ج/ 35 ص -5- "الفقه"
شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
كتاب قتال أهل البغي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
باب الخلافة والملك وقتال أهل البغي
قال شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية قدس الله روحه الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا [الله] وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ تسليما. أما بعد: فهذه قاعدة مختصرة في وجوب طاعة الله ورسوله في كل حال على كل أحد وأن ما أمر الله به ورسوله من طاعة الله وولاة
ج/ 35 ص -6- الأمور ومناصحتهم: واجب، وغير ذلك من الواجبات قال الله تعالى: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا" [النساء: 58]، وقال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً" [النساء: 59]، فأمر الله المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر منهم كما أمرهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل. وأمرهم إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى الله والرسول. قال العلماء: الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول بعد موته هو الرد إلى سنته، قال الله تعالى: "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" [البقرة: 213]، فجعل الله الكتاب الذي أنزله هو الذي يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ كان إذا قام يصلي بالليل يقول: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل
ج/ 35 ص -7- وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون: اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" وفي صحيح مسلم عن تميم الداري رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ: "الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول الله قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: "إن الله يرضى لكم ثلاثا، أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم" وفي السنن من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وزيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: "نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه غير فقيه. ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمور ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم". و [يغل] بالفتح هو المشهور ويقال: غلى صدره فغل إذا كان ذا غش وضغن وحقد أي قلب المسلم لا يغل على هذه الخصال الثلاثة وهي الثلاثة المتقدمة في قوله: "إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا. وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم" فإن الله إذا
ج/ 35 ص -8- كان يرضاها لنا لم يكن قلب المؤمن الذي يحب ما يحبه الله يغل عليها يبغضها ويكرهها فيكون في قلبه عليها غل، بل يحبها قلب المؤمن ويرضاها. وفي صحيح البخاري ومسلم وغيرهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول أو نقوم بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم" وفي الصحيحين أيضا عن عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ أنه قال: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ: "عليك بالسمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك". ومعنى قوله "وأثرة عليك" "وأثرة علينا" أي وإن استأثر: ولاة الأمور عليك فلم ينصفوك ولم يعطوك حقك، كما في الصحيحين عن أسيد بن حضير رضي الله عنه، أن رجلا من الأنصار خلا برسول الله ﷺ فقال: ألا تستعملني كما استعملت فلانا ؟ فقال: "إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض". وهذا كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: "إنها تكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها" قالوا:
ج/ 35 ص -9- يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: "تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم" وفي صحيح مسلم عن وائل بن حجر رضي الله عنه، قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعونا حقنا: فما تأمرنا ؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فحدثه الأشعث بن قيس قال، قال رسول الله ﷺ: "اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم". فذلك ما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم: هو واجب على المسلم، وإن استأثروا عليه. وما نهى الله عنه ورسوله من معصيتهم: فهو محرم عليه، وإن أكره عليه.
فصل
وما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب على الإنسان وإن لم يعاهدهم عليه وإن لم يحلف لهم الأيمان المؤكدة كما يجب عليه الصلوات الخمس والزكاة والصيام وحج البيت. وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله من الطاعة، فإذا حلف على ذلك كان ذلك توكيدا وتثبيتا لما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم. فالحالف على هذه
ج/ 35 ص -10- الأمور لا يحل له أن يفعل خلاف المحلوف عليه سواء حلف بالله أو غير ذلك من الأيمان التي يحلف بها المسلمون، فإن ما أوجبه الله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب وإن لم يحلف عليه، فكيف إذا حلف عليه وما نهى الله ورسوله عن معصيتهم وغشهم محرم وإن لم يحلف على ذلك. وهذا كما أنه إذا حلف ليصلين الخمس وليصومن شهر رمضان أو ليقضين الحق الذي عليه ويشهدن بالحق: فإن هذا واجب عليه وإن لم يحلف عليه فكيف إذا حلف عليه وما نهى الله عنه ورسوله من الشرك والكذب وشرب الخمر والظلم والفواحش وغش ولاة الأمور والخروج عما أمر الله به من طاعتهم: هو محرم، وإن لم يحلف عليه فكيف إذا حلف عليه ولهذا من كان حالفا على ما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم أو الصلاة أو الزكاة أو صوم رمضان أو أداء الأمانة والعدل ونحو ذلك: لا يجوز لأحد أن يفتيه بمخالفة ما حلف عليه والحنث في يمينه، ولا يجوز له أن يستفتي في ذلك. ومن أفتى مثل هؤلاء بمخالفة ما حلفوا عليه والحنث في أيمانهم: فهو مفتر على الله الكذب مفت بغير دين الإسلام، بل لو أفتى آحاد العامة بأن يفعل خلاف ما حلف عليه من الوفاء في عقد بيع أو نكاح أو إجارة أو غير ذلك مما يجب عليه الوفاء به من
ج/ 35 ص -11-العقود التي يجب الوفاء بها وإن لم يحلف عليها فإذا حلف كان أوكد فمن أفتى مثل هذا بجواز نقض هذه العقود. والحنث في يمينه: كان مفتريا على الله الكذب مفتيا بغير دين الإسلام فكيف إذا كان ذلك في معاقدة ولاة الأمور التي هي أعظم العقود التي أمر الله بالوفاء بها. وهذا كما أن جمهور العلماء يقولون: يمين المكره بغير حق لا ينعقد سواء كان بالله أو النذر أو الطلاق أو العتاق، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد. ثم إذا أكره ولي الأمر الناس على ما يجب عليهم من طاعته ومناصحته وحلفهم على ذلك: لم يجز لأحد أن يأذن لهم في ترك ما أمر الله به ورسوله من ذلك ويرخص لهم في الحنث في هذه الأيمان، لأن ما كان واجبا بدون اليمين فاليمين تقويه، لا تضعفه، ولو قدر أن صاحبها أكره عليها. ومن أراد أن يقول بلزوم المحلوف مطلقا في بعض الأيمان، لأجل تحليف ولاة الأمور أحيانا. قيل له: وهذا يرد عليك فيما تعتقده في يمين المكره، فإنك تقول: لا يلزم وإن حلف بها ولاة الأمور. ويرد عليك في أمور كثيرة تفتي بها في الحيل، مع ما فيه من معصية الله تعالى ورسوله وولاة الأمور.
ج/ 35 ص -12- وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد فيما نهى الله عنه من معصية ولاة الأمور وغشهم والخروج عليهم: بوجه من الوجوه كما قد عرف من عادات أهل السنة والدين قديما وحديثا ومن سيرة غيرهم. وقد ثبت في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: "ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدره" قال: وإن من أعظم الغدر. يعني بإمام المسلمين. وهذا حدث به عبد الله بن عمر لما قام قوم من أهل المدينة يخرجون عن طاعة ولي أمرهم، ينقضون بيعته. وفي صحيح مسلم عن نافع قال جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان، زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة. فقال: إني لم آتك لأجلس أتيتك لأحدثك حديثا، سمعت رسول الله ﷺ يقول: "من خلع يدا لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس يخرج من السلطان شبرا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية" وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قال: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة، فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية
ج/ 35 ص -13-أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية" وفي لفظ "ليس من أمتي من خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يوفي لذي عهدها، فليس مني ولست منه".
[فالأول] هو الذي يخرج عن طاعة ولي الأمر، ويفارق الجماعة. [والثاني] هو الذي يقاتل لأجل العصبية، والرياسة، لا في سبيل الله كأهل الأهواء: مثل قيس ويمن.
[والثالث] مثل الذي يقطع الطريق فيقتل من لقيه من مسلم وذمي، ليأخذ ماله وكالحرورية المارقين الذين قاتلهم علي بن أبي طالب الذي قال فيهم النبي ﷺ: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة". وقد أمر النبي ﷺ بطاعة ولي الأمر، وإن كان عبدا حبشيا كما في صحيح مسلم عن النبي ﷺ قال: "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة"، وعن أبي ذر قال: "أوصاني خليلي أن اسمعوا وأطيعوا، ولو كان حبشيا مجدع
ج/ 35 ص -14-الأطراف" وعن البخاري: "ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة" وفي صحيح مسلم عن أم الحصين رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله ﷺ بحجة الوداع وهو يقول: "ولو استعمل عبدا يقودكم بكتاب الله اسمعوا وأطيعوا" وفي رواية: "عبد حبشي مجدع" وفي صحيح مسلم عن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك ؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة لا، ما أقاموا فيكم الصلاة ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة" وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال "قال رسول الله ﷺ: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين. الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا" وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله ﷺ يقول: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به" وفي الصحيحين عن الحسن البصري قال: عاد عبد الله بن زياد معقل بن يسار في مرضه الذي مات فيه
ج/ 35 ص -15-فقال له معقل: إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله ﷺ إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة" وفي رواية لمسلم: "ما من أمير يلي من أمر المسلمين شيئا ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة" وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: "ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وهي مسئولة عنه. والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" وفي الصحيحين عن علي رضي الله عنه أن النبي ﷺ بعث جيشا وأمر عليهم رجلا، فأوقد نارا فقال: ادخلوها. فأراد الناس أن يدخلوها وقال الآخرون. إنا فررنا منها فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: "لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة" وقال للآخرين قولا حسنا، وقال: "لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف".
ج/ 35 ص -16-فصل
قال الله تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" وقال الله تعالى "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ" [النساء: 64]، "من يطع الرسول فقد أطاع الله" وقال تعالى: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" [النساء: 65]، وقال تعالى: ""قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران: 31]، وقال تعالى: "يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا" [الأحزاب: 66: 68]، وقال تعالى: "وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا" [النساء: 69]. فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر لله فأجره على الله. ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم، وإن
ج/ 35 ص -17-منعوه عصاهم: فما له في الآخرة من خلاق. وقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم. رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لآخذها بكذا وكذا فصدقه وهو غير ذلك ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها وفى، وإن لم يعطه منها لم يف".
ج/ 35 ص -18- وقال قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
قاعدة
قال النبي ﷺ: "خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه - أو الملك - من يشاء" لفظ أبي داود من رواية عبد الوارث والعوام "تكون الخلافة ثلاثين عاما ثم يكون الملك" "تكون الخلافة ثلاثين سنة ثم تصير ملكا" وهو حديث مشهور من رواية حماد بن سلمة وعبد الوارث بن سعيد والعوام بن حوشب وغيره عن سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله ﷺ، رواه أهل السنن: كأبي داود وغيره واعتمد عليه الإمام أحمد وغيره في تقرير خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة وثبته أحمد، واستدل به على من توقف في خلافة علي، من
ج/ 35 ص -19-أجل افتراق الناس عليه، حتى قال أحمد: من لم يربع بعلي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله، ونهى عن مناكحته وهو متفق عليه بين الفقهاء وعلماء السنة وأهل المعرفة والتصوف وهو مذهب العامة. وإنما يخالفهم في ذلك بعض [أهل] الأهواء من أهل الكلام ونحوهم: كالرافضة الطاعنين في خلافة الثلاثة أو الخوارج الطاعنين في خلافة الصهرين المنافيين: عثمان وعلي أو بعض الناصبة النافين لخلافة علي أو بعض الجهال من المتسننة الواقفين في خلافته ووفاة النبي ﷺ كانت في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من هجرته وإلى عام ثلاثين سنة كان إصلاح ابن رسول الله ﷺ الحسن بن علي السيد بين فئتين من المؤمنين بنزوله عن الأمر عام إحدى وأربعين في شهر جمادى الأولى وسمي [عام الجماعة] لاجتماع الناس على [معاوية] وهو أول الملوك. وفي الحديث الذي رواه مسلم: "ستكون خلافة نبوة ورحمة ثم يكون ملك ورحمة ثم يكون ملك وجبرية ثم يكون ملك عضوض" وقال ﷺ في الحديث المشهور في السنن وهو صحيح: "إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة".
ج/ 35 ص -20-يجوز تسمية من بعد الخلفاء الراشدين [خلفاء] وإن كانوا ملوكا، ولم يكونوا خلفاء الأنبياء بدليل ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال: "كانت بنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر، قالوا فما تأمرنا ؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول، ثم أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم". فقوله: "فتكثر" دليل على من سوى الراشدين فإنهم لم يكونوا كثيرا. وأيضا قوله: "فوا ببيعة الأول فالأول" دل على أنهم يختلفون، والراشدون لم يختلفوا. وقوله: "فأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم" دليل على مذهب أهل السنة، في إعطاء الأمراء حقهم، من المال والمغنم. وقد ذكرت في غير هذا الموضوع أن مصير الأمر إلى الملوك ونوابهم من الولاة، والقضاة والأمراء ليس لنقص فيهم فقط بل لنقص في الراعي والرعية جميعا، فإنه "كما تكونون يولى عليكم" وقد قال الله تعالى: "وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا" [الأنعام: 129]، وقد استفاض وتقرر في غير هذا الموضع ما قد أمر به ﷺ من طاعة الأمراء في غير معصية الله، ومناصحتهم والصبر عليهم في حكمهم وقسمهم، والغزو معهم والصلاة خلفهم ونحو ذلك من
ج/ 35 ص -21-متابعتهم في الحسنات التي لا يقوم بها إلا هم، فإنه من باب التعاون على البر والتقوى، وما نهى عنه من تصديقهم بكذبهم وإعانتهم على ظلمهم وطاعتهم في معصية الله ونحو ذلك، مما هو من باب التعاون على الإثم والعدوان، وما أمر به أيضا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لهم ولغيرهم على الوجه المشروع، وما يدخل في ذلك من تبليغ رسالات الله إليهم، بحيث لا يترك ذلك جبنا ولا بخلا ولا خشية لهم ولا اشتراء للثمن القليل بآيات الله، ولا يفعل أيضا للرئاسة عليهم ولا على العامة ولا للحسد ولا للكبر ولا للرياء لهم ولا للعامة. ولا يزال المنكر بما هو أنكر منه. بحيث يخرج عليهم بالسلاح، وتقام الفتن كما هو معروف من أصول أهل السنة والجماعة كما دلت عليه النصوص النبوية، لما في ذلك من الفساد الذي يربو على فساد ما يكون من ظلمهم، بل يطاع الله فيهم وفي غيرهم ويفعل ما أمر به ويترك ما نهى عنه. وهذه جملة تفصيلها يحتاج إلى بسط كثير والغرض هنا بيان جماع الحسنات والسيئات الواقعة بعد خلافة النبوة: في الإمارة وفي تركها، فإنه مقام خطر، وذلك أن خبره بانقضاء [خلافة النبوة] فيه الذم للملك والعيب له، لا سيما وفي حديث
ج/ 35 ص -22-و أبي بكرة: أنه استاء للرؤيا وقال: "خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك من يشاء". ثم النصوص الموجبة لنصب الأئمة والأمراء وما في الأعمال الصالحة التي يتولونها من الثواب: حمد لذلك وترغيب فيه، فيجب تخليص محمود ذلك من مذمومه وفي حكم اجتماع الأمرين وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: "إن الله خيرني بين أن أكون عبدا رسولا وبين أن أكون نبيا ملكا فاخترت أن أكون عبدا رسولا" فإذا كان الأصل في ذلك شوب الولاية، من الإمارة والقضاء والملك: هل هو جائز في الأصل والخلافة مستحبة ؟ أم ليس بجائز إلا لحاجة من نقص علم أو نقص قدرة بدونه ؟ فنحتج بأنه ليس بجائز في الأصل بل الواجب خلافة النبوة لقوله ﷺ: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فكل بدعة ضلالة" بعد قوله: "من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا" فهذا أمر وتحضيض على لزوم سنة الخلفاء وأمر بالاستمساك بها وتحذير من المحدثات المخالفة لها وهذا الأمر منه والنهي: دليل بين في الوجوب.
ج/ 35 ص -23-ثم اختص من ذلك قوله: "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر" فهذان أمر بالاقتداء بهما والخلفاء الراشدون أمر بلزوم سنتهم. وفي هذا تخصيص للشيخين من وجهين أحدهما: أن [السنة] ما سنوه للناس. وأما [القدوة] فيدخل فيها الاقتداء بهما فيما فعلاه مما لم يجعلوه سنة، الثاني: أن السنة أضافها إلى الخلفاء، لا إلى كل منهم. فقد يقال: أما ذلك فيما اتفقوا عليه، دون ما انفرد به بعضهم. وأما القدوة فعين القدوة بهذا وبهذا. وفي هذا الوجه نظر. ويستفاد من هذا. أن ما فعله عثمان وعلي من الاجتهاد الذي سبقهما بما هو أفضل منه أبو بكر وعمر ودلت النصوص وموافقة جمهور الأمة على رجحانه وكان سببه افتراق الأمة: لا يؤمر بالاقتداء بهما فيه، إذ ليس ذلك من سنة الخلفاء، وذلك أن أبا بكر وعمر ساسا الأمة بالرغبة والرهبة وسلما من التأويل في الدماء والأموال. وعثمان رضي الله عنه غلب الرغبة وتأول في الأموال. وعلي غلب الرهبة وتأول في الدماء. وأبو بكر وعمر كمل زهدهما في المال والرياسة. وعثمان كمل زهده في الرياسة. وعلي كمل زهده في المال.
ج/ 35 ص -24-وأيضا فكون النبي ﷺ استاء للملك بعد خلافة النبوة دليل على أنه متضمن ترك بعض الدين الواجب. وقد يحتج من يجوز [الملك] بالنصوص التي منها قوله لمعاوية: "إن ملكت فأحسن" ونحو ذلك وفيه نظر. ويحتج بأن عمر أقر معاوية لما قدم الشام على ما رآه من أبهة الملك لما ذكر له المصلحة فيه فإن عمر قال: لا آمرك ولا أنهاك ويقال في هذا: إن عمر لم ينهه، لا أنه أذن له في ذلك، لأن معاوية ذكر وجه الحاجة إلى ذلك ولم يثق عمر بالحاجة. فصار محل اجتهاد في الجملة فهذان القولان متوسطان: أن يقال: الخلافة واجبة وإنما يجوز الخروج عنها بقدر الحاجة. أو أن يقال: يجوز قبولها من الملك بما ييسر فعل المقصود بالولاية ولا يعسره، إذ ما يبعد المقصود بدونه لا بد من إجازته وأما [ملك] فإيجابه أو استحبابه محل اجتهاد. وهنا طرفان أحدهما: من يوجب ذلك في كل حال وزمان وعلى كل أحد ويذم من خرج عن ذلك مطلقا أو لحاجة كما هو حال أهل البدع من الخوارج والمعتزلة وطوائف من المتسننة والمتزهدة، والثاني:
ج/ 35 ص -25-من يبيح الملك مطلقا، من غير تقيد بسنة الخلفاء، كما هو فعل الظلمة والإباحية وأفراد المرجئة. وهذا تفصيل جيد وسيأتي تمامه. وتحقيق الأمر أن يقال: انتقال الأمر عن خلافة النبوة إلى الملك: إما أن يكون لعجز العباد عن خلافة النبوة أو اجتهاد سائغ أو مع القدرة على ذلك علما وعملا، فإن كان مع العجز علما أو عملا كان ذو الملك معذورا في ذلك. وإن كانت خلافة النبوة واجبة مع القدرة، كما تسقط سائر الواجبات مع العجز كحال النجاشي لما أسلم وعجز عن إظهار ذلك في قومه، بل حال يوسف الصديق تشبه ذلك من بعض الوجوه، لكن الملك كان جائزا لبعض الأنبياء كداود وسليمان ويوسف. وإن كان مع القدرة علما وعملا وقدر أن خلافة النبوة مستحبة ليست واجبة وأن اختيار الملك جائز في شريعتنا كجوازه في غير شريعتنا: فهذا التقدير إذا فرض أنه حق فلا إثم على الملك العادل أيضا. وهذا الوجه قد ذكره القاضي أبو يعلى في [المعتمد] لما تكلم في تثبيت خلافة معاوية وبنى ذلك على ظهور إسلامه وعدالته وحسن سيرته وأنه ثبتت إمامته بعد موت علي لما عقدها الحسن له وسمي ذلك [عام الجماعة] وذكر حديث عبد الله بن مسعود: "تدور رحا الإسلام على رأس خمس
ج/ 35 ص -26-وثلاثين" قال: قال أحمد في رواية ابن الحكم: يروي عن الزهري أن معاوية كان أمره خمس سنين لا ينكر عليه شيء، فكان هذا على حديث النبي ﷺ "خمس وثلاثين سنة": قال ابن الحكم: قلت لأحمد: من قال حديث ابن مسعود "تدور رحا الإسلام لخمس وثلاثين" إنها من مهاجر النبي ﷺ ؟ قال: لقد أخبر هذا وما عليه أن يكون النبي ﷺ يصف الإسلام بسير هو بالجناية إنما يصف ما يكون بعده من السنين. قال: وظاهر هذا من كلام أحمد أنه أخذ بظاهر الحديث، وأن خلافة معاوية كانت من جملة الخمس والثلاثين وذكر أن رجلا سأل أحمد عن الخلافة فقال: كل بيعة كانت بالمدينة فهي خلافة نبوة لنا. قال القاضي: وظاهر هذا: أن ما كان بغير المدينة لم يكن خلافة نبوة. قلت: نصوص أحمد على أن الخلافة تمت بعلي كثيرة جدا. ثم عارض القاضي ذلك بقوله: "الخلافة ثلاثون سنة ثم تصير ملكا" قال السائل: فلما خص الخلافة بعده بثلاثين سنة: كان آخرها آخر أيام علي وأن بعد ذلك يكون ملكا: دل على أن ذلك ليس بخلافة فأجاب القاضي: بأنه يحتمل أن يكون المراد به [الخلافة] التي لا يشوبها ملك بعده [ثلاثون
ج/ 35 ص -27-سنة] وهكذا كانت خلافة الخلفاء الأربعة. ومعاوية: قد شابها الملك، وليس هذا قادحا في خلافته، كما أن ملك سليمان لم يقدح في نبوته وإن كان غيره من الأنبياء فقيرا. قلت: فهذا يقتضي أن شوب الخلافة بالملك جائز في شريعتنا وأن ذلك لا ينافي العدالة وإن كانت الخلافة المحضة أفضل. وكل من انتصر لمعاوية وجعله مجتهدا في أموره ولم ينسبه إلى معصية: فعليه أن يقول بأحد القولين: إما جواز شوبها بالملك أو عدم اللوم على ذلك فيتجه إذا قال إن خلافة النبوة واجبة، فلو قدر فإن عمل سيئة فكبيرة وإن كان دينا، أو لأن الفاسق من غلبت سيئاته حسناته، وليس كذلك وهذا رحمته بالملوك العادلين، إذ هم في الصحابة من يقتدى به. وأما أهل البدع كالمعتزلة: فيفسقون معاوية لحرب علي وغير ذلك، بناء على أنه فعل كبيرة وهي توجب التفسيق فلا بد من منع إحدى المقدمتين. ثم إذا ساغ هذا للملوك: ساغ للقضاة والأمراء ونحوهم. وأما إذا كانت خلافة النبوة واجبة وهي مقدورة، وقد تركت: فترك الواجب سبب للذم والعقاب. ثم هل تركها كبيرة أو صغيرة ؟
ج/ 35 ص -28-إن كان صغيرة لم يقدح في العدالة وإن كان كبيرة ففيه القولان. لكن يقال هنا: إذا كان القائم بالملك والإمارة يفعل من الحسنات المأمور بها ويترك من السيئات المنهي عنها ما يزيد به ثوابه على عقوبة ما يتركه من واجب أو يفعله من محظور: فهذا قد ترجحت حسناته على سيئاته، فإذا كان غيره مقصرا في هذه الطاعة التي فعلها مع سلامته عن سيئاته، فله ثلاثة أحوال إما أن يكون الفاضل من حسنات الأمير أكثر من مجموع حسنات هذا أو أقل. فإن كانت فاضلة أكثر كان أفضل وإن كان أقل كان مفضولا وإن تساويا تكافآ. هذا موجب العدل، ومقتضى نصوص الكتاب والسنة في الثواب والعقاب. وهو مبني على قول من يعتبر الموازنة والمقابلة في الجزاء، وفي العدالة أيضا. وأما من يقول: إنه بالكبيرة الواحدة يستحق الوعيد، ولو كان له حسنات كثيرة عظيمة: فلا يجيء هذا وهو قول طائفة من العلماء في العدالة. والأول أصح على ما تدل عليه النصوص. ويتفرع من هنا [مسألة] وهو ما إذا كان لا يتأتى له فعل الحسنة الراجحة إلا بسيئة دونها في العقاب: فلها صورتان
ج/ 35 ص -29-إحداهما: إذا لم يمكن إلا ذلك فهنا لا يبقى سيئة فإن ما لا يتم الواجب، أو المستحب إلا به فهو واجب أو مستحب. ثم إن كان مفسدته دون تلك المصلحة لم يكن محظورا كأكل الميتة للمضطر ونحو ذلك من الأمور المحظورة التي تبيحها الحاجات كلبس الحرير في البرد ونحو ذلك. وهذا باب عظيم. فإن كثيرا من الناس يستشعر سوء الفعل، ولا ينظر إلى الحاجة المعارضة له التي يحصل بها من ثواب الحسنة ما يربو على ذلك، بحيث يصير المحظور مندرجا في المحبوب أو يصير مباحا إذا لم يعارضه إلا مجرد الحاجة كما أن من الأمور المباحة، بل والمأمور بها إيجابا أو استحبابا: ما يعارضها مفسدة راجحة تجعلها محرمة أو مرجوحة كالصيام للمريض وكالطهارة بالماء لمن يخاف عليه الموت كما قال ﷺ: "قتلوه قتلهم الله هلا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال". وعلى هذا الأصل يبنى جواز العدول أحيانا عن بعض سنة الخلفاء كما يجوز ترك بعض واجبات الشريعة وارتكاب بعض محظوراتها للضرورة، وذلك فيما إذا وقع العجز عن بعض سنتهم أو وقعت الضرورة إلى بعض ما نهوا عنه، بأن تكون الواجبات المقصودة بالإمارة لا تقوم إلا بما مضرته أقل.
ج/ 35 ص -30-وهكذا [مسألة الترك] كما قلناه أولا وبينا أنه لا يخالفه إلا أهل البدع ونحوهم من أهل الجهل والظلم.
والصورة الثانية: إذا كان يمكن فعل الحسنات بلا سيئة، لكن بمشقة لا تطيعه نفسه عليها أو بكراهة من طبعه بحيث لا تطيعه نفسه إلى فعل تلك الحسنات الكبار المأمور بها إيجابا أو استحبابا إن لم يبذل لنفسه ما تحبه من بعض الأمور المنهي عنها التي إثمها دون منفعة الحسنة فهذا القسم واقع كثيرا: في أهل الإمارة والسياسة والجهاد وأهل العلم والقضاء والكلام، وأهل العبادة والتصوف وفي العامة. مثل من لا تطيعه نفسه إلى القيام بمصالح الإمارة - من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود وأمن السبل وجهاد العدو وقسمة المال - إلا بحظوظ منهي عنها من الاستئثار ببعض المال، والرياسة على الناس والمحاباة في القسم وغير ذلك من الشهوات وكذلك في الجهاد: لا تطيعه نفسه على الجهاد إلا بنوع من التهور. وفي العلم لا تطيعه نفسه على تحقيق علم الفقه وأصول الدين إلا بنوع من المنهي عنه من الرأي والكلام. ولا تطيعه نفسه على تحقيق علم العبادة المشروعة والمعرفة المأمور بها إلا بنوع من الرهبانية. فهذا القسم كثر في دول الملوك، إذ هو واقع فيهم وفي كثير من أمرائهم وقضاتهم وعلمائهم وعبادهم. أعني أهل زمانهم. وبسببه
ج/ 35 ص -31-نشأت الفتن بين الأمة. فأقوام نظروا إلى ما ارتكبوه من الأمور المنهي عنها، فذموهم وأبغضوهم. وأقوام نظروا إلى ما فعلوه من الأمور المأمور بها فأحبوهم. ثم الأولون ربما عدوا حسناتهم سيئات. والآخرون ربما جعلوا سيئاتهم حسنات. وقد تقدم أصل هذه المسألة وهو أنه إذا تعسر فعل الواجب في الإمارة إلا بنوع من الملك: فهل يكون الملك مباحا كما يباح عند التعذر ؟ ذكرنا فيه القولين، فإن أقيم التعسر مقام التعذر: لم يكن ذلك إثما وإن لم يقم كان إثما. وأما ما لا تعذر فيه ولا تعسر: فإن الخروج فيه عن سنة الخلفاء اتباع للهوى. فالتحقيق أن الحسنات: حسنات والسيئات: سيئات وهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. وحكم الشريعة أنهم لا يؤذن لهم فيما فعلوه من السيئات ولا يؤمرون به. ولا يجعل حظ أنفسهم عذرا لهم في فعلهم، إذا لم تكن الشريعة عذرتهم، لكن يؤمرون بما فعلوه من الحسنات ويحضون على ذلك، ويرغبون فيه. وإن علم أنهم لا يفعلونه إلا بالسيئات المرجوحة، كما يؤمر الأمراء بالجهاد، وإن علم أنهم لا يجاهدون إلا بنوع من الظلم الذي تقل مفسدته بالنسبة إلى مصلحة الجهاد. ثم إذا علم أنهم إذا نهوا عن تلك السيئات تركوا الحسنات الراجحة الواجبة لم ينهوا عنها، لما في النهي عنها من مفسدة ترك الحسنات الواجبة، إلا أن يمكن الجمع بين الأمرين فيفعل حينئذ تمام الواجب كما كان
ج/ 35 ص -32-عمر بن الخطاب يستعمل من فيه فجور، لرجحان المصلحة في عمله، ثم يزيل فجوره بقوته وعدله. ويكون ترك النهي عنها حينئذ: مثل ترك الإنكار باليد أو بالسلاح إذا كان فيه مفسدة راجحة على مفسدة المنكر. فإذا كان النهي مستلزما في القضية المعينة لترك المعروف الراجح: كان بمنزلة أن يكون مستلزما لفعل المنكر الراجح كمن أسلم على أن لا يصلي إلا صلاتين كما هو مأثور عن [بعض من أسلم على عهد] النبي ﷺ أو أسلم بعض الملوك المسلطين وهو يشرب الخمر أو يفعل بعض المحرمات ولو نهى عن ذلك ارتد عن الإسلام. ففرق بين ترك العالم أو الأمير لنهي بعض الناس عن الشيء إذا كان في النهي مفسدة راجحة وبين إذنه في فعله. وهذا يختلف باختلاف الأحوال. ففي حال أخرى يجب إظهار النهي: إما لبيان التحريم واعتقاده والخوف من فعله. أو لرجاء الترك. أو لإقامة الحجة بحسب الأحوال، ولهذا تنوع حال النبي ﷺ في أمره ونهيه وجهاده وعفوه، وإقامته الحدود وغلظته ورحمته.
