أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

الجمع بين حديث ابن مسعود وحديث حذيفة في كتابة القدر على الجنين

    ج/ 4 ص -238-سُئِلَ رَحِمِهَ اللَّهُعن حديث النبي ﷺ‏:‏ ‏(‏إن النطفة تكون أربعين يومًا نطفة، ثم أربعين يومًاعلقة، ثم أربعين مضغة، ثم يكون التصوير والتخطيط والتشكيل‏)‏ ثم ورد عن حذيفة بن أسيد‏:‏ ‏(‏أنه إذا مر للنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث اللّه تعالى إليها ملكًا فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها، وعظامها، ثم يقول‏:‏ يا رب، أذكر، أم أنثى ‏؟‏ شقي أم سعيد ‏؟‏ فما الرزق وما الأجل‏؟‏‏)‏ وذكر الحديث، فما الجمع بين الحديثين‏؟‏
    فأجَاب‏:‏ الحمد للّه رب العالمين، أما الحديث الأول، فهو في الصحيحين عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ حدثنا رسول اللّه ﷺ وهو الصادق المصدوق‏:‏ ‏(‏إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات‏:‏ بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد‏.‏ فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة،حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع،

    ج/ 4 ص -239-فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار،حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها‏)‏
    وفي طريق آخر‏:‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏ثم يبعث اللّه ملكًا ويؤمر بأربع كلمات، ويقال‏:‏ اكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقي أو سعيد‏.‏ ثم ينفخ فيه الروح‏)‏‏.‏ فهذا الحديث الصحيح ليس فيه ذكر التصوير متى يكون، لكن فيه أن الملك يكتب رزقه وأجله، وعمله وشقي أو سعيد، قبل نفخ الروح وبعد أن يكون مضغة‏.‏
    وحديث أنس بن مالك الذي في الصحيح يوافق هذا وهو مرفوع قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه عز وجل وكل بالرحم ملكا فيقول‏:‏ أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد اللّه أن يقضي خلقها قال الملك‏:‏ أي رب، ذكر أم أنثى ‏؟‏ شقي أو سعيد ‏؟‏ فما الرزق فما الأجل‏؟‏ فيكتب كذلك في بطن أمه‏)‏‏.‏ فبين في هذا أن الكتابة تكون بعد أن يكون مضغة‏.‏
    وأما حديث حذيفة بن أسيد، فهو من أفراد مسلم، ولفظه‏:‏ سمعت النبي ﷺ يقول‏:
    ‏ ‏(‏إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث اللّه إليها ملكًا، فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظامها‏.‏ ثم يقول‏:‏ يا رب، أذكر أم أنثى ‏؟‏ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول‏:‏ يارب، رزقه‏؟‏ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك؛ ثم يقول‏:‏ يا رب، أجله‏؟‏ فيقضي

    ج/ 4 ص -240-ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص‏)‏‏.‏
    فهذا الحديث، فيه أن تصويرها بعد اثنتين وأربعين ليلة، وأنه بعد تصويرها وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظامها، يقول الملك‏:‏ يا رب، أذكر أم أنثى‏؟‏ ومعلوم أنها لا تكون لحما وعظامًا حتى تكون مضغة، فهذا موافق لذلك الحديث في أن كتابة الملك تكون بعد ذلك، إلا أن يقال‏:‏ المراد تقدير اللحم والعظام‏.‏
    وقد روى هذا الحديث بألفاظ فيها إجمال بعضها أبين من بعض، فمن ذلك ما رواه مسلم أيضًا عن حذيفة، سمعت رسول اللّه ﷺ يقول‏:
    ‏‏(‏إن النطفة تكون في الرحم أربعين ليلة، ثم يَتَسَوَّرُ عليها الذي يخلِّقها فيقول‏:‏ يا رب، أذكر، أم أنثى‏؟‏ فيجعله اللّه ذكرًا، أو أنثى‏.‏ ثم يقول‏:‏ يا رب، سوَىٌّ، أو غير سوَىٌّ ‏؟‏ فيجعله اللّه تعالى سويًا أو غير سوي ثم يقول‏:‏ يا رب، ما أجله وخلقه‏؟‏ ثم يجعله اللّه شقيًا أو سعيدًا‏)‏ ‏[يَتَسَوَّرُ عليها، أي‏:‏ ينزل عليها‏]‏‏.‏
    فهذا فيه بيان أن كتابة رزقه وأجله، وشقاوته وسعادته، بعد أن يجعله ذكرًا أو أنثى، وسويًا، أو غير سوي‏.‏
    وفي لفظ لمسلم قال‏:‏ ‏(‏يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين ليلة أو بخمس وأربعين ليلة‏.‏ فيقول‏:‏ يا رب، أشقي، أو سعيد ‏؟‏ فيكتب‏.‏ يا رب، أذكر، أم أنثى ‏؟‏ فيكتب رزقه، ويكتب عمله، وأثره، وأجله،

    ج/ 4 ص -241-ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص‏)‏ فهذا اللفظ فيه تقديم كتابة السعادة والشقاوة، ولكن يشعر بأن ذلك يكتب بحيث مضت الأربعون‏.‏
    ولكن هذا اللفظ لم يحفظه رواته كما حفظ غيره‏.‏
    ولهذا شك‏:‏ أبَعْدَ الأربعين، أو خمس وأربعين‏؟‏ وغيره إنما ذكر أربعين، أو اثنين وأربعين، وهو الصواب ؛ لأن من ذكر اثنين وأربعين ذكر طرفى الزمان، ومن قال‏:‏ أربعين حذفهما، ومثل هذا كثير في ذكر الأوقات، فقدم المؤخر وأخر المقدم‏.‏ أو يقال‏:‏ إنه لم يذكر ذلك بحرف‏ [‏ثم]‏ فلا تقتضي ترتيبًا، وإنما قصد أن هذه الأشياء تكون بعد الأربعين‏.‏
    وحينئذ فيقال‏:‏ أحد الأمرين لازم، إما أن تكون هذه الأمور عقيب الأربعين، ثم تكون عقب المائة والعشرين، ولا محذور في الكتابة مرتين، ويكون المكتوب أولا فيه كتابة الذكر والأنثى‏.‏ أو يقال‏:‏ إن ألفاظ هذا الحديث لم تضبط حق الضبط‏.‏
    ولهذا اختلفت رواته في ألفاظه، ولهذا أعرض البخاري عن روايته، وقد يكون أصل الحديث صحيحًا، ويقع في بعض ألفاظه اضطراب، فلا يصلح حينئذ أن يعارض بها ما ثبت في الحديث الصحيح المتفق عليه، الذي لم تختلف ألفاظه، بل قد صدقه غيره من الحديث الصحيح، فقد تلخص الجواب أن ما عارض الحديث المتفق عليه‏:‏ إما أن يكون موافقًا له في الحقيقة، وإما أن يكون

    ج/ 4 ص -242-غير محفوظ، فلا معارضة، ولا ريب أن ألفاظه لم تضبط، كما تقدم ذكر الاختلاف فيها، وأقربها اللفظ الذي فيه تقدم التصوير على تقدير الأجل والعمل، و الشقاوة والسعادة، وغاية ما يقال فيه‏:‏ إنه يقتضي أنه قد يخلق في الأربعين الثانية قبل دخوله في الأربعين الثالثة، وهذا لا يخالف الحديث الصحيح، ولا نعلم أنه باطل، بل قد ذكر النساء‏:‏ أن الجنين يخلق بعد الأربعين، وأن الذكر يخلق قبل الأنثى‏.‏
    وهذا يقدم على قول من قال من الفقهاء‏:‏ إن الجنين لا يخلق في أقل من واحد وثمانين يومًا، فإن هذا إنما بنوه على أن التخليق إنما يكون إذا صار مضغة، ولا يكون مضغة إلا بعد الثمانين، والتخليق ممكن قبل ذلك، وقد أخبر به من أخبر من النساء، ونفس العلقة يمكن تخليقها، واللّه أعلم، وصلى اللّه على محمد وعلى آله وصحبه وسلم‏.‏

    ج/ 4 ص -243-وقالَ شَيْخُ الإِسْلامِ رَحمهُ اللَّهُ ردًا لقول من قال‏:‏ كل مولود على ما سبق له في علم اللّه أنه سائر إليه‏:‏ معلوم أن جميع المخلوقات بهذه المثابة، فجميع البهائم هي مولودة على ما سبق في علم اللّه لها، وحينئذ فيكون كل مخلوق مخلوقًا على الفطرة‏.‏
    وأيضًا، فلو كان المراد ذلك لم يكن لقوله‏:‏ ‏(‏فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسَانه‏)‏ معنى، فإنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها، فلا فرق بين التهويد والتنصير‏.‏ ثم قال‏:‏ فتمثيله ﷺ بالبهيمة التي ولدت جَمَعاء، ثم جدعت‏:‏ يبين أن أبويه غيرا ما ولد عليه‏.‏
    ثم يقال‏:‏ وقولكم‏:‏ خلقوا خالين من المعرفة والإنكار، من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحدًا منهما، بل يكون القلب كاللوح الذي يقبل كتابة الإيمان والكفر، وليس هو لأحدهما أقبل منه للآخر، فهذا قول فاسد جدًا‏.‏

    ج/ 4 ص -244- فحينئذ، لا فرق بالنسبة إلى الفطرة بين المعرفة والإنكار، والتهويد والتنصير، والإسلام، وإنما ذلك بحسب الأسباب، فكان ينبغي أن يقال‏:‏ فأبواه يسلمانه ويهودانه وينصرانه، فلما ذكر أن أبويه يكفرانه، وذكر الملل الفاسدة دون الإسلام، علم أن حكمه في حصول سبب مفصل غير حكم الكفر‏.‏
    ثم قال‏:‏ ففي الجملة كل ما كان قابلًا للمدح والذم على السواء، لا يستحق مدحًا ولا ذمًا، واللّه تعالى يقول‏:‏
    ‏"فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا‏"‏ ‏[‏الروم‏:‏30‏].‏
    وأيضًا، فالنبي ﷺ شبهها بالبهيمة المجتمعة الخلق، وشبه ما يطرأ عليها من الكفر بجَدْع الأنف، ومعلوم أن كمالها محمود، ونقصها مذموم، فكيف تكون قبل النقص لا محمودة ولا مذمومة‏؟‏ واللّه أعلم‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML