏ فمن لم يتوضأ ولم يصل لم يكن أغرا ولا محجلا، فلا يكون عليه سيما المسلمين التي هي الرنك للنبي ﷺ، مثل الرنك الذي يعرف به المقدم أصحابه، ولا يكن هذا من أمة محمد ﷺ‏.‏ وثبت في الصحيح‏:‏ أن النار تأكل من ابن آدم كل شيء إلا آثار السجود‏.‏ فمن لم يكن من أهل السجود للواحد المعبود، الغفور الودود، ذو العرش المجيد، أكلته النار‏.‏ وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏ليس بين العبد وبين الشرك إلا ترك الصلاة‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏أول ما يحاسب عليه العبد من عمله الصلاة‏"‏‏.‏
    ولا ينبغي للعبد أن يقول‏:‏ ما شاء اللهوشاء فلان، ومالي إلا اللهوفلان، وأطلب حاجتي من اللهثم من فلان، كما في الحديث عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏لا تقولوا‏:‏ ما شاء اللهوشاء محمد، ولكن قولوا ماشاء اللهثم شاء محمد‏"‏،وقال له رجل ‏:‏ ماشاء الله وشئت ، وفقال ‏:‏ ‏"‏ أجعلتني لله ندا ‏؟‏‏!‏ بل ما شاء اللهوحده ‏"‏‏.‏ والله أعلم، وصلى الله عليه محمد ‏.‏

    ج/ 35 ص -108- ما تقول السادة العلماء رضي الله عنهم في ‏[‏الحلاج الحسين بن منصور‏]‏ هل كان صديقًا‏؟‏ أو زنديقًا‏؟‏ وهل كان وليًا للّه متقيا له‏؟‏ أم كان له حال رحماني‏؟‏ أو من أهل السحر والخزعبلات‏؟‏ وهل قتل علي الزندقة بمحضر من علماء المسلمين‏؟‏ أو قتل مظلومًا‏؟‏ أفتونا مأجورين‏؟‏
    فأجاب شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية قدس الله روحه‏:‏ الحمد لله رب العالمين، الحلاج قتل علي الزندقة، التي ثبتت عليه بإقراره، وبغير إقراره والأمر الذي ثبت عليه بما يوجب القتل باتفاق المسلمين‏.‏ ومن قال‏:‏ إنه قتل بغير حق فهو إما منافق ملحد، وإما جاهل ضال‏.‏ والذي قتل به ما استفاض عنه من أنواع الكفر، وبعضه يوجب قتله، فضلاً عن جميعه‏.‏ ولم يكن من أولياء الله المتقين، بل كان له عبادات ورياضات ومجاهدات، بعضها شيطاني، وبعضها نفساني، وبعضها موافق للشريعة من وجه دون وجه، فلبس الحق بالباطل‏.‏
    وكان قد ذهب إلي بلاد الهند، وتعلم أنواعاً من السحر، وصنف كتابا في السحر معروفًا، وهو موجود إلي اليوم، وكان له أقوال شيطانية، ومخاريق بهتانية‏.‏

    ج/ 35 ص -109-وقد جمع العلماء أخباره في كتب كثيرة أرخوها، الذين كانوا في زمنه، والذين نقلوا عنهم مثل أبي علي الحطي ذكره في ‏[‏تاريخ بغداد‏]‏ والحافظ أبو بكر الخطيب ذكر له ترجمة كبيرة في ‏[‏تاريخ بغداد‏]‏ وأبو يوسف القزويني صنف مجلدًا في أخباره، وأبو الفرج بن الجوزي له فيه مصنف سماه‏:‏ ‏[‏رفع اللجاج في أخبار الحلاج‏]‏‏.‏ وبسط ذكره في تاريخه أبو عبد الرحمن السلمي في ‏[‏طبقات الصوفية‏]‏ أن كثيرا من المشائخ ذموه وأنكروا عليه، ولم يعدوه من مشائخ الطريق‏.‏ وأكثرهم حط عليه‏.‏ وممن ذمه وحط عليه أبو القاسم الجنيد، ولم يقتل في حياة الجنيد، بل قتل بعد موت الجنيد؛ فإن الجنيد توفي سنة ثمان وتسعين ومئتين‏.‏
    والحلاج قتل سنة بضع وثلاثمائة، وقدموا به إلي بغداد راكباً علي جمل ينادي عليه‏:‏ هذا داعي القرامطة‏!‏ وأقام في الحبس مدة حتي وجد من كلامه الكفر والزندقة، واعترف به، مثل أنه ذكر في كتاب له‏:‏ من فاته الحج فإنه يبني في داره بيتًا ويطوف به، كما يطوف بالبيت، ويتصدق علي ثلاثين يتيمًا بصدقة ذكرها، وقد أجزأه ذلك عن الحج‏.‏ فقالوا له‏:‏ أنت قلت هذا‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فقالوا له‏:‏ من أين لك هذا‏؟‏ قال‏:‏ ذكره الحسن البصري في‏[‏كتاب الصلاة‏]‏، فقال له القاضي أبو عمر‏:‏ تكذب يازنديق‏!‏ أنا قرأت هذا الكتاب وليس هذا فيه، فطلب منهم الوزير أن يشهدوا بما سمعوه، ويفتوا بما يجب عليه، فاتفقوا علي وجوب قتله‏.‏

    ج/ 35 ص -110- لكن العلماء لهم قولان في الزنديق إذا أظهر التوبة‏:‏ هل تقبل توبته فلا يقتل‏؟‏ أم يقتل؛ لأنه لا يعلم صدقه؛ فإنه ما زال يظهر ذلك‏؟‏ فأفتي طائفة بأنه يستتاب فلا يقتل، وأفتي الأكثرون بأنه يقتل وإن أظهر التوبة، فإن كان صادقًا في توبته نفعه ذلك عند الله وقتل في الدنيا، وكان الحد تطهيرًا له، كما لو تاب الزاني والسارق ونحوهما بعد أن يرفعوا إلي الإمام، فإنه لابد من إقامة الحد عليهم، فإنهم إن كانوا صادقين كان قتلهم كفارة لهم، ومن كان كاذبًا في التوبة كان قتله عقوبة له‏.‏
    فإن كان الحلاج وقت قتله تاب في الباطن فإن الله ينفعه بتلك التوبة، وإن كان كاذبًا فإنه قتل كافرًا‏.‏
    ولما قُتل لم يظهر له وقت القتل شيء من الكرامات، وكل من ذكر أن دمه كتب علي الأرض اسم الله، وأن رجله انقطع ماؤها، أو غير ذلك، فإنه كاذب‏.‏ وهذه الأمور لا يحكيها إلا جاهل أو منافق، وإنما وضعها الزنادقة وأعداء الإسلام، حتي يقول قائلهم‏:‏ إن شرع محمد بن عبد الله يقتل أولياء الله‏.‏ حتي يسمعوا أمثال هذه الهذيانات، وإلا فقد قتل أنبياء كثيرون، وقتل من أصحابهم وأصحاب نبينا ﷺ والتابعين وغيرهم من الصالحين من لا يحصي عددهم إلا الله، قتلوا بسيوف الفجار والكفار والظلمة غيرهم، ولم يكتب دم أحدهم اسم الله‏.‏ والدم أيضًا نجس،

    ج/ 35 ص -111- فلا يجوز أن يكتب به اسم الله تعالي‏.‏ فهل الحلاج خير من هؤلاء، ودمه أطهر من دمائهم‏؟‏‏!‏ وقد جزع وقت القتل، وأظهر التوبة والسنة فلم يقبل ذلك منه‏.‏ ولو عاش افتتن به كثير من الجهال؛ لأنه كان صاحب خزعبلات بهتانية، وأحوال شيطانية‏.‏
    ولهذا إنما يعظمه من يعظم الأحوال الشيطانية، والنفسانية، والبهتانية‏.‏ وأما أولياء الله العالمون بحال الحلاج فليس منهم واحد يعظمه؛ ولهذا لم يذكره القشيري في مشائخ رسالته، وإن كان قد ذكر من كلامه كلمات استحسنها‏.‏ وكان الشيخ أبو يعقوب النهرجوري قد زوجه بابنته، فلما اطلع علي زندقته نزعها منه‏.‏ وكان عمرو بن عثمان يذكر أنه كافر، ويقول‏:‏ كنت معه فسمع قارئًا يقرأ القرآن، فقال‏:‏ أقدر أن أصنف مثل هذا القرآن‏.‏ أو نحو هذا من الكلام‏.‏
    وكان يظهر عند كل قوم ما يستجلبهم به إلي تعظيمه، فيظهر عند أهل السنة أنه سني، وعند أهل الشيعة أنه شيعي، ويلبس لباس الزهاد تارة، ولباس الأجناد تارة‏.‏
    وكان من ‏[‏مخاريقه‏]‏ أنه بعث بعض أصحابه إلي مكان في البرية يخبأ فيه شيئًا من الفاكهة والحلوي، ثم يجيء بجماعة من أهل الدنيا إلي قريب من

    ج/ 35 ص -112- ذلك المكان، فيقول لهم‏:‏ ما تشتهون أن آتيكم به من هذه البرية‏؟‏ فيشتهي أحدهم فاكهة، أو حلاوة، فيقول‏:‏ امكثوا، ثم يذهب إلي ذلك المكان ويأتي بما خبأ أو ببعضه، فيظن الحاضرون أن هذه كرامة له‏!‏‏!‏ وكان صاحب سيما وشياطين تخدمه أحيانًا، كانوا معه علي جبل أبي قُبَيْس، فطلبوا منه حلاوة، فذهب إلي مكان قريب منهم وجاء بصحن حلوي، فكشفوا الأمر فوجدوا ذلك قد سرق من دكان حلاوي باليمن، حمله شيطان من تلك البقعة‏.‏
    ومثل هذا يحصل كثيرًا لغير الحلاج ممن له حال شيطاني، ونحن نعرف كثيرًا من هؤلاء في زماننا وغير زماننا؛ مثل شخص هو الآن بدمشق كان الشيطان يحمله من جبل الصالحية إلي قرية حول دمشق، فيجيء من الهوي إلي طاقة البيت الذي فيه الناس، فيدخل وهم يرونه‏.‏ ويجيء بالليل إلي ‏[‏باب الصغير‏]‏ فيعبر منه هو ورفقته، وهو من أفجر الناس‏.‏
    وآخر كان بالشويك، في قرية يقال لها‏:‏ ‏[‏الشاهدة‏]‏ يطير في الهوي إلي رأس الجبل والناس يرونه، وكان شيطان يحمله، وكان يقطع الطريق‏.‏ وأكثرهم شيوخ الشر، يقال لأحدهم ‏[‏البوي‏]‏أي المخبث، ينصبون له حركات في ليلة مظلمة، ويصنعون خبزًا علي سبيل القربات، فلا يذكرون الله، ولا يكون عندهم من يذكر الله، ولا كتاب فيه ذكر الله؛ ثم يصعد ذلك

    ج/ 35 ص -113- البوي في الهوي، وهم يرونه‏.‏ ويسمعون خطابه للشيطان، وخطاب الشيطان له، ومن ضحك أو شرق بالخبز ضربه الدف‏.‏ ولا يرون من يضرب به‏.‏
    ثم إن الشيطان يخبرهم ببعض ما يسألونه عنه، ويأمرهم بأن يقربوا له بقرًا وخيلاً وغير ذلك، وأن يخنقوها خنقًا ولا يذكرون اسم الله عليها، فإذا فعلوا قضي حاجتهم‏.‏
    وشيخ آخر أخبر عن نفسه أنه كان يزني بالنساء، ويتلوط بالصبيان الذين يقال لهم‏:‏ ‏[‏الحوارات‏]‏، وكان يقول‏:‏ يأتيني كلب أسود بين عينيه نكتتان بيضاوان، فيقول لي‏:‏ فلان، إن فلانا نذر لك نذرًا، وغدًا يأتيك به، وأنا قضيت حاجته لأجلك، فيصبح ذلك الشخص يأتيه بذلك النذر، ويكاشفه هذا الشيخ الكافر‏.‏ قال‏:‏ وكنت إذا طلب مني تغيير مثل اللاذن أقول حتي أغيب عن عقلي؛ وإذ باللاذن في يدي، أو في فمي وأنا لا أدري من وضعه‏!‏‏!‏ قال‏:‏ وكنت أمشي وبين يدي عمود أسود عليه نور فلما تاب هذا الشيخ، وصار يصلي، ويصوم ويجتنب المحارم، ذهب الكلب الأسود وذهب التغيير؛ فلا يؤتي بلاذن ولا غيره‏.‏
    وشيخ آخر كان له شياطين يرسلهم يصرعون بعض الناس، فيأتي أهل ذلك المصروع إلي الشيخ يطلبون منه إبراءه، فيرسل إلي أتباعه فيفارقون ذلك

    ج/ 35 ص -114- المصروع، ويعطون ذلك الشيخ دراهم كثيرة، وكان أحيانًا تأتيه الجن بدراهم وطعام تسرقه من الناس، حتي إن بعض الناس كان له تين في كوارة، فيطلب الشيخ من شياطينه تينا، فيحضرونه له، فيطلب أصحاب الكوارة التين فوجدوه قد ذهب‏.‏
    وآخر كان مشتغلاً بالعلم والقراءة، فجاءته الشياطين أغرته، وقالوا له‏:‏ نحن نسقط عنك الصلاة، ونحضر لك ما تريد، فكانوا يأتونه بالحلوي والفاكهة، حتي حضر عند بعض الشيوخ العارفين بالسنة فاستتابه، وأعطي أهل الحلاوة ثمن حلاوتهم التي أكلها ذلك المفتون بالشيطان‏.‏
    فكل من خرج عن الكتاب والسنة، وكان له حال من مكاشفة، أو تأثير، فإنه صاحب حال نفساني، أو شيطاني، وإن لم يكن له حال، بل هو يتشبه بأصحاب الأحوال فهو صاحب محال بهتاني‏.‏ وعامة أصحاب الأحوال الشيطانية يجمعون بين الحال الشيطاني والحال البهتاني، كما قال تعالي‏:‏ ‏
    "‏ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏"‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 221، 222‏]‏‏.‏
    و‏[‏الحلاج‏]‏ كان من أئمة هؤلاء أهل الحال الشيطاني ، والحال البهتاني‏.‏ وهؤلاء طوائف كثيرة‏.‏

    ج/ 35 ص -115- فأئمة هؤلاء هم شيوخ المشركين الذين يعبدون الأصنام مثل الكهان والسحرة الذين كانوا للعرب المشركين، ومثل الكهان الذين هم بأرض الهند والترك وغيرهم‏.‏
    ومن هؤلاء من إذا مات لهم ميت يعتقدون أنه يجيء بعد الموت، فيكلمهم ويقضي ديونه، ويرد ودائعه ويوصيهم بوصايا، فإنهم تأتيهم تلك الصورة التي كانت في الحياة، وهو شيطان يتمثل في صورته، فيظنونه إياه‏.‏
    وكثير ممن يستغيث بالمشائخ فيقول‏:‏ يا سيدي فلان، أو يا شيخ فلان، اقض حاجتي‏.‏ فيري صورة ذلك الشيخ تخاطبه، ويقول‏:‏ أنا أقضي حاجتك وأطيب قلبك فيقضي حاجته، أو يدفع عنه عدوه، ويكون ذلك شيطانا قد تمثل في صورته لما أشرك بالله فدعي غيره‏.‏
    وأنا أعرف من هذا وقائع متعددة، حتي إن طائفة من أصحابي ذكروا أنهم استغاثوا بي في شدائد أصابتهم‏.‏ أحدهم كان خائفًا من الأرمن، والآخر كان خائفًا من التتر، فذكر كل منهم أنه لما استغاث بي رآني في الهوي وقد دفعت عنه عدوه ‏.‏ فأخبرتهم أني لم أشعر بهذا، ولا دفعت عنكم شيئًا، وإنما هذا الشيطان تمثل لأحدهم فأغواه لما أشرك بالله تعالي‏.‏ وهكذا جري لغير واحد من أصحابنا المشائخ مع أصحابهم، يستغيث أحدهم بالشيخ، فيرى

    ج/ 35 ص -116- الشيخ قد جاء وقضي حاجته، ويقول ذلك الشيخ‏:‏ إني لم أعلم بهذا، فيتبين أن ذلك كان شيطانا وقد قلت لبعض أصحابنا لما ذكر لي أنه استغاث باثنين كان يعتقدهما، وأنهما أتياه في الهوي، وقالا له‏:‏ طيب قلبك، نحن ندفع عنك هؤلاء، ونفعل، ونصنع‏.‏ قلت له‏:‏ فهل كان من ذلك شيء‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏.‏ فكان هذا مما دله علي أنهما شيطانان؛ فإن الشياطين وإن كانوا يخبرون الإنسان بقضية أو قصة فيها صدق، فإنهم يكذبون أضعاف ذلك، كما كانت الجن يخبرون الكهان‏.‏
    ولهذا من اعتمد علي مكاشفته التي هي من أخبار الجن كان كذبه أكثر من صدقه؛ كشيخ كان يقال له‏:‏ ‏[‏الشياح‏]‏ توبناه، وجددنا إسلامه، كان له قرين من الجن يقال له‏:‏ ‏[‏عنتر‏]‏ يخبره بأشياء، فيصدق تارة ويكذب تارة، فلما ذكرت له أنك تعبد شيطانًا من دون الله، اعترف بأنه يقول له‏:‏ يا عنتر، لا سبحانك؛ إنك إله قذر، وتاب من ذلك، في قصة مشهورة‏.‏
    وقد قتل سيف الشرع من قتل من هؤلاء مثل الشخص الذي قتلناه سنة خمس عشرة، وكان له قرين يأتيه ويكاشفه فيصدق تارة، ويكذب تارة‏.‏ وقد انقاد له طائفة من المنسوبين إلي أهل العلم والرئاسة، فيكاشفهم حتي كشف الله لهم‏.‏ وذلك أن القرين كان تارة يقول له‏:‏ أنا رسول الله‏.‏ ويذكر أشياء

    ج/ 35 ص -117- تنافي حال الرسول، فشهد عليه أنه قال‏:‏ إن الرسول يأتيني، ويقول لي كذا وكذا من الأمور التي يكفر من أضافها إلي الرسول؛ فذكرت لولاة الأمور أن هذا من جنس الكهان، وأن الذي يراه شيطانا؛ ولهذا لا يأتيه في الصورة المعروفة للنبي ﷺ، بل يأتيه في صورة منكرة، ويذكر عنه أنه يخضع له، ويبيح له أن يتناول المسكر وأمورًا أخري وكان كثيرًا من الناس يظنون أنه كاذب فيما يخبر به من الرؤية؛ ولم يكن كاذبًا في أنه رأي تلك الصورة، لكن كان كافرًا في اعتقاده أن ذلك رسول الله، ومثل هذا كثير‏.‏
    ولهذا يحصل لهم تنزلات شيطانية بحسب ما فعلوه من مراد الشيطان، فكلما بعدوا عن الله ورسوله ﷺ وطريق المؤمنين قربوا من الشيطان‏.‏فيطيرون في الهواء؛ والشيطان طار بهم ومنهم من يصرع الحاضرين، وشياطينه صرعتهم‏.‏ ومنهم من يحضر طعامًا وإدامًا، وملأ الإبريق ماء من الهوي، والشياطين فعلت ذلك، فيحسب الجاهلون أن هذه كرامات أولياء الله المتقين، وإنما هي من جنس أحوال السحرة والكهنة وأمثالهم‏.‏
    ومن لم يميز بين الأحوال الرحمانية والنفسانية اشتبه عليه الحق بالباطل، ومن لم ينور الله قلبه بحقائق الإيمان واتباع القرآن لم يعرف طريق المحق من

    ج/ 35 ص -118- المبطل، والتبس عليه الأمر والحال، كما التبس علي الناس حال مسيلمة صاحب اليمامة وغيره من الكذابين في زعمهم أنهم أنبياء، وإنما هم كذابون، وقد قال ﷺ‏:‏ ‏"‏لا تقوم الساعة حتي يكون فيكم ثلاثون دجالون كذابون، كلهم يزعم أنه رسول الله‏"‏‏.‏
    وأعظم الدجاجلة فتنة ‏[‏الدجال الكبير‏]‏ الذي يقتله عيسي ابن مريم؛ فإنه ما خلق الله من لدن آدم إلي قيام الساعة أعظم من فتنته، وأمر المسلمين أن يستعيذوا من فتنته في صلاتهم‏.‏ وقد ثبت ‏"‏أنه يقول للسماء‏:‏ أمطري، فتمطر، وللأرض أنبتي، فتنبت، وأنه يقتل رجلاً مؤمنًا، ثم يقول له‏:‏ قم فيقوم؛ فيقول‏:‏ أنا ربك، فيقول له كذبت، بل أنت الأعور الكذاب الذي أخبرنا عنه رسول الله ﷺ، والله ما ازددت فيك إلا بصيرة، فيقتله مرتين، فيريد أن يقتله في الثالثة فلا يسلطه الله عليه‏"‏، وهو يدعي الإلهية‏.‏ وقد بين له النبي ﷺ ثلاث علامات تنافي ما يدعيه‏:‏ أحدها‏:‏ ‏"‏أنه أعور، وأن ربكم ليس بأعور‏"‏‏.‏ والثانية‏:‏ ‏"‏أنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن من قارئ وغير قارئ‏"‏‏.‏ والثالثة‏:‏ قوله‏:‏ ‏"‏واعلموا أن أحدكم لا يري ربه حتى يموت‏"‏‏.‏

    ج/ 35 ص -119- فهذا هو الدجال الكبير ودونه دجاجلة، منهم من يدعي النبوة، ومنهم من يكذب بغير ادعاء النبوة كما قال ﷺ‏:‏ ‏"‏يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم‏"‏‏.
    فالحلاج كان من الدجاجلة بلا ريب، ولكن إذا قيل‏:‏ هل تاب قبل الموت، أم لا‏؟‏ قال الله أعلم، فلا يقول ما ليس له به علم، ولكن ظهر عنه من الأقوال والأعمال ما أوجب كفره وقتله باتفاق المسلمين والله أعلم به‏.‏

    ج/ 35 ص -120-وَسئل رَحمه اللّه تعالي عن ‏[‏المعز معد بن تميم‏]‏ الذي بني القاهرة، والقصرين‏:‏ هل كان شريفًا فاطميا‏؟‏ وهل كان هو وأولاده معصومين‏؟‏ وأنهم أصحاب العلم الباطن‏؟‏ وإن كانوا ليسوا أشرافًا‏:‏ فما الحجة علي القول بذلك‏؟‏ وإن كانوا علي خلاف الشريعة‏:‏ فهل هم ‏[‏بغاة‏]‏ أم لا‏؟‏ وما حكم من نقل ذلك عنهم من العلماء المعتمدين الذين يحتج بقولهم‏؟‏ ولتبسطوا القول في ذلك‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، أما القول بأنه هو أو أحد من أولاده أو نحوهم كانوا معصومين من الذنوب والخطأ، كما يدعيه الرافضة في ‏[‏الاثني عشر‏]‏، فهذا القول شر من قول الرافضة بكثير‏:‏ فإن الرافضة ادعت ذلك فيمن لا شك في إيمانه وتقواه، بل فيمن لا يشك أنه من أهل الجنة؛ كعلي، والحسن، والحسين رضي الله عنهم‏.‏ ومع هذا فقد اتفق أهل العلم والإيمان علي أن هذا القول من أفسد الأقوال، وأنه من أقوال أهل الإفك والبهتان؛ فإن العصمة في ذلك ليست لغير الأنبياء عليهم السلام‏.‏
    بل كان من سوي الأنبياء يؤخذ من قوله ويترك، ولا تجب طاعة من سوي الأنبياء والرسل في كل ما يقول، ولا يجب علي الخلق اتباعه والإيمان

    ج/ 35 ص -121- به في كل ما يأمر به ويخبر به، ولا تكون مخالفته في ذلك كفرًا، بخلاف الأنبياء، بل إذا خالفه غيره من نظرائه وجب علي المجتهد النظر في قوليهما، وأيهما كان أشبه بالكتاب والسنة تابعه، كما قال تعالي‏:‏ ‏"‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ‏"‏ [‏النساء‏:‏ 59‏]‏، فأمر عند التنازع بالرد إلي الله وإلي الرسول؛ إذ المعصوم لا يقول إلا حقًا‏.‏ ومن علم أنه قال الحق في موارد النزاع وجب اتباعه، كما لو ذكر آية من كتاب الله تعالي، أو حديثًا ثابتًا عن رسول الله ﷺ يقصد به قطع النزاع‏.‏
    أما وجوب اتباع القائل في كل ما يقوله من غير ذكر دليل علي صحة ما يقول فليس بصحيح، بل هذه المرتبة هي ‏[‏مرتبة الرسول‏]‏ التي لا تصلح إلا له، كما قال تعالي‏:‏
    ‏"‏ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا‏"‏ [‏النساء‏:‏ 65‏]‏، وقال تعالي‏:‏‏"‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ‏"‏[‏النساء‏:‏ 64‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏"‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏"‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ‏"‏[‏الأحزاب‏:‏ 36‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏"‏إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏"‏[‏النور‏:‏ 51‏]‏،

    ج/ 35 ص -122-وقال‏:‏ ‏"‏وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏"‏تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ‏"‏[‏النساء‏:‏ 13، 14‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏"‏رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ‏"‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏"‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏"‏لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 12‏]‏، وأمثال هذه في القرآن كثير، بين فيه سعادة من آمن بالرسل واتبعهم وأطاعهم، وشقاوة من لم يؤمن بهم ولم يتبعهم، بل عصاهم‏.‏
    فلو كان غير الرسول معصومًا فيما يأمر به وينهي عنه لكان حكمه ذلك حكم الرسول، والنبي المبعوث إلي الخلق رسول إليهم، بخلاف من لم يبعث إليهم‏.‏ فمن كان آمرًا ناهيا للخلق؛ من إمام، وعالم، وشيخ، وأولي أمر غير هؤلاء من أهل البيت أو غيرهم، وكان معصومًا، كان بمنزلة الرسول في ذلك، وكان من أطاعه وجبت له الجنة، ومن عصاه وجبت له النار، كما يقوله القائلون بعصمة علي أو غيره من الأئمة، بل من أطاعه يكون مؤمنًا، ومن عصاه يكون كافرًا، وكان هؤلاء كأنبياء بني إسرائيل، فلا

    ج/ 35 ص -123- يصح حينئذ قول النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏لا نبي بعدي‏"‏‏.‏
    وفي السنن عنه ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا إنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر‏"‏‏.‏ فغاية العلماء من الأئمة وغيره من هذه الأمة أن يكونوا ورثة أنبياء‏.‏
    وأيضًا فقد ثبت بالنصوص الصحيحة والإجماع أن النبي ﷺ قال للصديق في تأويل رؤيا عبرها‏:‏
    ‏"‏أصبت بعضًا، وأخطأت بعضًا‏"‏، وقال الصديق‏:‏ أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم‏.‏ وغضب مرة علي رجل فقال له أبو بردة‏:‏ دعني أضرب عنقه فقال له‏:‏ أكنت فاعلاً‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ ما كانت لأحد بعد رسول الله ﷺ‏.‏ ولهذا اتفق الأئمة علي أن من سب نبيا قتل، ومن سب غير النبي لا يقتل بكل سب سبه، بل يفصل في ذلك‏:‏ فإن من قذف أم النبي ﷺ، قتل مسلمًا كان أو كافرًا‏:‏ لأنه قدح في نسبه، ولو قذف غير أم النبي ﷺ ممن لم يعلم براءتها لم يقتل‏.‏
    وكذلك عمر بن الخطاب كان يقر علي نفسه في مواضع بمثل هذه، فيرجع عن أقوال كثيرة إذا تبين له الحق في خلاف ما قال، ويسأل الصحابة عن بعض السنة حتي يستفيدها منهم، ويقول في مواضع‏:‏ والله ما يدري عمر أصاب الحق أو أخطأه، ويقول‏:‏ امرأة أصابت، ورجل أخطأ، ومع هذا فقد ثبت في

    ج/ 35 ص -124- الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر‏"‏، وفي الترمذي‏:‏ ‏"‏لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏إن الله ضرب الحق علي لسان عمر وقلبه‏"‏، فإذا كان المحدث الملهم الذي ضرب الله الحق علي لسانه وقلبه بهذه المنزلة يشهد علي نفسه بأنه ليس بمعصوم، فكيف بغيره من الصحابة وغيرهم الذين لم يبلغوا منزلته‏؟‏‏!‏
    فإن أهل العلم متفقون علي أن أبا بكر وعمر أعلم من سائر الصحابة، وأعظم طاعة لله ورسوله من سائرهم، وأولي بمعرفة الحق واتباعه منهم، وقد ثبت بالنقل المتواتر الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر‏"‏، روي ذلك عنه من نحو ثمانين وجهًا، وقال علي رضي الله عنه ‏:‏ لا أوتي بأحد يفضلني علي أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري‏.‏
    والأقوال المأثورة عن عثمان وعلي وغيرهما من الصحابة كثرة‏.‏
    بل أبو بكر الصديق لا يحفظ له فتيا أفتي فيها بخلاف نص النبي ﷺ، وقد وجد لعلي وغيره من الصحابة من ذلك أكثر مما وجد لعمر، وكان الشافعي رضي الله عنه يناظر بعض فقهاء الكوفة في مسائل الفقه، فيحتجون عليه بقول علي، فصنف كتاب ‏[‏اختلاف علي وعبد الله بن مسعود‏]‏، وبين فيه مسائل كثيرة تركت من قولهما‏:‏ لمجيء السنة بخلافها، وصنف بعده محمد بن نصر الثوري كتابًا أكبر من ذلك، كما ترك من قول علي رضي الله عنه

    ج/ 35 ص -125- أن المعتدة المتوفي عنها إذا كانت حاملاً فإنها تعتد أبعد الأجلين، ويروي ذلك عن ابن عباس أيضًا، واتفقت أئمة الفتيا علي قول عثمان وابن مسعود وغيرهما في ذلك، وهو أنها إذا وضعت حملها حلت، لما ثبت عن النبي ﷺ‏:‏ أن سبيعة الأسلمية كانت قد وضعت بعد زوجها بليال، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك، فقال‏:‏ ما أنت بناكح حتي تمر عليك أربعة أشهر وعشرًا، فسألت النبي ﷺ عن ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏كذب أبو السنابل‏.‏ حللت فانكحي‏"‏‏.‏ فكذب النبي ﷺ من قال بهذه الفتيا‏.‏ وكذلك المفوضة التي تزوجها زوجها ومات عنها ولم يفرض لها مهر قال فيها علي وابن عباس‏:‏ إنها لا مهر لها، وأفتي فيها ابن مسعود وغيره‏:‏ إن لها مهر المثل، فقام رجل من أشجع فقال‏:‏ نشهد‏:‏ أن رسول الله ﷺ قضي في بروع بنت واشق بمثل ما قضيت به في هذه‏.‏ ومثل هذا كثير‏.‏
    وقد كان علي وابناه وغيرهم يخالف بعضهم بعضًا في العلم والفتيا، كما يخالف سائر أهل العلم بعضهم بعضًا، ولو كانوا معصومين لكان مخالفة المعصوم للمعصوم ممتنعة، وقد كان الحسن في أمر القتال يخالف أباه ويكره كثيرًا مما يفعله، ويرجع علي رضي الله عنه في آخر الأمر إلي رأيه، وكان يقول‏:‏
    لئن عجزت عجزةً لا أعتذر
    سوف أكيس بعدها وأستمر
    وأجبر الرأي النسيب المنتشر

    ج/ 35 ص -126- وتبين له في آخر عمره أن لو فعل غير الذي كان فعله لكان هو الأصوب، وله فتاوي رجع ببعضها عن بعض، كقوله في أمهات الأولاد، فإن له فيها قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ المنع من بيعهن، والثاني‏:‏ إباحة ذلك‏.‏ والمعصوم لا يكون له قولان متناقضان، إلا أن يكون أحدهما ناسخًا للآخر، كما في قول النبي ﷺ السنة استقرت فلا يرد عليها بعده نسخ إذ لا نبي بعده‏.‏
    وقد وصي الحسن أخاه الحسين بألا يطيع أهل العراق، ولا يطلب هذا الأمر، وأشار عليه بذلك ابن عمر وابن عباس وغيرهما ممن يتولاه ويحبه ورأوا أن مصلحته ومصلحة المسلمين ألا يذهب إليهم، لا يجيبهم إلي ما قالوه من المجيء إليهم والقتال معهم، وإن كان هذا هو المصلحة له وللمسلمين، ولكنه رضي الله عنه فعل ما رآه مصلحة، والرأي يصيب ويخطئ‏.‏ والمعصوم ليس لأحد أن يخالفه؛ وليس له أن يخالف معصومًا آخر، إلا أن يكونا علي شريعتين، كالرسولين، ومعلوم أن شريعتهما واحدة‏.‏ وهذا باب واسع مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏
    والمقصود أن من ادعي عصمة هؤلاء السادة، المشهود لهم بالإيمان والتقوي والجنة‏:‏ هو في غاية الضلال والجهالة، ولم يقل هذا القول من له في الأمة لسان صدق، بل ولا من له عقل محمود‏.‏

    ج/ 35 ص -127- فكيف تكون العصمة في ذرية ‏[‏عبد الله بن ميمون القداح‏]‏ مع شهرة النفاق والكذب والضلال‏؟‏‏!‏ وهب أن الأمر ليس كذلك ، فلا ريب أن سيرتهم من سيرة الملوك، وأكثرها ظلمًا وانتهاكًا للمحرمات، وأبعدها عن إقامة الأمور والواجبات، وأعظم إظهارًا للبدع المخالفة للكتاب والسنة، وإعانة لأهل النفاق والبدعة‏.‏
    وقد اتفق أهل العلم علي أن دولة بني أمية وبني العباس أقرب إلي الله ورسوله من دولتهم، وأعظم علماً وإيمانًا من دولتهم، وأقل بدعًا وفجورًا من بدعتهم، وأن خليفة الدولتين أطوع لله ورسوله من خلفاء دولتهم، ولم يكن في خلفاء الدولتين من يجوز أن يقال فيه إنه معصوم، فكيف يدعي العصمة من ظهرت عنه الفواحش والمنكرات، والظلم والبغي، والعدوان والعداوة لأهل البر والتقوي من الأمة، والاطمئنان لأهل الكفر والنفاق‏؟‏‏!‏ فهم من أفسق الناس‏.‏ ومن أكفر الناس‏.‏ وما يدعي العصمة في النفاق والفسوق إلا جاهل مبسوط الجهل، أو زنديق يقول بلا علم‏.‏
    ومن المعلوم الذي لا ريب فيه أن من شهد لهم بالإيمان والتقوي، أو بصحة النسب فقد شهد لهم بما لا يعلم، وقد قال الله تعالي‏:‏
    ‏"‏وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 36‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏"‏إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏"‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 68‏]‏، وقال عن إخوة يوسف‏:‏ ‏"‏وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 81‏]‏، وليس أحد من الناس يعلم صحة نسبهم

    ج/ 35 ص -128- ولا بثبوت إيمانهم وتقواهم، فإن غاية ما يزعمه أنهم كانوا يظهرون الإسلام والتزام شرائعه، وليس كل من أظهر الإسلام يكون مؤمنًا في الباطن؛ إذ قد عرف في المظهرين للإسلام المؤمن والمنافق، قال الله تعالي‏:‏ ‏"‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏"‏إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ‏"‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏، وقال تعالي ‏"‏قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ‏"‏ ‏[‏الحجرات‏:‏14‏]‏، وهؤلاء القوم يشهد عليهم علماء الأمة وأئمتها وجماهيرها أنهم كانوا منافقين زنادقة، يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فإذا قدر أن بعض الناس خالفهم في ذلك صار في إيمانهم نزاع مشهور‏.‏ فالشاهد لهم بالإيمان شاهد لهم بما لا يعلمه؛ إذ ليس معه شيء يدل علي إيمانهم مثل ما مع منازعيه ما يدل علي نفاقهم وزندقتهم‏.‏
    وكذلك ‏[‏النسب‏]‏، قد علم أن جمهور الأمة تطعن في نسبهم، ويذكرون أنهم من أولاد المجوس، أو اليهود‏.‏ هذا مشهور من شهادة علماء الطوائف؛ من الحنيفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وأهل الحديث، وأهل الكلام، وعلماء النسب، والعامة، وغيرهم‏.‏ وهذا أمر قد ذكره عامة المصنفين لأخبار الناس وأيامهم، حتي بعض من قد يتوقف في أمرهم كابن الأثير الموصلي في تاريخه ونحوه؛ فإنه ذكر ما كتبه علماء المسلمين بخطوطهم في القدح في نسبهم‏.‏

    ج/ 35 ص -129- وأما جمهور المصنفين من المتقدمين والمتأخرين حتي القاضي ابن خلكان في تاريخه، فإنهم ذكروا بطلان نسبهم، وكذلك ابن الجوزي، وأبو شامة وغيرهما من أهل العلم بذلك، حتي صنف العلماء في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، كما صنف القاضي أبو بكر الباقلاني كتابة المشهور في كشف أسرارهم وهتك أستارهم ، وذكر أنهم من ذرية المجوس، وذكر من مذاهبهم ما بين فيه أن مذاهبهم شر من مذاهب اليهود والنصاري، بل ومن مذاهب الغالية الذين يدعون إلهية علي أو نبوته، فهم أكفر من هؤلاء، وكذلك ذكر القاضي أبو يعلي في كتابه ‏[‏المعتمد‏]‏ فصلاً طويلاً في شرح زندقتهم وكفرهم، وكذلك ذكر أبو حامد الغزالي في كتابه الذي سماه ‏[‏فضائل المستظهرية، وفضائح الباطنية‏]‏ قال‏:‏ ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض‏.‏
    وكذلك القاضي عبد الجبار بن أحمد وأمثاله من المعتزلة المتشيعة الذين لا يفضلون علي علي غيره، بل يفسقون من قاتله ولم يتب من قتاله، يجعلون هؤلاء من أكابر المنافقين الزنادقة‏.‏ فهذه مقالة المعتزلة في حقهم، فكيف تكون مقالة أهل السنة والجماعة‏؟‏‏!‏ والرافضة الإمامية مع أنهم من أجهل الخلق، وأنهم ليس لهم عقل ولا نقل، ولا دين صحيح، ولا دنيا منصورة نعم يعلمون أن مقالة هؤلاء مقالة الزنادقة المنافقين، ويعلمون أن مقالة هؤلاء

    ج/ 35 ص -130- الباطنية شر من مقالة الغالية الذين يعتقدون إلهية علي رضي الله عنه ‏.‏ وأما القدح في نسبهم فهو مأثور عن جماهير علماء الأمة من علماء الطوائف‏.‏
    وقد تولي الخلافة غيرهم طوائف، وكان في بعضهم من البدعة والظلم ما فيه، فلم يقدح الناس في نسب أحد من أولئك، كما قدحوا في نسب هؤلاء ولا نسبوهم إلي الزندقة والنفاق كما نسبوا هؤلاء‏.‏ وقد قام من ولد علي طوائف؛ من ولد الحسن، وولد الحسين، كمحمد بن عبد الله بن حسن، وأخيه إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وأمثالهما‏.‏ ولم يطعن أحد لا من أعدائهم ولا من غير أعدائهم لا في نسبهم ولا في إسلامهم، وكذلك الداعي القائم بطبرستان وغيره من العلويين، وكذلك بنو حمود الذين تغلبوا بالأندلس مدة، وأمثال هؤلاء لم يقدح أحد في نسبهم، ولا في إسلامهم، وقد قتل جماعة من الطالبيين من علي الخلافة، لاسيما في الدولة العباسية، وحبس طائفة كموسي بن جعفر وغيره، ولم يقدح أعداؤهم في نسبهم، ولا دينهم‏.‏
    وسبب ذلك أن الأنساب المشهورة أمرها ظاهر متدارك مثل الشمس لا يقدر العدو أن يطفئه، وكذلك إسلام الرجل وصحة إيمانه بالله والرسول أمر لا يخفي، وصاحب النسب والدين لو أراد عدوه أن يبطل نسبه ودينه وله هذه الشهرة لم يمكنه ذلك، فإن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي علي نقله، ولا يجوز أن تتفق علي ذلك أقوال العلماء‏.‏

    ج/ 35 ص -131- وهؤلاء ‏[‏بنو عبيد القداح‏]‏ مازالت علماء الأمة المأمونون علمًا ودينًا يقدحون في نسبهم ودينهم، لا يذمونهم بالرفض والتشيع، فإن لهم في هذا شركاء كثيرين، بل يجعلونهم من ‏[‏القرامطة الباطنية‏]‏ الذين منهم الإسماعيلية والنصيرية، ومن جنسهم الخرمية المحمرة وأمثالهم من الكفار المنافقون، الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ولا ريب أن اتباع هؤلاء باطل، وقد وصف العلماء أئمة هذا القول بأنهم الذين ابتدعوه ووضعوه، وذكروا ما بنوا عليه مذاهبهم، وأنهم أخذوا بعض قول المجوس وبعض قول الفلاسفة، فوضعوا لهم ‏[‏السابق‏]‏ و ‏[‏التالي‏]‏ و ‏[‏الأساس‏]‏ و ‏[‏الحجج‏]‏ و ‏[‏الدعاوي‏]‏ وأمثال ذلك من المراتب‏.‏ وترتيب الدعوة سبع درجات، آخرها ‏[‏البلاغ الأكبر، والناموس الأعظم‏]‏ مما ليس هذا موضع تفصيل ذلك‏.‏
    وإذا كان كذلك فمن شهد لهم بصحة نسب أو إيمان فأقل ما في شهادته أنه شاهد بلا علم، قاف ما ليس له به علم؛ وذلك حرام باتفاق الأمة، بل ما ظهر عنهم من الزندقة والنفاق، ومعاداة ما جاء به الرسول ﷺ، دليل علي بطلان نسبهم الفاطمي؛ فإن من يكون من أقارب النبي ﷺ القائمين بالخلافة في أمته لا تكون معاداته لدينه كمعاداة هؤلاء، فلم يعرف في بني هاشم، ولا ولد أبي طالب، ولا بني أمية من كان خليفة وهو معاد لدين الإسلام، فضلاً عن أن يكون معاديا كمعاداة

    ج/ 35 ص -132- هؤلاء، بل أولاد الملوك الذين لا دين لهم فيكون فيهم نوع حمية لدين آبائهم وأسلافهم، فمن كان من ولد سيد ولد آدم الذي بعثه الله بالهدي ودين الحق كيف يعادي دينه هذه المعاداة؛ ولهذا نجد جميع المأمونين علي دين الإسلام باطنًا وظاهرًا معادين لهؤلاء، إلا من هو زنديق عدو الله ورسوله، أو جاهل لا يعرف ما بعث به رسوله‏.‏ وهذا مما يدل علي كفرهم، وكذبهم في نسبهم‏.
    فَصْل
    وأما سؤال القائل‏:‏ ‏[‏إنهم أصحاب العلم الباطن‏]‏ فدعواهم التي ادعوها من العلم الباطن هو أعظم حجة ودليل علي أنهم زنادقة منافقون، لا يؤمنون بالله، ولا برسوله، ولا باليوم الآخر، فإن هذا العلم الباطن الذي ادعوه هو كفر باتفاق المسلمين واليهود والنصاري، بل أكثر المشركين علي أنه كفر أيضًا؛ فإن مضمونه أن للكتب الإلهية بواطن تخالف المعلوم عند المؤمنين في الأوامر، والنواهي، والأخبار‏.‏
    أما ‏[‏الأوامر‏]‏ فإن الناس يعلمون بالاضطرار من دين الإسلام أن محمدًا ﷺ أمرهم بالصلوات المكتوبة، والزكاة المفروضة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق‏.‏

    ج/ 35 ص -133- وأما ‏[‏النواهي‏]‏ فإن الله تعالي حرم عليهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم، والبغي بغير الحق، وأن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا، وأن يقولوا علي الله ما لا يعلمون، كما حرم الخمر، ونكاح ذوات المحارم، والربا والميسر، وغير ذلك‏.‏ فزعم هؤلاء أنه ليس المراد بهذا ما يعرفه المسلمون، ولكن لهذا باطن يعلمه هؤلاء الأئمة الإسماعيلية، الذين انتسبوا إلي محمد بن إسماعيل بن جعفر، الذين يقولون‏:‏ إنهم معصومون، وأنهم أصحاب العلم الباطن، كقولهم‏:‏ ‏[‏الصلاة‏]‏ معرفة أسرارنا، لا هذه الصلوات ذات الركوع والسجود والقراءة‏.‏ و ‏[‏الصيام‏]‏ كتمان أسرارنا ليس هو الإمساك عن الأكل والشرب والنكاح‏.‏ و ‏[‏الحج‏]‏ زيارة شيوخنا المقدسين‏.‏ وأمثال ذلك‏.‏ وهؤلاء المدعون للباطن لا يوجبون هذه العبادات ولا يحرمون هذه المحرمات، بل يستحلون الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونكاح الأمهات والبنات، وغير ذلك من المنكرات، ومعلوم أن هؤلاء أكفر من اليهود والنصاري، فمن يكون هكذا كيف يكون معصومًا‏؟‏‏!‏
    وأما ‏[‏الأخبار‏]‏ فإنهم لا يقرون بقيام الناس من قبورهم لرب العالمين، ولا بما وعد الله به عباده من الثواب والعقاب، بل ولا بما أخبرت به الرسل من الملائكة، بل ولا بما ذكرته من أسماء الله وصفاته، بل أخبارهم الذي يتبعونها أتباع المتفلسفة المشائين التابعين لأرسطو، ويريدون أن يجمعوا

    ج/ 35 ص -134- بين ما أخبر به الرسل وما يقوله هؤلاء، كما فعل أصحاب ‏[‏رسائل إخوان الصفا‏]‏ وهم علي طريقة هؤلاء العبيديين، ذرية ‏[‏عبيد الله بن ميمون القداح‏]‏‏.‏ فهل ينكر أحد ممن يعرف دين المسلمين، أو اليهود، أو النصاري‏:‏ أن ما يقوله أصحاب ‏[‏رسائل إخوان الصفا‏]‏ مخالف للملل الثلاث، وإن كان في ذلك من العلوم الرياضية، والطبيعية، وبعض المنطقية، والإلهية، وعلوم الأخلاق، والسياسة، والمنزل، ما لا ينكر؛ فإن في ذلك من مخالفة الرسل فيما أخبرت به وأمرت به، والتكذيب بكثير مما جاءت به، وتبديل شرائع الرسل كلهم بما لا يخفي علي عارف بملة من الملل‏.‏ فهؤلاء خارجون عن الملل الثلاث‏.‏
    ومن أكاذيبهم وزعمهم‏:‏ أن هذه ‏[‏الرسائل‏]‏ من كلام جعفر بن محمد الصادق‏.‏ والعلماء يعلمون أنها إنما وضعت بعد المائة الثالثة زمان بناء القاهرة، وقد ذكر واضعها فيها ما حدث في الإسلام من استيلاء النصاري علي سواحل الشام، ونحو ذلك من الحوادث التي حدثت بعد المائة الثالثة‏.‏ وجعفر بن محمد رضي الله عنه توفي سنة ثمان وأربعين ومائة، قبل بناء القاهرة بأكثر من مائتي سنة؛ إذ القاهرة بنيت حول الستين وثلاثمائة، كما في ‏[‏تاريخ الجامع الأزهر‏]‏‏.‏ ويقال‏:‏ إن ابتداء بنائها سنة ثمان وخمسين، وأنه في سنة اثنين وستين قدم ‏[‏معد بن تميم‏]‏ من المغرب واستوطنها‏.‏

    ج/ 35 ص -135- ومما يبين هذا أن المتفلسفة الذين يعلم خروجهم من دين الإسلام كانوا من أتباع مبشر ابن فاتك أحد أمرائهم، وأبي علي بن الهيثم اللذين كانا في دولة الحاكم نازلين قريبًا من الجامع الأزهر‏.‏ وابن سينا وابنه وأخوه كانوا من أتباعهما‏:‏ قال ابن سينا‏:‏ وقرأت من الفلسفة، وكنت أسمع أبي وأخي يذكران ‏[‏العقل‏]‏ و ‏[‏النفس‏]‏، وكان وجوده علي عهد الحاكم، وقد علم الناس من سيرة الحاكم ما علموه، وما فعله هشكين الدرزي بأمره من دعوة الناس إلي عبادته، ومقاتلته أهل مصر علي ذلك، ثم ذهابه إلي الشام حتي أضل وادي التيم بن ثعلبة‏.‏ والزندقة والنفاق فيهم إلي اليوم، وعندهم كتب الحاكم، وقد أخذتها منهم، وقرأت ما فيها من عبادتهم الحاكم، وإسقاطه عنهم الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وتسمية المسلمين الموجبين لهذه الواجبات المحرمين لما حرم الله ورسوله بالحشوية‏.‏ إلي أمثال ذلك من أنواع النفاق التي لا تكاد تحصي‏.‏
    وبالجملة ‏[‏فعلم الباطن‏]‏ الذي يدعون؛ مضمونه الكفر بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، بل هو جامع لكل كفر، لكنهم فيه علي درجات فليسوا مستوين في الكفر؛ إذ هو عندهم سبع طبقات، كل طبقة يخاطبون بها طائفة من الناس بحسب بعدهم من الدين وقربهم منه‏.‏
    ولهم ألقاب وترتيبات ركبوها من مذهب المجوس، والفلاسفة، والرافضة، مثل قولهم‏:‏ ‏[‏السابق‏]‏ و ‏[‏التالي‏]‏ جعلوهما بإزاء ‏[‏العقل‏]‏

    ج/ 35 ص -136- و ‏[‏النفس‏]‏ كالذي يذكره الفلاسفة، وبإزاء النور والظلمة كالذي يذكره المجوس‏.‏ وهم ينتمون إلي ‏[‏محمد بن إسماعيل بن جعفر‏]‏ ويدعون أنه هو السابع ويتكلمون في الباطن، والأساس، والحجة، والباب، وغير ذلك مما يطول وصفهم‏.‏
    ومن وصاياهم في ‏[‏الناموس الأكبر، والبلاغ الأعظم‏]‏ أنهم يدخلون علي المسلمين من ‏[‏باب التشيع‏]‏ وذلك لعلمهم بأن الشيعة من أجهل الطوائف، وأضعفها عقلاً وعلمًا، وأبعدها عن دين الإسلام علمًا وعملاً، ولهذا دخلت الزنادقة علي الإسلام من باب المتشيعة قديمًا وحديثًا، كما دخل الكفار المحاربون مدائن الإسلام بغداد بمعاونة الشيعة كما جري لهم في دولة الترك الكفار ببغداد وحلب وغيرهما، بل كما جري بتغير المسلمين مع النصاري وغيرهم، فهم يظهرون التشيع لمن يدعونه، وإذا استجاب لهم نقلوه إلي الرفض والقدح في الصحابة، فإن رأوه قابلا نقلوه إلي الطعن في علي وغيره، ثم نقلوه إلي القدح في نبينا وسائر الأنبياء، وقالوا‏:‏ إن الأنبياء لهم بواطن وأسرار تخالف ما عليه أمتهم، وكانوا قومًا أذكياء فضلاء قالوا بأغراضهم الدنيوية بما وضعوه من النواميس الشرعية، ثم قدحوا في المسيح ونسبوه إلي يوسف النجار، وجعلوه ضعيف الرأي حيث تمكن عدوه منه حتي صلبه، فيوافقون اليهود في القدح في المسيح، لكن هم شر من اليهود‏.‏ فإنهم يقدحون في الأنبياء‏.‏ وأما موسي ومحمد فيعظمون أمرهما؛ لتمكنهما وقهر

    ج/ 35 ص -137- عدوهما، ويدعون أنهما أظهرا ما أظهرا من الكتاب لذب العامة، وأن لذلك أسرارًا باطنة من عرفها صار من الكمل البالغين‏.‏
    ويقولون‏:‏ إن الله أحل كل ما نشتهيه من الفواحش والمنكرات، وأخذ أموال الناس بكل طريق، ولم يجب علينا شيء مما يجب علي العامة؛ من صلاة وزكاة وصيام وغير ذلك؛ إذ البالغ عندهم قد عرف أنه لا جنة ولا نار، ولا ثواب ولا عقاب‏.‏
    وفي ‏[‏إثبات واجب الوجود‏]‏ المبدع للعالم علي قولين لأئمتهم، تنكره وتزعم أن المشائين من الفلاسفة في نزاع إلا في واجب الوجود؛ ويستهينون بذكر الله واسمه حتي يكتب أحدهم اسم الله واسم رسوله في أسفله؛ وأمثال ذلك من كفرهم كثير‏.‏ وذو الدعوة التي كانت مشهورة، والإسماعيلية الذين كانوا علي هذا المذهب بقلاع الألموت وغيرها في بلاد خراسان؛ وبأرض اليمن وجبال الشام، وغير ذلك، كانوا علي مذهب العبيديين المسؤول عنهم؛ وابن الصباح الذي كان رأس الإسماعيلية؛ وكان الغزالي يناظر أصحابه لما كان قدم إلي مصر في دولة المستنصر، وكان أطولهم مدة، وتلقي عنه أسرارهم‏.‏
    وفي دولة المستنصر كانت فتنة البساسري في المائة الخامسة سنة خمسين وأربعمائة لما جاهد البساسري خارجًا عن طاعة الخليفة القائم بأمر الله العباسي،

    ج/ 35 ص -138- واتفق مع المستنصر العبيدي وذهب يحشر إلي العراق، وأظهروا في بلاد الشام والعراق شعار الرافضة كما كانوا قد أظهروها بأرض مصر، وقتلوا طوائف من علماء المسلمين وشيوخهم كما كان سلفهم قتلوا قبل ذلك بالمغرب طوائف، وأذنوا علي المنابر‏:‏ ‏[‏حي علي خير العمل‏]‏ حتي جاء الترك ‏[‏السلاجقة‏]‏ الذين كانوا ملوك المسلمين فهزموهم وطردوهم إلي مصر، وكان من أواخرهم ‏[‏الشهيد نور الدين محمود‏]‏ الذي فتح أكثر الشام، واستنقذه من أيدي النصاري؛ ثم بعث عسكره إلي مصر لما استنجدوه علي الإفرنج، وتكرر دخول العسكر إليها مع صلاح الدين الذي فتح مصر، فأزال عنها دعوة العبيديين من القرامطة الباطنية، وأظهر فيها شرائع الإسلام، حتي سكنها حينئذ من أظهر بها دين الإسلام‏.‏
    وكان في أثناء دولتهم يخاف الساكن بمصر أن يروي حديثًا عن رسول الله ﷺ فيقتل، كما حكي ذلك إبراهيم بن سعد الحبال صاحب عبد الغني بن سعيد، وامتنع من رواية الحديث خوفًًا أن يقتلوه، وكانوا ينادون بين القصرين‏:‏ من لعن وسب، فله دينار وإردب‏.‏ وكان بالجامع الأزهر عدة مقاصير يلعن فيها الصحابة، بل يتكلم فيها بالكفر الصريح، وكان لهم مدرسة بقرب ‏[‏المشهد‏]‏ الذي بنوه ونسبوه إلي الحسين وليس فيه الحسين، ولا شيء منه باتفاق العلماء‏.‏ وكانوا لا يدرسون في مدرستهم علوم المسلمين، بل المنطق، والطبيعة، والإلهي، ونحو ذلك من مقالات الفلاسفة‏.‏ وبنوا أرصادًا على

    ج/ 35 ص -139- الجبال وغير الجبال، يرصدون فيها الكواكب، يعبدونها، ويسبحونها، ويستنزلون روحانياتها التي هي شياطين تتنزل علي المشركين الكفار، كشياطين الأصنام، ونحو ذلك‏.‏
    و ‏[‏المعز بن تميم بن معد‏]‏ أول من دخل القاهرة منهم في ذلك، فصنف كلامًا معروفًا عند أتباعه؛ وليس هذا ‏[‏المعز بن باديس‏]‏، فإن ذاك كان مسلمًا من أهل السنة، وكان رجلاً من ملوك المغرب؛ وهذا بعد ذاك بمدة‏.‏ ولأجل ما كانوا عليه من الزندقة والبدعة بقيت البلاد المصرية مدة دولتهم نحو مائتي سنة قد انطفأ نور الإسلام والإيمان، حتي قالت فيها العلماء‏:‏ إنها كانت دار ردة ونفاق، كدار مسيلمة الكذاب‏.‏
    و ‏[‏القرامطة‏]‏ الخارجين بأرض العراق الذين كانوا سلفًا لهؤلاء القرامطة، ذهبوا من العراق إلي المغرب، ثم جاؤوا من المغرب إلي مصر ؛ فإن كفر هؤلاء وردتهم من أعظم الكفر والردة، وهم أعظم كفرًا وردة من كفر أتباع مسيلمة الكذاب ونحوه من الكذابين؛ فإن أولئك لم يقولوا في الإلهية والربوبية والشرائع ما قاله أئمة هؤلاء؛ ولهذا يميز بين قبورهم وقبور المسلمين، كما يميز بين قبور المسلمين والكفار؛ فإن قبورهم موجهة إلي غير القبلة‏.‏
    وإذا أصاب الخيل مغل أتوا بها إلي قبورهم، كما يأتون بها إلي قبور الكفار، وهذه عادة معروفة للخيل إذا أصاب الخيل مغل ذهبوا بها إلى قبور

    ج/ 35 ص -140- النصاري بدمشق، وإن كانوا بمساكن الإسماعيلية والنصيرية ونحوهما ذهبوا بها إلي قبورهم، وإن كانوا بمصر ذهبوا بها إلي قبور اليهود والنصاري، أو لهؤلاء العبيديين الذين قد يتسمون بالأشراف، وليسوا من الأشراف‏.‏ ولا يذهبون بالخيل إلي قبور الأنبياء والصالحين، ولا إلي قبور عموم المسلمين وهذا أمر مجرب معلوم عند الجند وعلمائهم‏.‏ وقد ذكر سبب ذلك‏:‏ أن الكفار يعاقبون في قبورهم، فتسمع أصواتهم البهائم، كما أخبر النبي ﷺ بذلك أن الكفار يعذبون في قبورهم، ففي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه كان راكبًا علي بغلته، فمر بقبور فحادت به، كادت تلقيه، فقال‏:‏ ‏"‏هذه أصوات يهود تعذب في قبورها‏"‏، فإن البهائم إذا سمعت ذلك الصوت المنكر أوجب لها من الحرارة ما يذهب المغل، وكان الجهال يظنون أن تمشية الخيل عند قبور هؤلاء لدينهم وفضلهم، فلما تبين لهم أنهم يمشونها عند قبور اليهود والنصاري والنصيرية ونحوهم دون قبور الأنبياء والصالحين، وذكر العلماء أنهم لا يمشونها عند قبر من يعرف بالدين بمصر والشام وغيرها؛ إنما يمشونها عند قبور الفجار والكفار، تبين بذلك ما كان مشتبهًا‏.‏
    ومن علم حوادث الإسلام،وما جري فيه بين أوليائه وأعدائه الكفار والمنافقين، علم أن عداوة هؤلاء المعتدين للإسلام الذي بعث الله به رسوله أعظم من عدواة التتار، وأن علم الباطن الذي كانوا يدعون حقيقته هو إبطال الرسالة التي بعث الله بها محمدًا، بل إبطال جميع المرسلين،وأنهم لا يقرون

    ج/ 35 ص -141- بما جاء به الرسول عن الله،ولا من خبره، ولا من أمره، وأن لهم قصدًا مؤكدًا في إبطال دعوته وإفساد ملته، وقتل خاصته واتباع عترته، وأنهم في معاداة الإسلام، بل وسائر الملل، أعظم من اليهود والنصاري، فإن اليهود والنصاري يقرون بأصل الجمل التي جاءت بها الرسل؛ كإثبات الصانع، والرسل، والشرائع، واليوم الآخر، ولكن يكذبون بعض الكتب والرسل، كما قال الله سبحانه‏:‏ ‏"‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 150، 151‏]‏‏.‏
    وأما هؤلاء القرامطة، فإنهم في الباطن كافرون بجميع الكتب والرسل، يخفون ذلك ويكتمونه عن غير من يثقون به، لا يظهرونه، كما يظهر أهل الكتاب دينهم؛ لأنهم لو أظهروه لنفر عنهم جماهير أهل الأرض من المسلمين وغيرهم، وهم يفرقون بين مقالتهم ومقالة الجمهور،بل الرافضة الذين ليسوا زنادقة كفارًا يفرقون بين مقالتهم ومقالة الجمهور، ويرون كتمان مذهبهم، واستعمال التقية، وقد لا يكون من الرافضة من له نسب صحيح مسلمًا في الباطن ولا يكون زنديقًا، لكن يكون جاهلاً مبتدعًا‏.‏ وإذا كان هؤلاء مع صحة نسبهم وإسلامهم يكتمون ما هم عليه من البدعة والهوي لكن جمهور الناس يخالفونهم، فكيف بالقرامطة الباطنية الذين يكفرهم أهل الملل كلها من المسلمين واليهود والنصارى‏.‏

    ج/ 35 ص -142- وإنما يقرب منهم ‏[‏الفلاسفة المشاؤون أصحاب أرسطو‏]‏، فإن بينهم وبين القرامطة مقاربة كبيرة‏.‏
    ولهذا يوجد فضلاء القرامطة في الباطن متفلسفة؛ كسنان الذي كان بالشام، والطوسي الذي كان وزيرًا لهم بالألموت، ثم صار منجمًا لهؤلاء وملك الكفار، وصنف ‏[‏شرح الإشارات لابن سينا‏]‏وهو الذي أشار علي ملك الكفار بقتل الخليفة وصار عند الكفار الترك هو المقدم علي الذين يسمونهم ‏[‏الداسميدية‏]‏، فهؤلاء وأمثالهم يعلمون أن ما يظهره القرامطة من الدين والكرامات ونحو ذلك أنه باطل، لكن يكون أحدهم متفلسفًا، ويدخل معهم لموافقتهم له علي ما هو فيه من الإقرار بالرسل والشرائع في الظاهر، وتأويل ذلك بأمور يعلم بالاضطرار أنها مخالفة لما جاءت به الرسل‏.‏
    فإن ‏[‏المتفلسفة‏]‏ متأولون ما أخبرت به الرسل من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر بالنفي والتعطيل الذي يوافق مذهبهم، وأما الشرائع العملية فلا ينفونها كما ينفيها القرامطة، بل يوجبونها علي العامة، ويوجبون بعضها علي الخاصة، أو لا يوجبون ذلك‏.‏ ويقولون‏:‏ إن الرسل فيما أخبروا به وأمروا به لم يأتوا بحقائق الأمور، ولكن أتوا بأمر فيه صلاح العامة، وإن كان هو كذبًا في الحقيقة‏.‏
    ولهذا اختار كل مبطل أن يأتي بمخاريق لقصد صلاح العامة، كما فعل ‏[‏ابن التومرت‏]‏ الملقب بالمهدي، ومذهبه في الصفات مذهب الفلاسفة

    ج/ 35 ص -143- لأنه كان مثلها في الجملة، ولم يكن منافقًا مكذبًا للرسل معطلاً للشرائع، ولا يجعل للشريعة العملية باطنًا يخالف ظاهرها، بل كان فيه نوع من رأي الجهمية الموافق لرأي الفلاسفة، ونوع من رأي الخوارج الذين يرون السيف ويكفرون بالذنب‏.‏
    فهؤلاء ‏[‏القرامطة‏]‏ هم في الباطن والحقيقة أكفر من اليهود والنصاري، وأما في الظاهر فيدعون الإسلام، بل وإيصال النسب إلي العترة النبوية، وعلم الباطن الذي لا يوجد عند الأنبياء والأولياء، وأن إمامهم معصوم‏.‏ فهم في الظاهر من أعظم الناس دعوي بحقائق الإيمان، وفي الباطن من أكفر الناس بالرحمن بمنزلة من ادعي النبوة من الكذابين، قال تعالي‏:‏ ‏
    "‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 93‏]‏‏.‏ وهؤلاء قد يدعون هذا وهذا‏.‏
    فإن الذي يضاهي الرسول الصادق لا يخلو؛ إما أن يدعي مثل دعوته، فيقول‏:‏ إن الله أرسلني وأنزل علي، وكذب علي الله‏.‏ أو يدعي أنه يوحي إليه ولا يسمي موحيه، كما يقول‏:‏ قيل لي، ونوديت، وخوطبت، ونحو ذلك، ويكون كاذبًا، فيكون هذا قد حذف الفاعل‏.‏ أو لا يدعي واحدًا من الأمرين، لكنه يدعي أنه يمكنه أنه يأتي بما أتي به الرسول‏.‏ ووجه القسمة أن ما يدعيه في مضاهاة الرسول‏:‏ إما أن يضيفه إلي الله، أو إلي نفسه أو لا يضيفه إلي أحد‏.‏

    ج/ 35 ص -144- فهؤلاء في دعواهم مثل الرسول هم أكفر من اليهود والنصاري، فكيف بالقرامطة الذين يكذبون علي الله أعظم مما فعل مسيلمة، وألحدوا في أسماء الله وآياته أعظم مما فعل مسيلمة، وحاربوا الله ورسوله أعظم مما فعل مسيلمة‏.‏ وبسط حالهم يطول، لكن هذه الأوراق لا تسع أكثر من هذا‏.‏
    وهذا الذي ذكرته حال أئمتهم وقادتهم العالمين بحقيقة قولهم، ولا ريب أنه قد انضم إليهم من الشيعة والرافضة من لا يكون في الباطن عالمًا بحقيقة باطنهم، ولا موافقًا لهم علي ذلك، فيكون من أتباع الزنادقة المرتدين، الموالي لهم، الناصر لهم بمنزلة أتباع الاتحادية الذين يوالونهم، ويعظمونهم، وينصرونهم، ولا يعرفون حقيقة قولهم في وحدة الوجود، وأن الخالق هو المخلوق‏.‏ فمن كان مسلما في الباطن وهو جاهل معظم لقول ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض وأمثالهم من أهل الاتحاد فهو منهم، وكذا من كان معظما للقائلين بمذهب الحلول والاتحاد، فإن نسبة هؤلاء إلي الجهمية كنسبة أولئك إلي الرافضة والجهمية، ولكن القرامطة أكفر من الاتحادية بكثير؛ ولهذا كان أحسن حال عوامهم أن يكونوا رافضة جهمية‏.‏ وأما الاتحادية ففي عوامهم من ليس برافضي ولا جهمي صريح؛ ولكن لا يفهم كلامهم، ويعتقد أن كلامهم كلام الأولياء المحققين‏.‏ وبسط هذا الجواب له مواضع غير هذا‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 35 ص -145- وَسئل رَحمه اللّه تعالي ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين، وأعانهم علي إظهار الحق المبين، وإخماد شغب المبطلين في ‏[‏النصيرية‏]‏ القائلين باستحلال الخمر، وتناسخ الأرواح،وقدم العالم، وإنكار البعث والنشور والجنة والنار في غير الحياة الدنيا، وبأن ‏[‏الصلوات الخمس‏]‏ عبارة عن خمسة أسماء، وهي‏:‏ علي، وحسن، وحسين ، ومحسن، وفاطمة‏.‏ فذكر هذه الأسماء الخمسة علي رأيهم يجزيهم عن الغسل من الجنابة، والوضوء وبقية شروط الصلوات الخمسة وواجباتها‏.‏ وبأن ‏[‏الصيام‏]‏ عندهم عبارة عن اسم ثلاثين رجلا،واسم ثلاثين امرأة، يعدونهم في كتبهم، ويضيق هذا الموضع عن إبرازهم‏.‏ وبأن إلاههم الذي خلق السموات والأرض هو علي بن طالب رضي الله عنه فهو عندهم الإله في السماء، والإمام في الأرض، فكانت الحكمة في ظهور اللاهوت بهذا الناسوت علي رأيهم أن يؤنس خلقه وعبيده؛ ليعلمهم كيف يعرفونه ويعبدونه‏.‏
    وبأن النصيري عندهم لا يصير نصيريا مؤمنا يجالسونه، ويشربون معه الخمر، ويطلعونه علي أسرارهم، ويزوجونه من نسائهم، حتي يخاطبه معلمه‏.‏ وحقيقة الخطاب عندهم أن يحلفوه علي كتمان دينه، ومعرفة مشايخه،

    ج/ 35 ص -146- وأكابر أهل مذهبه؛ وعلي ألا ينصح مسلما ولا غيره إلا من كان من أهل دينه، وعلي أن يعرف ربه وإمامه بظهوره في أنواره وأدواره، فيعرف انتقال الاسم والمعني في كل حين وزمان‏.‏ فالاسم عندهم في أول الناس آدم والمعني هو شيث، والاسم يعقوب، والمعني هو يوسف‏.‏ ويستدلون علي هذه الصورة كما يزعمون بما في القرآن العظيم حكاية عن يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام فيقولون‏:‏ أما يعقوب فإنه كان الاسم، فما قدر أن يتعدي منزلته فقال‏:‏ ‏"‏سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 98‏]‏ ، وأما يوسف فكان المعني المطلوب فقال‏:‏ ‏"‏لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 92‏]‏ فلم يعلق الأمر بغيره؛ لأنه علم أنه الإله المتصرف، ويجعلون موسي هو الاسم، ويوشع هو المعني، ويقولون‏:‏ يوشع ردت له الشمس لما أمرها فأطاعت أمره، وهل ترد الشمس إلا لربها‏؟‏‏!‏ ويجعلون سليمان هو الاسم، وآصف هو المعني القادر المقتدر، ويقولون‏:‏ سليمان عجز عن إحضار عرش بلقيس، وقدر عليه آصف؛ لأن سليمان كان الصورة، وآصف كان المعني القادر المقتدر، وقد قال قائلهم‏:‏
    هابيل شيث يوسف يوشع
    آصف شمعون الصفا حيدر
    ويعدون الأنبياء والمرسلين واحدا واحدا علي هذا النمط إلي زمن رسول الله ﷺ، فيقولون‏:‏ محمد هو الاسم، وعلي هو المعني، ويوصلون العدد علي هذا الترتيب في كل زمان إلي وقتنا هذا‏.‏ فمن حقيقة الخطاب في الدين عندهم أن عليًا هو الرب، وأن محمداً هو الحجاب، وأن

    ج/ 35 ص -147- سلمان هو الباب، وأنشد بعض أكابر رؤسائهم وفضلائهم لنفسه في شهور سنة سبع مائة فقال‏:‏
    أشهد أن لا إله إلا
    حيدرة الأنزع البطين
    ولا حجاب عليه إلا
    محمد الصادق الأمين
    ولا طريق إليه إلا
    سليمان ذو القوة المتين
    ويقولون‏:‏ إن ذلك علي هذا الترتيب لم يزل ولا يزال، وكذلك الخمسة الأيتام، والاثنا عشر نقيبا، وأسماؤهم مشهورة عندهم، ومعلومة من كتبهم الخبيثة، وأنهم لا يزالون يظهرون مع الرب والحجاب والباب في كل كور ودور أبداً سرمداً علي الدوام والاستمرار، ويقولون‏:‏ إن إبليس الأبالسة هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ويليه في رتبة الإبليسية أبو بكر رضي الله عنه ثم عثمان رضي الله عنهم أجمعين وشرفهم وأعلي رتبهم عن أقوال الملحدين وانتحال أنواع الضالين والمفسدين فلا يزالون موجودين في كل وقت دائما حسبما ذكر من الترتيب‏.‏ ولمذاهبهم الفاسدة شعب وتفاصيل ترجع إلي هذه الأصول المذكورة‏.‏
    وهذه الطائفة الملعونة استولت علي جانب كبير من بلاد الشام وهم معروفون مشهورون متظاهرون بهذا المذهب، وقد حقق أحوالهم كل من خالطهم وعرفهم من عقلاء المسلمين وعلمائهم، ومن عامة الناس أيضا في

    ج/ 35 ص -148- هذا الزمان؛ لأن أحوالهم كانت مستورة عن أكثر الناس وقت استيلاء الإفرنج المخذولين علي البلاد الساحلية، فلما جاءت أيام الإسلام انكشف حالهم وظهر ضلالهم، والابتلاء بهم كثير جداً‏.‏
    فهل يجوز لمسلم أن يزوجهم، أو يتزوج منهم‏؟‏ وهل يحل أكل ذبائحهم والحالة هذه، أم لا‏؟‏ وما حكم الجبن المعمول من أنفحة ذبيحتهم‏؟‏ وما حكم أوانيهم وملابسهم‏؟‏ وهل يجوز دفنهم بين المسلمين، أم لا‏؟‏ وهل يجوز استخدامهم في ثغور المسلمين وتسليمها إليهم‏؟‏ أم يجب علي ولي الأمر قطعهم واستخدام غيرهم من رجال المسلمين الكفاة، وهل يأثم إذا أخر طردهم‏؟‏ أم يجوز له التمهل مع أن في عزمه ذلك‏؟‏ وإذا استخدمهم وأقطعهم أو لم يقطعهم هل يجوز له صرف أموال بيت المال عليهم، وإذا صرفها وتأخر لبعضهم بقية من معلومه المسمي، فأخره ولي الأمر عنه وصرفه علي غيره من المسلمين أو المستحقين، أو أرصده لذلك‏:‏ هل يجوز له فعل هذه الصور‏؟‏ أم يجب عليه‏؟‏ وهل دماء النصيرية المذكورين مباحة وأموالهم حلال، أم لا‏؟‏ وإذا جاهدهم ولي الأمر أيده اللّه تعالي بإخماد باطلهم، وقطعهم من حصون المسلمين، وحذر أهل الإسلام من مناكحتهم، وأكل ذبائحهم، وألزمهم بالصوم والصلاة، ومنعهم من إظهار دينهم الباطل وهم الذين يلونه من الكفار‏:‏ هل ذلك أفضل وأكثر أجرا من التصدي والترصد لقتال التتار في بلادهم وهدم بلاد

    ج/ 35 ص -149- سيس وديار الإفرنج علي أهلها‏؟‏ أم هذا أفضل من كونه يجاهد النصيرية المذكورين مرابطا‏؟‏ ويكون أجر من رابط في الثغور علي ساحل البحر خشية قصد الفرنج أكبر، أم هذا أكبر أجرا‏؟‏ وهل يجب علي من عرف المذكورين ومذاهبهم أن يشهر أمرهم ويساعد علي إبطال باطلهم وإظهار الإسلام بينهم، فلعل الله تعالي أن يهدي بعضهم إلي الإسلام، وأن يجعل من ذريتهم وأولادهم مسلمين بعد خروجهم من ذلك الكفر العظيم، أم يجوز التغافل عنهم والإهمال‏؟‏ وما قدر المجتهد علي ذلك، والمجاهد فيه، والمرابط له والملازم عليه‏؟‏ ولتبسطوا القول في ذلك مثابين مأجورين إن شاء اللّه تعالي، إنه علي كل شيء قدير، وحسبنا اللّه ونعم الوكيل‏؟‏
    فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية‏:‏
    الحمد للّه رب العالمين، هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود النصاري، بل وأكفر من كثير من المشركين وضررهم علي أمة محمدﷺ أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم؛ فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع، وموالاة أهل البيت، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بكتابه، ولا بأمر ولا نهي، ولا ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار، ولا بأحد من المرسلين قبل محمد ﷺ، ولا بملة من الملل السالفة، بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند علماء المسلمين يتأولونه على أمور

    ج/ 35 ص -150- يفترونها،يدعون أنها علم الباطن،
    من جنس ما ذكره السائل، ومن غير هذا الجنس، فإنه ليس لهم حد محدود فيما يدعونه من الإلحاد في أسماء اللّه تعالي وآياته، وتحريف كلام الله تعالي ورسوله عن مواضعه؛ إذ مقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام بكل طريق مع التظاهر بأن لهذه الأمور حقائق يعرفونها من جنس ما ذكر السائل، ومن جنس قولهم‏:‏ إن ‏[‏الصلوات الخمس‏]‏ معرفة أسرارهم، و ‏[‏الصيام المفروض‏]‏ كتمان أسرارهم، و ‏[‏حج البيت العتيق‏]‏ زيارة شيوخهم، وأن ‏[‏يدا أبي لهب‏]‏ هما أبو بكر وعمر، وأن ‏[‏النبأ العظيم‏]‏ والإمام المبين هو علي بن أبي طالب، ولهم في معاداة الإسلام وأهله وقائع مشهورة وكتب مصنفة، فإذا كانت لهم مكنة سفكوا دماء المسلمين؛ كما قتلوا مرة الحجاج وألقوهم في بئر زمزم، وأخذوا مرة الحجر الأسود وبقي عندهم مدة،وقتلوا من علماء المسلمين ومشايخهم ما لا يحصي عدده إلا الله تعالي وصنفوا كتبا كثيرة مما ذكره السائل وغيره، وصنف علماء المسلمين كتبا في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، وبينوا فيها ماهم عليه من الكفر والزندقة والإلحاد، الذي هم به أكفر من اليهود والنصاري، ومن براهمة الهند الذين يعبدون الأصنام‏.‏ وما ذكره السائل في وصفهم قليل من الكثير الذي يعرفه العلماء في وصفهم‏.‏
    ومن المعلوم عندنا أن السواحل الشامية إنما استولي عليها النصاري من جهتهم، وهم دائما مع كل عدو للمسلمين، فهم مع النصارى على المسلمين‏.‏ ومن

    ج/ 35 ص -151- أعظم المصائب عندهم فتح المسلمين للسواحل، وانقهار النصاري، بل ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين علي التتار، ومن أعظم أعيادهم إذا استولي والعياذ باللّه تعالي النصاري علي ثغور المسلمين؛ فإن ثغور المسلمين مازالت بأيدي المسلمين، حتي جزيرة قبرص يسر اللّه فتحها عن قريب، وفتحها المسلمون في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي اللّه عنه فتحها معاوية بن أبي سفيان إلي أثناء المائة الرابعة‏.‏
    فهؤلاء المحادون للّه ورسوله كثروا حينئذ بالسواحل وغيرها فاستولي النصاري علي الساحل، ثم بسببهم استولوا علي القدس الشريف وغيره؛ فإن أحوالهم كانت من أعظم الأسباب في ذلك، ثم لما أقام اللّه ملوك المسلمين المجاهدين في سبيل اللّه تعالي كنور الدين الشهيد، وصلاح الدين وأتباعهما، وفتحوا السواحل من النصاري، وممن كان بها منهم، وفتحوا أيضاً أرض مصر، فإنهم كانوا مستولين عليها نحو مائتي سنة، واتفقوا هم والنصاري، فجاهدهم المسلمون حتي فتحوا البلاد، ومن ذلك التاريخ انتشرت دعوة الإسلام بالديار المصرية والشامية‏.‏
    ثم إن التتار ما دخلوا بلاد الإسلام وقتلوا خليفة بغداد وغيره من ملوك المسلمين إلا بمعاونتهم ومؤازرتهم؛ فإن منجم هولاكو الذي كان وزيرهم وهو ‏[‏النصير

    ج/ 35 ص -152- الطوسي‏]‏ كان وزيرا لهم بالألموت، وهو الذي أمر بقتل الخليفة وبولاية هؤلاء‏.‏
    ولهم ‏[‏ألقاب‏]‏ معروفة عند المسلمين، تارة يسمون ‏[‏الملاحدة‏]‏، وتارة يسمون ‏[‏القرامطة‏]‏، وتارة يسمون ‏[‏الباطنية‏]‏، وتارة يسمون ‏[‏الإسماعيلية‏]‏، وتارة يسمون ‏[‏النصيرية‏]‏، وتارة يسمون ‏[‏الخُرَّمِيَّة‏]‏، وتارة يسمون ‏[‏المحمرة‏]‏‏.‏ وهذه الأسماء منها ما يعمهم، ومنها ما يخص بعض أصنافهم، كما أن الإسلام والإيمان يعم المسلمين ولبعضهم اسم يخصه‏:‏ إما لنسب، وإما لمذهب، وإما لبلد، وإما لغير ذلك‏.‏
    وشرح مقاصدهم يطول، وهم كما قال العلماء فيهم‏:‏ ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض‏.‏ وحقيقة أمرهم‏:‏ أنهم لا يؤمنون بنبي من الأنبياء والمرسلين؛ لا بنوح، ولا إبراهيم، ولا موسي، ولا عيسي ولا محمد صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين ولا بشيء من كتب اللّه المنزلة؛ لا التورة، ولا الإنجيل، ولا القرآن‏.‏ ولا يقرون بأن للعالم خالقا خلقه، ولا بأن له دينا أمر به، ولا أن له دارا يجزي الناس فيها علي أعمالهم غير هذه الدار‏.‏

    ج/ 35 ص -153- وهم تارة يبنون قولهم علي مذاهب الفلاسفة الطبيعيين أو الإلهيين، وتارة يبنونه علي قول المجوس الذين يعبدون النور، ويضمون إلي ذلك الرفض‏.‏
    ويحتجون لذلك من كلام النبوات، إما بقول مكذوب ينقلونه، كما ينقلون عن النبي ﷺ أنه قال‏
    :‏ ‏"‏ أول ما خلق اللّه العقل ‏"‏ والحديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث، ولفظه‏:‏ ‏"‏ إن اللّه لما خلق العقل، قال له‏:‏ أقبل، فأقبل‏.‏ فقال له‏:‏ أدبر، فأدبر ‏"‏ فيحرفون لفظه فيقولون‏:‏ ‏"‏ أول ما خلق اللّه العقل ‏"‏ ليوافقوا قول المتفلسفة أتباع أرسطو في أن أول الصادرات عن واجب الوجود هو العقل‏.‏ وإما بلفظ ثابت عن النبي ﷺ فيحرفونه عن مواضعه، كما يصنع أصحاب ‏[‏رسائل إخوان الصفا‏]‏ ونحوهم، فإنهم من أئمتهم‏.‏
    وقد دخل كثير من باطلهم علي كثير من المسلمين ، وراج عليهم حتي صار ذلك في كتب طوائف من المنتسبين إلي العلم والدين، وإن كانوا لا يوافقونهم علي أصل كفرهم؛ فإن هؤلاء لهم في إظهار دعوتهم الملعونة التي يسمونها ‏[‏الدعوة الهادية‏]‏ درجات متعددة، ويسمون النهاية ‏[‏البلاغ الأكبر والناموس الأعظم‏]‏، ومضمون البلاغ الأكبر جحد الخالق تعالي، والاستهزاء به، وبمن يقر به، حتي قد يكتب أحدهم اسم الله في أسفل رجله وفيه أيضًا جحد شرائعه ودينه وما جاء به الأنبياء ، ودعوي أنهم كانوا من جنسهم طالبين للرئاسة، فمنهم من أحسن في طلبها،ومنهم من أساء في

    ج/ 35 ص -154- طلبها حتي قتل، ويجعلون محمدًا وموسي من القسم الأول،ويجعلون المسيح من القسم الثاني‏.‏ وفيه من الاستهزاء بالصلاة، والزكاة والصوم، والحج، ومن تحليل نكاح ذوات المحارم، وسائر الفواحش، ما يطول وصفه‏.‏ ولهم إشارات ومخاطبات يعرف بها بعضهم بعضًا، وهم إذا كانوا في بلاد المسلمين التي يكثر فيها أهل الإيمان فقد يخفون علي من لا يعرفهم، وأما إذا كثروا فإنه يعرفهم عامة الناس فضلاً عن خاصتهم‏.‏
    وقد اتفق علماء المسلمين علي أن هؤلاء لا تجوز مناكحتهم، ولا يجوز أن ينكح الرجل مولاته منهم، ولا يتزوج منهم امرأة، ولا تباح ذبائحهم‏.‏
    وأما ‏[‏الجبن المعمول بأنفحتهم‏]‏ ففيه قولان مشهوران للعلماء، كسائر أنفحة الميتة، وكأنفحة ذبيحة المجوس، وذبيحة الفرنج الذين يقال عنهم أنهم لايذكون الذبائح‏.‏ فمذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدي الروايتين‏:‏ أنه يحل هذا الجبن؛ لأن أنفحة الميتة طاهرة علي هذا القول؛ لأن الأنفحة لا تموت بموت البهيمة، وملاقاة الوعاء النجس في الباطن لا ينجس‏.‏ ومذهب مالك والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى‏:‏ أن هذا الجبن نجس؛ لأن الأنفحة عند هؤلاء نجسة؛ لأن لبن الميتة وأنفحتها عندهم نجس‏.‏ ومن لا تؤكل ذبيحته فذبيحته كالميتة‏.‏ وكل من أصحاب القولين يحتج بآثار ينقلها عن الصحابة، فأصحاب القول الأول نقلوا أنهم أكلوا جبن المجوس‏.‏ وأصحاب القول الثاني

    ج/ 35 ص -155- نقلوا أنهم أكلوا ما كانوا يظنون أنه من جبن النصاري‏.‏ فهذه مسألة اجتهاد؛ للمقلد أن يقلد من يفتي بأحد القولين‏.‏ وأما ‏[‏أوانيهم وملابسهم‏]‏ فكأواني المجوس وملابس المجوس، علي ما عرف من مذاهب الأئمة‏.‏ والصحيح في ذلك أن أوانيهم لا تستعمل إلا بعد غسلها؛ فإن ذبائحهم ميتة، فلابد أن يصيب أوانيهم المستعملة ما يطبخونه من ذبائحهم فتنجس بذلك، فأما الآنية التي لا يغلب علي الظن وصول النجاسة إليها فتستعمل من غير غسل كآنية اللبن التي لا يضعون فيها طبيخهم، أو يغسلونها قبل وضع اللبن فيها، وقد توضأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه من جرة نصرانية فما شك في نجاسته لم يحكم بنجاسته بالشك‏.‏
    ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين، ولا يصلي علي من مات منهم؛ فإن الله سبحانه وتعالي نهي نبيه ﷺ عن الصلاة علي المنافقين؛ كعبد الله بن أبي، ونحوه، وكانوا يتظاهرون بالصلاة والزكاة والصيام والجهاد مع المسلمين، ولا يظهرون مقالةتخالف دين الإسلام، لكن يسرون ذلك، فقال الله‏:‏ ‏
    "‏وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏، فكيف بهؤلاء الذين هم مع الزندقة والنفاق يظهرون الكفر، والإلحاد‏.‏
    وأما استخدام مثل هؤلاء في ثغور المسلمين أو حصونهم أو جندهم، فإنه من الكبائر، وهو بمنزلة من يستخدم الذئاب لرعي الغنم، فإنهم من أغش الناس

    ج/ 35 ص -156- للمسلمين ولولاة أمورهم، وهم أحرص الناس علي فساد المملكة والدولة وهم شر من المخامر الذي يكون في العسكر؛ فإن المخامر قد يكون له غرض؛ إما مع أمير العسكر، وإما مع العدو‏.‏ وهؤلاء مع الملة‏.‏ ونبيها ودينها، وملوكها، وعلمائها، وعامتها، وخاصتها، وهم أحرص الناس علي تسليم الحصون إلي عدو المسلمين، وعلي إفساد الجند علي ولي الأمر، وإخراجهم عن طاعته‏.‏
    والواجب علي ولاة الأمور قطعهم من دواوين المقاتلة فلا يتركون في ثغر، ولا في غير ثغر؛ فإن ضررهم في الثغر أشد، وأن يستخدم بدلهم من يحتاج إلي استخدامه من الرجال المأمونين علي دين الإسلام، وعلي النصح لله ورسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، بل إذا كان ولي الأمر لا يستخدم من يغشه وإن كان مسلمًا، فكيف بمن يغش المسلمين كلهم‏؟‏‏!‏
    ولا يجوز له تأخير هذا الواجب مع القدرة عليه، بل أي وقت قدر علي الاستبدال بهم وجب عليه ذلك‏.‏
    وأما إذا استخدموا وعملوا العمل المشروط عليهم، فلهم إما المسمي وإما أجرة المثل؛ لأنهم عوقدوا علي ذلك‏.‏ فإن كان العقد صحيحًا وجب المسمي، وإن كان فاسدًا وجبت أجرة المثل، وإن لم يكن استخدامهم من جنس

    ج/ 35 ص -157- الإجارة اللازمة فهي من جنس الجعالة الجائزة، لكن هؤلاء لا يجوز استخدامهم، فالعقد عقد فاسد، فلا يستحقون إلا قيمة عملهم، فإن لم يكونوا عملوا عملاً له قيمة فلا شيء لهم، لكن دماؤهم وأموالهم مباحة‏.‏
    وإذا أظهروا التوبة ففي قبولها منهم نزاع بين العلماء، فمن قبل توبتهم إذا التزموا شريعة الإسلام أقر أموالهم عليهم‏.‏ ومن لم يقبلها لم تنقل إلي ورثتهم من جنسهم، فإن مالهم يكون فيئًا لبيت المال؛ لكن هؤلاء إذا أخذوا فإنهم يظهرون التوبة؛ لأن أصل مذهبهم التقية وكتمان أمرهم، وفيهم من يعرف، وفيهم من قد لا يعرف‏.‏ فالطريق في ذلك أن يحتاط في أمرهم، فلا يتركون مجتمعين، ولا يمكنون من حمل السلاح، ولا أن يكونوا من المقاتلة، ويلزمون شرائع الإسلام، من الصلوات الخمس، وقراءة القرآن‏.‏ ويترك بينهم من يعلمهم دين الإسلام، ويحال بينهم وبين معلمهم‏.‏
    فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وسائر الصحابة لما ظهروا علي أهل الردة، وجاؤوا إليه، قال لهم الصديق‏:‏ اختاروا إما الحرب المجلية، وإما السلم المخزية‏.‏ قالوا‏:‏ يا خليفة رسول الله، هذه الحرب المجلية قد عرفناها فما السلم المخزية‏.‏ قال‏:‏ تدون قتلانا، ولا ندي قتلاكم، وتشهدون أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، ونقسم ما أصبنا من أموالكم، وتردون ما أصبتم من أموالنا، وتنزع منكم الحلقة والسلاح، وتمنعون من ركوب

    ج/ 35 ص -158-ؤالخيل،وتتركون تتبعون أذناب الإبل حتي يري الله خليفة رسوله والمؤمنين أمرًا بعد ردتكم‏.‏ فوافقه الصحابة علي ذلك، إلا في تضمين قتلي المسلمين، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له‏:‏ هؤلاء قتلوا في سبيل الله فأجورهم علي الله، يعني‏:‏ هم شهداء فلا دية لهم، فاتفقوا علي قول عمر في ذلك‏.‏
    وهذا الذي اتفق الصحابة عليه هو مذهب أئمة العلماء، والذي تنازعوا فيه تنازع فيه العلماء‏.‏ فمذهب أكثرهم أن من قتله المرتدون المجتمعون المحاربون لا يضمن، كما اتفقوا عليه آخرًا‏.‏ وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدي الروايتين‏.‏ ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخري هو القول الأول‏.‏ فهذا الذي فعله الصحابة بأولئك المرتدين بعد عودهم إلي الإسلام يفعل بمن أظهر الإسلام والتهمة ظاهرة فيه، فيمنع أن يكون من أهل الخيل والسلاح والدرع التي تلبسها المقاتلة، ولا يترك في الجند من يكون يهوديا ولا نصرانيا‏.‏ ويلزمون شرائع الإسلام حتي يظهر ما يفعلونه من خير أو شر‏.‏ ومن كان من أئمة ضلالهم وأظهر التوبة أخرج عنهم، وسير إلي بلاد المسلمين التي ليس لهم فيها ظهور‏.‏ فإما أن يهديه الله تعالي، وإما أن يموت علي نفاقه من غير مضرة للمسلمين‏.‏
    ولا ريب أن جهاد هؤلاء وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات، وهو أفضل من جهاد من لا يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب؛ فإن جهاد هؤلاء من جنس جهاد المرتدين، والصديق

    ج/ 35 ص -159- وسائر الصحابة بدؤوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب؛ فإن جهاد هؤلاء حفظ لما فتح من بلاد المسلمين، وأن يدخل فيه من أراد الخروج عنه‏.‏ وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة إظهار الدين‏.‏ وحفظ رأس المال مقدم علي الربح‏.‏
    وأيضًا فضرر هؤلاء علي المسلمين أعظم من ضرر أولئك، بل ضرر هؤلاء من جنس ضرر من يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب، وضررهم في الدين علي كثير من الناس أشد من ضرر المحاربين من المشركين وأهل الكتاب‏.‏
    ويجب علي كل مسلم أن يقوم في ذلك بحسب ما يقدر عليه من الواجب، فلا يحل لأحد أن يكتم ما يعرفه من أخبارهم، بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة حالهم، ولا يحل لأحد أن يعاونهم علي بقائهم في الجند والمستخدمين، ولا يحل لأحد السكوت عن القيام عليهم بما أمر الله به ورسوله، ولا يحل لأحد أن ينهي عن القيام بما أمر الله به ورسوله؛ فإن هذا من أعظم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالي، وقد قال الله تعالي لنبيه ﷺ‏:‏ ‏
    "‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ‏"‏[‏التحريم‏:‏ 9‏]‏، وهؤلاء لا يخرجون عن الكفار والمنافقين‏.‏
    والمعاون علي كف شرهم وهدايتهم بحسب الإمكان له من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلا الله تعالي؛ فإن المقصود بالقصد الأول هو هدايتهم؛ كما قال الله

    ج/ 35 ص -160- تعالي‏:‏ ‏"‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ‏"‏[‏آل عمران‏:‏110‏]‏، قال أبو هريرة‏:‏ كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في القيود والسلاسل حتي تدخلوهم الإسلام‏.‏ فالمقصود بالجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر‏:‏ هداية العباد لمصالح المعاش والمعاد بحسب الإمكان، فمن هداه الله سعد في الدنيا والآخرة، ومن لم يهتد كف الله ضرره عن غيره‏.‏
    ومعلوم أن الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أفضل الأعمال، كما قال ﷺ‏
    :‏ ‏"‏رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله تعالي‏"‏‏.‏ وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏ إن في الجنة لمائة درجة ما بين الدرجة إلي الدرجة كما بين السماء إلي الأرض، أعدها الله عز وجل للمجاهدين في سبيله‏"‏، وقال ﷺ‏:‏ ‏"‏ رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه‏"‏، ومن مات مرابطًا مات مجاهدًا، وجري عليه عمله، وأجري عليه رزقه من الجنة، وأمن الفتنة‏.‏ والجهاد أفضل من الحج والعمرة، كما قال تعالي‏:‏ ‏"‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏19‏:‏ 22‏]‏، والحمدلله رب العالمين، وصلاته وسلامه علي خير خلقه سيدنا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين‏.

    ج/ 35 ص -161-وَسئل رحمه الله تعالى عن ‏[‏الدرزية‏]‏ و ‏[‏النصيرية‏]‏‏:‏ ما حكمهم‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    هؤلاء ‏[‏الدرزية‏]‏ و ‏[‏النصيرية‏]‏ كفار باتفاق المسلمين، لا يحل أكل ذبائحهم، ولا نكاح نسائهم، بل ولا يقرون بالجزية؛ فإنهم مرتدون عن دين الإسلام، ليسوا مسلمين؛ ولا يهود، ولا نصاري، لا يقرون بوجوب الصلوات الخمس، ولا وجوب صوم رمضان، ولا وجوب الحج، ولا تحريم ما حرم الله ورسوله من الميتة والخمر وغيرهما‏.‏ وإن أظهروا الشهادتين مع هذه العقائد فهم كفار باتفاق المسلمين‏.‏
    فأما ‏[‏النصيرية‏]‏ فهم أتباع أبي شعيب محمد بن نصير، وكان من الغلاة الذين يقولون‏:‏ إن عليا إله، وهم ينشدون‏:‏
    أشهد ألا إله إلا
    حيدرة الأنزع البطين
    ولا حجاب عليه إلا
    محمد الصادق الأمين
    ولا طريق إليه إلا
    سلمان ذو القوة المتين
    وأما ‏[‏الدرزية‏]‏ فأتباع هشتكين الدرزي، وكان من موالي الحاكم، أرسله إلي أهل وادي تيم الله بن ثعلبة، فدعاهم إلي إلهية الحاكم، ويسمونه

    ج/ 35 ص -162- ‏[‏الباري،العلام‏]‏ ويحلفون به، وهم من الإسماعيلية القائلين بأن محمد بن إسماعيل نسخ شريعة محمد بن عبد الله، وهم أعظم كفرا من الغالية، يقولون بقدم العالم، وإنكار المعاد، وإنكار واجبات الإسلام ومحرماته، وهم من القرامطة الباطنية الذين هم أكفر من اليهود والنصاري ومشركي العرب، وغايتهم أن يكونوا ‏[‏فلاسفة‏]‏ علي مذهب أرسطو وأمثاله، أو ‏[‏مجوسا‏]‏‏.‏ وقولهم مركب من قول الفلاسفة والمجوس، ويظهرون التشيع نفاقا‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وقال شيخ الإسلام رحمه اللّه ردًا علي نبذ لطوائف من ‏[‏الدروز‏]‏
    كفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون، بل من شك في كفرهم فهو كافر مثلهم، لا هم بمنزلة أهل الكتاب ولا المشركين، بل هم الكفرة الضالون فلا يباح أكل طعامهم، وتسبي نساؤهم، وتؤخذ أموالهم‏.‏ فإنهم زنادقة مرتدون لا تقبل توبتهم، بل يقتلون أينما ثقفوا، ويلعنون كما وصفوا، ولا يجوز استخدامهم للحراسة والبوابة والحفاظ ويجب قتل علمائهم وصلحائهم لئلا يضلوا غيرهم، ويحرم النوم معهم في بيوتهم، ورفقتهم، والمشي معهم، وتشييع جنائزهم إذا علم موتها‏.‏ ويحرم علي ولاة أمور المسلمين إضاعة ما أمر الله من إقامة الحدود عليهم بأي شيء يراه المقيم لا المقام عليه‏.‏ والله المستعان وعليه التكلان‏.‏

    ج/ 35 ص -163-وَسئل رَحمه اللّه تعالى عن هؤلاء ‏[‏القلندرية‏]‏ الذين يحلقون ذقونهم‏:‏ ماهم‏؟‏ ومن أي الطوائف يحسبون‏؟‏ وما قولكم في اعتقادهم أن رسول اللّه ﷺ أطعم شيخهم قلندر عنباً، وكلمه بلسان العجم‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما هؤلاء ‏[‏القلندرية‏]‏ المحلقي اللحى، فمن أهل الضلالة والجهالة، وأكثرهم كافرون باللّه ورسوله، لا يرون وجوب الصلاة والصيام ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله، ولا يدينون دين الحق، بل كثير منهم أكفر من اليهود والنصارى، وهم ليسوا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة وقد يكون فيهم من هو مسلم، لكن مبتدع ضال، أو فاسق فاجر‏.‏
    ومن قال‏:‏ إن ‏[‏قلندر‏]‏ موجود في زمن النبي ﷺ فقد كذب وافترى، بل قد قيل‏:‏ أصل هذا الصنف أنهم كانوا قوما من نساك الفرس، يدورون على مافيه راحة قلوبهم بعد أداء الفرائض واجتناب المحرمات‏.‏ هكذا فسرهم الشيخ أبو حفص السهروردي في عوارفه، ثم إنهم بعد ذلك تركوا الواجبات، وفعلوا المحرمات،

    ج/ 35 ص -164- بمنزلة ‏[‏الملامية‏]‏ الذين كانوا يخفون حسناتهم، ويظهرون مالا يظن بصاحبه الصلاح من زي الأغنياء، ولبس العمامة، فهذا قريب‏.‏ وصاحبه مأجور على نيته، ثم حدث قوم فدخلوا في أمور مكروهة في الشريعة، ثم زاد الأمر ففعل قوم المحرمات من الفواحش والمنكرات، وترك الفرائض والواجبات، وزعموا أن ذلك دخول منهم في ‏[‏الملاميات‏]‏ ولقد صدقوا في استحقاقهم اللوم والذم والعقاب من اللّه في الدنيا والآخرة؛ وتجب عقوبتهم جميعهم، ومنعهم من هذا الشعار الملعون، كما يجب ذلك في كل معلن ببدعة أو فجور‏.‏
    وليس ذلك مختصاً بهم، بل كل من كان من المتنسكة، والمتفقهة، والمتعبدة، والمتفقرة، والمتزهدة، والمتكلمة، والمتفلسفة، ومن وافقهم من الملوك، والأغنياء، والكتاب ، والحساب، والأطباء، وأهل الديوان والعامة خارجا عن الهدى ودين الحق الذي بعث اللّه به رسوله، لا يقر بجميع ما أخبر اللّه به على لسان رسوله، ولا يحرم ما حرمه اللّه ورسوله؛ أو يدين بدين يخالف الدين الذي بعث اللّه به رسوله باطنًا وظاهراً؛ مثل من يعتقد أن شيخه يرزقه، أو ينصره أو يهديه، أو يغيثه، أو يعينه، أو كان يعبد شيخه أو يدعوه ويسجد له، أو كان يفضله على النبي ﷺ تفضيلا مطلقا، أو مقيدا في شيء من الفضل الذي يقرب إلى اللّه تعالى، أو كان يرى أنه هو أو شيخه مستغن عن متابعة الرسول ﷺ، فكل هؤلاء كفار إن أظهروا ذلك، ومنافقون إن لم يظهروه‏.‏

    ج/ 35 ص -165- وهؤلاء الأجناس، وإن كانوا قد كثروا في هذا الزمان، فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك‏.‏ وفي أوقات الفترات، وأمكنة الفترات‏:‏ يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل، ويغفر اللّه فيه لمن لم تقم الحجة عليه ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه، كما في الحديث المعروف‏:‏ ‏"‏ يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة، ولا صيامًا، ولا حجًا، ولا عمرة، إلا الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة‏.‏ ويقولون‏:‏ أدركنا آباءنا وهم يقولون‏:‏ لا إله إلا الله فقيل لحذيفة بن اليمان‏:‏ ما تغني عنهم لا إله إلا اللّه‏؟‏ فقال‏:‏ تنجيهم من النار‏"‏ ‏.‏
    وأصل ذلك‏:‏ أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال هي كفر قولا يطلق، كما دل على ذلك الدلائل الشرعية؛ فإن ‏[‏الإيمان‏]‏ من الأحكام المتلقاة عن اللّه ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم‏.‏ ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير، وتنتفى موانعه، مثل من قال‏:‏ إن الخمر أو الربا حلال؛ لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلاما أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن ولا أنه من أحاديث رسول اللّه ﷺ، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي ﷺ قالها، وكما كان الصحابة يشكون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك

    ج/ 35 ص -166- حتى يسألوا عن ذلك رسول اللّه ﷺ، ومثل الذي قال‏:‏‏"‏ إذا أنا مِتُّ فاسحقوني، وذروني في اليم؛ لعلي أضل عن الله، ونحو ذلك‏"‏؛ فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة، كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏"‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏ وقد عفى الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان‏.‏ وقد أشبعنا الكلام في القواعد التي في هذا الجواب في أماكنها، والفتوى لا تحتمل البسط أكثر من هذا‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وَسئل رَحمه اللّه عمن يعتقد أن الكواكب لها تأثير في الوجود، أو يقول‏:‏ إن له نجما في السماء يسعد بسعادته ويشقى بعكسه، ويحتج بقوله تعالى‏:‏
    ‏"‏فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ‏"‏[‏النازعات‏:‏5 ‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏"‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ‏"‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 75‏]‏، ويقول‏:‏ إنها صنعة إدريس عليه السلام ويقول عن النبي ﷺ‏:‏ إن نجمه كان بالعقرب والمريخ‏.‏ فهل هذا من دين الإسلام، أم لا ‏؟‏ وحتى لو لم يكن من الدين‏:‏ فماذا يجب على قائله‏؟‏ والمنكرون على هؤلاء يكونون من الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه، النجوم من آيات اللّه الدالة عليه، المسبحة له، الساجدة له؛ كما قال تعالى‏:‏
    ‏"‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ‏"