ج/ 35 ص -33-وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
فصل
قد ذكرت فيما تقدم: الكلام على [الملك]: هل هو جائز في شريعتنا ولكن خلافة النبوة مستحبة وأفضل منه ؟ أم خلافة النبوة واجبة ؟ وإنما تجويز تركها إلى الملك للعذر كسائر الواجبات ؟ تكلمت على ذلك. وأما في شرع من قبلنا، فإن الملك جائز، كالغنى يكون للأنبياء تارة وللصالحين أخرى قال الله تعالى في داود: "وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء" [البقرة: 251]، وقال عن سليمان: "رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ" [ص: 35]، وقال عن يوسف: "رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ" [يوسف: 101]، فهؤلاء ثلاثة أنبياء أخبر الله أنه آتاهم الملك وقال: "أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا" [النساء: 54، 55]، فهذا ملك لآل إبراهيم وملك لآل داود وقد قال مجاهد في قوله: "تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء" [آل عمران: 26]، قال: النبوة فجعل النبوة نفسها ملكا.
ج/ 35 ص -34-والتحقيق أن من النبوة ما يكون ملكا، فإن النبي له ثلاثة أحوال: إما أن يكذب، ولا يتبع ولا يطاع: فهو نبي لم يؤت ملكا. وإما أن يطاع. فنفس كونه مطاعا هو ملك، لكن إن كان لا يأمر إلا بما أمر به: فهو عبد رسول ليس له ملك. وإن كان يأمر بما يريده مباحا له ذلك بمنزلة الملك كما قيل لسليمان: "هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" [ص: 39]، فهذا نبي ملك. فالملك هنا قسيم العبد الرسول كما قيل للنبي ﷺ: "اختر إما عبدا رسولا وإما نبيا ملكا". وأما بالتفسير الأول وهو الطاعة والاتباع فقسم من النبوة والرسالة وهؤلاء أكمل. وهو حال نبينا ﷺ فإنه كان عبدا رسولا. مؤيدا مطاعا متبوعا فأعطي فائدة كونه مطاعا متبوعا ليكون له مثل أجر من اتبعه ولينتفع به الخلق ويرحموا به. ويرحم بهم. ولم يختر أن يكون ملكا لئلا ينقص، لما في ذلك من الاستمتاع بالرياسة والمال [عن] نصيبه في الآخرة، فإن العبد الرسول أفضل عند الله من النبي الملك، ولهذا كان أمر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم: أفضل من داود وسليمان. ويوسف حتى إن من أهل الكتاب من طعن في نبوة داود وسليمان كما يطعن كثير من الناس في ولاية بعض أهل الرياسة والمال، وليس الأمر كذلك.
ج/ 35 ص -35-وأما [الملوك الصالحون] فقوله سبحانه: "إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوت" [البقرة: 248]، وقوله سبحانه: "وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا" [الكهف: 83، 84]الآية. قال مجاهد: ملك الأرض مؤمنان وكافران فالمؤمنان سليمان وذو القرنين، والكافران بختنصر ونمرود وسيملكها خامس من هذه الأمة. وقوله تعالى: "يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا" [المائدة: 20]. وأما [جنس الملوك] فكثيرة كقوله: "وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا" [الكهف: 79]، وقوله: "وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ" [يوسف: 43].
ج/ 35 ص -36-وَقَال شيخ الإسلام قدسَ اللّه روُحه:
اعلم أن اللّه تعالى بعث محمداً ﷺ بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وأكمل لأمته الدين، وأتم عليهم النعمة، وجعله علي شريعة من الأمر، وأمره أن يتبعها ولا يتبع سبيل الذين لا يعلمون، وجعل كتابه مهيمناً علي ما بين يديه من الكتب، ومصدقا لها، وجعل له شرعة ومنهاجا، وشرع لأمته سنن الهدي، ولن يقوم الدين إلا بالكتاب والميزان والحديد. كتاب يهدي به، وحديد ينصره، كما قال تعالي: " لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ " [الحديد:25]، فالكتاب به يقوم العلم والدين، والميزان به تقوم الحقوق في العقود المالية والقبوض. والحديد به تقوم الحدود علي الكافرين والمنافقين.
ولهذا كان في الأزمان المتأخرة الكتاب للعلماء والعباد، والميزان للوزراء والكتاب وأهل الديوان، والحديد للأمراء والأجناد. والكتاب له الصلاة، والحديد له الجهاد؛ ولهذا كان أكثر الآيات والأحاديث النبوية في الصلاة والجهاد، وكان النبي ﷺ يقول في عيادة المريض: "اللهم اشف عبدك يشهد لك صلاة، وينكأ لك عدواً"، وقال عليه السلام: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذِرْوة سَنَامه الجهاد في سبيل الله ".
ج/ 35 ص -37- ولهذا جمع بينهما في مواضع من القرآن؛ كقوله تعالي:" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " [الحجرات:15]، والصلاة أول أعمال الإسلام،وأصل أعمال الإيمان؛ ولهذا سماها إيمانا في قوله: " وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ " [البقرة:143] أي: صلاتكم إلي بيت المقدس. هكذا نقل عن السلف، وقال تعالي: " أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ " [التوبة:19]، وقال: " فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ " [المائدة:54] فوصفهم بالمحبة التي هي حقيقة الصلاة، كما قال: " مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا " [الفتح:29]، فوصفهم بالشدة علي الكفار والضلال.
وفي الصحيح: أن النبي ﷺ سئل: أي العمل أفضل؟ قال:"إيمان بالله، وجهاد في سبيله"، فقيل: ثم ماذا؟ قال: "ثم حج مبرور"، مع قوله في الحديث الصحيح لما سأله ابن مسعود: أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة في وقتها"، قال ثم ماذا؟ قال: "بر الوالدين" قال: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". فإن قوله: [إيمان بالله] دخل فيه الصلاة، ولم يذكر في الأول بر الوالدين، إذ ليس لكل أحد والدان، فالأول مطلق والثاني مقيد بمن له والدان.
ج/ 35 ص -38- ولهذا كانت سنة رسول اللّه ﷺ، وسائر خلفائه الراشدين ومن سلك سبيلهم من ولاة الأمور في الدولة الأموية والعباسية أن الإمام يكون إماما في هذين الأصلين جميعا؛ الصلاة، والجهاد. فالذي يؤمهم في الصلاة يؤمهم في الجهاد،وأمر الجهاد والصلاة واحد في المقام والسفر، وكان النبي ﷺ إذا استعمل رجلا علي بلد؛ مثل عتاب بن أسيد علي مكة، وعثمان بن أبي العاص علي الطائف، وغيرهما، كان هو الذي يصلى بهم، ويقيم الحدود، وكذلك إذا استعمل رجلا علي مثل غزوة؛ كاستعماله زيد بن حارثة، وابنه أسامة، وعمرو بن العاص، وغيرهم، كان أمير الحرب هو الذي يصلي بالناس؛ ولهذا استدل المسلمون بتقديمه أبا بكر في الصلاة علي أنه قدمه في الإمامة العامة.
وكذلك كان أمراء [الصديق] كيزيد بن أبي سفيان، وخالد بن الوليد، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص وغيرهم أمير الحرب هو إمام الصلاة.
وكان نواب [عمر بن الخطاب] كاستعماله علي الكوفة عمار بن ياسر علي الحرب والصلاة، وابن مسعود علي القضاء وبيت المال، وعثمان بن حنيف علي الخراج.
ومن هنا أخذ الناس ولاية الحرب، وولاية الخراج، وولاية القضاء، فإن عمر بن الخطاب هو أمير المؤمنين، فلما انتشر المؤمنون، وغلبوا الكافرين علي البلاد، وفتحوها، واحتاجوا إلي زيادة في الترتيب، وضع
ج/ 35 ص -39- لهم [الديوان]، ديوان الخراج للمال المستخرج، وديوان العطاء والنفقات للمال المصروف، ومَصَّر لهم الأمصار، فمصر الكوفة والبصرة، ومصر الفسطاط؛ فإنه لم يؤثر أن يكون بينه وبين جند المسلمين نهر عظيم كدجلة والفرات والنيل؛ فجعل هذه الأمصار مما يليه.
فصل
وكانت [مواضع الأئمة، ومجامع الأمة] هي المساجد؛ فإن النبي ﷺ أسس مسجده المبارك علي التقوي، ففيه الصلاة، والقراءة والذكر، وتعليم العلم، والخطب، وفيه السياسة، وعقد الألوية والرايات، وتأمير الأمراء، وتعريف العرفاء. وفيه يجتمع المسلمون عنده لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم.
وكذلك عماله في مثل مكة، والطائف، وبلاد اليمن، وغير ذلك من الأمصار والقري، وكذلك عماله علي البوادي، فإن لهم مجمعا فيه يصلون، وفيه يساسون، كما قال النبي ﷺ: "إن بني إسرائيل كان تسوسهم الأنبياء، كلما ذهب نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء تعرفون وتنكرون" قالوا: فما تأمرنا ؟ قال: "أوفوا ببيعة الأول فالأول، واسألوا الله لكم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم".
ج/ 35 ص -40- وكان [الخلفاء والأمراء] يسكنون في بيوتهم، كما يسكن سائر المسلمين في بيوتهم، لكن مجلس الإمام الجامع هو المسجد الجامع. وكان سعد بن أبي وقاص قد بني له بالكوفة قصراً، وقال: أقطع عني الناس، فأرسل إليه عمرُ بن الخطاب محمدَ بن مسلمة، وأمره أن يحرقه، فاشتري من نبطي حزمة حطب، وشرط عليه حملها إلي قصره، فحرقه، فإن عمر كره للوالي الاحتجاب عن رعيته، ولكن بنيت قصور الأمراء. فلما كانت إمارة معاوية احتجب لما خاف أن يغتال كما اغتيل علي، واتخذ المقاصير في المساجد ليصلي فيها ذو السلطان وحاشيته، واتخذ المراكب، فاستن به الخلفاء الملوك بذلك، فصاروا مع كونهم يتولون الحرب والصلاة بالناس، ويباشرون الجمعة والجماعة والجهاد وإقامة الحدود، لهم قصور يسكنون فيها ويغشاهم رؤوس الناس فيها، كما كانت [الخضراء] لبني أمية قبلي المسجد الجامع، والمساجد يجتمع فيها للعبادات، والعلم، ونحو ذلك.
فصل
طال الأمد، وتفرقت الأمة، وتمسك كل قوم بشعبة من الدين بزيادات زادوها، فأعرضوا عن شعبة منه أخري. أحدثث الملوك والأمراء[القلاع،والحصون]، وإنما كانت تبني الحصون والمعاقل قديما في الثغور، خشية أن
ج/ 35 ص -41- يدهمها العدو؛ وليس عندهم من يدفعه عنها، وكانوا يسمون الثغور الشامية [العواصم] وهي قنسرين، وحلب. وأحدثت [المدارس] لأهل العلم، وأحدثت [الربط، والخوانق] لأهل التعبد. وأظن مبدأ انتشار ذلك في [دولة السلاجقة]. فأول ما بنيت المدارس والرباطات للمساكين ووقفت عليها وقوف تجري علي أهلها في وزارة [نظام الملك]. وأما قبل ذلك فقد وجد ذكر المدارس، وذكر الربط، لكن ما أظن كان موقوفا عليها لأهلها؛ وإنما كانت مساكن مختصة، وقد ذكر الإمام معمر بن زياد من أصحاب الواحدي في [أخبار الصوفية]: أن أول دويرة بنيت لهم في البصرة. وأما [المدارس] فقد رأيت لها ذكراً قبل دولة السلاجقة في أثناء المائة الرابعة، ودولتهم إنما كانت في المائة الخامسة، وكذلك هذه [القلاع، والحصون] التي بالشام عامتها محدث، كما بني الملك العادل قلعة دمشق وبصري وحران، وذلك أن النصاري كانوا كثيري الغزو إليهم، وكان الناس بعد المائة الثالثة قد ضعفوا عن دفاع النصاري عن السواحل، حتي استعلوا علي كثير من ثغور الشام الساحلية.
ج/ 35 ص -42-فَصْل
في [الخلافة والسلطان] وكيفية كونه ظل الله في الأرض، قال الله تعالي: " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً " [البقرة: 30]، وقال الله تعالي: " يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ " [ص:26].وقوله: " إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً " [البقرة: 30]، يعم آدم وبنيه، لكن الاسم متناول لآدم عينًا؛ كقوله: " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ " [التين:4]، وقوله: " خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ " [الرحمن:14,15]، وقوله: " وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ " [السجدة:7، 8]، " ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ " [المؤمنون: 13]، إلي أمثال ذلك.
ولهذا كان بين [داود، وآدم] من المناسبة ما أحب به داود حين أراه ذريته، وسأل عن عمره؟ فقيل: أربعون سنة. فوهبه من عمره الذي هو ألف سنة ستين سنة. والحديث صحيح رواه الترمذي وغيره وصححه؛ ولهذا كلاهما ابتلي بما ابتلاه به من الخطيئة، كما أن كلاً منهما
ج/ 35 ص -43- مناسبة للأخري؛ إذ جنس الشهوتين واحد، ورفع درجته بالتوبة العظيمة التي نال بها من محبة الله له وفرحه به ما نال، ويذكر عن كل منهما من البكاء والندم والحزن ما يناسب بعضه بعضًا.
و [الخليفة] هو من كان خلفًا عن غيره. فعيلة بمعني فاعلة. كان النبي ﷺ إذا سافر يقول: "اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل"، وقال ﷺ: "من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا"، وقال: "أو كلما خرجنا في الغزو خلف أحدهم وله نبيب كنبيب التيس يمنح إحداهن اللبنة من اللبن، لئن أظفرني الله بأحد منهم لأجعلنه نكالاً"، وفي القرآن: " سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ " [الفتح:11]، وقوله: " فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ " [التوبة: 81].
والمراد بالخليفة: أنه خلف من كان قبله من الخلق. والخلف فيه مناسبة، كما كان أبو بكرالصديق، خليفة رسول الله ﷺ؛ لأنه خلفه علي أمته بعد موته، وكما كان النبي ﷺ إذا سافر لحج أو عمرة أو غزوة يستخلف علي المدينة من يكون خليفة له مدة معينة، فيستخلف تارة ابن أم مكتوم، وتارة غيره، واستخلف علي بن أبي طالب في غزوة تبوك.وتسمي الأمكنة التي يستخلف فيها الإمام [مخاليف]؛ مثل مخاليف اليمن، ومخاليف أرض الحجاز، ومنه الحديث: "حيث خرج من مخلاف إلي مخلاف"، ومنه قوله تعالي: " وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ " [الأنعام:165]،
ج/ 35 ص -44-وقوله تعالي: " وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ " إلي قوله تعالي: " ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ " [يونس: 13، 14]، ومنه قوله تعالي: " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ " الآية [النور: 55].
وقد ظن بعض القائلين الغالطين كابن عربي أن [الخليفة] هو الخليفة عن الله، مثل نائب الله، وزعموا أن هذا بمعني أن يكون الإنسان مستخلفاً، وربما فسروا [تعليم آدم الأسماء كلها] التي جمع معانيها الإنسان. ويفسرون [خلق آدم علي صورته] بهذا المعني أيضًا، وقد أخذوا من الفلاسفة قولهم: الإنسان هو العالم الصغير، وهذا قريب. وضموا إليه أن الله هو العالم الكبير؛ بناء علي أصلهم الكفري في وحدة الوجود، وأن الله هو عين وجود المخلوقات، فالإنسان من بين المظاهر هو الخليفة الجامع للأسماء والصفات، ويتفرع علي هذا ما يصيرون إليه من دعوي الربوبية والألوهية المخرجة لهم إلي الفرعونية والقرمطية والباطنية.
وربما جعلوا [الرسالة] مرتبة من المراتب، وأنهم أعظم منها فيقرون بالربوبية، والوحدانية والألوهية، وبالرسالة، ويصيرون في الفرعونية، هذا إيمانهم. أو يخرجون في أعمالهم أن يصيروا [سدي] لا أمر عليهم ولا نهي، ولا إيجاب ولا تحريم.
ج/ 35 ص -45- والله لا يجوز له خليفة؛ ولهذا لما قالوا لأبي بكر: يا خليفة الله! قال: لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله ﷺ، حسبي ذلك. بل هو سبحانه يكون خليفة لغيره، قال النبي ﷺ: "اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا"؛ وذلك لأن الله حي، شهيد، مهيمن، قيوم، رقيب، حفيظ، غني عن العالمين، ليس له شريك، ولا ظهير، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه. والخليفة إنما يكون عند عدم المستخلف بموت أو غيبة، ويكون لحاجة المستخلف إلي الاستخلاف.
وسمي [خليفة] لأنه خلف عن الغزو،وهو قائم خلفه، وكل هذه المعاني منتفية في حق الله تعالي، وهو منزه عنها؛فإنه حي قيوم شهيد،لا يموت ولا يغيب، وهو غني يرزق ولا يرزق، يرزق عباده، وينصرهم، ويهديهم، ويعافيهم، بما خلقه من الأسباب التي هي من خلقه،والتي هي مفتقرة إليه كافتقار المسببات إلي أسبابها. فالله هو الغني الحميد، له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما " يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ " [الرحمن:29]، " وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ " [الزخرف:84]، ولا يجوز أن يكون أحد خلفًا منه،ولا يقوم مقامه؛ لأنه لا سمي له، ولا كفء له. فمن جعل له خليفة فهو مشرك به.
وأما الحديث النبوي: "السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل ضعيف وملهوف"، وهذا صحيح، فإن الظل مفتقر إلي آوٍ، وهو رفيق له
ج/ 35 ص -46- مطابق له نوعًا من المطابقة، والآوي إلي الظل المكتنف بالمظل، صاحب الظل، فالسلطان عبد الله، مخلوق مفتقر إليه، لا يستغني عنه طرفة عين، وفيه من القدرة والسلطان والحفظ والنصرة وغير ذلك من معاني السؤدد والصمدية التي بها قوام الخلق، ما يشبه أن يكون ظل الله في الأرض، وهو أقوي الأسباب التي بها يصلح أمور خلقه وعباده، فإذا صلح ذو السلطان صلحت أمور الناس، وإذا فسد فسدت بحسب فساده؛ ولا تفسد من كل وجه، بل لابد من مصالح، إذ هو ظل الله، لكن الظل تارة يكون كاملاً مانعًا من جميع الأذي وتارة لا يمنع إلي بعض الأذي، وأما إذا عدم الظل فسد الأمر، كعدم سر الربوبية التي بها قيام الأمة الإنسانية. والله تعالى أعلم.
ج/ 35 ص -47- وقَال رحمه الله تعالى:
فَصْل
حكي أصحابنا كالقاضي أبي يعلي وغيره عن الإمام أحمد في خلافة أبي بكر، هل ثبتت باختيار المسلمين له؟ أو بالنص الخفي عن النبي ﷺ؟ أو البين؟
أحدهما: بالاختيار، وهو قول جمهور العلماء، والفقهاء، وأهل الحديث، والمتكلمين؛ كالمعتزلة، والأشعرية، وغيرهم.
والثانية: بالنص الخفي، وهو قول طوائف أهل الحديث، والمتكلمين، ويروي عن الحسن البصري. وبعض أهل هذا القول يقولون بالنص الجلي.
وأما قول [الإمامية]:أنها ثبتت بالنص الجلي علي علي، وقول [الزيدية الجارودية]: أنها بالنص الخفي عليه، وقول [الراوندية]: أنها بالنص علي العباس فهذه أقوال ظاهرة الفساد عند أهل العلم والدين، وإنما يدين بها إما جاهل، وإما ظالم. وكثير ممن يدين بها زنديق.
ج/ 35 ص -48- والتحقيق في خلافة أبي بكر وهو الذي يدل عليه كلام أحمد: أنها انعقدت باختيار الصحابة ومبايعتهم له، وأن النبي ﷺ أخبر بوقوعها علي سبيل الحمد لها والرضي بها، وأنه أمر بطاعته وتفويض الأمر إليه، وأنه دل الأمة وأرشدهم إلي بيعته. فهذه الأوجه الثلاثة: الخبر، والأمر، والإرشاد، ثابت من النبي ﷺ.
فالأول: كقوله: "رأيت كأني علي قليب أنزع منها، فأتي ابن أبي قحافة، فنزع ذنوبًا أو ذنوبين" الحديث، وكقوله: "كأن ميزانًا دلي من السماء إلي الأرض، فوزنت بالأمة فرجحت، ثم وزن عمر" الحديث، وكقوله: "ادعي لي أباك، وأخاك حتي أكتب لأبي بكر كتابًا لا يختلف عليه الناس من بعدي"، ثم قال: "يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر". فهذا إخبار منه بأن الله والمؤمنون لا يعقدونها إلا لأبي بكر الذي هم بالنص عليه. وكقوله: "أري الليلة رجل صالح كأن أبا بكر نيط برسول الله" الحديث، وقوله: "خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم تصير ملكًا".
وأما الأمر: فكقوله: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"، وقوله: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"، وقوله للمرأة التي سألته إن لم أجدك؟ قال: "فأتي أبا بكر"، وقوله لأصحاب الصدقات: "إذا لم تجدوه أعطوها لأبي بكر" ونحو ذلك.
ج/ 35 ص -49-والثالث: تقديمه له في الصلاة، وقوله: "سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر" وغير ذلك، من خصائصه ومزاياه.
وهذه الوجوه الثلاثة الثابتة بالسنة دل عليها القرآن:
فالأول: في قوله: " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم " الآية [النور:55]، وقوله: " فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ " [المائدة: 54]، وقوله: " وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ " [آل عمران:144] والثاني قوله: " سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ " الآية... [الفتح:16]
والثالث: كقوله: " وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى " [الليل:17]، وقوله: " النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ " [النساء: 69]، وقوله: " وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ " [التوبة: 100]، ونحو ذلك.
فثبتت صحة خلافته، ووجوب طاعته بالكتاب، والسنة، والإجماع. وإن كانت إنما انعقدت بالإجماع، والاختيار، كما أن الله إذا أمر بتولية شخص أو إنكاحه، أو غير ذلك من الأمور معه، فإن ذلك الأمر لا يحصل إلا بعقد الولاية، والنكاح. والنصوص قد دلت علي أمر الله بذلك العقد، ومحبته له، فالنصوص دلت علي أنهم مأمورون باختياره، والعقد له، وأن الله يرضي ذلك ويحبه. وأما حصول المأمور به، المحبوب، فلا يحصل إلا بالامتثال. فلما امتثلوا ما أمروا به عقدوا له باختيارهم، وكان هذا أفضل في حقهم، وأعظم في درجتهم.
ج/ 35 ص -50- وقَال رحمه الله تعالى:
فَصْل
أهل الأهواء في [قتال علي ومن حاربه] علي أقوال:
أما [الخوارج] فتكفر الطائفتان المقتتلان جميعًا.
وأما [الرافضة] فتكفر من قاتل عليا، مع المتواتر عنه من أنه حكم فيهم بحكم المسلمين، ومنع من تكفيرهم.
ولهم في قتال طلحة والزبير، وعائشة ثلاثةأقوال:
أحدها: تفسيق إحدي الطائفتين؛ لا بعينها، وهو قول عمرو بن عبيد وأصحابه.
والثاني: تفسيق من قاتله إلا من تاب، ويقولون: إن طلحة، والزبير، وعائشة تابوا، وهذا مقتضي ما حكي عن جمهورهم، كأبي الهذيل، وأصحابه، وأبي الحسين وغيرهم.
وذهب بعض الناس إلي تخطئته في قتال طلحة، والزبير، دون قتال أهل الشام.
ففي الجملة، أهل البدع من الخوارج، والروافض والمعتزلة، ونحوهم، يجعلون القتال موجبًا لكفر، أو لفسق.
ج/ 35 ص -51-وأما [أهل السنة] فمتفقون علي عدالة القوم، ثم لهم في التصويب، والتخطئة مذاهب لأصحابنا وغيرهم.
أحدها: أن المصيب علي فقط.
والثاني: الجميع مصيبون.
والثالث: المصيب واحد، لا بعينه.
والرابع: الإمساك عما شجر بينهم مطلقًا، مع العلم بأن عليا وأصحابه هم أولي الطائفتين بالحق، كما في حديث أبي سعيد لما قال النبي ﷺ: "تمرق مارقة علي حين فرقة من المسلمين، فيقتلهم أولي الطائفتين بالحق" وهذا في حرب أهل الشام، والأحاديث تدل علي أن حرب الجمل فتنة، وأن ترك القتال فيها أولي، فعلي هذا نصوص أحمد وأكثر أهل السنة، وذلك الشجار بالألسنة، والأيدي أصل لما جري بين الأمة بعد ذلك، في الدين والدنيا. فليعتبر العاقل بذلك، وهو مذهب أهل السنة والجماعة.
وسئل رحمه الله عن طائفتين من الفلاحين اقتتلتا، فكسرت إحداهما الأخري؛ وانهزمت المكسورة، وقتل منهم بعد الهزيمة جماعة: فهل يحكم للمقتولين من المهزومين بالنار، ويكونون داخلين في قول النبي ﷺ: "القاتل والمقتول في النار" أم لا؟ وهل يكون حكم المنهزم حكم من يقتل منهم في المعركة؟ أم لا؟
ج/ 35 ص -52-فأجاب:
الحمد لله، إن كان المنهزم قد انهزم بنية التوبة عن المقاتلة المحرمة لم يحكم له بالنار؛ فإن الله يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات.
وأما إن كان انهزامه عجزًا فقط، ولو قدر علي خصمه لقتله، فهو في النار؛ كما قال النبي ﷺ: "إذا التقي المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" قيل: يارسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: "إنه أراد قتل صاحبه"، فإذا كان المقتول في النار لأنه أراد قتل صاحبه، فالمنهزم بطريق الأولي؛ لأنهما اشتركا في الإرادة والفعل، والمقتول أصابه من الضرر ما لم يصب المهزوم؛ ثم إذا لم تكن هذه المصيبة مكفرة لإثم المقاتلة، فلأن لا تكون مصيبة الهزيمة مكفرة أولي، بل إثم المنهزم المصر علي المقاتلة أعظم من إثم المقتول في المعركة، واستحقاقه للنار أشد؛ لأن ذلك انقطع عمله السيئ بموته، وهذا مصر علي الخبث العظيم؛ ولهذا قالت طائفة من الفقهاء: إن منهزم البغاة يقتل إذا كان له طائفة يأوي إليها فيخاف عوده، بخلاف المثخن بالجرح منهم فإنه لا يقتل. وسببه أن هذا انكف شره، والمنهزم لم ينكف شره.
وأيضًا فالمقتول قد يقال: إنه بمصيبة القتل قد يخفف عنه العذاب، وإن كان من أهل النار، ومصيبة الهزيمة دون مصيبة القتل. فظهر أن المهزوم أسوأ حالاً من المقتول إذا كان مصرًا علي قتل أخيه، ومن تاب فإن الله غفور رحيم.
ج/ 35 ص -53-وسئل رحمه الله عن [البغاة، والخوارج]: هل هي ألفاظ مترادفة بمعني واحد؟ أم بينهما فرق؟ وهل فرقت الشريعة بينهما في الأحكام الجارية عليهما، أم لا؟ وإذا ادعي مدع أن الأئمة اجتمعت علي ألا فرق بينهم، إلا في الاسم، وخالفه مخالف مستدلاً بأن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه فرق بين أهل الشام وأهل النهروان: فهل الحق مع المدعي؟ أو مع مخالفه؟
فأجاب:
الحمد لله، أما قول القائل: إن الأئمة اجتمعت علي أن لا فرق بينهما إلا في الاسم، فدعوي باطلة، ومدعيها مجازف، فإن نفي الفرق إنما هو قول طائفة من أهل العلم من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم؛ مثل كثير من المصنفين في [قتال أهل البغي]، فإنهم قد يجعلون قتال أبي بكر لمانعي الزكاة، وقتال علي الخوارجَ، وقتاله لأهل الجمل وصفين إلي غير ذلك من قتال المنتسبين إلي الإسلام من باب [قتال أهل البغي].
ج/ 35 ص -54- ثم مع ذلك فهم متفقون علي أن مثل طلحة والزبير ونحوهما من الصحابة من أهل العدالة، لا يجوز أن يحكم عليهم بكفر ولا فسق، بل مجتهدون؛ إما مصيبون، وإما مخطئون، وذنوبهم مغفورة لهم. ويطلقون القول بأن البغاة ليسوا فساقًا.
فإذا جعل هؤلاء وأولئك سواء، لزم أن تكون الخوارج وسائر من يقاتلهم من أهل الاجتهاد الباقين علي العدالة [سواء]؛ ولهذا قال طائفة بفسق البغاة، ولكن أهل السنة متفقون علي عدالة الصحابة.
وأما جمهور أهل العلم فيفرقون بين [الخوارج المارقين] وبين [أهل الجمل وصفين] وغير أهل الجمل وصفين. ممن يعد من البغاة المتأولين. وهذا هو المعروف عن الصحابة، وعليه عامة أهل الحديث، والفقهاء، والمتكلمين وعليه نصوص أكثر الأئمة وأتباعهم؛ من أصحاب مالك، وأحمد، والشافعي، وغيرهم.
وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "تمرق مارقة علي حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولي الطائفتين بالحق" وهذا الحديث يتضمن ذكر الطوائف الثلاثة، ويبين أن المارقين نوع ثالث ليسوا من
ج/ 35 ص -55- جنس أولئك؛فإن طائفة علي أولي بالحق من طائفة معاوية. وقال في حق الخوارج المارقين: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة" وفي لفظ: "لو يعلم الذين يقاتلونهم ما لهم علي لسان نبيهم لنكلوا عن العمل". وقد روي مسلم أحاديثهم في الصحيح من عشرة أوجه وروي هذا البخاري من غير وجه، ورواه أهل السنن والمسانيد؛ وهي مستفيضة عن النبي ﷺ، متلقاة بالقبول، أجمع عليها علماء الأمة من الصحابة ومن اتبعهم، واتفق الصحابة علي قتال هؤلاء الخوارج.
وأما [أهل الجمل، وصفين] فكانت منهم طائفة قاتلت من هذا الجانب، وأكثر أكابر الصحابة لم يقاتلوا لا من هذا الجانب ولا من هذا الجانب، واستدل التاركون للقتال بالنصوص الكثيرة عن النبي ﷺ في ترك القتال في الفتنة، وبينوا أن هذا قتال فتنة.
وكان علي رضي الله عنه مسرورًا لقتال الخوارج، ويروي الحديث عن النبي ﷺ في الأمر بقتالهم، وأما قتال [صفين] فذكر أنه ليس معه فيه نص؛ وإنما هو رأي رآه، وكان أحيانًا يحمد من لم ير القتال.
ج/ 35 ص -56- وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال في الحسن: "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"، فقد مدح الحسن وأثني عليه بإصلاح الله به بين الطائفتين؛ أصحاب علي وأصحاب معاوية، وهذا يبين أن ترك القتال كان أحسن، وأنه لم يكن القتال واجبًا ولا مستحبًا.
و [قتال الخوارج] قد ثبت عنه أنه أمر به، وحض عليه، فكيف يسوي بين ما أمر به وحض عليه، وبين ما مدح تاركه وأثني عليه؟!. فمن سوي بين قتال الصحابة الذين اقتتلوا بالجمل وصفين، وبين قتال ذي الخويصرة التميمي وأمثاله من الخوارج المارقين، والحرورية المعتدين، كان قولهم من جنس أقوال أهل الجهل والظلم المبين. ولزم صاحب هذا القول أن يصير من جنس الرافضة والمعتزلة الذين يكفرون أو يفسقون المتقاتلين بالجمل وصفين، كما يقال مثل ذلك في الخوارج المارقين، فقد اختلف السلف والأئمة في كفرهم علي قولين مشهورين، مع اتفاقهم علي الثناء علي الصحابة المقتتلين بالجمل وصفين، والإمساك عما شجر بينهم. فكيف نسبة هذا بهذا؟!
وأيضًا فالنبي ﷺ أمر بقتال [الخوارج] قبل أن يقاتلوا، وأما [أهل البغي] فإن الله تعالي قال فيهم:
ج/ 35 ص -57-" وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ " [الحجرات: 9]، فلم يأمر بقتال الباغية ابتداء. فالاقتتال ابتداء ليس مأمورًا به، ولكن إذا اقتتلوا أمر بالإصلاح بينهم، ثم إن بغت الواحدة قوتلت؛ ولهذا قال من قال من الفقهاء: إن البغاة لا يبتدؤون بقتالهم حتي يقاتلوا. وأما الخوارج فقد قال النبي ﷺ فيهم: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة"، وقال: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد".
وكذلك مانعو الزكاة؛ فإن الصديق والصحابة ابتدؤوا قتالهم، قال الصديق: والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلي رسول الله ﷺ لقاتلتهم عليه. وهم يقاتلون إذا امتنعوا من أداء الواجبات وإن أقروا بالوجوب. ثم تنازع الفقهاء في كفر من منعها وقاتل الإمام عليها مع إقراره بالوجوب؟ علي قولين، هما روايتان عن أحمد، كالروايتين عنه في تكفير الخوارج. وأما أهل البغي المجرد فلا يكفرون باتفاق أئمة الدين؛ فإن القرآن قد نص علي إيمانهم وأخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي. والله أعلم.
ج/ 35 ص -58-وسئل رحمه الله : عمن يلعن [معاوية] فماذا يجب عليه؟ وهل قال النبي ﷺ هذه الأحاديث، وهي إذا "اقتتل خليفتان فأحدهما ملعون"؟ وأيضًا: "إن عمارًا تقتله الفئة الباغية". وقتله عسكر معاوية؟ وهل سبوا أهل البيت؟ أو قتل الحجاج شريفًا؟
فأجاب:
الحمد لله، من لعن أحدًا من أصحاب النبي ﷺ كمعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ونحوهما، ومن هو أفضل من هؤلاء؛ كأبي موسي الأشعري، وأبي هريرة، ونحوهما، أو من هو أفضل من هؤلاء؛ كطلحة، والزبير، وعثمان، وعلي بن أبي طالب، أو أبي بكر الصديق، وعمر، أو عائشة أم المؤمنين، وغير هؤلاء من أصحاب النبي ﷺ فإنه مستحق للعقوبة البليغة باتفاق أئمة الدين. وتنازع العلماء: هل يعاقب بالقتل؟ أو ما دون القتل؟ كما قد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع.
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ أنه قال: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل
ج/ 35 ص -59- أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه". واللعنة أعظم من السب، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "لعن المؤمن كقتله"، فقد جعل النبي ﷺ لعن المؤمن كقتله.
وأصحاب رسول الله ﷺ خيار المؤمنين، كما ثبت عنه أنه قال: "خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، وكل من رأي رسول الله ﷺ مؤمنًا به فله من الصحبة بقدر ذلك، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ: "يغزو جيش، فيقول: هل فيكم من صحب رسول الله ﷺ؟ فيقولون نعم. فيفتح لهم، ثم يغزو جيش؛ فيقول: هل فيكم من رأي رسول الله ﷺ؟ فيقولون، نعم. فيفتح لهم". وذكر الطبقة الثالثة، فعلق الحكم برؤية رسول الله ﷺ، كما علقه بصحبته.
ولما كان لفظ [الصحبة] فيه عموم وخصوص، كان من اختص من الصحابة بما يتميز به عن غيره يوصف بتلك الصحبة، دون من لم يشركه فيها، قال النبي ﷺ في حديث أبي سعيد المتقدم لخالد بن الوليد لما اختصم هو وعبد الرحمن: "يا خالد، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"، فإن عبد الرحمن بن عوف هو وأمثاله من السابقين الأولين من الذين أنفقوا قبل الفتح فتح الحديبية وخالد بن الوليد وغيره ممن أسلم بعد الحديبية وأنفقوا وقاتلوا دون أولئك، قال تعالى:
ج/ 35 ص -60-" لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى " [الحديد: 10]، والمراد [بالفتح] فتح الحديبية لما بايع النبي ﷺ أصحابه تحت الشجرة، وكان الذين بايعوه أكثر من ألف وأربعمائة، وهم الذين فتحوا خيبر، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة".
و [سورة الفتح] الذي فيها ذلك أنزلها الله قبل أن تفتح مكة، بل قبل أن يعتمر النبي ﷺ، وكان قد بايع أصحابه تحت الشجرة عام الحديبية سنة ست من الهجرة، وصالح المشركين صلح الحديبية المشهور، وبذلك الصلح حصل من الفتح ما لا يعلمه إلا الله، مع أنه قد كان كرهه خلق من المسلمين، ولم يعلموا ما فيه من حسن العاقبة حتي قال سهل بن حنيف: أيها الناس اتهموا الرأي، فقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد علي رسول الله ﷺ أمره لرددت. رواه البخاري وغيره، فلما كان من العام القابل اعتمر النبي ﷺ، ودخل هو ومن اعتمر معه مكة معتمرين، وأهل مكة يومئذ مع المشركين، ولما كان في العام الثامن فتح مكة في شهر رمضان، وقد أنزل الله في سورة الفتح: " لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا " [الفتح: 27]، فوعدهم في سورة الفتح أن يدخلوا مكة آمنين، وأنجز موعده من
ج/ 35 ص -61-العام الثاني، وأنزل في ذلك: " الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ " [البقرة: 194]، وذلك كله قبل فتح مكة. فمن توهم أن [سورة الفتح] نزلت بعد فتح مكة فقد غلط غلطًا بينًا.
والمقصود أن أولئك الذين صحبوه قبل الفتح اختصوا من الصحبة بما استحقوا به التفضيل علي من بعدهم، حتي قال لخالد: "لا تسبوا أصحابي"، فإنهم صحبوه قبل أن يصحبه خالد وأمثاله.
ولما كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه من مزية الصحبة ما تميز به على جميع الصحابة، خصه بذلك في الحديث الصحيح، الذي رواه البخاري عن أبي الدرداء، أنه كان بين أبي بكر وعمر كلام، فطلب أبو بكر من عمر أن يستغفر له فامتنع عمر، وجاء أبو بكر إلي النبي ﷺ فذكر له ما جري، ثم إن عمر ندم، فخرج يطلب أبا بكر في بيته، فذكر له أنه كان عند النبي ﷺ، فلما جاء عمر أخذ النبي ﷺ يغضب لأبي بكر، وقال: "أيها الناس، إني جئت إليكم فقلت: إني رسول الله إليكم، فقلتم: كذبت. وقال أبو بكر: صدقت، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟! فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟!"، فما أوذي بعدها. فهنا خصه باسم الصحبة، كما خصه به القرآن في قوله تعالى:
ج/ 35 ص -62- "ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا " [التوبة: 40]، وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن النبي ﷺ قال: "إن عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة، فاختار ذلك العبد ما عند الله"، فبكي أبو بكر، فقال: بل نفديك بأنفسنا؛ وأموالنا. قال: فجعل الناس يعجبون أن ذكر النبي ﷺ عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة، فكان رسول الله ﷺ هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به. وقال النبي ﷺ: "إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخي وصاحبي، سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر"، وهذا من أصح حديث يكون باتفاق العلماء العارفين بأقوال النبي ﷺ، وأفعاله، وأحواله.
والمقصود أن الصحبة فيها خصوص وعموم، وعمومها يندرج فيه كل من رآه مؤمنًا به، ولهذا يقال: صحبته سنة، وشهرًا، وساعة، ونحو ذلك.
و[معاوية وعمرو بن العاص وأمثالهم] من المؤمنين، لم يتهمهم أحد من السلف بنفاق، بل قد ثبت في الصحيح أن عمرو بن العاص لما بايع النبي ﷺ قال: علي أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي. فقال:
ج/ 35 ص -63- "ياعمرو، أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله"، ومعلوم أن الإسلام الهادم هو إسلام المؤمنين، لا إسلام المنافقين.
وأيضًا فعمرو بن العاص وأمثاله ممن قدم مهاجرًا إلي النبي ﷺ بعد الحديبية هاجروا إليه من بلادهم طوعًا لا كرهًا، والمهاجرون لم يكن فيهم منافق، وإنما كان النفاق في بعض من دخل من الأنصار؛ وذلك أن الأنصار هم أهل المدينة، فلما أسلم أشرافهم وجمهورهم، احتاج الباقون أن يظهروا الإسلام نفاقًا؛ لعز الإسلام وظهوره في قومهم. وأما أهل مكة فكان أشرافهم وجمهورهم كفارًا فلم يكن يظهر الإيمان إلا من هو مؤمن ظاهرًا وباطنًا؛ فإنه كان من أظهر الإسلام يؤذي ويهجر، وإنما المنافق يظهر الإسلام لمصلحة دنياه. وكان من أظهر الإسلام بمكة يتأذي في دنياه، ثم لما هاجر النبي ﷺ إلي المدينة هاجر معه أكثر المؤمنين، ومنع بعضهم من الهجرة إليه، كما منع رجال من بني مخزوم مثل الوليد بن المغيرة أخو خالد أخو أبي جهل لأمه؛ ولهذا كان النبي ﷺ يقنت لهؤلاء ويقول في قنوته: "اللهم نج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، والمستضعفين من المؤمنين. اللهم اشدد وطأتك علي مضر، واجعلها عليهم سنينًا كسني يوسف". والمهاجرون من أولهم إلي آخرهم ليس فيهم من اتهمه أحد بالنفاق، بل كلهم مؤمنون مشهود لهم بالإيمان، ولعن المؤمن كقتله".
ج/ 35 ص -64- وأما [معاوية بن أبي سفيان] وأمثاله من الطلقاء الذين أسلموا بعد فتح مكة؛ كعكرمة ابن أبي جهل، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، هؤلاء وغيرهم ممن حسن إسلامهم باتفاق المسلمين، ولم يتهم أحد منهم بعد ذلك بنفاق. ومعاوية قد استكتبه رسول الله ﷺ وقال: "اللهم علمه الكتاب والحساب، وقه العذاب".
وكان أخوه يزيد بن أبي سفيان خيرًا منه وأفضل، وهو أحد الأمراء الذين بعثهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه في فتح الشام، ووصاه بوصية معروفة، وأبو بكر ماشٍ، ويزيد راكب، فقال له: يا خليفة رسول الله، إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال: لست براكب، ولست بنازل، إني أحتسب خطاي في سبيل الله. وكان عمرو بن العاص هو الأمير الآخر والثالث شرحبيل بن حسنة، والرابع خالد بن الوليد، وهو أميرهم المطلق، ثم عزله عمر، وولي أبا عبيدة عامر بن الجراح، الذي ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ شهد له أنه أمين هذه الأمة، فكان فتح الشام علي يد أبي عبيدة، وفتح العراق علي يد سعد بن أبي وقاص.
ثم لما مات يزيد بن أبي سفيان في خلافة عمر استعمل أخاه معاوية، وكان عمر بن الخطاب من أعظم الناس فراسة، وأخبرهم بالرجال، وأقومهم
ج/ 35 ص -65- بالحق، وأعلمهم به، حتي قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كنا نتحدث أن السكينة تنطق علي لسان عمر. وقال النبي ﷺ: "إن الله ضرب الحق علي لسان عمر وقلبه"، وقال: "لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر"، وقال ابن عمر: ما سمعت عمر يقول في الشيء إني لأراه كذا وكذا إلا كان كما رآه. وقد قال له النبي ﷺ: "ما رآك الشيطان سالكًا فجًا إلا سلك فجًا غير فجك". ولا استعمل عمر قط، بل ولا أبو بكر علي المسلمين: منافقًا، ولا استعملا من أقاربهما، ولا كان تأخذهما في الله لومة لائم، بل لما قاتلا أهل الردة وأعادوهم إلي الإسلام منعوهم ركوب الخيل وحمل السلاح حتي تظهر صحة توبتهم، وكان عمر يقول لسعد بن أبي وقاص وهو أمير العراق: لا تستعمل أحدًا منهم، ولا تشاورهم في الحرب. فإنهم كانوا أمراء أكابر؛ مثل طليحة الأسدي، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، والأشعث بن قيس الكندي، وأمثالهم، فهؤلاء لما تخوف أبو بكر وعمر منهم نوع نفاق لم يولهم علي المسلمين.
فلو كان [عمرو بن العاص] و [معاوية بن أبي سفيان] وأمثالهما ممن يتخوف منهما النفاق لم يولوا علي المسلمين، بل عمرو بن العاص قد أمره النبي ﷺ في غزوة ذات السلاسل، والنبي ﷺ لم يول علي المسلمين منافقًا، وقد استعمل علي نجران أبا سفيان بن حرب أبا معاوية، ومات رسول الله ﷺ وأبو سفيان
ج/ 35 ص -66- نائبه علي نجران، وقد اتفق المسلمون علي أن إسلام معاوية خير من إسلام أبيه أبي سفيان، فكيف يكون هؤلاء منافقين والنبي ﷺ يأتمنهم علي أحوال المسلمين في العلم والعمل؟! وقد علم أن معاوية وعمرو بن العاص وغيرهما كان بينهم من الفتن ما كان، ولم يتهمهم أحد من أوليائهم، لا محاربوهم، ولا غير محاربيهم بالكذب علي النبي ﷺ، بل جميع علماء الصحابة والتابعين بعدهم متفقون علي أن هؤلاء صادقون علي رسول الله ﷺ، مأمونون عليه في الرواية عنه، والمنافق غير مأمون علي النبي ﷺ، بل هو كاذب عليه، مكذب له.
وإذا كانوا مؤمنين، محبين لله ورسوله، فمن لعنهم فقد عصي الله ورسوله، وقد ثبت في صحيح البخاري ما معناه: أن رجلاً يلقب حمارًا، وكان يشرب الخمر، وكان كلما شرب أتي به إلي النبي ﷺ، فجلده، فأتي به إليه مرة، فقال رجل: لعنه الله! ما أكثر ما يؤتي به إلي النبي ﷺ؟ فقال النبي ﷺ: "لا تلعنوه، فإنه يحب الله ورسوله". وكل مؤمن يحب الله ورسوله، ومن لم يحب الله ورسوله فليس بمؤمن، وإن كانوا متفاضلين في الإيمان وما يدخل فيه من حب وغيره، هذا مع أنه ﷺ لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها. وقد نهي عن لعنة هذا المعين؛ لأن اللعنة من [باب الوعيد] فيحكم به
ج/ 35 ص -67- عمومًا، وأما المعين فقد يرتفع عنه الوعيد لتوبة صحيحة، أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة، أو غير ذلك من الأسباب التي ضررها يرفع العقوبة عن المذنب، فهذا في حق من له ذنب محقق.
وكذلك [حاطب بن أبي بلتعة] فعل ما فعل وكان يسيء إلي مماليكه، حتي ثبت في الصحيح أن غلامه قال: يارسول الله، والله ليدخلن حاطب ابن أبي بلتعة النار. قال: "كذبت، إنه شهد بدرًا، والحديبية". وفي الصحيح عن علي بن أبي طالب أن النبي ﷺ أرسله والزبير بن العوام، وقال لهما: "ائتيا روضة خاخ، فإن بها ظعينة، ومعها كتاب" قال علي: فانطلقنا تتعادي بنا خيلنا حتي لقينا الظعينة، فقلنا: أين الكتاب؟ فقالت: ما معي كتاب. فقلنا لها: لتخرجن الكتاب، أو لنلقين الثياب، قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي ﷺ، وإذا كتاب من حاطب إلي بعض المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ: "ما هذا يا حاطب؟!" فقال: والله يارسول الله ما فعلت هذا ارتدادًا عن ديني، ولا رضاء بالكفر بعد الإسلام، ولكن كنت امرأ ملصقًا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المسلمين لهم قرابات يحمون بهم أهاليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك منهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي. وفي لفظ: وعلمت أن ذلك لا يضرك، يعني: لأن الله ينصر رسوله والذين آمنوا. فقال عمر: دعني
ج/ 35 ص -68- أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي ﷺ:"إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك أن الله قد اطلع علي أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". فهذه السيئة العظيمة غفرها الله له بشهود بدر.
فدل ذلك علي أن الحسنة العظيمة يغفر الله بها السيئة العظيمة، والمؤمنون يؤمنون بالوعد والوعيد، لقوله ﷺ: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" وأمثال ذلك، مع قوله: "إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا " [النساء:10].
ولهذا لا يشهد لمعين بالجنة إلا بدليل خاص، ولا يشهد علي معين بالنار إلا بدليل خاص، ولا يشهد لهم بمجرد الظن من اندراجهم في العموم؛ لأنه قد يندرج في العمومين فيستحق الثواب والعقاب؛ لقوله تعالي: "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ " [الزلزلة: 7، 8]، والعبد إذا اجتمع له سيئات وحسنات فإنه وإن استحق العقاب علي سيئاته فإن الله يثيبه علي حسناته، ولا يحبط حسنات المؤمن لأجل ما صدر منه، وإنما يقول بحبوط الحسنات كلها بالكبيرة، الخوارج والمعتزلة، الذين يقولون بتخليد أهل الكبائر، وأنهم لا يخرجون منها بشفاعة ولا غيرها وأن صاحب الكبيرة لا يبقي معه من الإيمان شيء. وهذه أقوال فاسدة، مخالفة للكتاب، والسنة المتواترة، وإجماع الصحابة.
ج/ 35 ص -69- وسائر أهل السنة والجماعة وأئمة الدين لا يعتقدون عصمة أحد من الصحابة ولا القرابة ولا السابقين ولا غيرهم، بل يجوز عندهم وقوع الذنوب منهم، والله تعالي يغفر لهم بالتوبة، ويرفع بها درجاتهم، ويغفر لهم بحسنات ماحية، أو بغير ذلك من الأسباب، قال تعالي: "وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ " [الزمر: 33: 35]، وقال تعالي: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ " [الأحقاف: 15، 16].
ولكن الأنبياء صلوات الله عليهم هم الذين قال العلماء: إنهم معصومون من الإصرار علي الذنوب، فأما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحققة. وأما ما اجتهدوا فيه، فتارة يصيبون، وتارة يخطئون. فإذا اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطؤوا فلهم أجر علي اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم. وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين؛ فتارة يغلون فيهم، ويقولون: إنهم معصومون، وتارة يجفون عنهم، ويقولون: إنهم باغون بالخطأ وأهل العلم والإيمان لا يعصمون، ولا يؤثمون.
ج/ 35 ص -70- ومن هذا الباب تولد كثير من فرق أهل البدع والضلال. فطائفة سبت السلف ولعنتهم، لاعتقادهم أنهم فعلوا ذنوبًا، وأن من فعلها يستحق اللعنة، بل قد يفسقونهم، أو يكفرونهم، كما فعلت الخوارج الذين كفروا علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، ومن تولاهما، ولعنوهم، وسبوهم، واستحلوا قتالهم. وهؤلاء هم الذين قال فيهم رسول الله ﷺ: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية"، وقال ﷺ: "تمرق مارقة علي فرقة من المسلمين، فتقاتلها أولي الطائفتين لأجل الحق"، وهؤلاء هم المارقة الذين مرقوا علي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكفروا كل من تولاه. وكان المؤمنون قد افترقوا فرقتين: فرقة مع علي، وفرقة مع معاوية، فقاتل هؤلاء عليا وأصحابه، فوقع الأمر كما أخبر به النبي ﷺ، وكما ثبت عنه أيضًا في الصحيح أنه قال عن الحسن ابنه: "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين"، فأصلح الله به شيعة علي وشيعة معاوية.
وأثني النبي ﷺ علي الحسن بهذا الصلح الذي كان علي يديه وسماه سيدًا بذلك؛ لأجل أن ما فعله الحسن يحبه الله ورسوله، ويرضاه الله ورسوله. ولو كان الاقتتال الذي حصل بين المسلمين هو الذي أمر الله به بين ورسوله لم يكن الأمر كذلك، بل يكون الحسن قد ترك الواجب، أو الأحب إلى
ج/ 35 ص -71- الله. وهذا النص الصحيح الصريح يبين أن ما فعله الحسن محمود، مرضي لله ورسوله، وقد ثبت في الصحيح، أن النبي ﷺ كان يضعه علي فخذه، ويضع أسامة بن زيد، ويقول: "اللهم إني أحبهما، وأحب من يحبهما"، وهذا أيضًا مما ظهر فيه محبته ودعوته ﷺ، فإنهما كانا أشد الناس رغبة في الأمر الذي مدح النبي ﷺ به الحسن، وأشد الناس كراهة لما يخالفه.
وهذا مما يبين أن القتلي من أهل صفين لم يكونوا عند النبي ﷺ بمنزلة الخوارج المارقين، الذين أمر بقتالهم، وهؤلاء مدح الصلح بينهم ولم يأمر بقتالهم؛ ولهذا كانت الصحابة والأئمة متفقين علي قتال الخوارج المارقين، وظهر من علي رضي الله عنه السرور بقتالهم، ومن روايته عن النبي ﷺ الأمر بقتالهم: ما قد ظهر عنه، وأما قتال الصحابة فلم يرو عن النبي ﷺ فيه أثر، ولم يظهر فيه سرور، بل ظهر منه الكآبة، وتمني ألا يقع، وشكر بعض الصحابة، وبرأ الفريقين من الكفر والنفاق، وأجاز الترحم علي قتلي الطائفتين، وأمثال ذلك من الأمور التي يعرف بها اتفاق علي وغيره من الصحابة علي أن كل واحدة من الطائفتين مؤمنة.
وقد شهد القرآن بأن اقتتال المؤمنين لا يخرجهم عن الإيمان بقوله تعالى:
ج/ 35 ص -72-"وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ " [الحجرات: 9، 10]، فسماهم [مؤمنين] وجعلهم [إخوة] مع وجود الاقتتال والبغي.
والحديث المذكور: "إذا اقتتل خليفتان فأحدهما ملعون" كذب مفتري، لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث، ولا هو في شيء من دواوين الإسلام المعتمدة.
و [معاوية] لم يَدَّعِ الخلافة،ولم يبايع له بها حين قاتل عليا،ولم يقاتل علي أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه، ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدئوا عليا وأصحابه بالقتال، ولا يعلوا.
بل لما رأي علي رضي الله عنه وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته؛ إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب، وهم أهل شوكة، رأي أن يقاتلهم حتي يؤدوا هذا الواجب، فتحصل الطاعة والجماعة.
وهم قالوا: إن ذلك لا يجب عليهم، وأنهم إذا قوتلوا علي ذلك كانوا مظلومين قالوا: لأن عثمان قتل مظلومًا باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي، وهم غالبون
ج/ 35 ص -73- لهم شوكة، فإذا امتنعنا ظلمونا واعتدوا علينا. وعلي لا يمكنه دفعهم، كما لم يمكنه الدفع عن عثمان، وإنما علينا أن نبايع خليفة يقدر علي أن ينصفنا ويبذل لنا الإنصاف.
وكان في جهال الفريقين من يظن بعلي وعثمان ظنونًا كاذبة برأ الله منها عليا، وعثمان كان يظن بعلي أنه أمر بقتل عثمان، وكان علي يحلف وهو البار الصادق بلا يمين أنه لم يقتله ولا رضي بقتله،ولم يمالئ علي قتله. وهذا معلوم بلا ريب من علي رضي الله عنه فكان أناس من محبي علي ومن مبغضيه يشيعون ذلك عنه؛ فمحبوه يقصدون بذلك الطعن علي عثمان بأنه كان يستحق القتل، وأن عليا أمر بقتله،ومبغضوه يقصدون بذلك الطعن علي علي، وأنه أعان علي قتل الخليفة المظلوم الشهيد الذي صبر نفسه ولم يدفع عنها ولم يسفك دم مسلم في الدفع عنه، فكيف في طلب طاعته؟! وأمثال هذه الأمور التي يتسبب بها الزائغون علي المتشيعين العثمانية، والعلوية.
وكل فرقة من المتشيعين مقرة مع ذلك بأنه ليس معاوية كفأ لعلي بالخلافة، ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي رضي الله عنه فإن فضل علي وسابقيته، وعلمه، ودينه، وشجاعته، وسائر فضائله، كانت عندهم ظاهرة معروفة، كفضل إخوانه أبي بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم رضي الله عنهم
ج/ 35 ص -74-ولم يكن بقي من أهل الشوري غيره وغير سعد، وسعد كان قد ترك هذا الأمر، وكان الأمر قد انحصر في عثمان وعلي؛ فلما توفي عثمان لم يبق لها معين إلا علي رضي الله عنه وإنما وقع الشر بسبب قتل عثمان، فحصل بذلك قوة أهل الظلم والعدوان وضعف أهل العلم والإيمان، حتي حصل من الفرقة والاختلاف ما صار يطاع فيه من غيره أولي منه بالطاعة؛ ولهذا أمر الله بالجماعة والائتلاف، ونهي عن الفرقة والاختلاف؛ ولهذا قيل: ما يكرهون في الجماعة خير مما يجمعون من الفرقة.
وأما الحديث الذي فيه "أن عمارًا تقتله الفئة الباغية"، فهذا الحديث قد طعن فيه طائفة من أهل العلم؛ لكن رواه مسلم في صحيحه، وهو في بعض نسخ البخاري، قد تأوله بعضهم: علي أن المراد بالباغية، الطالبة بدم عثمان، كما قالوا: نبغي ابن عفان بأطراف الأسل. وليس بشيء، بل يقال ما قاله رسول الله ﷺ، فهو حق كما قاله، وليس في كون عمارًا تقتله الفئة الباغية ما ينافي ما ذكرناه، فإنه قد قال الله تعالي: "وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ " [الحجرات:9، 10]، فقد جعلهم مع وجود الاقتتال والبغي مؤمنين إخوة،بل مع أمره بقتال الفئة الباغية جعلهم مؤمنين.وليس كل ما كان
ج/ 35 ص -75- بغيا وظلمًا أو عدوانًا يخرج عموم الناس عن الإيمان، ولا يوجب لعنتهم، فكيف يخرج ذلك من كان من خير القرون؟!
وكل من كان باغيا، أو ظالمًا، أو معتديا، أو مرتكبًا ما هو ذنب، فهو قسمان متأول، وغير متأول، فالمتأول المجتهد؛ كأهل العلم والدين، الذين اجتهدوا، واعتقد بعضهم حل أمور، واعتقد الآخر تحريمها كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة، وبعضهم بعض المعاملات الربوية وبعضهم بعض عقود التحليل والمتعة، وأمثال ذلك، فقد جري ذلك وأمثاله من خيار السلف. فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون، وقد قال الله تعالي: " رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا " [البقرة: 286]، وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء.
وقد أخبر سبحانه عن داود وسليمان عليهما السلام أنهما حكما في الحرث، وخص أحدهما بالعلم والحكم، مع ثنائه علي كل منهما بالعلم والحكم. والعلماء ورثة الأنبياء، فإذا فهم أحدهم من المسألة ما لم يفهمه الآخر لم يكن بذلك ملومًا ولا مانعًا لما عرف من علمه ودينه، وإن كان ذلك مع العلم بالحكم يكون إثمًا وظلمًا، والإصرار عليه فسقًا، بل متي علم تحريمه ضرورة كان تحليله كفرًا. فالبغي هو من هذا الباب.
ج/ 35 ص -76- أما إذا كان الباغي مجتهدًا ومتأولاً، ولم يتبين له أنه باغ، بل اعتقد أنه علي الحق وإن كان مخطئًا في اعتقاده، لم تكن تسميته [باغيا] موجبة لإثمه، فضلاً عن أن توجب فسقه. والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين، يقولون: مع الأمر بقتالهم قتالنا لهم لدفع ضرر بغيهم؛ لا عقوبة لهم؛ بل للمنع من العدوان. ويقولون: إنهم باقون علي العدالة؛ لا يفسقون. ويقولون: هم كغير المكلف، كما يمنع الصبي والمجنون والناسي والمغمي عليه والنائم من العدوان ألا يصدر منهم، بل تمنع البهائم من العدوان. ويجب علي من قتل مؤمنًا خطأ الدية بنص القرآن مع أنه لا إثم عليه في ذلك، وهكذا من رفع إلي الإمام من أهل الحدود وتاب بعد القدرة عليه فأقام عليه الحد، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والباغي المتأول يجلد عند مالك والشافعي وأحمد ونظائره متعددة.
ثم بتقدير أن يكون [البغي] بغير تأويل، يكون ذنبًا، والذنوب تزول عقوبتها بأسباب متعددة: بالحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، وغير ذلك.
ثم "إن عمارًا تقتله الفئة الباغية" ليس نصًا في أن هذا اللفظ لمعاوية وأصحابه، بل يمكن أنه أريد به تلك العصابة التي حملت عليه حتي قتلته، وهي طائفة من العسكر، ومن رضي بقتل عمار كان حكمه حكمها. ومن المعلوم أنه
ج/ 35 ص -77- كان في المعسكر من لم يرض بقتل عمار؛ كعبد الله بن عمرو بن العاص، وغيره، بل كل الناس كانوا منكرين لقتل عمار، حتي معاوية، وعمرو.
ويروي أن معاوية تأول أن الذي قتله هو الذي جاء به، دون مقاتليه، وأن عليا رد هذا التأويل بقوله: فنحن إذًا قتلنا حمزة. ولا ريب أن ما قاله علي هو الصواب، لكن من نظر في كلام المتناظرين من العلماء الذين ليس بينهم قتال ولا ملك، وأن لهم في النصوص من التأويلات ما هو أضعف من معاوية بكثير. ومن تأول هذا التأويل لم ير أنه قتل عمارًا، فلم يعتقد أنه باغ، ومن لم يعتقد أنه باغ وهو في نفس الأمر باغ، فهو متأول مخطئ.
والفقهاء ليس فيهم من رأيه القتال مع من قتل عمارًا، لكن لهم قولان مشهوران كما كان عليهما أكابر الصحابة؛ منهم من يري القتال مع عمار وطائفته، ومنهم من يري الإمساك عن القتال مطلقًا. وفي كل من الطائفتين طوائف من السابقين الأولين. ففي القول الأول عمار، وسهل بن حنيف، وأبو أيوب. وفي الثاني سعد بن أبي وقاص؛ ومحمد بن مسلمة؛ وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر ونحوهم. ولعل أكثر الأكابر من الصحابة كانوا علي هذا الرأي، ولم يكن في العسكرين بعد علي أفضل من سعد بن أبي وقاص، وكان من القاعدين.
ج/ 35 ص -78- و [حديث عمار] قد يحتج به من رأي القتال؛ لأنه إذا كان قاتلوه بغاة فالله يقول: " فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي" [الحجرات: 9]، والمتمسكون يحتجون بالأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ في "أن القعود عن الفتنة خير من القتال فيها"، وتقول: إن هذا القتال ونحوه وهو قتال الفتنة؛ كما جاءت أحاديث صحيحة تبين ذلك، وأن النبي ﷺ لم يأمر بالقتال، ولم يرض به، وإنما رضي بالصلح، وإنما أمر الله بقتال الباغي، ولم يأمر بقتاله ابتداء، بل قال: " وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ " [الحجرات: 9]، قالوا: والاقتتال الأول لم يأمر الله به، ولا أمر كل من بغي عليه أن يقاتل من بغي عليه؛ فإنه إذا قتل كل باغ كفر، بل غالب المؤمنين، بل غالب الناس، لا يخلو من ظلم وبغي، ولكن إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين فالواجب الإصلاح بينهما؛ وإن لم تكن واحدة منهما مأمورة بالقتال، فإذا بغت الواحدة بعد ذلك قوتلت؛ لأنها لم تترك القتال؛ ولم تجب إلي الصلح؛ فلم يندفع شرها إلا بالقتال. فصار قتالها بمنزلة قتال الصائل الذي لا يندفع ظلمه عن غيره إلا بالقتال، كما قال النبي ﷺ: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد". قالوا: فبتقدير أن جميع العسكر بغاة فلم نؤمر بقتالهم ابتداء، بل أمرنا بالإصلاح
ج/ 35 ص -79- بينهم، وأيضًا فلا يجوز قتالهم إذا كان الذين مع علي ناكلين عن القتال، فإنهم كانوا كثيري الخلاف عليه ضعيفي الطاعة له.والمقصود أن هذا الحديث لا يبيح لعن أحد من الصحابة، ولا يوجب فسقه.وأما [أهل البيت] فلم يسبوا قط. ولله الحمد.
ولم يقتل الحجاج أحدًا من بني هاشم، وإنما قتل رجالاً من أشراف العرب، وكان قد تزوج بنت عبد الله بن جعفر، فلم يرض بذلك بنو عبد مناف ولا بنو هاشم ولا بنو أمية، حتي فرقوا بينه وبينها، حيث لم يروه كفئًا. والله أعلم.
وَسئلَ رحمه الله عن الفتن التي تقع من أهل البر وأمثالها، فيقتل بعضهم بعضًا، ويستبيح بعضهم حرمة بعض: فما حكم الله تعالي فيهم؟
فأجاب:
الحمد لله، هذه الفتن وأمثالها من أعظم المحرمات، وأكبر المنكرات، قال الله تعالى:
ج/ 35 ص -80-"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ " [آل عمران:102: 106]، وهؤلاء الذين تفرقوا واختلفوا حتى صار عنهم من الكفر ما صار، وقد قال النبي ﷺ: "لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض"، فهذا من الكفر، وإن كان المسلم لا يكفر بالذنب، قال تعالي: "وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [الحجرات:9، 10]، فهذا حكم الله بين المقتتلين من المؤمنين: أخبر أنهم إخوة، وأمر أولاً بالإصلاح بينهم إذا اقتتلوا "فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى "، ولم يقبلوا الإصلاح "فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ" ، فأمر بالإصلاح بينهم بالعدل بعد أن " تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ " أي: ترجع إلي أمر الله. فمن رجع إلي أمر الله وجب أن يعدل بينه وبين خصمه، ويقسط بينهما، فقبل أن نقاتل الطائفة الباغية وبعد اقتتالهما أمرنا بالإصلاح بينهما مطلقًا؛ لأنه لم تقهر إحدي الطائفتين بقتال.
ج/ 35 ص -81- وإذا كان كذلك فالواجب أن يسعي بين هاتين الطائفتين بالصلح الذي أمر الله به ورسوله، ويقال لهذه: ما تنقم من هذه؟ ولهذه ما تنقم من هذه؟ فإن ثبت علي إحدي الطائفتين أنها اعتدت علي الأخري بإتلاف شيء من الأنفس والأموال، كان عليها ضمان ما أتلفته. وإن كان هؤلاء أتلفوا لهؤلاء، وهؤلاء أتلفوا لهؤلاء، تقاصوا بينهم، كما قال الله تعالي: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى "، وقد ذكرت طائفة من السلف أنها نزلت في مثل ذلك في طائفتين اقتتلتا فأمرهم الله بالمقاصة، قال: "فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ "، والعفو الفضل، فإذا فضل لواحدة من الطائفتين شيء علي الأخري "فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ " [البقرة: 178]، والذي عليه الحق يؤديه بإحسان. وإن تعذر أن تضمن واحدة للأخري، فيجوز أن يتحمل الرجل حمالة يؤديها لصلاح ذات البين، وله أن يأخذها بعد ذلك من زكاة المسلمين، ويسأل الناس في إعانته علي هذه الحالة وإن كان غنيا، قال النبي ﷺ لقبيصة بن مخارق الهلالي: "يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فيسأل حتى يجد سدادا من عيش، ثم يمسك، ورجل أصابته فاقة؛ فإنه يقوم ثلاثة من ذوي الحجي من قومه، فيقولون: قد أصاب فلانًا فاقة، فيسأل حتى يجد قوامًا من عيش وسدادًا من عيش، ثم يمسك، ورجل يحمل حمالة فيسأل حتى يجد حمالته، ثم يمسك". والواجب علي كل مسلم قادر أن يسعي في الإصلاح بينهم، ويأمرهم بما أمر الله به مهما أمكن.
ج/ 35 ص -82- ومن كان من الطائفتين يظن أنه مظلوم مبغي عليه، فإذا صبر وعفي أعزه الله ونصره، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "مازاد الله عبدًا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله، ولا نقصت صدقة من مال"، وقال تعالي: "وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ " [الشوري:40]، وقال تعالي: "إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ " فالباغي الظالم ينتقم الله منه في الدنيا والآخرة؛ فإن البغي مصرعه، قال ابن مسعود: ولو بغي جبل علي جبل لجعل الله الباغي منهما دكًا. ومن حكمة الشعر:
قضي الله أن البغي يصرع أهله
وأن علي الباغي تدور الدوائر
ويشهد لهذا قوله تعالي: "إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " [يونس: 23]، الآية، وفي الحديث: "ما من ذنب أحري أن يجعل لصاحبه العقوبة في الدنيا من البغي، وما حسنة أحري أن يجعل لصاحبها الثواب من صلة الرحم"، فمن كان من إحدي الطائفتين باغيا ظالما فليتق الله وليتب.ومن كان مظلومًا مبغيا عليه وصبر كان له البشري من الله، قال تعالي "وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ " [البقرة: 155]، قال عمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون إذا ظلموا، وقد قال تعالي للمؤمنين في حق عدوهم: "وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا" [آل عمران: 120]،
ج/ 35 ص -83-وقال يوسف عليه السلام لما فعل به إخوته ما فعلوا، فصبر واتقي حتى نصره الله ودخلوا عليه وهو في عزه، وقالوا: "أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ " [يوسف: 90]،فمن اتقي الله من هؤلاء وغيرهم بصدق وعدل، ولم يتعد حدود الله، وصبر علي أذي الآخر وظلمه، لم يضره كيد الآخر، بل ينصره الله عليه.
وهذه الفتن سببها الذنوب والخطايا، فعلي كل من الطائفتين أن يستغفر الله ويتوب إليه، فإن ذلك يرفع العذاب، وينزل الرحمة، قال الله تعالي: "وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ " [الأنفال: 33]، وفي الحديث عن النبي ﷺ: "من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب"، قال الله تعالي: "الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ " [هود:1: 3]
ج/ 35 ص -84-وَسئلَ رحمه الله تعالي عن طائفتين يزعمان أنهما من أمة محمد ﷺ، يتداعيان بدعوة الجاهلية؛ كأسد، وهلال، وثعلبة، وحرام، وغير ذلك. وبينهم أحقاد ودماء؛ فإذا تراءت الفئتان سعي المؤمنون بينهم لقصد التأليف. وإصلاح ذات البين، فيقول أولئك الباغون: إن الله قد أوجب علينا طلب الثأر بقوله: "وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ" إلي قوله: "وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ " [المائدة: 45] ، ثم إن المؤمنين يعرفونهم أن هذا الأمر يفضي إلي الكفر؛ من قتل النفوس، ونهب الأموال.. فيقولون: نحن لنا عليهم حقوق، فلا نفارق حتى نأخذ ثأرنا بسيوفهم، ثم يحملون عليهم، فمن انتصر منهم بغي وتعدي وقتل النفس، ويفسدون في الأرض: فهل يجب قتال الطائفة الباغية وقتلها، بعد أمرهم بالمعروف؟ أو ماذا يجب علي الإمام أن يفعل بهذه الطائفة الباغية؟
فأجاب:
الحمد لله، قتال هاتين الطائفتين حرام بالكتاب والسنة والإجماع، حتى قال ﷺ: "إذا التقي المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". قيل: يارسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال:
ج/ 35 ص -85- "إنه أراد قتل صاحبه"، وقال ﷺ: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"، وقال ﷺ: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعيمن سامع".
والواجب في مثل هذا ما أمر الله به ورسوله، حيث قال: "وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ " [الحجرات:9، 10]، فيجب الإصلاح بين هاتين الطائفتين، كما أمر الله تعالي.
والإصلاح له طرق:
منها: أن تجمع أموال الزكوات وغيرها حتى يدفع في مثل ذلك فإن الغرم لإصلاح ذات البين، يبيح لصاحبه أن يأخذ من الزكاة بقدر ما غرم، كما ذكره الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، كما قال النبي ﷺ لقبيصة بن مخارق: "إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لرجل تحمل حمالة فيسأل حتى يجد حمالته، ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فيسأل حتى يجد سدادًا من عيش، ثم يمسك ، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجي من قومه، فيقولون: قد أصابت فلانًا فاقة، فيسأل،
ج/ 35 ص -86- حتى يجد قوامًا من عيش، وسدادًا من عيش، ثم يمسك، وما سوي ذلك من المسألة فإنه يأكله صاحبه سحتًا".
ومن طرق الصلح: أن تعفو إحدي الطائفتين أو كلاهما عن بعض ما لها عند الأخري من الدماء والأموال "فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" [الشوري: 40].
ومن طرق الصلح: أن يحكم بينهما بالعدل، فينظر ما أتلفته كل طائفة من الأخري من النفوس والأموال، فيتقاصان "الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى " [البقرة: 178]، وإذا فضل لإحداهما علي الأخري شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان، فإن كان يجهل عدد القتلي، أو مقدار المال، جعل المجهول كالمعدوم، وإذا ادعت إحداهما علي الأخري بزيادة، فإما أن تحلفها علي نفي ذلك، وإما أن تقيم البينة، وإما تمتنع عن اليمين فيقضي برد اليمين أو النكول.
فإن كانت إحدي الطائفتين تبغي بأن تمتنع عن العدل الواجب، ولا تجيب إلي أمر الله ورسوله، وتقاتل علي ذلك أو تطلب قتال الأخري وإتلاف النفوس والأموال، كما جرت عادتهم به؛ فإذا لم يقدر علي كفها إلا بالقتل قوتلت حتى تفيء إلي أمر الله، وإن أمكن أن تلزم بالعدل بدون القتال
ج/ 35 ص -87- مثل أن يعاقب بعضهم، أو يحبس، أو يقتل من وجب قتله منهم، ونحو ذلك، عمل ذلك، ولا حاجة إلي القتال.
وأما قول القائل: إن الله أوجب علينا، طلب الثأر، فهو كذب علي الله ورسوله؛ فإن الله لم يوجب علي من له عند أخيه المسلم المؤمن مظلمة من دم أو مال أو عرض أن يستوفي ذلك، بل لم يذكر حقوق الآدميين في القرآن إلا ندب فيها إلي العفو، فقال تعالي:" وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ " [المائدة: 45]، وقال تعالي: "فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ" [البقرة: 237].
وأما قوله تعالي: "وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ " [المائدة: 45]، فهذا مع أنه مكتوب علي بني إسرائيل، وإن كان حكمنا كحكمهم مما لم ينسخ من الشرائع، فالمراد بذلك التسوية في الدماء بين المؤمنين، كما قال النبي ﷺ: "المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد علي من سواهم". "فالنفس بالنفس" وإن كان القاتل رئيسًا مطاعًا من قبيلة شريفة والمقتول سوقي طارف، وكذلك إن كان كبيرًا وهذا صغيرًا، أو هذا غنيا وهذا فقيرًا وهذا عربيا وهذا عجميا، أو هذا هاشميا وهذا قرشيا. وهذا رد لما كان عليه
ج/ 35 ص -88- أهل الجاهلية من أنه إذا قتل كبير من القبيلة قتلوا به عددًا من القبيلة الأخري غير قبيلة القاتل، وإذا قتل ضعيف من قبيلة لم يقتلوا قاتله إذا كان رئيسًا مطاعًا، فأبطل الله ذلك بقوله: "وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ " فالمكتوب عليهم هو العدل، وهو كون النفس بالنفس؛ إذ الظلم حرام. وأما استيفاء الحق فهو إلي المستحق، وهذا مثل قوله: "وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ " [الإسراء:33]، أي: لا يقتل غير قاتله.
وأما إذا طلبت إحدي الطائفتين حكم الله ورسوله، فقالت الأخري نحن نأخذ حقنا بأيدينا في هذا الوقت، فهذا من أعظم الذنوب الموجبة عقوبة هذا القاتل الظالم الفاجر، وإذا امتنعوا عن حكم الله ورسوله ولهم شوكة وجب علي الأمير قتالهم؛ وإن لم يكن لهم شوكة: عرف من امتنع من حكم الله ورسوله، وألزم بالعدل.
وأما قولهم: لنا عليهم حقوق من سنين متقادمة. فيقال لهم نحن نحكم بينكم في الحقوق القديمة والحديثة، فإن حكم الله ورسوله يأتي علي هذا.
وأما من قتل أحدًا من بعد الاصطلاح، أو بعد المعاهدة والمعاقدة: فهذا يستحق القتل، حتى قالت طائفة من العلماء: إنه يقتل حدًا، ولا يجوز العفو عنه لأولياء المقتول، وقال الأكثرون: بل قتله قصاص، والخيار فيه إلى أولياء المقتول.
ج/ 35 ص -89- وإن كان الباغي طائفة فإنهم يستحقون العقوبة، وإن لم يمكن كف صنيعهم إلا بقتالهم قوتلوا، وإن أمكن بما دون ذلك عوقبوا بما يمنعهم من البغي والعدوان ونقض العهد والميثاق، قال ﷺ: "ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته، فيقال: هذه غدرة فلان"، وقد قال تعالي: "فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ " [البقرة: 178]، قالت طائفة من العلماء: المعتدي هو القاتل بعد العفو، فهذا يقتل حتمًا. وقال آخرون: بل يعذب بما يمنعه من الاعتداء. والله أعلم.
وَسئلَ رحمه الله تعالي عن أقوام لم يصلوا ولم يصوموا، والذي يصوم لم يصل، ومالهم حرام، ويأخذون أموال الناس، ويكرمون الجار والضعيف، ولم يعرف لهم مذهب، وهم مسلمون؟
فأجاب:
الحمد لله، هؤلاء وإن كانوا تحت حكم ولاة الأمور فإنه يجب أن يأمروهم بإقامة الصلاة، ويعاقبوا علي تركها، وكذلك الصيام. وإن أقروا بوجوب الصلاة الخمس وصيام رمضان والزكاة المفروضة، وإلا فمن لم يقر بذلك فهو كافر، وإن أقروا بوجوب الصلاة وامتنعوا عن إقامتها عوقبوا حتى
ج/ 35 ص -90- يقيموها، ويجب قتل كل من لم يصل إذا كان بالغًا عاقلاً عند جماهير العلماء، كمالك، والشافعي، وأحمد، وكذلك تقام عليهم الحدود.
وإن كانوا طائفة ممتنعة ذات شوكة، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا أداء الواجبات الظاهرة والمتواترة، كالصلاة والصيام، والزكاة، وترك المحرمات؛ كالزنا، والربا، وقطع الطريق، ونحو ذلك. ومن لم يقر بوجوب الصلاة والزكاة فإنه كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. ومن لم يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر والجنة والنار فهو كافر، أكفر من اليهود والنصاري. وعقوق الوالدين من الكبائر الموجبة للنار.
وَسئلَ رحمه الله تعالي عن أقوام مقيمون في الثغور، يغيرون علي الأرمن وغيرهم، ويكسبون المال وينفقونه علي الخمر والزنا: هل يكونون شهداء إذا قتلوا ؟
فأجاب:
الحمد لله، إن كانوا إنما يغيرون علي الكفار المحاربين، فإنما الأعمال بالنيات. وقد قالوا: يا? رسول الله، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية؛ ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"، فإن كان أحدهم لا يقصد إلا أخذ المال،
ج/ 35 ص -91- وإنفاقه في المعاصي، فهؤلاء فساق مستحقون للوعيد، وإن كان مقصودهم أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين لله، فهؤلاء مجاهدون، لكن إذا كانت لهم كبائر كان لهم حسنات وسيئات، وأما إن كانوا يغيرون علي المسلمين الذين هناك، فهؤلاء مفسدون في الأرض، محاربون لله ورسوله مستحقون للعقوبة البليغة في الدنيا والآخرة، والله أعلم.
وسئل رحمه الله تعالي عن جندي مع أمير، وطلع السلطان إلي الصيد، ورسم السلطان بنهب ناس من العرب وقتلهم، فطلع إلي الجبل فوجد ثلاثين نفرًا فهربوا، فقال الأمير: سوقوا خلفهم، فردوا عليهم ليحاربوا، فوقع من الجندي ضربة في واحد فمات: فهل عليه شيء أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إذا كان هذا المطلوب من الطائفة المفسدة الظلمة الذين خرجوا عن الطاعة وفارقوا الجماعة وعدوا علي المسلمين في دمائهم وأموالهم بغير حق، وقد طلبوا ليقام فيهم أمر الله ورسوله، فهذا الذي عاد منهم قاتلاً يجوز قتاله، ولا شيء علي من قتله علي الوجه المذكور، بل المحاربون يستوي فيهم المعاون والمباشر عند جمهور الأئمة؛ كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد. فمن كان معاونا كان حكمه حكمهم.
ج/ 35 ص -92-وسئل رحمه الله تعالي عن [الأخوة] التي يفعلها بعض الناس في هذا الزمان، والتزام كل منهم بقوله: إن مالي مالك، ودمي دمك، وولدي ولدك، ويقول الآخر كذلك، ويشرب أحدهم دم الآخر: فهل هذا الفعل مشروع، أم لا؟ وإذا لم يكن مشروعًا مستحسنًا: فهل هو مباح ، أم لا؟ وهل يترتب علي ذلك شيء من الأحكام الشرعية التي تثبت بالأخوة الحقيقية، أم لا؟ وما معني الأخوة التي آخي بها النبي ﷺ بين المهاجرين والأنصار؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، هذا الفعل علي هذا الوجه المذكور ليس مشروعًا باتفاق المسلمين؛ وإنما كان أصل الأخوة أن النبي ﷺ آخي بين المهاجرين والأنصار، وحالف بينهم في دار أنس بن مالك، كما آخي بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، حتى قال سعد لعبد الرحمن : خذ شطر مالي ، واختر إحدي زوجتي حتى أطلقها وتنكحها فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في مالك وأهلك ، دلوني علي السوق. وكما آخي بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء. وهذا كله في الصحيح.
ج/ 35 ص -93- وأما ما يذكر بعض المصنفين في [السيرة] من أن النبي ﷺ آخي بين علي وأبي بكر، ونحو ذلك: فهذا باطل باتفاق أهل المعرفة بحديثه؛ فإنه لم يؤاخ بين مهاجر ومهاجر، وأنصاري وأنصاري، وإنما آخي بين المهاجرين والأنصار، وكانت المؤاخاة والمحالفة يتوارثون بها دون أقاربهم، حتى أنزل الله تعالي: "وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ " [الأنفال: 75]، فصار الميراث بالرحم دون هذه المؤاخاة والمحالفة.
وتنازع العلماء في مثل هذه المحالفة والمؤاخاة: هل يورث بها عند عدم الورثة من الأقارب والموالي؟ علي قولين: أحدهما: يورث بها، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدي الروايتين؛ لقوله تعالي: "وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ " [النساء: 33] والثاني: لا يورث بها بحال، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في الرواية المشهورة عند أصحابه. وهؤلاء يقولون: هذه الآية منسوخة.
وكذلك تنازع الناس: هل يشرع في الإسلام أن يتآخي اثنان ويتحالفا كما فعل المهاجرون والأنصار؟ فقيل: إن ذلك منسوخ، لما رواه مسلم في صحيحه عن جابر أن النبي ﷺ قال: "لا حِلْف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة"؛ ولأن الله قد جعل المؤمنين إخوة بنص القرآن،وقال النبي ﷺ:"المسلم أخو
ج/ 35 ص -94- المسلم،لا يسلمه، ولا يظلمه،والذي نفسي بيده،لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه"، فمن كان قائمًا بواجب الإيمان كان أخا لكل مؤمن، ووجب علي كل مؤمن أن يقوم بحقوقه،وإن لم يجر بينهما عقد خاص؛فإن الله ورسوله قد عقدا الأخوة بينهما بقوله: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ " [الحجرات:10]، وقال النبي ﷺ: "وددت أني قد رأيت إخواني".
ومن لم يكن خارجًا عن حقوق الإيمان وجب أن يعامل بموجب ذلك، فيحمد علي حسناته، ويوالي عليها، وينهي عن سيئاته، ويجانب عليها، بحسب الإمكان، وقد قال النبي ﷺ: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" قلت: يا رسول الله، أنصره مظلومًا فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: "تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه".
والواجب علي كل مسلم أن يكون حبه وبغضه، وموالاته ومعاداته، تابعًا لأمر الله ورسوله. فيحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي من يوالي الله ورسوله، ويعادي من يعادي الله ورسوله، ومن كان فيه ما يوالي عليه من حسنات وما يعادي عليه من سيئات عومل بموجب ذلك، كفساق أهل الملة؛ إذ هم مستحقون للثواب والعقاب، والموالاة والمعاداة، والحب والبغض، بحسب ما فيهم من البر والفجور، فإن: "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ " [الزلزلة: 7، 8]،
ج/ 35 ص -95- وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، بخلاف الخوارج والمعتزلة، وبخلاف المرجئة والجهمية؛ فإن أولئك يميلون إلي جانب، وهؤلاء إلي جانب، وأهل السنة والجماعة وسط. ومن الناس من يقول: تشرع تلك المؤاخاة والمحالفة، وهو يناسب من يقول: بالتوارث بالمحالفة.
لكن لا نزاع بين المسلمين في أن ولد أحدهما لا يصير ولد الآخر بإرثه مع أولاده، والله سبحانه قد نسخ التبني الذي كان في الجاهلية، حيث كان يتبني الرجل ولد غيره، قال الله تعالي: "مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ " [الأحزاب: 4]، وقال تعالي: "ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ " [الأحزاب: 5].
وكذلك لا يصير مال كل واحد منهما مالاً للآخر يورث عنه ماله؛ فإن هذا ممتنع من الجانبين، ولكن إذا طابت من نفس كل واحد منهما بما يتصرف فيه الآخر من ماله فهذا جائز، كما كان السلف يفعلون، وكان أحدهما يدخل بيت الآخر ويأكل من طعامه مع غيبته؛ لعلمه بطيب نفسه بذلك، كما قال تعالي: "أَوْ صَدِيقِكُمْ " [النور: 61]
وأما شرب كل واحد منهما دم الآخر، فهذا لا يجوز بحال، وأقل ما في ذلك مع النجاسة التشبيه باللذين يتآخيين متعاونين علي الإثم والعدوان؛
ج/ 35 ص -96- إما علي فواحش، أو محبة شيطانية، كمحبة المردان ونحوهم، وإن أظهروا خلاف ذلك من اشتراك في الصنائع ونحوها، وإما تعاون علي ظلم الغير، وأكل مال الناس بالباطل؛ فإن هذا من جنس مؤاخاة بعض من ينتسب إلي المشيخة والسلوك للنساء، فيؤاخي أحدهم المرأة الأجنبية، ويخلو بها. وقد أقر طوائف من هؤلاء بما يجري بينهم من الفواحش. فمثل هذه المؤاخاة وأمثالها مما يكون فيه تعاون علي ما نهي الله عنه كائنًا ما كان حرام باتفاق المسلمين.
وإنما النزاع في مؤاخاة يكون مقصودهما بها التعاون علي البر والتقوي، بحيث تجمعهما طاعة الله، وتفرق بينهما معصية الله، كما يقولون: تجمعنا السنة وتفرقنا البدعة فهذه التي فيها النزاع فأكثر العلماء لا يرونها استغناء بالمؤاخاة الإيمانية التي عقدها الله ورسوله؛ فإن تلك كافية محصلة لكل خير، فينبغي أن يجتهد في تحقيق أداء واجباتها، إذ قد أوجب الله للمؤمن علي المؤمن من الحقوق ما هو فوق مطلوب النفوس، ومنهم من سوغها علي الوجه المشروع إذا لم تشتمل علي شيء من مخالفة الشريعة.
وأما أن تقال علي المشاركة في الحسنات والسيئات، فمن دخل منهما الجنة أدخل صاحبه، ونحو ذلك مما قد يشرطه بعضهم علي بعض، فهذه الشروط وأمثالها لا تصح ولا يمكن الوفاء بها؛ فإن الشفاعة لا تكون
ج/ 35 ص -97- إلا بإذن الله، والله أعلم بما يكون من حالهما. وما يستحقه كل واحد منهما، فكيف يلزم المسلم ما ليس إليه فعله، ولا يعلم حاله فيه، ولا حال الآخر؟! ولهذا نجد هؤلاء الذين يشترطون هذه الشروط لا يدرون ما يشرطون، ولو استشعر أحدهم أنه يؤخذ منه بعض ما له في الدنيا فالله أعلم هل كان يدخل فيها، أم لا؟
وبالجملة فجميع ما يقع بين الناس من الشروط والعقود والمحالفات في الأخوة وغيرها ترد إلي كتاب الله وسنة رسوله، فكل شرط يوافق الكتاب والسنة يوفي به، و"من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرطه أوثق"، فمتي كان الشرط يخالف شرط الله ورسوله كان باطلاً؛ مثل أن يشترط أن يكون ولد غيره ابنه، أو عتق غير مولاه، أو أن ابنه أو قريبه لا يرثه، أو أنه يعاونه علي كل ما يريد، وينصره علي كل من عاداه، سواء كان بحق أو بباطل، أو يطيعه في كل ما يأمره به، أو أنه يدخله الجنة ويمنعه من النار مطلقًا، ونحو ذلك من الشروط. وإذا وقعت هذه الشروط وَفَّي منها بما أمر الله به ورسوله، ولم يوف منها بما نهي الله عنه ورسوله. وهذا متفق عليه بين المسلمين. وفي المباحات نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه.
ج/ 35 ص -98- وكذا في شروط البيوع، والهبات، والوقوف، والنذور، وعقود البيعة للأئمة، وعقود المشايخ، وعقود المتآخيين، وعقود أهل الأنساب والقبائل، وأمثال ذلك، فإنه يجب علي كل أحد أن يطيع الله ورسوله في كل شيء، ويجتنب معصية الله ورسوله في كل شيء، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ويجب أن يكون الله ورسوله أحب إليه من كل شيء، ولا يطيع إلا من آمن بالله ورسوله. والله أعلم.