ج/ 34 ص -233-باب القطع في السرقة
سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل سرق بيته مرارًا، ثم وجد بعد ذلك في بيته مملوك بعد أن أغلق بابه فأخذ فأقر أنه دخل البيت مختلسًا مرارًا عديدة، ولم يقر أنه أخذ شيئا: فهل يلزمه ما عدم لهم من البيت؟ وما الحكم فيه؟
فأجاب:
هذا العبد يعاقب باتفاق المسلمين على ما ثبت عليه من دخول البيت، ويعاقب أيضًا عند كثير من العلماء. فإذا أقر بما تبين أنه أخذ المال مثل أن يدل على موضع المال - أو على من أعطاه إياه، ونحو ذلك، أخذ المال، وأعطى لصاحبه إن كان موجودًا، وغرمه إن كان تالفًا.
ويبنغى للمعاقب له أن يحتال عليه بما يقر به، كما يفعل الحذاق من القضاة والولاة بمن يظهر لهم فجوره حتى يعترف، وأقل ما في ذلك أن يشهد عليهم برد اليمين على المدعي، فإذا حلف رب المال حينئذ حكم لرب المال إذا حلف. وأما الحكم لرب المال بيمينه بما ظهر من اللوث، والأمارات
ج/ 34 ص -234-التي يغلب على الظن صدق المدعي، فهذا فيه اجتهاده. وأما في النفوس فالحكم بذلك مذهب أكثر العلماء كالشافعي، وأحمد. والله أعلم.
وسئل رحمه الله عن رجل له مملوك ذكر أنه سرق له قماشًا، وذكر الغلام أنه أودعه عند سيده القديم في منديل: فهل يقبل قوله في ذلك؟ وما يلزم في ذلك؟
فأجاب:
لا يؤخذ بمجرد قول الغلام باتفاق المسلمين، سواء كان الحاكم بينهما وإلى الحرب، أو قاضي الحكم، بل الذي عليه جمهور الفقهاء في المتهم بسرقة ونحوها أن ينظر في المتهم: فإما أن يكون معروفًا بالفجور، وإما أن يكون مجهول الحال.
فإن كان معروفًا بالبر لم يجز مطالبته ولا عقوبته. وهل يحلف؟ على قولين للعلماء. ومنهم من قال: يعزر من رماه بالتهمة.
وإما أن يكون مجهول الحال فإنه يحبس حتى يكشف أمره. قيل: يحبس شهرًا، وقيل: اجتهاد ولي الأمر، لما في السنن عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله ﷺ حبس في تهمة.
ج/ 34 ص -235-وإن كان قد يكون الرجل معروفًا بالفجور المناسب للتهمة، فقال طائفة من الفقهاء: يضربه الوالي، دون القاضي. وقد ذكر ذلك طوائف من أصحاب مالك، والشافعي، والإمام أحمد. ومن الفقهاء من قال: لا يضرب. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه أمر الزبير بن العوام أن يمس بعض المعاهدين بالعذاب لما كتم إخباره بالمال الذي كان النبي ﷺ قد عاهدهم عليه، وقال له: أين كنز حيى بن أخطب؟ فقال: يا محمد أذهبته النفقات والحروب، فقال: "المال كثير، والعهد قريب من هذا". وقال للزبير: دونك هذا. فمسه الزبير بشيء من العذاب، فدلهم على المال.
وأما إذا ادعى أنه استودع المال فهذا أخف، فإن كان معروفًا بالخير لم يجز إلزامه بالمال باتفاق المسلمين، بل يحلف المدعى عليه، سواء كان الحاكم واليًا، أو قاضيًا.
وسئل رحمه الله تعالى عما يتعلق بالتهم في المسروقات في ولايته، فإن ترك الفحص في ذلك ضاعت الأموال، وطمعت الفساق. وإن وكله إلى غيره ممن هو تحت يده غلب على ظنه أنه يظلم فيها، أو يتحقق أنه لا يفي بالمقصود في ذلك، وإن
ج/ 34 ص -236- أقدم وسأل أو أمسك المتهومين وعاقبهم خاف الله تعالى في إقدامه على أمر مشكوك فيه وهو يسأل ضابطًا في هذه الصورة، وفي أمر قاطع الطريق.
فأجاب:
أما التهم في السرقة وقطع الطريق ونحو ذلك فليس له أن يفوضها إلى من يغلب على ظنه أنه يظلم فيها مع إمكان أن يقيم فيها من العدول ما يقدر عليه، وذلك أن الناس في التهم ثلاثة أصناف:
صنف معروف عند الناس بالدين والورع وأنه ليس من أهل التهم، فهذا لا يحبس، ولا يضرب، بل ولا يستحلف في أحد قولي العلماء، بل يؤدب من يتهمه فيما ذكره كثير منهم.
والثاني: من يكون مجهول الحال لا يعرف ببر ولا فجور. فهذا يحبس حتى يكشف عن حاله. وقد قيل: يحبس شهرًا. وقيل: يحبس بحسب اجتهاد ولي الأمر. والأصل في ذلك ما روى أبو داود وغيره: أن النبي ﷺ حبس فيتهمة، وقد نص على ذلك الأئمة، وذلك أن هذه بمنزلة ما لو ادعى عليه مدع فإنه يحضر مجلس ولى الأمر الحاكم بينهما، وإن كان في ذلك تعويقه عن أشغاله، فكذلك تعويق هذا إلى أن يعلم أمره، ثم إذا سأل عنه ووجد بارًا أطلق.
وإن وجد فاجرًا كان من الصنف الثالث وهو الفاجر الذي قد عرف منه السرقة قبل ذلك، أو عرف بأسباب السرقة مثل أن يكون
ج/ 34 ص -237-معروفًا بالقمار، والفواحش التي لا تتأتى إلا بالمال، وليس له مال، ونحو ذلك، فهذا لوث في التهمة؛ ولهذا قالت طائفة من العلماء: إن مثل هذا يمتحن بالضرب يضربه الوالى والقاضي كما قال أشهب صاحب مالك وغيره حتى يقر بالمال. وقالت طائفة: يضربه الوالى، دون القاضي، كما قال ذلك طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، كما ذكره القاضيان الماوردي والقاضي أبو يعلى في كتابيهما في الأحكام السلطانية، وهو قول طائفة من المالكية، كما ذكره الطرسوسي وغيره.
ثم المتولى له أن يقصد بضربه مع تقريره عقوبته على فجوره المعروف، فيكون تعزيرًا وتقريرًا، وليس على المتولي أن يرسل جميع المتهومين حتى يأتي أرباب الأموال بالبينة على من سرق، بل قد أنزل على نبيه في قصة كانت تهمة في سرقة قوله تعالى: "إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً" إلى آخر الآيات [النساء: 105،109]، وكان سبب ذلك أن قومًا يقال لهم: بنو أبيرق سرقوا
ج/ 34 ص -238-لبعض الأنصار طعامًا ودرعين، فجاء صاحب المال يشتكي إلى رسول الله ﷺ، فجاء قوم يزكون المتهمين بالباطل، فكان النبي ﷺ ظن صدق المزكيين فلام صاحب المال، فأنزل الله هذه الآية، ولم يقل النبي ﷺ لصاحب المال: أقم البينة، ولا حلف المتهمين؛ لأن أولئك المتهمين كانوا معروفين بالشر، وظهرت الريبة عليهم.
وهكذا حكم النبي ﷺ بالقسامة في الدماء إذا كان هناك لوث يغلب على الظن صدق المدعين؛ فإن هذه الأمور من الحدود في المصالح العامة، ليست من الحقوق الخاصة، فلولا القسامة في الدماء لأفضى إلى سفك الدماء فيقتل الرجل عدوه خفية، ولا يمكن أولياء المقتول إقامة البينة، واليمين على القاتل والسارق والقاطع سهلة، فإن من يستحل هذه الأمور لا يكترث باليمين. وقول النبي ﷺ: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه"، هذا فيما لا يمكن من المدعى حجة غير الدعوى فإنه لا يعطى بها شيئا، ولكن يحلف المدعى عليه. فأما إذا أقام شاهدًا بالمال فإن النبي ﷺ قد حكم في المال بشاهد ويمين، وهو قول فقهاء الحجاز وأهل الحديث، كمالك، والشافعي، وأحمد وغيرهم، وإذا كان في دعوى الدم لوث فقد قال النبي ﷺ للمدعين: "أتحلفون خمسين يمينًا وتستحقون دم صاحبكم".
ج/ 34 ص -239-كذلك أمر قطاع الطريق وأمر اللصوص وهو من المصالح العامة التي ليست من الحقوق الخاصة، فإن الناس لا يأمنون على أنفسهم وأموالهم في المساكن والطرقات إلا بما يزجرهم في قطع هؤلاء، ولا يزجرهم أن يحلف كل منهم؛ ولهذا اتفق الفقهاء على أن قاطع الطريق لأخذ المال يقتل حتمًا، وقتله حد لله، وليس قتله مفوضًا إلى أولياء المقتول، قالوا: لأن هذا لم يقتله لغرض خاص معه، إنما قتله لأجل المال، فلا فرق عنده بين هذا المقتول وبين غيره، فقتله مصلحة عامة، فعلى الإمام أن يقيم ذلك.
وكذلك السارق ليس غرضه في مال معين، وإنما غرضه أخذ مال هذا ومال هذا، كذلك كان قطعه حقًا واجبًا لله ليس لرب المال، بل رب المال يأخذ ماله، وتقطع يد السارق، حتى لو قال صاحب المال: أنا أعطيه مإلى لم يسقط عنه القطع، كما قال صفوان للنبي ﷺ: أنا أهبه ردائي، فقال النبي ﷺ: "فهلا فعلت قبل أن تأتي به"، وقال النبي ﷺ: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مسلم ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال". وقال للزبير بن العوام: إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع.
ج/ 34 ص -240-ومما يشبه هذا من ظهر عنده مال يجب عليه إحضاره كالمدين إذا ظهر أنه غيب ماله وأصر على الحبس، وكمن عنده أمانة ولم يردها إلى مستحقها ظهر كذبه، فإنه لا يحلف، لكن يضرب حتى يحضر المال الذي يجب إحضاره، أو يعرف مكانه، كما قال النبي ﷺ للزبير بن العوام عام خيبر في عم حيى بن أخطب، وكان النبي ﷺ صالحهم على أن له الذهب والفضة، فقال لهذا الرجل: "أين كنز حيى بن أخطب؟". فقال: يا محمد، أذهبته النفقات، والحروب، فقال: "المال كثير، والعهد أحدث من هذا". ثم قال: "دونك هذا". فمسه بشيء من العذاب، فدلهم عليه في خربة هناك فهذا لما قال أذهبته النفقات والحروب والعادة تكذبه في ذلك لم يلتفت إليه بل أمر بعقوبته حتى دلهم على المال، فكذلك من أخذ من أموال الناس وادعى ذهابها دعوى تكذبه فيها العادة كان هذا حكمه.
وسئل رحمه الله تعالى عمن كان له ذهب مخيط في ثوبه فأعطاه للغسال نسيانًا، فلما رده الغسال إليه بعد غسله وجد مكان الذهب مفتقًا، ولم يجده، فما الحكم فيه؟
فأجاب:
إما أن يحلف المدعى عليه بما يبريه، وإما أن يحلف المدعى أنه أخذ الذهب بغير حق ويضمنه، فإن كان الغسال معروفًا بالفجور وظهرت الريبة بظهور الفتق جاز ضربه وتعزيره. والله أعلم.