    ج/ 35 ص -167-ثم قال‏:‏ ‏"‏وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ‏"‏[‏الحج‏:‏ 18‏]‏ وهذا التفريق يبين أنه لم يرد السجود لمجرد ما فيها من الدلالة على ربوبيته، كما يقول ذلك طوائف من الناس؛ إذ هذه الدلالة، يشترك فيها جميع المخلوقات، فجميع الناس فيهم هذه الدلالة، وهو قد فرق، فعلم أن ذلك قول زائد من جنس ما يختص به المؤمن، ويتميز به عن الكافر الذي حق عليه العذاب‏.‏
    وهو سبحانه مع ذلك قد جعل فيها منافع لعباده، وسخرها لهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "‏وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ‏"‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 33‏]‏، وقال‏:‏ ‏"‏وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ‏"‏ ‏[‏النحل‏:‏ 12‏]‏، وقال‏:‏ ‏"‏وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ‏"‏[‏الجاثية‏:‏13‏]‏ ومن منافعها الظاهرة ما يجعله سبحانه بالشمس من الحر والبرد، والليل والنهار ونضاج الثمار وخلق الحيوان والنبات والمعادن، وكذلك ما يجعله بها لهم من الترطيب والتيبيس ، وغير ذلك من الأمور المشهودة، كما جعل في النار الإشراق والإحراق، وفي الماء التطهير والسقى، وأمثال ذلك من نعمه التي يذكرها في كتابه كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ‏"‏[‏الفرقان‏:‏48، 49‏]‏ وقد أخبر اللّه في غير موضع أنه يجعل حياة بعض مخلوقاته ببعض‏:‏ كما قال تعالى‏:‏‏"‏ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا ‏"‏‏[‏الفرقان‏:‏ 49‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏"‏وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏ وكما قال‏:‏ ‏"‏وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏ ‏.‏

    ج/ 35 ص -168- فمن قال من أهل الكلام‏:‏ إن اللّه يفعل هذه الأمور عندها لا بها ، فعبارته مخالفة لكتاب اللّه والأمور المشهودة، كمن زعم أنها مستقلة بالفعل، هو مشرك مخالف العقل والدين‏.‏
    وقد أخبر سبحانه في كتابه من منافع النجوم، فإنه يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وأخبر أنها زينة للسماء الدنيا، وأخبر أن الشياطين ترجم بالنجوم، وإن كانت النجوم التي ترجم بها الشياطين من نوع آخر غير النجوم الثابتة في السماء التي يهتدي بها؛ فإن هذه لا تزول عن مكانها، بخلاف تلك؛ ولهذه حقيقة مخالفة لتلك، وإن كان اسم النجوم يجمعها، كما يجمع اسم الدابة والحيوان للملك، والآدمي، والبهائم، والذباب، والبعوض‏.‏
    وقد ثبت بالأخبار الصحيحة التي اتفق عليها العلماء عن النبي ﷺ أنه أمر بالصلاة عند كسوف الشمس والقمر، وأمر بالدعاء والاستغفار والصدقة والعتق، وقال‏:
    ‏ ‏"‏ إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللّه لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ‏"‏، وفي رواية‏:‏ ‏"‏ آيتان من آيات اللّه يخوف بهما عباده ‏"‏، هذا قاله ردَّا لما قاله بعض جهال الناس‏:‏ إن الشمس كسفت لموت إبراهيم ابن النبي ﷺ، فإنها كسفت يوم موته وظن بعض الناس لما كسفت أن كسوفها كان لأجل موته، وأن موته هو

    ج/ 35 ص -169- السبب لكسوفها، كا يحدث عن موت بعض الأكابر مصائب في الناس، فبين النبي ﷺ أن الشمس والقمر لا يكون كسوفهما عن موت أحد من أهل الأرض، ولا عن حياته، ونفى أن يكون للموت والحياة أثر في كسوف الشمس والقمر، وأخبر أنهما من آيات اللّه، وأنه يخوف عباده‏.‏
    فذكر أن من حكمة ذلك تخويف العباد؛ كما يكون تخويفهم في سائر الآيات؛ كالرياح الشديدة، والزلازل، والجدب، والأمطار المتواترة، ونحو ذلك من الأسباب التي قد تكون عذابا؛ كما عذب اللّه أمما بالريح والصيحة، والطوفان، وقال تعالى‏:
    ‏"‏فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا‏"‏[‏العنكبوت‏:‏ 40‏]‏، وقد قال‏:‏ ‏"‏وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا ‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 59‏]‏، وإخباره بأنه يخوف عباده بذلك يبين أنه قد يكون سببا لعذاب ينزل كالرياح العاصفة الشديدة، وإنما يكون ذلك إذا كان اللّه قد جعل ذلك سببا لما ينزل في الأرض‏.‏
    فمن أراد بقوله‏:‏ إن لها تأثيرًا، ما قد علم بالحس وغيره من هذه الأمور، فهذا حق، ولكن الله قد أمر بالعبادات التي تدفع عنا ما ترسل به من الشر، كما أمر النبي ﷺ عند الخسوف بالصلاة والصدقة والدعاء والاستغفار والعتق، وكما كان ﷺ إذا هبت الريح أقبل وأدبر وتغير،وأمر أن يقال عند هبوبها‏:‏ ‏"‏
    اللهم إنا نسألك خير هذه الريح،وخير ما

    ج/ 35 ص -170-أرسلت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما أرسلت به‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏ إن الريح من روح اللّه، وإنها تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فلا تسبوها، ولكن سلوا اللّه من خيرها، وتعوذوا باللّه من شرها ‏"‏‏.‏ فأخبر أنها تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، وأمر أن نسأل اللّه من خيرها، ونعوذ باللّه من شرها‏.‏
    فهذه السنة في أسباب الخير والشر‏:‏ أن يفعل العبد عند أسباب الخير الظاهرة والأعمال الصالحة ما يجلب اللّه به الخير، وعند أسباب الشر الظاهرة من العبادات ما يدفع اللّه به عنه الشر، فأما ما يخفى من الأسباب فليس العبد مأمورا بأن يتكلف معرفته، بل إذا فعل ما أمر به وترك ما حظر، كفاه اللّه مؤنة الشر، ويسر له أسباب الخير ‏
    "‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ‏"‏[‏الطلاق‏:‏2، 3‏]
    وقد قال تعالى فيمن يتعاطى السحر لجلب منافع الدنيا‏:‏
    ‏"‏وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ‏"‏[‏البقرة‏:‏102، 103‏]

    ج/ 35 ص -171-فأخبر سبحانه أن من اعتاض بذلك يعلم أنه لا نصيب له في الآخرة؛ وإنما يرجو بزعمه نفعه في الدنيا‏.‏ كما يرجون بما يفعلونه من السحر المتعلق بالكواكب وغيرها مثل الرياسة والمال‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ‏"‏[‏البقرة‏:‏301‏]‏ فبين أن الإيمان والتقوى هو خير لهما في الدنيا والآخرة، قال تعالى‏:‏ ‏"‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُون‏"‏ الآية ‏[‏يونس‏:‏ 62، 63‏]‏، وقال في قصة يوسف‏:‏ ‏"‏وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ‏"‏ [‏يوسف‏:‏56، 57‏]‏ فأخبر أن أجر الآخرة خير للمؤمنين المتقين مما يعطون في الدنيا من الملك والمال كما أعطى يوسف‏.‏
    وقد أخبر سبحانه بسوء عاقبة من ترك الإيمان والتقوى في غير آية في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏
    "‏وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 69‏]‏ والمفلح الذي ينال المطلوب وينجو من المرهوب‏.‏ فالساحر لا يحصل له ذلك، وفي سنن أبي داود عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏ من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر ‏"‏‏.‏
    و ‏[‏السحر‏]‏ محرم بالكتاب والسنة والإجماع‏:‏ وذلك أن النجوم التي من السحر نوعان‏:‏ أحدهما‏:‏ علمي، وهو الاستدلال بحركات النجوم على الحوادث، من جنس الاستقسام بالأزلام‏.‏ الثاني‏:‏ عملي، وهو الذي يقولون‏:‏ إنه القوى السماوية بالقوى المنفعلة الأرضية، كطلاسم ونحوها، وهذا من أرفع أنواع السحر، وكل ما حرمه اللّه ورسوله فضرره أعظم من نفعه‏.‏

    ج/ 35 ص -172-فالثاني وإن توهم المتوهم أن فيه تقدمة للمعرفة بالحوادث، وأن ذلك ينفع، فالجهل في ذلك أضعف، ومضرة ذلك أعظم من منفعته؛ ولهذا قد علم الخاصة والعامة بالتجربة والتواتر أن الأحكام التي يحكم بها المنجمون يكون الكذب فيها أضعاف الصدق، وهم في ذلك من أنواع الكهان، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قيل له‏:‏ إن منا قومًا يأتون الكهان، فقال‏:‏ ‏"‏ إنهم ليسوا بشيء‏"‏، فقالوا‏:‏ يارسول اللّه، إنهم يحدثونا أحيانا بالشيء فيكون حقا، فقال رسول اللّه ﷺ‏:‏ ‏"‏ تلك الكلمة من الحق يسمعها الجني يقرها في أذن وليه ‏"‏، وأخبر ‏"‏ أن اللّه إذا قضي بالأمر ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا‏:‏ ماذا قال ربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ الحق‏.‏ وأن كل أهل السماء يخبرون أهل السماء التي تليهم، حتى ينتهي الخبر إلى السماء الدنيا، وهناك مسترقة السمع بعضهم فوق بعض، فربما سمع الكلمة قبل أن يدركه الشهاب، وربما أدركه الشهاب بعد أن يلقيها‏"‏ قال ﷺ‏:‏ ‏"‏ فلو أتوا بالأمر على وجهه، ولكن يزيدون في الكلمة مائة كذبة‏"‏ وهكذا ‏[‏المنجمون‏]‏، حتى إني خاطبتهم بدمشق، وحضر عندي رؤساؤهم، وبينت فساد صناعتهم بالأدلة العقلية التي يعترفون بصحتها‏.‏ قال رئيس منهم‏:‏ والله إنا نكذب مائة كذبة، حتى نصدق في كلمة،

    ج/ 35 ص -173- وذلك أن مبني علمهم على أن الحركات العلوية هي السبب في الحوادث، والعلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب، وهذا إنما يكون إذا علم السبب التام الذي لا يتخلف عنه حكمه، وهؤلاء أكثر ما يعلمون إن علموا جزءًا يسيرا من جملة الأسباب الكثيرة، ولا يعلمون بقية الأسباب، ولا الشروط، ولا الموانع مثل من يعلم أن الشمس في الصيف تعلو الرأس حتى يشتد الحر، فيريد أن يعلم من هذا مثلا أنه حينئذ أن العنب الذي في الأرض الفلانية يصير زبيبا، على أن هناك عنبًا، وأنه ينضج، وينشره صاحبه في الشمس وقت الحر فيتزبب‏.‏ فهذا وإن كان يقع كثيرا، لكن أخذ هذا من مجرد حرارة الشمس جهل عظيم؛ إذ قد يكون هناك عنب وقد لا يكون‏.‏ وقد يثمر ذلك الشجر إن خدم وقد لا يثمر، وقد يؤكل عنبا وقد يعصر، وقد يسرق، وقد يزبب، وأمثال ذلك‏.‏
    والدلالة الدالة على فساد هذه الصناعة وتحريمها كثيرة، وليس هذا موضعها، وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال‏
    :‏ ‏"‏من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما‏"‏ ‏.‏ و ‏[‏العراف‏]‏ قد قيل‏:‏ إنه اسم عام للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في تقدم المعرفة بهذه الطرق، ولو قيل‏:‏ إنه في اللغة اسم لبعض هذه الأنواع فسائرها يدخل فيه بطريق العموم المعنوي، كما قيل في اسم الخمر والميسر ونحوهما‏.‏

    ج/ 35 ص -174- وأما إنكار بعض الناس أن يكون شيء من حركات الكواكب وغيرها من الأسباب، فهو? أيضا قول بلا علم، وليس له في ذلك دليل من الأدلة الشرعية ولا غيرها، فإن النصوص تدل على خلاف ذلك، كما في الحديث الذي في السنن عن عائشة رضي اللّه عنها أن النبي ﷺ نظر إلى القمر فقال‏:‏ ‏"‏ يا عائشة تعوذي بالله من شر هذا، فهذا الغاسق إذا وقب ‏"‏، وكما تقدم في حديث الكسوف حيث أخبر ‏"‏ أن الله يخوف بهما عباده‏"‏‏.‏
    وقد تبين أن معنى قول النبي ﷺ‏:‏ ‏
    "‏لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته‏"‏ أي‏:‏ لا يكون الكسوف معللا بالموت، فهو نفي العلة الفاعلة، كما في الحديث الآخر الذي فى صحيح مسلم عن ابن عباس، عن رجال من الأنصار، أنهم كانوا عند النبي ﷺ، إذ رمى بنجم فاستنار، فقال‏:‏ ‏"‏ما كنتم تقولون لهذا في الجاهلية‏؟‏‏"‏ فقالوا‏:‏ كنا نقول‏:‏ ولد الليلة عظيم، أو مات عظيم،فقال‏:‏ ‏"‏إنه لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته،ولكن اللّه إذا قضى بالأمر سبح حملة العرش‏"‏ وذكر الحديث في مسترق السمع‏.‏فنفي النبي ﷺ أن يكون الرمي بها لأجل أنه قد ولد عظيم أو مات عظيم ، بل لأجل الشياطين المسترقين السمع‏.‏ ففي كلا الحديثين من أن موت الناس وحياتهم لا يكون سبب الكسوف الشمس والقمر ولا الرمي بالنجم، وإن كان موت بعض الناس قد يقتضي حدوث أمر في السموات؛ كما ثبت في الصحاح‏:‏ ‏"‏أن العرش عرش الرحمن اهتز لموت سعد

    ج/ 35 ص -175- بن معاذ‏"‏، وأما كون الكسوف أو غيره قد يكون سببا لحادث في الأرض من عذاب يقتضي موتا أو غيره، فهذا قد أثبته الحديث نفسه‏.‏
    وما أخبر به النبي ﷺ لا ينافي لكون الكسوف له وقت محدود يكون فيه، حيث لا يكون كسوف الشمس إلا في آخر الشهر ليلة السرار، ولا يكون خسوف القمر إلا في وسط الشهر وليالي الإبدار‏.‏ ومن ادعى خلاف ذلك من المتفقهة أو العامة فلعدم علمه بالحساب؛ ولهذا يمكن المعرفة بما مضى من الكسوف وما يستقبل، كما يمكن المعرفة بما مضى من الأهلة وما يستقبل؛ إذ كل ذلك بحساب، كما قال تعالى‏:
    ‏‏"‏ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 96‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ‏"‏[‏الرحمن‏:‏ 5‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ‏"‏[‏يونس‏:‏ 5‏]‏ وقال‏:‏ ‏"‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏‏.‏
    ومن هنا صار بعض العامة إذا رأى المنجم قد أصاب في خبره عن الكسوف المستقبل يظن أن خبره عن الحوادث من هذا النوع؛ فإن هذا جهل؛ إذ الخبر الأول بمنزلة إخباره بأن الهلال يطلع‏:‏ إما ليلة الثلاثين، وإما ليلة إحدى وثلاثين فإن هذا أمر أجرى اللّه به العادة لا يخرم أبدا، وبمنزلة خبره أن الشمس تغرب آخر النهار وأمثال ذلك‏.‏ فمن عرف منزلة الشمس والقمر، ومجاريهما علم ذلك، وإن كان ذلك علما قليل المنفعة‏.‏

    ج/ 35 ص -176- فإذا كان الكسوف له أجل مسمى لم يناف ذلك أن يكون عند أجله يجعله اللّه سببا لما يقضيه من عذاب وغيره لمن يعذب الله في ذلك الوقت، أو لغيره ممن ينزل اللّه به ذلك، كما أن تعذيب اللّه لمن عذبه بالريح الشديدة الباردة كقوم عاد كانت في الوقت المناسب، وهو آخر الشتاء، كما قد ذكر ذلك أهل التفسير وقصص الأنبياء، وكان النبي ﷺ إذا رأى مخيلة وهو السحاب الذي يخال فيه المطر أقبل وأدبر، وتغير وجهه، فقالت له عائشة‏:‏ إن الناس إذا رأوا مخيلة استبشروا، فقال‏:‏ ‏"‏ ياعائشة، وما يؤمنني‏؟‏ قد رأى قوم عاد العذاب عارضا مستقبل أوديتهم فقالوا‏:‏‏"‏ هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ‏"‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏"‏بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏"‏‏"‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 24‏]‏، وكذلك الأوقات الذي ينزل اللّه فيها الرحمة، كالعشر الآخرة من رمضان، والأول من ذي الحجة، وكجوف الليل، وغير ذلك هي أوقات محدودة لا تتقدم ولا تتأخر وينزل فيها من الرحمة ما لا ينزل في غيرها‏.‏
    وقد جاء في بعض طرق أحاديث الكسوف ما رواه ابن ماجه وغيره في قوله ﷺ ‏:
    ‏ ‏"‏إنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن اللّه إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له‏"‏ وقد طعن في هذا الحديث أبو حامد ونحوه، وردوا ذلك، لا من جهة علم الحديث، فإنهم قليلوا المعرفة به كما كان أبو حامد يقول عن نفسه‏:‏ أنا مزجى البضاعة في علم الحديث،

    ج/ 35 ص -177- ولكن من جهة كونهم اعتقدوا أن سبب الكسوف إذا كان مثلا كون القمر إذا حاذاها منع نورها أن يصل إلى الأرض لم يجز أن يعلل ذلك بالتجلي‏.‏ والتجلي المذكور لا ينافي السبب المذكور، فإن خشوع الشمس والقمر للّه في هذا الوقت إذا حصل لنوره ما يحصل من انقطاع يرفع تأثيره عن الأرض، وحيل بينه وبين محل سلطانه وموضع انتشاره وتأثيره، فإن الملك المتصرف في مكان بعيد لو منع ذلك لذل لذلك‏.‏
    وأما قوله تعالى‏:
    ‏"‏فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ‏"‏[‏النازعات‏:‏ 5‏]‏ فالمدبرات هي الملائكة‏.‏ وأما إقسام اللّه بالنجوم، كما أقسم بها في قوله‏:‏ ‏"‏فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ‏"‏ [‏التكوير‏:‏ 15، 16‏]‏، فهو كإقسامه بغير ذلك من مخلوقاته، كما أقسم بالليل والنهار، والشمس والقمر، وغير ذلك، يقتضي تعظيم قدر المقسم به، والتنبيه على ما فيه من الآيات والعبرة، والمنفعة للناس، والإنعام عليهم، وغير ذلك، ولا يوجب ذلك أن تتعلق القلوب به، أو يظن أنه هو المسعد المنحس، كما لا يظن ذلك في ‏"‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ‏"‏[‏الليل‏:‏1، 2‏]‏ وفي ‏"‏وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ‏"‏[‏الذاريات‏:‏1، 2‏]‏ وفي ‏"‏وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ ‏"‏[‏الطور‏:‏1، 2‏]‏ وأمثال ذلك‏.‏
    واعتقاد المعتقد أن نجما من النجوم السبعة هو المتولي لسعده ونحسه اعتقاده فاسد، وأن المعتقد أنه هو المدبر له، فهو كافر‏.‏ وكذلك إن انضم إلى ذلك دعاؤه والاستعانة به كان كفرا، وشركا محضا، وغاية

    ج/ 35 ص -178- من يقول ذلك أن يبني ذلك على أن هنا الولد حين ولد بهذا الطالع‏.‏ وهذا القدير يمتنع أن يكون وحده هو المؤثر في أحوال هذا المولود، بل غايته أن يكون جزءا يسيرا من جملة الأسباب‏.‏ وهذا القدر لا يوجب ما ذكر، بل ما علم حقيقة تأثيره فيه مثل حال الوالدين، وحال البلد الذي هو فيه، فإن ذلك سبب محسوس في أحوال المولود، ومع هذا فليس هذا مستقلا‏.‏
    ثم إن الأوائل من هؤلاء المنجمين المشركين الصابئين وأتباعهم قد قيل إنهم كانوا إذا ولد لهم المولود أخذوا طالع المولود، وسموا المولود باسم يدل على ذلك، فإذا كبر سئل عن اسمه، أخذ السائل حال الطالع‏.‏ فجاء هؤلاء الطرقية يسألون الرجل عن اسمه واسم أمه، ويزعمون أنهم يأخذون من ذلك الدلالة على أحواله، وهذه ظلمات بعضها فوق بعض منافية للعقل والدين‏.‏ وأما اختياراتهم، وهو أنهم يأخذون الطالع لما يفعلونه من الأفعال‏:‏ مثل اختياراتهم للسفر أن يكون القمر في شرفه وهو السرطان وألا يكون في هبوطه وهو العقرب فهو من هذا الباب المذموم‏.‏
    ولما أراد علي بن أبي طالب أن يسافر لقتال الخوارج عرض له منجم فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، لا تسافر، فإن القمر في العقرب، فإنك إن سافرت

    ج/ 35 ص -179- والقمر في العقرب هزم أصحابك أو كما قال فقال على‏:‏ بل أسافر ثقة باللّه، وتوكلا على اللّه، وتكذيبا لك، فسافر فبورك له في ذلك السفر، حتى قتل عامة الخوارج، وكان ذلك من أعظم ما سر به، حيث كان قتاله لهم بأمر النبي ﷺ‏.‏وأما ما يذكره بعض الناس أن النبي ﷺ قال‏:‏ لا تسافر والقمر في العقرب، فكذب مختلق باتفاق أهل الحديث‏.‏
    وأما قول القائل‏:‏ إنها صنعة إدريس‏:‏
    فيقال أولاً‏:‏ هذا قول بلا علم؛ فإن مثل هذا لا يعلم إلا بالنقل الصحيح، ولا سبيل لهذا القائل إلى ذلك، ولكن في كتب هؤلاء هرمس الهرامسة ويزعمون أنه هو إدريس‏.‏ والهرمس عندهم اسم جنس؛ ولهذا يقولون‏:‏ هرمس الهرامسة، وهذا القدر الذي يذكرونه عن هرمسهم يعلم المؤمن قطعًا أنه ليس هو مأخوذاً عن نبي من الأنبياء على وجهه؛ لما فيه من الكذب والباطل‏.‏
    ويقال ثانيًا‏:‏ هذا إن كان أصله مأخوذا عن إدريس فإنه كان معجزة له، وعلمًا أعطاه اللّه إياه، فيكون من العلوم النبوية‏.‏ وهؤلاء إنما يحتجون بالتجربة والقياس، لا بأخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏

    ج/ 35 ص -180- ويقال ثالثا‏:‏ إن كان بعض هذا مأخوذا عن نبي فمن المعلوم قطعا أن فيه من الكذب والباطل أضعاف ماهو مأخوذ من ذلك النبي‏.‏ ومعلوم قطعا أن الكذب والباطل الذي في ذلك أضعاف الكذب والباطل الذي عند اليهود والنصارى فيما يأثرونه على الأنبياء، وإذا كان اليهود والنصارى قد تيقنا قطعا أن أصل دينهم مأخوذ عن المرسلين، وأن اللّه أنزل التوراة والإنجيل والزبور كما أنزل القرآن، وقد أوجب اللّه علينا أن نؤمن بما أنزل علينا وما أنزل على من قبلنا، كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 136‏]‏ ثم مع ذلك قد أخبرنا اللّه أن أهل الكتاب حرفوا وبدلوا، وكذبوا وكتموا، فإذا كانت هذه حال الوحى المحقق، والكتب المنزلة يقينا، مع أنها إلينا أقرب عهدا من إدريس، ومع أن نقلتها أعظم من نقلة النجوم، وأبعد عن تعمد الكذب والباطل، وأبعد عن الكفر باللّه ورسوله واليوم الآخر، فما لظن بهذا القدر إن كان فيه ما هو منقول عن إدريس‏؟‏‏!‏ فإنا نعلم أن فيه من الكذب والباطل والتحريف أعظم مما في علوم أهل الكتاب‏.‏
    وقد ثبت في صحيح البخاري، عن النبي ﷺ أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏ إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا‏:‏

    ج/ 35 ص -181- آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون‏"‏ فإذا كنا مأمورين فيما يحدثنا به أهل الكتاب ألا نصدق إلا بما نعلم أنه الحق، كما لا نكذب إلا بما نعلم أنه باطل، فكيف يجوز تصديق هؤلاء فيما يزعمون أنه منقول عن إدريس عليه السلام، وهم في ذلك أبعد عن علمهم المصدق من أهل الكتاب‏؟‏‏!‏
    ويقال رابعا‏:‏ لا ريب أن النجوم نوعان ‏:‏ حساب، وأحكام‏.‏ فأما الحساب فهو معرفة أقدار الأفلاك والكواكب‏.‏ وصفاتها ومقادير حركاتها، وما يتبع ذلك فهذا في الأصل علم صحيح لا ريب فيه، كمعرفة الأرض وصفتها‏.‏ ونحو ذلك، لكن جمهور التدقيق منه كثير التعب، قليل الفائدة، كالعالم مثلا بمقادير الدقائق، والثواني، والثوالث في حركات السبعة المتحيرة
    ‏"‏ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ‏"‏[‏التكوير‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏ فإن كان أصل هذا مأخوذا عن إدريس فهذا ممكن، واللّه أعلم بحقيقة ذلك، كما يقول ناس إن أصل الطب مأخوذ عن بعض الأنبياء‏.‏
    وأما الأحكام التي هي من جنس السحر فمن الممتنع أن يكون نبي من الأنبياء كان ساحرًا، وهم يذكرون أنواعا من السحر، ويقولون‏:‏ هذا يصلح لعمل النواميس‏.‏ أي‏:‏ الشرائع، والسنن ومنها ما هو دعاية الكواكب، وعبادة لها، وأنواع من الشرك الذي يعلم كل من آمن باللّه ورسوله بالاضطرار أن نبيًا من الأنبياء لا يأمر بذلك

    ج/ 35 ص -182- ولا علمه، وإضافة ذلك إلى بعض الأنبياء كإضافة من أضاف ذلك إلى سليمان عليه السلام، لما سخر اللّه له الجن والإنس والطير، فزعم قوم أن ذلك كان بأنواع من السحر، حتى إن طوائف من اليهود والنصارى لا يجعلونه نبيا حكيما، فنزهه اللّه عن ذلك فقال تعالى‏:‏ ‏"‏وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ‏"‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏ وكذلك أيضًا الاستدال على الحوادث بما يستدلون به من الحركات العلوية، والاختيارات للأعمال، هذا كله يعلم قطعا أن نبيا من الأنبياء لم يؤمر قط بهذا؛ إذ فيه من الكذب والباطل ما ينزه عنه العقلاء الذين هم دون الأنبياء بكثير، وما فيه من الحق فهو شبيه بما قال إمام هؤلاء ومعلمهم الثاني أبو نصر الفارابي قال ما مضمونه‏:‏ إنك لو قلبت أوضاع المنجمين، فجعلت مكان السعد نحسا، ومكان النحس سعدا، أو مكان الحار باردا، أو مكان البارد حارا، أو مكان المذكر مؤنثا، أو مكان المؤنث مذكرا، وحكمت، لكان حكمك من جنس أحكامهم، يصيب تارة، ويخطئ أخرى‏.‏ وما كان بهذه المثابة فهم ينزهون عنه بقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وأصحابه الفلاسفة المشائين، الذين يوجد في كلامهم من الباطل والضلال نظير ما يوجد في كلام اليهود والنصارى، فإذا كانوا ينزهون عنه هؤلاء الصابئين، وأنبياءهم الذين أقل نسبة، وأبعد عن معرفة الحق من اليهود والنصارى‏:‏ فكيف يجوز نسبته إلى نبي كريم‏؟‏‏!‏

    ج/ 35 ص -183- ونحن نعلم من أحوال أئمتنا أنه قد أضيف إلى جعفر الصادق وليس هو بنبي من الأنبياء من جنس هذه الأمور ما يعلم كل عالم بحال جعفر رضي اللّه عنه أن ذلك كذب عليه، فإن الكذب عليه من أعظم الكذب، حتى نسب إليه أحكام الحركات السفلية كاختلاج الأعضاء وحوادث الجو من الرعد، والبرق، والهالة، وقوس اللّه، الذي يقال له‏:‏ قوس قزح وأمثال ذلك، والعلماء يعلمون أنه بريء من ذلك كله‏.‏
    وكذلك نسب إليه الجدول الذي بني عليه الضلال طائفة من الرافضة، وهو كذب مفتعل عليه، افتعله عليه عبد اللّه بن معاوية أحد المشهورين بالكذب، مع رياسته، وعظمته عند أتباعه‏.‏
    وكذلك أضيف إليه كتاب الجفر، والبطاقة، والهفت، وكل ذلك كذب عليه باتفاق أهل العلم به، حتى أضيف إليه رسائل إخوان الصفا، وهذا في غاية الجهل؛ فإن هذه الرسائل إنما وضعت بعد موته بأكثر من مائتي سنة؛ فإنه توفى سنة ثمان وأربعين ومائة، وهذه الرسائل وضعت في دولة بني بويه في أثناء المائة الرابعة في أوائل دولة بني عبيد الذين بنوا القاهرة، وضعها جماعة، وزعموا أنهم جمعوا بها بين الشريعة والفلسفة، فضلوا وأضلوا‏.‏
    وأصحاب جعفر الصادق الذين أخذوا عنه العلم كمالك بن أنس وسفيان بن عيينة، وأمثالهما من الأئمة أئمة الإسلام براء من هذه الأكاذيب‏.‏

    ج/ 35 ص -184- وكذلك كثير ما يذكره الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب حقائق التفسير عن جعفر من الكذب الذي لا يشك في كذبه أحد من أهل المعرفة بذلك‏.‏ وكذلك كثير من المذاهب الباطلة التي يحكيها عنه الرافضة وهي من أبين الكذب عليه‏.‏ وليس في فرق الأمة أكثر كذبا واختلافا من الرافضة من حين نبغوا‏.‏
    فأول من ابتدع الرفض كان منافقا زنديقا، يقال له‏:‏ عبد اللّه بن سبأ فأراد بذلك إفساد دين المسلمين، كما فعل ‏[‏بولص‏]‏ صاحب الرسائل التي بأيدي النصارى، حيث ابتدع لهم بدعا أفسد بها دينهم، وكان يهوديا، فأظهر النصرانية نفاقا فقصد إفسادها، وكذلك كان ابن سبأ يهوديا فقصد ذلك، وسعى في الفتنة لقصد إفساد الملة، فلم يتمكن من ذلك، لكن حصل بين المؤمنين تحريش وفتنة قتل فيها عثمان رضي اللّه عنه وجرى ما جرى من الفتنة، ولم يجمع اللّه وللّه الحمد هذه الأمة على ضلالة، بل لا يزال فيها طائفة قائمة بالحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم الساعة ، كما شهدت بذلك النصوص المستفيضة في الصحاح عن النبي ﷺ‏.‏
    ولما أحدثت البدع الشيعية في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ردها، وكانت ثلاثة طوائف‏:‏ غالية، وسبابة، ومفضلة‏.‏

    ج/ 35 ص -185- فأما الغالية فإنه حرقهم بالنار، فإنه خرج ذات يوم من باب كندة فسجد له أقوام، فقال‏:‏ ماهذا‏؟‏ فقالوا‏:‏ أنت هو اللّه، فاستتابهم ثلاثا فلم يرجعوا، فأمر في الثالث بأخاديد فخدت، وأضرم فيها النار، ثم قذفهم فيها، وقال‏:‏
    لما رأيت الأمر أمرا منكرا
    أججت ناري ودعوت قنبرا
    وفي صحيح البخاري أن عليا أتى بزنادقتهم فحرقهم، وبلغ ذلك ابن عباس فقال‏:‏ أما أنا فلو كنت لم أحرقهم، لنهي النبي ﷺ أن يعذب بعذاب اللّه، ولضربت أعناقهم؛ لقول النبي ﷺ‏
    :‏ ‏"‏من بدل دينه فاقتلوه‏"‏ ‏.‏
    وأما السبابة فإنه لما بلغه من سب أبا بكر وعمر طلب قتله فهرب منه إلى قرقيسيا، وكلمه فيه، وكان على يداري أمراءه؛ لأنه لم يكن متمكنا ولم يكونوا يطيعونه في كل ما يأمرهم ‏.‏
    وأما المفضلة فقال‏:‏ لا أوتي بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفترين، وروي عنه من أكثر من ثمانين وجها أنه قال‏:‏ خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر‏.‏ وفي صحيح البخاري عن محمد ابن الحنفية أنه قال لأبيه‏:‏ يا أبت، من خير الناس بعد رسول اللّه ﷺ‏؟‏

    ج/ 35 ص -186- فقال‏:‏ يابني، أو ما تعرف‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ أبو بكر، قال‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ عمر‏.‏ وفي الترمذي وغيره أن عليا روى هذا التفضيل عن النبي ﷺ‏.‏
    والمقصود هنا أنه قد كذب على علي بن أبي طالب من أنواع الكذب الذي لا يجوز نسبتها إلى أقل المؤمنين، حتى أضافت إليه القرامطة والباطنية والخرمية والمزدكية والإسماعيلية والنصيرية مذاهبها التي هي من أفسد مذاهب العالمين، وادعوا أن ذلك من العلوم الموروثة عنه‏.‏ وهذا كله إنما أحدثه المنافقون الزنادقة الذين قصدوا إظهار ما عليه المؤمنون وهم يبطنون خلاف ذلك واستتبعوا الطوائف الخارجة عن الشرائع، وكان لهم دول، وجرى على المؤمنين منهم فتن، حتى قال ابن سينا‏:‏ إنما اشتغلت في علوم الفلاسفة لأن أبي كان من أهل دعوة المصريين يعني من بني عبيد الرافضة القرامطة فإنهم كانوا ينتحلون هذه العلوم الفلسفية، ولهذا تجد بين هؤلاء وبين الرافضة ونحوهم من البعد عن معرفة النبوات اتصال وانضمامات يجمعهم فيه الجهل الصميم بالصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‏.‏
    فإذا كان في الزمان الذي هو أقل من سبعمائة سنة قد كذب على أهل بيته وأصحابه وغيرهم وأضيف إليهم من مذاهب الفلاسفة والمنجمين ما يعلم

    ج/ 35 ص -187- كل عاقل براءتهم منه، ونفق ذلك على طوائف كثيرة منتسبة إلى هذه الملة مع وجود من يبين كذب هؤلاء وينهى عن ذلك، ويذب عن الملة بالقلب واليد واللسان، فكيف الظن بما يضاف إلى إدريس وغيره من الأنبياء من أمور النجوم والفلسفة، مع تطاول الزمان، وتنوع الحدثان، واختلاف الملك والملل والأديان، وعدم من يبين حقيقة ذلك من حجة وبرهان، واشتمال ذلك على مالا يحصى من الكذب والبهتان‏؟‏‏!‏
    وكذلك دعوى المدعى أن نجم النبي ﷺ كان بالعقرب والمريخ، وأمته بالزهرة، وأمثال ذلك هو من أوضح الهذيان، المباينة لأحوال النبي ﷺ لما يدعونه من هذه الأحكام، فإن من أوضح الكذب قولهم إن نجم المسلمين بالزهرة، ونجم النصارى بالمشترى، مع قولهم إن المشترى يقتضى العلم والدين، والزهرة تقتضي اللهو واللعب‏.‏
    وكل عاقل يعلم أن النصارى أعظم الملل جهلا وضلالة، وأبعدهم عن معرفة المعقول والمنقول، وأكثر اشتغالا بالملاهى وتعبدا بها‏.‏
    والفلاسفة متفقون كلهم على أنه ما قرع العالم ناموس أعظم من الناموس الذي جاء به محمد ﷺ ، وأمته أكمل عقلا ودينا وعلما باتفاق الفلاسفة، حتى فلاسفة اليهود والنصارى، فإنهم لا يرتابون في أن المسلمين أفضل عقلا ودنيا‏.‏

    ج/ 35 ص -188- وانما يمكث أحدهم على دينه‏.‏ إما اتباعا لهواه ورعاية لمصلحة دنياه في زعمه، وإما ظنا منه أنه يجوز التمسك بأي ملة كانت، وأن الملل شبيهة بالمذاهب الإسلامية؛ فإن جمهور الفلاسفة والمنجمين وأمثالهم يقولون بهذا، ويجعلون الملل بمنزلة الدول الصالحة، وإن كان بعضها أفضل من بعض‏.‏
    وأما الكتب السماوية المتواترة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام،فناطقة بأن الله لا يقبل من أحد دينًا سوى الحنيفية وهي الإسلام العام عبادة الله وحده لا شريك له، والإيمان بكتبه؛ ورسله، واليوم الآخر كما قال تعالى‏
    :‏ ‏"‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 62‏]‏ وبذلك أخبرنا عن الأنبياء المتقدمين وأممهم، قال نوح‏:‏ ‏"‏فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏"‏‏[‏يونس‏:‏ 72‏]‏، وقال في إبراهيم‏:‏ ‏"‏وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ‏"‏ [‏البقرة‏:‏130‏:‏ 132‏]‏ وقال موسى‏:‏ ‏"‏وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ‏"‏ ‏[‏يونس‏:‏ 84‏]‏ وقال‏:‏ ‏"‏إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏، وقالت بلقيس‏:‏ ‏"‏رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏"‏[‏النمل‏:‏ 44‏]‏وقال في

    ج/ 35 ص -189- الحوارين‏:‏ ‏"‏أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 111‏]‏، وقد قال مطلقا‏:‏ ‏"‏شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ‏"‏[‏آل عمران‏:‏18، 19‏]‏ وقال‏:‏ ‏"‏قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 84، 85‏]‏‏.‏
    فإذا كان المسلمون باتفاق كل ذي عقل أولى أهل الملل بالعلم والعقل والعدل وأمثال ذلك مما يناسب عندهم آثار المشتري، والنصارى أبعد عن ذلك، وأولى باللهو واللعب وما يناسب عندهم آثار الزهرة، كان ما ذكروه ظاهر الفساد‏.‏ ولهذا لا تزال أحكامهم كاذبة متهافتة، حتى أن كبير الفلاسفة الذي يسمونه فيلسوف الإسلام يعقوب بن إسحاق الكندي عمل تسييرا لهذا الملة، زعم أنها تنقضي عام ثلاث وتسعين وستمائة، وأخذ ذلك منه من أخرج مخرج الاستخراج من حروف كلام ظهر في الكشف لبعض من أعاده، ووافقهم على ذلك من زعم أنه استخرج بقاء هذه الملة من حساب الجمل، الذي للحروف التي في

    ج/ 35 ص -190- أوائل السور، وهي مع حذف التكرير أربعة عشر حرفا‏.‏ وحسابها في الجملة الكثير ستمائة وثلاثة وتسعون‏.‏ ومن هذا أيضا ما ذكر في التفسير أن اللّه لما أنزل ‏"‏حم‏"‏ قال بعض اليهود‏:‏ بقا هذه الملة إحدى وثلاثون، فلما أنزل بعد ذلك ‏"‏الر‏"‏ و ‏"‏حم‏"‏ قالوا‏:‏ خلط علينا‏.‏
    فهذه الأمور التي توجد في ضلال اليهود والنصارى، وضلال المشركين والصابئين من المتفلسفة والمنجمين، مشتملة من هذا الباطل على مالا يعلمه إلا اللّه تعالى‏.‏
    وهذه الأمور وأشباهها خارجة عن دين الإسلام محرمة فيه، فيجب إنكارها، والنهي عنها على المسلمين على كل قادر بالعلم والبيان، واليد واللسان؛ فإن ذلك من أعظم ما أوجبه اللّه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهؤلاء وأشباههم أعداء الرسل، وسوس الملل‏.‏
    ولا ينفق الباطل في الوجود إلا بشوب من الحق، كما أن أهل الكتاب لبسوا الحق بالباطل بسبب الحق اليسير الذي معهم، يضلون خلقا كثيرا عن الحق الذي يجب الإيمان به، ويدعونه إلى الباطل الكثير الذي هم عليه‏.‏ وكثيرًا ما يعارضهم من أهل الإسلام من لا يحسن التمييز بين الحق والباطل، ولا يقيم الحجة التي تدحض باطلهم، ولا يبين حجة اللّه التي أقامها برسله، فيحصل بسبب ذلك فتنة‏.‏ وقد بسطنا القول في هذا الباطل ونحوه في غير هذا الموضع‏.‏ واللّه أعلم‏.

    ج/ 35 ص -191-وَسُئل رحمه اللّه تعالى ‏:‏ ما يقول السادة الفقهاء أئمة الدين رضي اللّه عنهم أجمعين في هؤلاء المنجمين الذين يجلسون على الطرق، وفي الحوانيت وغيرها، ويجلس عندهم النساء، والفساق أيضا بسبب النساء، ويزعم هؤلاء المنجمون أنهم يخبرون بالأمور المغيبة، معتمدين في ذلك على صناعة التنجيم، ويكتبون للناس الأوفاق، ويسحرون، ويكتبون الطلاسم، ويعلمون النساء السحر لأزواجهم وغيرهم، ويجتمع النساء والرجال على أبواب الحوانيت بسبب ذلك، وربما آل الأمر إلى غير ذلك من إفساد النساء على أزواجهن، وإفساد عقائد الناس، وتعلق همجهم بالسحر والكواكب، وإعراضهم عن اللّه عز وجل والتوكل عليه في الحوادث والنوازل‏:‏ فهل يحل ذلك، أم لا‏؟‏
    وهل صناعة التنجيم محرمة، أم لا ‏؟‏ وهل يجوز أخذ الأجرة على ذلك، وبذلها حرام، أم لا‏؟‏ وهل يجوز لمن له تعلق بالحانوت من ناظر ومالك ووكيل أن يؤجره من ذلك أم لا ‏؟‏ وهل الأجرة حرام، أم لا‏؟‏ وهل يجب على ولى الأمر وكل مسلم يقدر على ذلك إزالة ذلك، أم لا‏؟‏

    ج/ 35 ص -192- وهل إذا لم يفعل ولي الأمر الإنكار عليهم يدخل في وعيد الحديث الصحيح المروي عن النبي ﷺ، وهو قوله‏:‏ ‏"‏ما من وال يسترعيه اللّه رعية، ثم لم يجهد لهم، وينصح لهم، إلا لم يدخل معهم الجنة‏"‏ ‏.‏
    وإذا أنكر ولي الأمر هذا المنكر يدخل في قوله تعالى‏:‏
    ‏"‏وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 104‏]‏ وهل يثاب على ذلك الثواب الجزيل إذا أنكره أم لا ‏؟‏ وإن رأوا أن يذكروا ما حضرهم من الأحاديث الوعيدية في ذلك مأجورين‏.‏ إن شاء اللّه تعالى‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه رب العالمين، لا يحل شيء من ذلك، وصناعة التنجيم التي مضمونها الإحكام والتأثير، وهو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية، والتمزيج بين القوى الفلكي والقوابل الأرضية صناعة محرمة بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة، بل هى محرمة على لسان جميع المرسلين في جميع الملل، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏
    "‏وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 69‏]‏، وقال‏:‏ ‏"‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ‏"‏[‏النساء‏:‏ 51‏]‏، قال عمر وغيره‏:‏ الجبت ‏:‏ السحر‏.‏
    وروى أبو داود في سننه بإسناد حسن، عن قبيصة بن مخارق عن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"
    ‏ العيافة والطرق والطيرة من الجبت ‏"‏، قال عوف

    ج/ 35 ص -193- راوي الحديث‏:‏ العيافة‏:‏ زجر الطير، والطرق‏:‏ الخط يخط في الأرض، وقيل‏:‏ بالعكس‏.‏ فإذا كان الخط ونحوه الذي هو من فروع النجامة من الجبت، فكيف بالنجامة‏؟‏ وذلك أنهم يولدون الأشكال في الأرض؛ لأن ذلك متولد من أشكال الفلك‏.‏
    وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم بإسناد صحيح عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول اللّه ﷺ ‏:‏
    ‏"‏ من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر، زاد مازاد ‏"‏، فقد صرح رسول اللّه بأن علم النجوم من السحر، وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏"‏ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ‏"‏[‏طه‏:‏ 69‏]‏، وهكذا الواقع، فإن الاستقراء يدل على أن أهل النجوم لا يفلحون، لا في الدنيا ولا في الآخرة‏.‏
    وروى أحمد ومسلم في الصحيح، عن صفية بنت عبيد، عن بعض أزواج النبي ﷺ، عن النبي ﷺ، أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏ من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما ‏"‏، والمنجم يدخل في اسم العراف عند بعض العلماء‏.‏ وعند بعضهم هو في معناه، فإذا كانت هذه حال السائل فكيف بالمسؤول‏.‏
    وروي أيضا في صحيحه عن معاوية بن الحكم السلمى قال‏:‏ قلت يارسول اللّه، إن قوما منا يأتون الكهان‏.‏ قال‏:‏
    ‏"‏ فلا تأتوهم ‏"‏ ، فنهى النبي ﷺ عن إتيان الكهان، والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطَّابي

    ج/ 35 ص -194- وغيره من العلماء، وحكى ذلك عن العرب‏.‏ وعند آخرين هو من جنس الكاهن وأسوء حالا منه، فلحق به من جهة المعني‏.‏
    وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏ ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وحلوان الكاهن خبيث ‏"‏ حلوانه الذي تسميه العامة ‏[‏حلاوته‏]‏ ويدخل في هذا المعنى ما يعطيه المنجم وصاحب الأزلام التي يستقسم بها مثل الخشبة المكتوب عليها‏.‏ أ ،ب ،ج ، د ، والضارب بالحصى ونحوهم فما يعطى هؤلاء حرام‏.‏ وقد حكى الإجماع على تحريمه غير واحد من العلماء‏:‏ كالبغوي، والقاضي عياض، وغيرهما‏.‏
    وفي الصحيحين عن زيد بن خالد قال‏:‏ خطبنا رسول اللّه ﷺ بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل، فقال‏:‏
    ‏"‏ أتدرون ماذا قال ربكم الليلة‏؟‏‏"‏ قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏"‏ أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فمن قال‏:‏ مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب‏"‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏ ما أنزل اللّه من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين، ينزل الله الغيث ويقولون بكوكب كذا، وكذا‏"‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عنه ﷺ، أنه قال‏:‏ ‏"‏ أربع في أمتي من أمر الجاهلية‏:‏ الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالأنواء ‏"‏، وفيه عن ابن عباس، عن النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ّ‏"‏[‏ الواقعة ‏:‏82 ‏]‏ قال‏:‏ ‏"‏هو الاستسقاء بالأنواء‏"‏، أو كما قال‏.‏

    ج/ 35 ص -195- والنصوص عن النبي ﷺ وأصحابه وسائر الأئمة بالنهي عن ذلك أكثر من أن يتسع هذا الموضع لذكرها‏.‏
    وقد تبين بما ذكرناه أن الأجرة المأخوذة على ذلك، والهبة، والكرامة حرام على الدافع، والآخذ، وأنه يحرم على الملاك والنظار والوكلاء إكراء الحوانيت المملوكة أو الموقوفة أو غيرها من هؤلاء الكفار والفساق بهذه المنفعة؛ إذا غلب على ظنهم أنهم يفعلون فيها هذا الجبت الملعون‏.‏
    ويجب على ولي الأمر وكل قادر السعى في إزالة ذلك‏.‏ ومنعهم من الجلوس في الحوانيت أو الطرقات، أو دخولهم على الناس في منازلهم لذلك وإن لم يفعل ذلك فيكفيه قوله تعالى‏
    :‏‏"‏كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 79‏]‏، وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏"‏ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 63‏]‏ فإن هؤلاء الملاعين يقولون الإثم ويأكلون السحت بإجماع المسلمين‏.‏ وثبت عن النبي ﷺ برواية الصديق عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ‏"‏، وأي منكر أنكر من عمل هؤلاء الأخابث، سوس الملك، وأعداء الرسل، وأفراخ الصابئة عباد الكواكب‏؟‏‏!‏ فهل كانت بعثة الخليل صلاة الله وسلامه عليه إمام الحنفاء إلا إلى سلف هؤلاء، فإن نمرود بن كنعان كان ملك هؤلاء، وعلماء الصابئة هم المنجمون ونحوهم وهل عبدت الأوثان في غالب الأمر إلا عن رأي هذا الصنف الخبيث، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله‏؟‏‏!‏

    ج/ 35 ص -196- ومن استقوه ممن ينتسب إلى التدين بكتاب فإنه الخليق بأن يأخذ بنصيب من قوله‏:‏ ‏"‏ وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 101، 103‏]‏‏.‏
    وهكذا قد اعترف رؤساء المنجمين من الأولين والآخرين أن أهل الإيمان أهل العبادات والدعوات يرفع اللّه عنهم ببركة عباداتهم ودعائهم وتوكلهم على الله ما يزعم المنجمون أن الأفلاك توجبه، ويعترفون أيضا بأن أهل العبادات والدعوات ذوي التوكل على الله يعطون من ثواب الدنيا والآخرة ما ليس في قوى الأفلاك أن تجلبه‏.‏ فالحمد لله الذي جعل خير الدنيا والآخرة في اتباع المرسلين، وجعل خير أمة هم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وقال تعالى‏:‏
    ‏"‏ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ِ‏"‏[‏ المائدة ‏:‏ 54‏]‏ ،

    ج/ 35 ص -197-واللّه يؤيد ويعين على الدين واتباع سبيل المؤمنين ، واللّه سبحانه وتعالى أعلم، وأحكم‏.‏
    وَسئل رَحمه اللّه تَعالى عن صناعة التنجيم والاستدلال بها على الحوادث‏:‏ هل هو حلال أم حرام‏؟‏ يحل أخذ الأجرة وبذلها، أم لا‏؟‏ وهل يجب على ولي الأمر منعهم وإزالتهم من الجلوس في الدكاكين‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    بل ذلك محرم بإجماع المسلمين، وأخذ الأجرة على ذلك، ومن الجلوس في الحوانيت والطرقات، ومنع الناس من أن يكروهم ‏.‏ والقيام في ذلك من أفضل الجهاد في سبيل اللّه، واللّه أعلم‏.‏
    وَسئل رَحمه اللّه عمن قال لشريف‏:‏ ياكلب، يا ابن الكلب، لا تمد يدك إلى حوض الحمام، فقيل له‏:‏ إنه شريف، فقال‏:‏ لعنه اللّه، ولعن من شرفه، فقيل له‏:‏ أين عقلك‏؟‏ هذا شريف‏!‏ فقال‏:‏ كلب بن كلب، فقام إليه وضربه‏:‏ فهل يجب قتله أم لا ‏؟‏ وشهد عليه بذلك عدو له ‏؟‏

    ج/ 35 ص -198-فأجاب‏:‏
    لا تقبل شهادة العدو على عدوه ولو كان عدلا، وليس هذا الكلام بمجرده من باب السب الذي يقتل صاحبه، بل يستفسر عن قوله‏:‏ من شرفه، فإن ثبت بتفسيره أو بقرائن حالية أو لفظية أنه أراد لعن النبي ﷺ وجب قتله‏.‏
    وإن لم يثبت ذلك، أو ثبت بقرائن حالية أو لفظية أنه أراد غير النبي ﷺ، مثل أن يريد لعن من يعظمه، أو يبجله، أو لعن من يعتقده شريفا، لم يكن ذلك موجبا للقتل باتفاق العلماء، لا يظن بالذي ليس بزنديق أنه يقصد لعن النبي ﷺ، فمن عرف من حاله أنه مؤمن ليس بزنديق كان ذلك دليلا على أنه لم يرد النبي ﷺ ‏.‏ ولا يجب قتل مسلم بسب أحد من الأشراف باتفاق العلماء، إنما يقتل من سب الأنبياء‏.‏ وفيمن سب الصحابة تفصيل ونزاع بين العلماء‏.‏
    ولكن من ثبت عليه أنه اعتدى بقوله أو فعله على شريف أو غيره، عوقب على عدوانه‏:‏ إما بالقصاص بما يكون فيه المماثلة، وإما التعزير بما يمنعه من العدوان، وإما بحد القذف إن كان العدوان قذفا يوجب الحد‏.‏
    وتجب عقوبة المعتدين أيضا وإن كان شريفًا فقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏
    :‏ ‏"‏إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي

    ج/ 35 ص -199- نفس محمد بيده، لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها‏"‏ ‏.‏ وما يشرع فيه القصاص في الدماء والأموال وغيرها، ولا فرق فيه بين الشريف وغيره، قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم‏"‏ الحديث، واللّه أعلم‏.‏
    وَسئل رَحمه اللّه تَعالى عن رجل أراد أن يشتكى على رجل، فشفع فيه جماعة، فقال‏:‏ لو جاءني محمد بن عبد اللّه فيه، ما قبلت فقالوا‏:‏ كفرت‏؟‏ استغفر اللّه من قولك، فقال‏:‏ ما أقول‏؟‏
    فأجاب رحمه اللّه تعالى‏:‏
    أما قول الرجل لو جاءني محمد بن عبد اللّه‏.‏ إذا ثبت عليه هذا الكلام فإنه يقتل على ذلك، ولو تاب بعد رفعه إلى الإمام لم يسقط عنه القتل في أظهر قولي العلماء، ولكن إن تاب قبل رفعه إلى الإمام سقط عنه القتل في أظهر القولين، وإن عزر بعد التوبة كان سائغا‏.‏

    ج/ 35 ص -200-وسئل رحمه الله عن رجل لعن اليهود، ولعن دينه، وسب التوراة‏:‏ فهل يجوز لمسلم أن يسب كتابهم، أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، ليس لأحد أن يلعن التوراة، بل من أطلق لعن التوراة فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل‏.‏ وإن كان ممن يعرف أنها منزلة من عند الله، وأنه يجب الإيمان بها، فهذا يقتل بشتمه لها، ولا تقبل توبته في أظهر قولي العلماء‏.‏
    وأما إن لعن دين اليهود الذي هم عليه في هذا الزمان فلا بأس به في ذلك، فإنهم ملعونون هم ودينهم، وكذلك إن سب التوراة التي عندهم بما يبين أن قصده ذكر تحريفها مثل أن يقال نسخ هذه التوراة مبدلة لا يجوز العمل بما فيها، ومن عمل اليوم بشرائعها المبدلة والمنسوخة فهو كافر، فهذا الكلام ونحوه حق لا شيء على قائله، والله أعلم‏.

    ج/ 35 ص -201-وسئل رحمه الله تعالى عن رجل يفضل اليهود والنصارى على الرافضة‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، كل من كان مؤمنا بما جاء به محمد ﷺ فهو خير من كل من كفر به، وإن كان في المؤمن بذلك نوع من البدعة، سواء كانت بدعة الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية أو غيرهم؛ فإن اليهود والنصارى كفار، كفرًا معلومًا بالإضطرار من دين الإسلام، والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق للرسول ﷺ لا مخالف له لم يكن كافرًا به، ولو قدر أنه يكفر فليس كفره مثل كفر من كذب الرسول ﷺ‏.‏
    وسئل رحمه الله تعالى عن رجل قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏
    ‏"‏من قال لا إله إلا الله دخل الجنة‏"‏، وقال آخر‏:‏ إذا سلك الطريق الحميدة واتبع الشرع دخل ضمن هذا الحديث، وإذا فعل غير ذلك ولم يبال ما نقص من دينه

    ج/ 35 ص -202- وزاد في دنياه لم يدخل في ضمن هذا الحديث‏.‏
    قال له ناقل الحديث‏:‏ أنا لو فعلت كل ما لا يليق، وقلت لا إله إلا الله‏:‏ دخلت الجنة ولم أدخل النار‏؟‏
    فأجاب رحمه الله ‏:‏الحمد لله رب العالمين، من اعتقد أنه بمجرد تلفظ الإنسان بهذه الكلمة يدخل الجنة ولا يدخل النار بحال فهو ضال، مخالف للكتاب والسنة وإجماع المؤمنين؛ فإنه قد تلفظ بها المنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار، وهم كثيرون، بل المنافقون قد يصومون ويصلون ويتصدقون، ولكن لا يتقبل منهم، قال الله تعالى‏:‏ ‏
    "‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ‏"‏[‏النساء‏:‏142‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 53، 54‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ‏"‏ [‏النساء‏:‏ 140‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ‏"‏[‏الحديد‏:‏12‏:‏ 15‏]‏‏.‏
    وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال
    ‏"‏آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان‏"‏ ولمسلم‏:‏ ‏"‏وإن

    ج/ 35 ص -203- صلى وصام وزعم أنه مسلم‏"‏ ، وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها‏:‏ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر‏"‏‏.‏
    ولكن إن قال‏:‏ لا إله إلا الله خالصًا صادقًا من قلبه ومات على ذلك فإنه لا يخلد في النار، إذ لا يخلد في النار من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان كما صحت بذلك الأحاديث عن النبي ﷺ، لكن من دخلها من فساق أهل القبلة من أهل السرقة، والزنا وشرب الخمر، وشهادة الزور وأكل الربا وأكل مال اليتيم، وغير هؤلاء - فإنهم إذا عذبوا فيها عذبهم على قدر ذنوبهم، كما جاء في الأحاديث الصحيحة‏:‏ ‏"‏منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه ومكثوا فيها ما شاء الله أن يمكثوا، أخرجوا بعد ذلك كالحمم، فيلقون في نهر يقال له الحياة، فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، ويدخلون الجنة مكتوب على رقابهم‏:‏ هؤلاء الجهنميون عتقاء الله من النار‏"‏‏.‏ وتفصيل هذه المسألة في غير هذا الموضع، والله أعلم‏.‏

    ج/ 35 ص -204-وسئل رحمه الله تعالى عن رجل حبس خصمًا له عليه دين بحكم الشرع، فحضر إليه رجل يشفع فيه فلم يقبل شفاعته، فتخاصما بسبب ذلك، فشهد الشافع على الرجل؛ لأنه صدر منه كلام يقتضى الكفر، وخاف الرجل غائلة ذلك فأحضر إلى حاكم شافعي، وادعى عليه رجل من المسلمين بأنه تلفظ بما قيل عنه، وسأل حكم الشرع في ذلك‏.‏ فقال الحاكم للخصم عن ذلك فلم يعترف، فلقن أن يعترف ليتم له الحكم بصحة إسلامه وحقن دمه فاعترف بأن ذلك صدر منه جاهلاً بما يترتب عليه، ثم أسلم، ونطق بالشهادتين، وتاب واستغفر الله تعالى ثم سأل الحاكم المذكور أن يحكم له بإسلامه وحقن دمه وتوبته وبقاء ماله عليه، فأجابه إلى سؤاله، وحكم بإسلامه، وحقن دمه، وبقاء ماله عليه، وقبول توبته وعزره تعزير مثله وحكم بسقوط تعزير ثان عنه، وقضى بموجب ذلك كله‏.‏ ثم نفذ ذلك حاكم آخر حنفي‏:‏ فهل الحكم المذكور صحيح في جميع ما حكم له به، أم لا‏؟‏ وهل يفتقر حكم الشافعي إلى حضور خصم من جهة بيت المال، أم لا‏؟‏ وهل لأحد أن يتعرض بما صدر منه من أخذ ماله أو شيء منه بعد إسلامه، أم لا‏؟‏ وهل يحل لحاكم آخر بعد الحكم

    ج/ 35 ص -205- والتنفيذ المذكورين أن يحكم في ماله بخلاف الحكم الأول وتنفيذه أم لا‏؟‏ وهل يثاب ولي الأمر على منع من يتعرض إليه بأخذ ماله أو شيء منه بما ذكر، أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، نعم الحكم المذكور صحيح، وكذلك تنفيذه وليس لبيت المال في مال مثل هذا حق باتفاق المسلمين، ولا يفتقر الحكم بإسلامه وعصمة ماله إلى حضور خصم من جهة بيت المال؛ فإن ذلك لا يتوقف على الحكم؛ إذ الأئمة متفقون على أن المرتد إذا أسلم عصم بإسلامه دمه وماله وإن لم يحكم بذلك حاكم، ولا كلام لولي بيت المال في مال من أسلم بعد ردته، بل مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد أيضًا في المشهور عنه أن من شهدت عليه بينة بالردة فأنكر وتشهد الشهادتين المعتبرتين حكم بإسلامه، ولا يحتاج أن يقر بما شهد به عليه، فكيف إذا لم يشهد عليه عدل‏؟‏ فإنه من هذه الصورة لا يفتقر الحكم بعصمة دمه وماله إلى إقراره باتفاق المسلمين‏.‏
    ولا يحتاج عصمة دم مثل هذا إلى أن يقر ثم يسلم بعد إخراجه إلى ذلك، فقد يكون فيه إلزام له بالكذب على نفسه أنه كفر؛ ولهذا لا يجوز أن يبني على مثل هذا الإقرار حكم الإقرار الصحيح؛ فإنه قد علم أنه لقن الإقرار، وأنه مكره عليه في المعنى؛ فإنه إنما فعله

    ج/ 35 ص -206- خوف القتل، ولو قدر أن كفر المرتد كفر سب فليس في الحكام بمذهب الأئمة الأربعة من يحكم بأن ماله لبيت المال بعد إسلامه؛ إنما يحكم من يحكم بقتله لكونه يقتل حدًا عندهم على المشهور‏.‏ ومن قال يقتل لزندقته، فإن مذهبه أنه لا يؤخذ بمثل هذا الإقرار‏.‏
    وأيضًا، فمال الزنديق عند أكثر من قال بذلك لورثته من المسلمين فإن المنافقين الذين كانوا على عهد النبي ﷺ كانوا إذا ماتوا ورثهم المسلمون مع الجزم بنفاقهم، كعبد الله بن أبي وأمثاله ممن ورثهم ورثتهم الذين يعلمون بنفاقهم، ولم يتوارث أحد من الصحابة غير الميراث منافق ‏.‏ والمنافق هو الزنديق في اصطلاح الفقهاء الذين تكلموا في توبة الزنديق‏.‏
    وأيضًا، فحكم الحاكم إذا نفذ في دمه الذي قد يكون فيه نزاع نفذ في ماله بطريق الأولى؛ إذا ليس في الأمة من يقول‏:‏ يؤخذ ماله ولا يباح دمه، فلو قيل بهذا كان خلاف الإجماع، فإذا لم يتوقف الحكم بعصمة دمه على دعوى من جهة ولي الأمر فماله أولى‏.‏
    وقد تبين أن الحكم بمال مثل هذا لبيت المال غير ممكن من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أنه لم يثبت عليه ما يبيح دمه، لا ببينة، ولا بإقرار متعين،

    ج/ 35 ص -207- ولكن بإقرار قصد به عصمة ماله ودمه من جنس الدعوى على الخصم المسخر‏.‏
    الثاني‏:‏ الحكم بعصمة دمه وماله واجب في مذهب الشافعي والجمهور وإن لم يقر، بل هو واجب بالإجماع مع عدم البينة والإقرار‏.‏
    الثالث‏:‏ أن الحكم صحيح بلا ريب‏.‏
    الرابع‏:‏ أنه لو كان حكم مجتهد فيه لزال ذلك بتنفيذ المنفذ له‏.‏
    الخامس‏:‏ أنه ليس في الحكام من يحكم بمال هذا لبيت المال ولو ثبت عليه الكفر ثم الإسلام ولو كان الكفر سبا، فكيف إذا لم يثبت عليه‏؟‏‏!‏ أم كيف إذا حكم بعصمة ماله‏؟‏‏!‏ بل مذهب مالك وأحمد الذي يستند إليها في مثل هذه من أبعد المذاهب عن الحكم بمال مثل هذا لبيت المال؛ لأن مثل هذا الإقرار عندهم إقرار تلجئة لا يلتفت إليه، ولما عرف من مذهبهما في الساب، والله أعلم‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML