ج/ 34 ص -225-باب التعزير
سئل شيخ الإسلام أبو العباس عن رجل من أمراء المسلمين له مماليك، وعنده غلمان: فهل له أن يقيم على أحدهم حدًا إذا ارتكبه؟ وهل له أن يأمرهم بواجب إذا تركوه كالصلوات الخمس ونحوها؟ وما صفة السوط الذي يعاقبهم به؟
فأجاب:
الحمد لله، الذي يجب عليه أن يأمرهم كلهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر والبغي، وأقل ما يفعل أنه إذا استأجر أجيرًا منهم يشترط عليه ذلك، كما يشترط عليه ما يشترطه من الأعمال، ومتى خرج واحد منهم عن ذلك طرده.
وإذا كان قادرًا على عقوبتهم بحيث يقره السلطان على ذلك في العرف الذي اعتاده الناس وغيره، لا يعاقبهم على ذلك لكونهم تحت حمايته ونحو ذلك، فينبغي له أن يعزرهم على ذلك إذا لم يؤدوا الواجبات ويتركوا المحرمات إلا بالعقوبة، وهو المخاطب بذلك حينئذ، فإنه هو القادر عليه وغيره لا يقدر على ذلك، مراعاة له. فإن لم يستطع أن يقيم هو الواجب ولم يقم غيره
ج/ 34 ص -226-بالواجب، صار الجميع مستحقين العقوبة، قال النبي: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه"، وقال: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، لاسيما إذا كان يضربهم لما يتركونه من حقوقه، فمن القبيح أن يعاقبهم على حقوقه، ولا يعاقبهم على حقوق الله.
والتأديب يكون بسوط معتدل، وضرب معتدل، ولا يضرب الوجه، وإلا المقاتل.
وسئل قدس الله روحه عن رجل يسفه على والديه: فما يجب عليه؟
فأجاب:
إذا شتم الرجل أباه واعتدى عليه فإنه يجب أن يعاقب عقوبة بليغة تردعه وأمثاله عن مثل ذلك، بل وأبلغ من ذلك أنه قد ثبت عن النبي ﷺ في الصحيحين أنه قال: "من الكبائر أن يسب الرجل والديه". قالوا: وكيف يسب الرجل والديه؟ قال: "يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه". فإذا كان النبي ﷺ قد جعل من الكبائر أن يسب الرجل أبا غيره لئلا يسب أباه فكيف إذا سب هو أباه مباشرة، فهذا يستحق العقوبة التي تمنعه عن عقوق الوالدين اللذين
ج/ 34 ص -227-قرن الله حقهما حيث قال: "أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ" [لقمان: 41]، وقال تعالى: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا" [الإسراء: 23]، فكيف بسبهما؟ !!
وسئل رحمه الله عن رجل من أكابر مقدمي العسكر معروف بالخير والدين، وكذب عليه بعض المساكين، حتى ضربه، وعلقه، وطاف به على حمار، وحبسه بعد ذلك: هل يجب على ولي الأمر ضرب من ظلمه؟
فأجاب:
من كذب عليه وظلمه حتى فعل به ذلك، فإنه تجب عقوبته التي تزجره وأمثاله عن مثل ذلك باتفاق المسلمين، بل جمهور السلف يثبتون القصاص في مثل ذلك، فمن ضرب غيره وجرحه بغير حق فإنه يفعل به كما فعل، كما قال عمر بن الخطاب: أيها الناس، إني لم أبعث عمإلى إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن ليعلموكم كتاب الله وسنة نبيكم، ويقسموا بينكم فيء كم، فلا يبلغني أن أحدًا ضربه عامله بغير حق إلا أقدته، فراجعه عمرو بن العاص في ذلك، فقاله لهم: إن رسول الله ﷺ أقاد ممن ظلمه.
ج/ 34 ص -228-وسئل قدس الله روحه عمن شتم رجلاً وسبه.
فأجاب:
إذا اعتدى عليه بالشتم والسب فله أن يعتدي عليه بمثل ما اعتدى عليه، فيشتمه إذا لم يكن ذلك محرمًا لعينه كالكذب وأما إن كان محرمًا لعينه كالقذف بغير الزنا فإنه يعزر على ذلك تعزيرًا بليغًا يردعه وأمثاله من السفهاء، ولو عزر على النوع الأول من الشتم جاز، وهو الذي يشرع إذا تكرر سفهه أو عدوانه على من هو أفضل منه. والله أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى عمن شتم رجلاً فقال له: أنت ملعون، ولد زنا.
فأجاب:
يجب تعزيره على هذا الكلام، ويجب عليه حد القذف إن لم يقصد بهذه الكلمة ما يقصده كثير من الناس من قصدهم بهذه الكلمة أن المشتوم فعله خبيث كفعل ولد الزنا.
ج/ 34 ص -229-وسئل رحمه الله عن سامري ضرب مسلمًا وشتمه.
فأجاب:
تجب عقوبته عقوبة بليغة تردعه وأمثاله. والله أعلم.
وسئل رحمه الله عن الاستمناء.
فأجاب:
أما الاستمناء: فالأصل فيه التحريم عند جمهور العلماء، وعلى فاعله التعزير، وليس مثل الزنا. والله أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى عن الاستمناء هل هو حرام، أم لا؟
فأجاب:
أما الاستمناء باليد فهو حرام عند جمهور العلماء، وهو أصح القولين في مذهب أحمد، وكذلك يعزر من فعله. وفي القول الآخر هو
ج/ 34 ص -230-مكروه غير محرم، وأكثرهم لا يبيحونه لخوف العنت ولا غيره، ونقل عن طائفة من الصحابة والتابعين أنهم رخصوا فيه للضرورة، مثل أن يخشى الزنا فلا يعصم منه إلا به، ومثل أن يخاف إن لم يفعله أن يمرض، وهذا قول أحمد وغيره. وأما بدون الضرورة فما علمت أحدًا رخص فيه. والله أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل يهيج عليه بدنه فيستمنى بيده، وبعض الأوقات يلصق وركيه على ذكره وهو يعلم أن إزالة هذا بالصوم، لكن يشق عليه؟
فأجاب:
أما ما نزل من الماء بغير اختياره فلا إثم عليه فيه، لكن عليه الغسل إذا أنزل الماء الدافق. وأما إنزاله باختياره بأن يستمني بيده، فهذا حرام عند أكثر العلماء، وهو أحد الروايتين عن أحمد، بل أظهرهما. وفي رواية أنه مكروه، لكن إن اضطر إليه مثل أن يخاف الزنا إن لم يستنم أو يخاف المرض، فهذا فيه قولان مشهوران للعلماء، وقد رخص في هذه الحال طوائف من السلف والخلف، ونهى عنه آخرون. والله أعلم.
ج/ 34 ص -231-وسئل رحمه الله تعالى عن رجل جلد ذكره بيده حتى أمنى: فما يجب عليه؟
فأجاب:
وأما جلد الذكر باليد حتى ينزل فهو حرام عند أكثر الفقهاء مطلقًا، وعند طائفة من الأئمة حرام إلا عند الضرورة مثل أن يخاف العنت، أو يخاف المرض، أو يخاف الزنا، فالاستمناء أصلح.
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل له ولد صغير فاتهم، وضرب بالمقارع، وخسر والده أربعمائة درهم، ثم وجدت السرقة فجاء صاحب السرقة وصالح المتهوم على مائتي درهم: فهل يصح منه إبراء بغير رضي والده إذا كان تحت الحجر؟ وإذا لم يصح فما يجب في دية الضرب؟ وهل لوالده بعد إبراء الصغير أن يطالبه بضرب ولده، أم لا؟
ج/ 34 ص -232-فأجاب:
إذا كان المضروب تحت حجر أبيه لم يصح صلحه ولا إبراءة. وما غرمه أبوه بسبب هذه التهمة الباطلة فله أن يرجع به على من غرمه إياه بعدوانه، سواء أبرأه الابن أو لم يبرئه، فالمضروب يستحق أن يضرب من طلب ضربه من المتهمين له مثل ما ضربه، إذا لم يعرف بالشر قبل ذلك. هكذا ذكره النعمان بن بشير أن ذلك حكم الله ورسوله، رواه أبو داود وغيره، فإنه قال لقوم طلبوا منه أن يضرب رجلاً على تهمة: إن شئتم ضربته لكم، فإن ظهر مالكم عنده وإلا ضربتكم مثل ما ضربته. فقالوا: هذا حكمك؟ فقال: هذا حكم الله ورسوله. وهذا في ضرب من لم يعرف بالشر، وأما ضرب من عرف بالشر فذاك مقام آخر.
وقد ثبت القصاص في الضرب واللطم ونحو ذلك عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين. وجاءت به سنة رسول الله ﷺ ونص عليه غير واحد من الأئمة كأحمد ابن حنبل وغيره، وإن كان كثير من الفقهاء لا يرى القصاص في مثل هذا، بل يرى فيه التعزير، فالأول هو الصحيح، ولكن هل للأب أن يستوفي حق القصاص الذي لابنه؟ أم يتركه حتى يبلغ؟ هذا فيه نزاع معروف بين العلماء، وأما إن كان الابن بالغًا فله العقوبات البدنية واستبقاؤها.