ج/ 34 ص -175-كتاب الحدود
قال شيخ الإسلام قدس اللّه روحه:
فصل
خاطب اللّه المؤمنين بالحدود والحقوق خطابًا مطلقًا، كقوله: "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ" [المائدة: 38]، وقوله: "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا" [النور: 2]، وقوله: "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ" [النور: 4]، وكذلك قوله: "وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا" [النور: 4]، لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لابد أن يكون قادرًا عليه، والعاجزون لا يحب عليهم، وقد علم أن هذا فرض على الكفاية، وهو مثل الجهاد، بل هو نوع من الجهاد. فقوله: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ" [البقرة: 216]، وقوله: "وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ" [البقرة: 244]، وقوله: "إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ" [التوبة: 39]، ونحو ذلك، هو فرض على الكفاية من القادرين. والقدرة هي السلطان؛ فلهذا وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونوابه.
والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد، والباقون نوابه، فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها، وعجز من الباقين، أو غير ذلك
ج/ 34 ص -176-فكان لها عدة أئمة، لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود، ويستوفي الحقوق؛ ولهذا قال العلماء إن أهل البغي ينفذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل، وكذلك لو شاركوا الإمارة وصاروا أحزابا لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعتهم، فهذا عند تفرق الأمراء وتعددهم، وكذلك لو لم يتفرقوا، لكن طاعتهم للأمير الكبير ليست طاعة تامة، فإن ذلك أيضا إذا اسقط عنه إلزامهم بذلك لم يسقط عنهم القيام بذلك، بل عليهم أن يقيموا ذلك، وكذلك لو فرض عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود والحقوق، أو إضاعته لذلك، لكان ذلك الفرض على القادر عليه.
وقول من قال: لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه. إذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل، كما يقول الفقهاء: الأمر إلى الحاكم، إنما هو العادل القادر فإذا كان مضيعا لأموال اليتامي، أو عاجزًا عنها، لم يجب تسليمها إليه مع إمكان حفظها بدونه، وكذلك الأمير إذا كان مضيعا للحدود أو عاجزًا عنها لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه.
والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه، فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه. واللّه أعلم.