أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

باب النفقات

    ج/ 34 ص -63-باب النفقات والحضانة
    قال شيخ الإسلام رَحمه الله‏:‏
    في قوله تعالى‏:‏ ‏
    "‏وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏، مع قوله‏:‏ ‏"‏وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عليهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا‏"‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 6،7‏]‏، وفي ذلك أنواع من الأحكام بعضها مجمع عليه، وبعضها متنازع فيه‏.‏ وإذا تدبرت كتاب الله تبين أنه يفصل النزاع بين من يحسن الرد إليه وأن من لم يهتد إلى ذلك، فهو إما لعدم استطاعته، فيعذر أو لتفريطه فيلام‏.‏
    وقوله تعالى‏:‏
    "‏حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ‏"‏ يدل على أن هذا تمام الرضاعة، وما بعد ذلك فهو غذاء من الأغذية‏.‏ وبهذا يستدل من يقول‏:‏ الرضاع بعد الحولين بمنزلة رضاع الكبير‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ‏"‏ يدل على أن لفظ الحولين يقع على حول وبعض آخر‏.‏ وهذا معروف في كلامهم، يقال‏:‏ لفلان عشرون عاما إذا أكمل ذلك‏.‏ قال الفرَّاء والزَّجّاج وغيرهما‏:‏ لما جاز أن يقول حولين ويريد أقل منهما كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 203‏]‏ ومعلوم أنه يتعجل

    ج/ 34 ص -64-في يوم وبعض آخر، وتقول‏:‏ لم أر فلانا يومين‏.‏ وإنما تريد يوما وبعض آخر، قال‏:‏ ‏[‏كاملين‏]‏ ليبين أنه لا يجوز أن ينقص منهما، وهذا بمنزلة قوله تعالى‏:‏ ‏"‏تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، فإن لفظ ‏[‏العشرة‏]‏ يقع على تسعة وبعض العاشر، فيقال‏:‏ أقمت عشرة أيام، وإن لم يكملها، فقوله هناك ‏[‏كاملة‏]‏ بمنزلة قوله هنا ‏[‏كاملين‏]‏ وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملا موفورا طيبة به نفسه أحد المتصدقين‏"‏، فالكامل الذي لم ينقص منه شيء، إذ الكمال ضد النقصان‏.‏ وأما ‏[‏الموفر‏]‏ فقد قال‏:‏ أجرهم موفراً، يقال‏:‏ الموفر للزائد، ويقال‏:‏ لم يكلم‏.‏ أي يجرح، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في كتاب ‏[‏الزهد‏]‏ عن وهب بن منبه‏:‏ أن الله تعالى قال لموسى‏:‏ ‏"‏وماذاك لهوانهم على ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتى سالما موفراً، لم تكلمه الدنيا ولم تكلمه نطعة الهوى‏"‏‏.‏ وكان هذا تغيير الصفة، وذاك نقصان القدر‏.‏
    وذكر أبو الفرج‏:‏ هل هو عام في جميع الوالدات أو يختص بالمطلقات‏؟‏ على قولين‏.‏ والخصوص قول سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والسدي، ومقاتل، في آخرين‏.‏ والعموم قول أبي سليمان الدمشقي والقاضي أبي يعلي في آخرين‏.‏
    قال القاضي‏:‏ ولهذا نقول‏:‏ لها أن تؤجر نفسها لرضاع ولدها، سواء كانت مع الزوج، أو مطلقة‏.‏ قلت‏:‏ الآية حجة عليهم، فإنها أوجبت للمرضعات رزقهن وكسوتهن بالمعروف، لا زيادة على ذلك‏.‏ وهو يقول‏:‏ تؤجر نفسها

    ج/ 34 ص -65-بأجرة غير النفقة‏.‏ والآية لا تدل على هذا، بل إذا كانت الآية عامة دلت على أنها ترضع ولدها مع إنفاق الزوج عليها، كما لو كانت حاملا فإنه ينفق عليها وتدخل نفقة الولد في نفقة الزوجية؛ لأن الولد يتغذي بغذاء أمه‏.‏ وكذلك في حال الرضاع فإن نفقة الحمل هي نفقة المرتضع‏.‏ وعلى هذا فلا منافاة بين القولين، فالذين خصوه بالمطلقات أوجبوا نفقة جديدة بسبب الرضاع، كما ذكر في سورة الطلاق وهذا مختص بالمطلقة‏.‏
    وقوله تعالى‏:‏
    ‏"‏حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏، قد علم أن مبدأ الحول من حين الولادة والكمال إلى نظير ذلك‏.‏ فإذا كان من عاشر المحرم كان الكمال في عاشر المحرم في مثل تلك الساعة، فإن الحول المطلق هو اثنا عشر شهرا من الشهر الهلالي، كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏، وهكذا ما ذكره من العدة أربعة أشهر وعشرا، أولها من حين الموت وآخرها إذا مضت عشر بعد نظيره، فإذا كان في منتصف المحرم فآخرها خامس عشر المحرم، وكذلك الأجل المسمي في البيوع وسائر ما يؤجل بالشرع وبالشرط‏.‏
    وللفقهاء هنا قولان آخران ضعيفان‏:‏
    أحدهما‏:‏ قول من يقول‏:‏ إذا كان في أثناء الشهر، كان جميع الشهور بالعدد، فيكون الحولان ثلثمائة وستين‏.‏ وعلى هذا القول تزيد المدة اثني عشر يوما، وهو غلط بين‏.‏

    ج/ 34 ص -66-والقول الثاني‏:‏ قول من يقول‏:‏ منها واحد بالعدد، وسائرها بالأهلة‏.‏ وهذا أقرب، لكن فيه غلط، فإنه على هذا إذا كان المبدأ عاشر المحرم وقد نقص المحرم كان تمامه تاسعه، فيكون التكميل أحد عشر، فيكون المنتهي حادي عشر المحرم، وهو غلط أيضًا‏.‏
    وظاهر القرآن يدل على أن على الأم إرضاعه؛ لأن قوله‏:‏
    ‏"‏يُرْضِعْنَ‏"‏ خبر في معنى الأمر‏.‏ وهي مسألة نزاع، ولهذا تأولها من ذهب إلى القول الآخر‏.‏ قال القاضي أبو يعلي‏:‏ وهذا الأمر انصرف إلى الآباء؛ لأن عليهم الاسترضاع لا على الوالدات، بدليل قوله‏:‏ ‏"‏وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"‏فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏"‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏، فلو كان متحتمًا على الوالدة لم يكن عليه الأجرة‏.‏
    فيقال‏:‏ بل القرآن دل على أن للابن على الأم الفعل، وعلى الأب النفقة ولو لم يوجد غيرها تعين عليها، وهي تستحق الأجرة، والأجنبية تستحق الأجرة ولو لم يوجد غيرها‏.‏
    وقوله تعالى‏:‏
    ‏"‏لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏، دليل على أنه يجوز أن يريد إتمام الرضاع ويجوز الفطام قبل ذلك إذا كان مصلحة، وقد بين ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عليهِمَا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏، وذلك يدل على أنه لا يفصل إلا برضا الأبوين، فلو أراد أحدهما الإتمام والآخر الفصال قبل ذلك، كان الأمر لمن أراد الإتمام، لأنه قال تعالى‏:‏

    ج/ 34 ص -67-"‏وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏يُرْضِعْنَ‏"‏ صيغة خبر، ومعناه‏:‏ الأمر والتقدير، والوالدة مأمورة بإرضاعه حولين كاملين إذا أريد إتمام الرضاعة، فإذا أرادت الإتمام كانت مأمورة بذلك، وكان على الأب رزقها وكسوتها، وإن أراد الأب الإتمام كان له ذلك، فإنه لم يبح الفصال إلا بتراضيهما جميعاً، يدل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ‏"‏، ولفظه ‏"‏من‏"‏ إما أن يقال‏:‏ هو عام يتناول هذا وهذا ويدخل فيه الذكر والأنثي، فمن أراد الإتمام أرضعن له‏.‏ وإما أن يقال‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏"‏لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ‏"‏، إنما هو المولود له وهو المرضع له، فالأم تلد له وترضع له، كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ‏"‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏‏.‏ والأم كالأجير مع المستأجر، فإن أراد الأب الإتمام أرضعن له، وإن أراد ألا يتم فله ذلك وعلى هذا التقدير فمنطوق الآية أمرهن بإرضاعه عند إرادة الأب، ومفهومها أيضًا جواز الفصل بتراضيهما‏.‏ يبقى إذا أرادت الأم دون الأب مسكوتاً عنه، لكن مفهوم قوله تعالى‏:‏ ‏"‏عَن تَرَاضٍ‏"‏ أنه لا يجوز، كما ذكر ذلك مجاهد وغيره، ولكن تناوله قوله تعالى‏:‏ ‏"‏فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏"‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏، فإنها إذا أرضعت تمام الحول فله أرضعت، وكفته بذلك مؤنة الطفل، فلولا رضاعها لاحتاج إلى أن يطعمه شيئا آخر‏.‏

    ج/ 34 ص -68-ففي هذه الآية بين أن على الأم الإتمام إذا أراد الأب، وفي تلك بين أن على الأب الأجر إذا أبت المرأة، قال مجاهد‏:‏ ‏[‏التشاور‏]‏ فيما دون الحولين‏:‏ إن أرادت أن تفطم وأبي فليس لها، وإن أراد هو ولم ترد فليس له ذلك حتى يقع ذلك عن تراض منهما وتشاور، يقول‏:‏ غير مسيئين إلى أنفسهما ولا رضيعهما‏.‏
    وقوله تعالى‏:‏
    ‏"‏إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏، قال‏:‏ إذا أسلمتم أيها الآباء إلى أمهات الأولاد أجر ما أرضعن قبل امتناعهن، روي عن مجاهد والسدي وقيل‏:‏ إذا أسلمتم إلى الظئر أجرها بالمعروف، روي عن سعيد بن جبير ومقاتل، وقرأ ابن كثير ‏[‏أتيتم‏]‏ بالقصر‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏، ولم يقل‏:‏ وعلى الوالد كما قال‏:‏ ‏"‏وَالْوَالِدَاتُ‏"‏؛ لأن المرأة هي التي تلده، وأما الأب فلم يلده، بل هو مولود له لكن إذا قرن بينهما قيل‏:‏ ‏"‏وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏"‏[‏النساء‏:‏ 36‏]‏‏.‏ فأما مع الإفراد فليس في القرآن تسميته والداً، بل أبا‏.‏ وفيه بيان أن الولد ولد للأب، لا للأم؛ ولهذا كان عليه نفقته حملا وأجرة رضاعه‏.‏ وهذا يوافق قوله تعالى‏:‏ ‏"‏يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ‏"‏[‏الشوري‏:‏ 49‏]‏، فجعله موهوبا للأب‏.‏ وجعل بيته بيته في قوله‏:‏ ‏"‏وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ‏"‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏، وإذا كان الأب هو المنفق عليه جنينا ورضيعا، والمرأة وعاء، فالولد زرع للأب قال تعالى‏:‏ ‏"‏نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 223‏]‏، فالمرأة هي الأرض المزروعة، والزرع فيها للأب، وقد نهي النبي ﷺ أن يسقي الرجل ماءه

    ج/ 34 ص -69-زرع غيره، يريد به النهي عن وطء الحبالى، فإن ماء الوطئ يزيد في الحمل كما يزيد الماء في الزرع، وفي الحديث الآخر الصحيح‏:‏ ‏"‏لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له، وكيف يستعبده وهو لا يحل له‏؟‏‏"‏، وإذا كان الولد للأب وهو زرعه كان هذا مطابقا لقوله ﷺ‏:‏ ‏"‏أنت ومالك لأبيك‏"‏، وقوله ﷺ‏:‏ ‏"‏إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه‏"‏، فقد حصل الولد من كسبه، كما دلت عليه هذه الآية؛ فإن الزرع الذي في الأرض كسب الزارع له الذي بذره وسقاه وأعطي أجرة الأرض، فإن الرجل أعطي المرأة مهرها، وهو أجر الوطء كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏وَلَا جُنَاحَ عليكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏"‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏، وهو مطابق لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ‏"‏[‏المسد‏:‏ 2‏]‏، وقد فسر ‏"‏مَا كَسَبَ‏"‏ بالولد، فالأم هي الحرث وهي الأرض التي فيها زرع، والأب استأجرها بالمهر كما يستأجر الأرض، وأنفق على الزرع بإنفاقه لما كانت حاملا، ثم أنفق على الرضيع، كما ينفق المستأجر على الزرع والثمر إذا كان مستورا وإذا برز، فالزرع هو الولد، وهو من كسبه‏.‏
    وهذا يدل على أن للأب أن يأخذ من ماله ما لا يضر به، كما جاءت به السنة، وأن ماله للأب مباح، وإن كان ملكا للابن، فهو مباح للأب أن يملكه وإلا بقي للابن، فإذا مات ولم يتملكه ورث من الابن‏.‏ وللأب أيضًا أن يستخدم الولد ما لم يضر به‏.‏ وفي هذا وجوب طاعة الأب على الابن إذا كان العمل مباحا لا يضر بالابن؛ فإنه لو استخدم عبده في معصية أو اعتدي عليه لم يجز فالابن أولى‏.‏

    ج/ 34 ص -70-ونفع الابن له إذا لم يأخذه الأب، بخلاف نفع المملوك فإنه لمالكه، كما أن ماله لو مات لمالكه لا لوارثه‏.‏
    ودل ما ذكره على أنه لا يجوز للرجل أن يطأ حاملا من غيره، وأنه إذا وطئها كان كسقي الزرع يزيد فيه وينميه ويبقي له شركة في الولد، فيحرم عليه استعباد هذا الولد، فلو ملك أمة حاملا من غيره ووطئها حرم استعباد هذا الولد؛ لأنه سقاه، ولقوله ﷺ‏:‏ ‏
    "‏كيف يستعبده وهو لا يحل له‏؟‏‏"‏‏.‏ ‏"‏وكيف يورثه‏"‏ أي‏:‏ يجعله موروثا منه ‏"‏وهو لا يحل له‏؟‏‏"‏ ومن ظن أن المراد‏:‏ كيف يجعله وارثا، فقد غلط؛ لأن تلك المرأة كانت أمة للواطئ، والعبد لا يجعل وارثًا، إنما يجعل موروثًا‏.‏ فأما إذا استبرئت المرأة علم أنه لا زرع هناك‏.‏ ولو كانت بكراً أو عند من لا يطؤها ففيه نزاع‏.‏ والأظهر جواز الوطء؛ لأنه لا زرع هناك، وظهور براءة الرحم هنا أقوي من براءتها من الاستبراء بحيضة؛ فإن الحامل قد يخرج منها من الدم مثل دم الحيض، وإن كان نادرا‏.‏ وقد تنازع العلماء هل هو حيض أو لا‏؟‏ فالاستبراء ليس دليلا قاطعا على براءة الرحم، بل دليل ظاهر‏.‏ والبكارة وكونها كانت مملوكة لصبي أو امرأة أدل على البراءة‏.‏ وإن كان البائع صادقا أو أخبره أنه استبرأها حصل المقصود، واستبراء الصغيرة التي لم تحض والعجوز والآيسة في غاية البعد‏.‏

    ج/ 34 ص -71-ولهذا اضطرب القائلون هل تستبرأ بشهر، أو شهر ونصف، أو شهرين، أو ثلاثة أشهر‏؟‏ وكلها أقوال ضعيفة‏.‏ وابن عمر رضي الله عنهما لم يكن يستبرئ البكر، ولا يعرف له مخالف من الصحابة، والنبي ﷺ لم يأمر بالاستبراء إلا في المسبيات، كما قال في سبايا أوطاس‏:‏ ‏"‏لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة‏"‏، لم يأمر كل من ورث أمة أو اشتراها أن يستبرئها مع وجود ذلك في زمنه، فعلم أنه أمر بالاستبراء عن الجهل بالحال، لإمكان أن تكون حاملا‏.‏ وكذلك من ملكت وكان سيدها يطؤها ولم يستبرئها، لكن النبي ﷺ لم يذكر مثل هذا، إذ لم يكن المسلمون يفعلون مثل هذا، لا يرضي لنفسه أحد أن يبيع أمته الحامل منه، بل لا يبيعها إذا وطئها حتى يستبرئها، فلا يحتاج المشتري إلى استبراء ثان‏.‏
    ولهذا لم ينه عن وطء الحبالى من السادات إذا ملكت ببيع أو هبة؛ لأن هذا لم يكن يقع، بل هذه دخلت في نهيه ﷺ‏:‏ أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره‏.‏
    وقوله تعالى‏:‏ ‏
    "‏وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏، وقال تعالى في تلك الآية‏:‏ ‏"‏فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏"‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏، يدل على أن هذا الأجر هو رزقهن وكسوتهن بالمعروف إذا لم يكن بينهما مسمى

    ج/ 34 ص -72-ترجعان إليه‏.‏ وأجرة المثل إنما تقدر بالمسمى إذا كان هناك مسمي يرجعان إليه، كما في البيع والإجارة لما كان السلعة هي أو مثلها بثمن مسمي وجب ثمن المثل إذا أخذت بغير اختياره، وكما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق العبد‏"‏‏.‏ فهناك أقيم العبد؛ لأنه ومثله يباع في السوق، فتعرف القيمة التي هي السعر في ذلك الوقت، وكذلك الأجير والصانع كما نهي النبي ﷺ في الحديث الصحيح لعلي أن يعطي الجازر من البدن شيئا، وقال‏:‏ ‏"‏نحن نعطيه من عندنا‏"‏‏.‏ فإن الذبح وقسمة اللحم على المهدي، فعليه أجرة الجازر الذي فعل ذلك، وهو يستحق نظير ما يستحقه مثله إذا عمل ذلك؛ لأن الجزارة معروفة، ولها عادة معروفة‏.‏ وكذلك سائر الصناعات كالحياكة، والخياطة، والبناء وقد كان من الناس من يخيط بالأجرة على عهده فيستحق هذا الخياط ما يستحقه نظراؤه، وكذلك أجير الخدمة يستحق ما يستحقه نظيره؛ لأن ذلك عادة معروفة عند الناس‏.‏
    وأما الأم المرضعة فهي نظير سائر الأمهات المرضعات بعد الطلاق وليس لهن عادة مقدرة إلا اعتبار حال الرضاع بما ذكر، وهي إذا كانت حاملا منه وهي مطلقة استحقت نفقتها وكسوتها بالمعروف، وهي في الحقيقة نفقة على الحمل‏.‏ وهذا أظهر قولي العلماء، كما قال تعالى‏:
    ‏"‏وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عليهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ‏"‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏‏.‏

    ج/ 34 ص -73-وللعلماء هنا ثلاثة أقوال‏:‏
    أحدها‏:‏ أن هذه النفقة نفقة زوجة معتدة، ولا فرق بين أن تكون حاملا أو حائلا‏.‏ وهذا قول من يوجب النفقة للبائن كما يوجبها للرجعية، كقول طائفة من السلف والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة وغيره، ويروي عن عمر وابن مسعود، ولكن على هذا القول ليس لكونها حاملا تأثير فإنهم ينفقون عليها حتى تنقضي العدة، سواء كانت حاملا أو حائلا‏.‏
    القول الثاني‏:‏ أنه ينفق عليها نفقة زوجة، لأجل الحمل كأحد قولي الشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد وهذا قول متناقض؛ فإنه إن كان نفقة زوجة فقد وجب لكونها زوجة، لا لأجل الولد‏.‏ وإن كان لأجل الولد فنفقة الولد تجب مع غير الزوجة، كما يجب عليه أن ينفق على سريته الحامل إذا أعتقها‏.‏ وهؤلاء يقولون‏:‏ هل وجبت النفقة للحمل أولها من أجل الحمل‏؟‏ على قولين‏.‏ فإن أرادوا لها من أجل الحمل، أي‏:‏ لهذه الحامل من أجل حملها فلا فرق‏.‏ وإن أرادو وهو مرادهم أنه يجب لها نفقة زوجة من أجل الحمل، فهذا تناقض، فإن نفقة الزوجة تجب وإن لم يكن حمل‏.‏ ونفقة الحمل تجب وإن لم تكن زوجة‏.‏
    والقول الثالث وهو الصحيح‏:‏ أن النفقة تجب للحمل، ولها من أجل الحمل؛ لكونها حاملا بولده، فهي نفقة عليه؛ لكونه أباه،

    ج/ 34 ص -74-لا عليها لكونها زوجة‏.‏ وهذا قول مالك، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، والقرآن يدل على هذا، فإنه قال تعالى‏:‏ ‏"‏وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عليهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏"‏فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏"‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏، وقال هنا‏:‏ ‏"‏وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏، فجعل أجر الإرضاع على من وجبت عليه نفقة الحامل، ومعلوم أن أجر الإرضاع يجب على الأب لكونه أبا، فكذلك نفقة الحامل؛ ولأن نفقة الحامل ورزقها وكسوتها بالمعروف، وقد جعل أجر المرضعة كذلك؛ ولأنه قال‏:‏ ‏"‏وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏، أي وارث الطفل، فأوجب عليه ما يجب على الأب، وهذا كله يبين أن نفقة الحمل والرضاع من باب نفقة الأب على ابنه، لا من باب نفقة الزوج على زوجته‏.‏
    وعلى هذا، فلو لم تكن زوجة بل كانت حاملا بوطء شبهة يلحقه نسبه أو كانت حاملا منه وقد أعتقها وجب عليه نفقة الحمل، ؛ كما يجب عليه نفقة الإرضاع، ولو كان الحمل لغيره، كمن وطئ أمة غيره‏.‏ بنكاح أو شبهة أو إرث فالولد هنا لسيد الأمة، فليس على الواطئ شيء وإن كان زوجا، ولو تزوج عبد حرة فحملت منه فالنسب ها هنا لاحق، لكن الولد حر‏.‏ والولد الحر لا تجب نفقته على أبيه العبد، ولا أجرة رضاعه، فإن العبد ليس له مال ينفق منه على ولده، وسيده لا حق له في ولده، فإن ولده إما حر، وإما مملوك لسيد الأمة‏.‏ نعم، لو كانت الحامل أمة والولد حر مثل المغرور الذي اشترى أمة فظهر أنها مستحقة لغير البائع، أو تزوج حرة فظهر أنها

    ج/ 34 ص -75-أمة، فهنا الولد حر، وإن كانت أمة مملوكة لغير الواطئ، لأنه إنما وطئ من يعتقدها مملوكة له أو زوجة حرة، وبهذا قضت الصحابة لسيد الأمة بشراء الولد وهو نظيره فهنا الآن ينفق على الحامل كما ينفق على المرضعة له‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏
    وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل كان له زوجة، وطلقها ثلاثا، وله منها بنت ترضع، وقد ألزموه بنفقة العدة‏:‏ فكم تكون مدة العدة التي لا تحيض فيها لأجل الرضاعة‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، أما جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد، فعندهم لا نفقة للمعتدة البائن المطلقة ثلاثا‏.‏ وأما أبو حنيفة فيوجب لها النفقة مادامت في العدة‏.‏ وإذا كانت ممن تحيض فلاتزال في العدة حتى تحيض ثلاث حيض‏.‏ والمرضع يتأخر حيضها في الغالب‏.‏ وأما أجر الرضاع فلها ذلك باتفاق العلماء، كما قال تعالى‏:
    ‏ ‏"‏فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏"‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏، ولا تجب النفقة إلا على الموسر، فأما المعسر فلا نفقة عليه‏.‏

    ج/ 34 ص -76-وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة مزوجة محتاجة، فهل تكون نفقتها واجبة على زوجها، أو من صداقها‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    المزوجة المحتاجة نفقتها على زوجها واجبة من غير صداقها، وأما صداقها المؤخر فيجوز أن تطالبه، وإن أعطاها فحسن، وإن امتنع لم يجبر حتى يقع بينهما فرقة بموت، أو طلاق، أو نحوه، والله أعلم‏.‏
    وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل تزوج بامرأة ما ينتفع بها، ولا تطاوعه في أمر، وتطلب منه نفقة وكسوة، وقد ضيقت عليه أموره‏:‏ فهل تستحق عليه نفقة، وكسوة‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا لم تمكنه من نفسها، أو خرجت من داره بغير إذنه، فلا نفقة لها ولا كسوة، وكذلك إذا طلب منها أن تسافر معه فلم تفعل فلا نفقة لها ولا كسوة، فحيث كانت ناشزاً، عاصية له فيما يجب له عليها طاعته، لم يجب لها نفقة ولا كسوة‏.

    ج/ 34 ص -77-وسئل شيخ الإسلام رَحمه الله عن المرأة والرجل إذا تحاكما في النفقة والكسوة، هل القول قولها، أم قول الرجل‏؟‏ وهل للحاكم تقدير النفقة والكسوة بشيء معين‏؟‏ والمسؤول‏:‏ بيان حكم هاتين المسألتين بدلائلهما‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، إذا كانت المرأة مقيمة في بيت زوجها مدة تأكل وتشرب وتكتسي كما جرت به العادة، ثم تنازع الزوجان في ذلك فقالت هي‏:‏ أنت ما أنفقت على ولا كسوتني، بل حصل ذلك من غيرك، وقال هو‏:‏ بل النفقة والكسوة كانت مني، ففيها قولان للعلماء‏:‏
    أحدهما‏:‏ القول قوله، وهذا هو الصحيح الذي عليه الأكثرون ونظير هذا أن يصدقها تعلم صناعة وتتعلمها ثم يتنازعا فيمن علمها، فيقول هو‏:‏ أنا علمتها وتقول هي‏:‏ أنا تعلمتها من غيره، ففيها وجهان في مذهب الشافعي وأحمد، والصحيح من هذا كله أن القول قول من يشهد له العرف والعادة، وهو مذهب مالك‏.‏ وأبو حنيفة يوافق على أنها لا تستحق عليها شيء ا؛ لأن النفقة تسقط بمضي الزمان عنده، كنفقة الأقارب، وهو قول في مذهب أحمد‏.‏ وأصحاب هذا القول يقولون‏:‏

    ج/ 34 ص -78-وجبت على طريقة الصلة فتسقط بمضي الزمان، والجمهور ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه يقولون‏:‏ وجبت بطريق المعارضة، فلا تسقط بمضي الزمان‏.‏
    ولكن إذا تنازعا في قبضها فقال بعض أصحاب الشافعي وأحمد‏:‏ القول قول المرأة؛ لأن الأصل عدم المقبوض، كما لو تنازعا في قبض الصداق والصواب أنه يرجع في ذلك إلى العرف والعادة، فإذا كانت العادة أن الرجل ينفق على المرأة في بيته ويكسوها وادعت أنه لم يفعل ذلك فالقول قوله مع يمينه، وهذا القول هو الصواب الذي لا يسوغ غيره لأوجه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن الصحابة والتابعين على عهد رسول الله ﷺ وخلفائه الراشدين لم يعلم منهم امرأة قبل قولها في ذلك، ولو كان قول المرأة مقبولا في ذلك، لكانت الهمم متوفرة على دعوي النساء، وذلك كما هو الواقع، فعلم أنه كان مستقرا بينهم، أنه لا يقبل قولها‏.‏
    الثاني‏:‏ أنه لو كان القول قولها لم يقبل قول الرجل إلا ببينة، فكان يحتاج إلى الإشهاد عليها كلما أطعمها وكساها، وكان تركه ذلك تفريطا منه إذا ترك الإشهاد على الدين المؤجل، ومعلوم أن هذا لم يفعله مسلم على عهد السلف‏.‏

    ج/ 34 ص -79-الثالث‏:‏ أن الإشهاد في هذا متعذر أو متعسر فلا يحتاج إليه، كالإشهاد على الوطء، فإنهما لو تنازعا في الوطء وهي ثيب لم يقبل مجرد قولها في عدم الوطء عند الجمهور، مع أن الأصل عدمه، بل إما أن يكون القول قول الرجل، أو يؤمر بإخراج المني، أو يجامعها في مكان وقريب منهما من يعلم ذلك بعد انقضاء الوطء‏.‏ على ما للعلماء في ذلك من النزاع، فهنا دعواها وافقت الأصل، ولم تقبل لتعذر إقامة البينة على ذلك‏.‏ والإنفاق في البيوت بهذه المثابة، ولا يكلف الناس الإشهاد على إعطاء النفقة، فإن هذا بدعة في الدين، وحرج على المسلمين، واتباع لغير سبيل المؤمنين‏.‏
    الرابع‏:‏ أن العلماء متنازعون‏:‏ هل يجب تمليك النفقة‏؟‏ على قولين‏.‏ والأظهر أنه لا يجب، ولا يجب أن يفرض لها شيء اً، بل يطعمها ويكسوها بالمعروف‏.‏ وهذا القول هو الذي دلت عليه سنة رسول الله ﷺ حيث قال في النساء‏:‏
    ‏"‏لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف‏"‏، كما في المملوك، ‏"‏وكسوته بالمعروف‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏حقها أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت‏"‏ كما قال في المماليك‏:‏ ‏"‏إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس‏"‏‏.‏ هذه عادة المسلمين على عهد رسول الله ﷺ وخلفائه لا يعلم قط أن رجلا فرض لزوجته نفقة، بل يطعمها ويكسوها‏.‏

    ج/ 34 ص -80-
    وإذا كان كذلك كان له ولاية الإنفاق عليها، كما له ولاية الإنفاق على رقيقه وبهائمه، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏
    "‏الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء‏"‏[‏النساء‏:‏ 34‏]‏، وقال زيد بن ثابت‏:‏ الزوج سيد في كتاب الله، وقرأ قوله‏:‏ ‏"‏وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 25‏]‏، وقال عمر ابن الخطاب‏:‏ النكاح رق، فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته‏.‏ ويدل على ذلك قول النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، وإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله‏"‏، فقد أخبر أن المرأة عانية عند الرجل، والعاني الأسير وأن الرجل أخذها بأمانة الله، فهو مؤتمن عليها، ولهذا أباح الله للرجل بنص القرآن أن يضربها، وإنما يؤدب غيره من له عليه ولاية، فإذا كان الزوج مؤتمنا عليها، وله عليها ولاية، كان القول قوله فيما اؤتمن عليه وولي عليه، كما يقبل قول الولي في الإنفاق على اليتيم، وكما يقبل قول الوكيل والشريك والمضارب والمساقي والمزارع فيما أنفقه على مال الشركة‏.‏ وإن كان في ذلك معني المعاوضة‏.‏ وعقد النكاح من جنس المشاركة والمعاوضة، والرجل مؤتمن فيه فقبول قوله في ذلك أولى من قبول قول أحد الشريكين‏.‏ وكذلك لو أخذت المرأة نفقتها من ماله بالمعروف، وادعت أنه لم يعطها نفقة قبل قولها مع يمينها في هذه الصورة، لأن الشارع سلطها على ذلك، كما قال النبي ﷺ لهند‏:‏ ‏"‏خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف‏"‏ لما قالت‏:‏ إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال‏:‏ ‏"‏خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف‏"‏‏.‏

    ج/ 34 ص -81-وكذلك لو كان الزوج مسافراً عنها مدة وهي مقيمة في بيت أبيها وادعت أنه لم يترك لها نفقة، ولا أرسل إليها بنفقة، فالقول قولها مع يمينها وأمثال ذلك‏.‏ فلابد من التفصيل في الماضي مطلقًا في هذا الباب‏.‏ وهذه المعاني من تدبرها تبين له سر هذه المسألة، فإن قبول قول النساء في عدم النفقة في الماضي فيه من الضرر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، وهو يؤول إلى أن المرأة تقيم مع الزوج خمسين سنة، ثم تدعي نفقة خمسين سنة وكسوتها، وتدعي أن زوجها مع يساره وفقرها لم يطعمها في هذه المدة شيء ا، وهذا مما يتبين الناس كذبها فيه قطعا، وشريعة الإسلام منزهة عن أن يحكم فيها بالكذب والبهتان، والظلم والعدوان‏.‏
    الوجه الخامس‏:‏ أن الأصل المستقر في الشريعة أن اليمين مشروعة في جنبة أقوي المتداعيين، سواء ترجح ذلك بالبراءة الأصلية، أو اليد الحسية، أو العادة العملية؛ ولهذا إذا ترجح جانب المدعي كانت اليمين مشروعة في حقه عند الجمهور كمالك والشافعي وأحمد، كالأيمان في القسامة، وكما لو أقام شاهدا عدلا في الأموال فإنه يحكم له بشاهد ويمين، والنبي ﷺ جعل اليمين على المدعي عليه إذا لم يكن مع المدعي حجة ترجح جانبه؛ ولهذا قال جمهور العلماء في الزوجين إذا تنازعا في متاع البيت فإنه يحكم لكل منهما بما جرت العادة باستعماله إياه، فيحكم للمرأة بمتاع النساء

    ج/ 34 ص -82-وللرجل بمتاع الرجال، وإن كانت اليد الحسية منها ثابتة على هذا وهذا؛ لأنه يعلم بالعادة أن كلا منهما يتصرف في متاع جنسه‏.‏ وهنا العادة جارية بأن الرجل ينفق على امرأته ويكسوها فإن لم يعلم لها جهة تنفق منها على نفسها أجري الأمر على العادة‏.‏
    الوجه السادس‏:‏ أن هذه المرأة لابد أن تكون أكلت واكتست في الزمان الماضي، وذلك إما أن يكون من الزوج، وإما أن يكون من غيره‏.‏ والأصل عدم غيره، فيكون منه، كما قلنا في أصح الوجهين‏:‏ إن القول قوله في أنه علمها الصناعة والقراءة التي أصدقها تعليمها؛ لأن الحكم الحادث يضاف إلى السبب المعلوم، كما لو سقط في الماء نجاسة فرئي متغيرا بعد ذلك، وشك هل تغير بالنجاسة أو غيرها‏؟‏ فأصح الوجهين أنه يضاف التغير إلى النجاسة‏.‏ ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ أفتى عدي بن حاتم فيما إذا رمي الصيد وغاب عنه ولم يجد فيه أثراً غير سهمه أنه يأكله؛ لأن الأصل عدم سبب آخر زهقت به نفسه، بخلاف ما إذا تردي في ماء، أو خالط كلبه كلاب أخرى، فإن تلك لأس
    باب شاركت في الزهوق، وبسط هذه المسائل له موضع آخر غير هذا‏.‏

    ج/ 34 ص -83-فصل
    وأما تقدير الحاكم النفقة والكسوة، فهذا يكون عند التنازع فيها كما يقدر مهر المثل إذا تنازعا فيه، وكما يقدر مقدار الوطء إذا ادعت المرأة أنه يضربها، فإن الحقوق التي لا يعلم مقدارها إلا بالمعروف متى تنازع فيها الخصمان قدرها ولي الأمر‏.‏ وأما الرجل إذا كان ينفق على امرأته بالمعروف كما جرت عادة مثله لمثلها، فهذا يكفي، ولا يحتاج إلى تقدير الحاكم‏.‏ ولو طلبت المرأة أن يفرض لها نفقة يسلمها إليها مع العلم بأنه ينفق عليها بالمعروف فالصحيح من قولي العلماء في هذه الصورة أنه لا يفرض لها نفقة، ولا يجب تمليكها ذلك، كما تقدم، فإن هذا هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار المبني على العدل‏.‏ والصواب المقطوع به عند جمهور العلماء أن نفقة الزوجة مرجعها إلى العرف، وليست مقدرة بالشرع، بل تختلف باختلاف أحوال البلاد والأزمنة وحال الزوجين وعادتهما، فإن الله تعالى قال‏:‏
    ‏"‏وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏"‏[‏النساء‏:‏ 19‏]‏، وقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف‏"‏‏.

    ج/ 34 ص -84-وقال شيخ الإسلام رَحمه الله‏:‏
    في قول الله تعالى‏:
    ‏ ‏"‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عليهنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عليهنَّ دَرَجَةٌ‏"‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228 ‏:‏229‏]‏ فجعل المباح أحد أمرين‏:‏ إمساك بمعروف‏.‏ أو تسريح بإحسان‏.‏ وأخبر أن الرجال ليسوا أحق بالرد إلا إذا أرادوا إصلاحا، وجعل لهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏، وقال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏"‏فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏"‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 232‏]‏، وقوله هنا‏:‏ ‏"‏بِالْمَعْرُوفِ‏"‏، يدل على أن المرأة لو رضيت بغير المعروف لكان للأولياء العضل، والمعروف تزويج الكفء‏.‏ وقد يستدل به من يقول‏:‏ مهر مثلها من المعروف؛ فإن المعروف هو الذي يعرفه أولئك‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 19‏]‏، فقد ذكر أن التراضي بالمعروف، والإمساك

    ج/ 34 ص -85-بالمعروف، والتسريح بالمعروف، والمعاشرة بالمعروف، وأن لهن وعليهن بالمعروف كما قال‏:‏ "وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف"، فهذا المذكور في القرآن هو الواجب العدل في جميع ما يتعلق بالنكاح من أمور النكاح وحقوق الزوجين، فكما أن ما يجب للمرأة عليه من الرزق والكسوة هو بالمعروف، وهو العرف الذي يعرفه الناس في حالهما نوعا وقدراً وصفة، وإن كان ذلك يتنوع بتنوع حالهما من اليسار والإعسار، والزمان كالشتاء والصيف والليل والنهار، والمكان فيضعها في كل بلد مما هو عادة أهل البلد وهو العرف بينهم‏.‏ وكذلك ما يجب لها عليه من المتعة والعشرة، فعليه أن يبيت عندها، ويطأها بالمعروف، ويختلف ذلك باختلاف حالها وحاله‏.‏ وهذا أصح القولين في الوطء الواجب أنه مقدر بالمعروف، لا بتقدير من الشرع، قررته في غير هذا الموضع‏.‏
    والمثال المشهور هو النفقة فإنها مقدرة بالمعروف تتنوع بتنوع حال الزوجين عند جمهور المسلمين‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ هي مقدرة بالشرع نوعاً وقدراً‏:‏ مدا من حنطة، أو مدا ونصفًا، أو مدين، قياسا على الإطعام الواجب في الكفارة على أصل القياس‏.‏
    والصواب المقطوع به ما عليه الأمة علما وعملا قديما وحديثا، فإن القرآن قد دل على ذلك، وفي الصحيحين عن النبي ﷺ

    ج/ 34 ص -86-أنه قال لهند امرأة أبي سفيان لما قالت له يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف‏"‏، فأمرها أن تأخذ الكفاية بالمعروف، ولم يقدر لها نوعا ولا قدراً، ولو تقدر ذلك بشرع أو غيره لبين لها القدر والنوع، كما بين فرائض الزكاة والديات‏.‏ وفي صحيح مسلم عن جابر أن النبي ﷺ قال في خطبته العظيمة بعرفات‏:‏ ‏"‏لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف‏"‏‏.‏
    وإذا كان الواجب هو الكفاية بالمعروف فمعلوم أن الكفاية بالمعروف تتنوع بحالة الزوجة في حاجتها، ويتنوع الزمان والمكان، ويتنوع حال الزوج في يساره وإعساره، وليست كسوة القصيرة الضئيلة ككسوة الطويلة الجسيمة، ولا كسوة الشتاء ككسوة الصيف، ولا كفاية طعامه كطعامه، ولا طعام البلاد الحارة كالباردة، ولا المعروف في بلاد التمر والشعير، كالمعروف في بلاد الفاكهة والخمير‏.‏ وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه عن حكيم بن معاوية النميري عن أبيه أنه قال‏:‏ قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه‏؟‏ قال‏:‏
    ‏"‏تطعمها إذا أكلت وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت‏"‏‏.‏
    فهذه ثلاثة أحاديث عن النبي ﷺ‏:‏ أن للزوجة مرة أن تأخذ كفاية ولدها بالمعروف، وقال في الخطبة التي خطبها يوم أكمل الله

    ج/ 34 ص -87-الدين في أكبر مجمع كان له في الإسلام‏:‏ ‏"‏لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف‏"‏، وقال للسائل المستفتي له عن حق الزوجة‏:‏ ‏"‏تطعمها إذا أكلت، وتكسوها إذا اكتسيت‏"‏، لم يأمر في شيء من ذلك بقدر معين، لكن قيد ذلك بالمعروف تارة، وبالمواساة بالزوج أخرى‏.‏
    وهكذا قال في نفقة المماليك، ففي الصحيحين عن أبي ذر عن النبي ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏هم إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كفلتموهم فأعينوهم‏"‏، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ، قال‏:‏ ‏"‏للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق‏"‏‏.‏
    ففي الزوجة والمملوك أمره واحد‏:‏ تارة يذكر أنه يجب الرزق والكسوة بالمعروف، وتارة يأمر بمواساتهم بالنفس، فمن العلماء من جعل المعروف هو الواجب، والمواساة مستحبة‏.‏ وقد يقال‏:‏ أحدهما تفسير للآخر، وعلى هذا فالواجب هو الرزق والكسوة بالمعروف في النوع، والقدر، وصفة الإنفاق، وإن كان العلماء قد تنازعوا في ذلك‏.‏
    أما النوع فلا يتعين أن يعطيها مكيلا كالبر، ولا موزونًا كالخبز، ولا ثمن ذلك كالدراهم، بل يرجع في ذلك إلى العرف، فإذا أعطاها كفايتها بالمعروف مثل أن يكون عادتهم أكل التمر والشعير فيعطيها ذلك‏.‏

    ج/ 34 ص -88-أو يكون أكل الخبز والإدام فيعطيها ذلك‏.‏ وإن كانت عادتهم أن يعطيها حباً فتطحنه في البيت فعل ذلك، وإن كان يطحن في الطاحون ويخبز في البيت فعل ذلك‏.‏ وإن كان يخبز في البيت فعل ذلك‏.‏ وإن كان يشتري خبزاً من السوق فعل ذلك‏.‏ وكذلك الطبيخ ونحوه فعلى ما هو المعروف، فلا يتعين عليه دراهم، ولا حبات أصلا، لا بشرع، ولا بفرض، فإن تعين ذلك دائما من المنكر ليس من المعروف، وهو مضر به تارة وبها أخرى‏.‏
    وكذلك القدر لا يتعين مقدار مطرد، بل تتنوع المقادير بتنوع الأوقات‏.‏
    وأما الإنفاق فقد قيل‏:‏ إن الواجب تمليكها النفقة، والكسوة‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجب التمليك، وهو الصواب؛ فإن ذلك ليس هو المعروف، بل عُرْفُ النبي ﷺ والمسلمين إلى يومنا هذا أن الرجل يأتي بالطعام إلى منزله، فيأكل هو وامرأته ومملوكه‏:‏ تارة جميعا، وتارة أفرادا‏.‏ ويفضل منه فضل تارة فيدخرونه، ولا يعرف المسلمون أنه يملكها كل يوم دراهم تتصرف فيها تصرف المالك، بل من عاشر امرأة بمثل هذا الفرض كانا عند المسلمين قد تعاشرا بغير المعروف وتضارا في العشرة، وإنما يفعل أحدهما ذلك بصاحبه عند الضرر، لا عند العشرة بالمعروف‏.‏

    ج/ 34 ص -89-وأيضا، فإن النبي ﷺ أوجب في الزوجة مثل ما أوجب في المملوك‏.‏ تارة قال‏:‏ ‏"‏لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف‏"‏، كما قال في المملوك‏.‏ وتارة قال‏:‏ ‏"‏تطعمها إذا أكلت وتكسوها إذا اكتسيت‏"‏ كما قال في المملوك‏.‏ وقد اتفق المسلمون على أنه لا يجب تمليك المملوك نفقته، فعلم أن هذا الكلام لا يقتضي إيجاب التمليك‏.‏ وإذا تنازع الزوجان فمتى اعترفت الزوجة أنه يطعمها إذا أكل ويكسوها إذا اكتسي وذلك هو المعروف لمثلها في بلدها فلا حق لها سوي ذلك‏.‏ وإن أنكرت ذلك، أمره الحاكم أن ينفق بالمعروف، بل ولا له أن يأمر بدراهم مقدرة مطلقا، أو حب مقدر مطلقا، لكن يذكر المعروف الذي يليق بهما‏.‏
    فصل
    وكذلك قسم الابتداء والوطء والعشرة والمتعة واجبان، كما قد قررناه بأكثر من عشرة أدلة، ومن شك في وجوب ذلك فقد أبعد تأمل الأدلة الشرعية والسياسة الإنسانية‏.‏ ثم الواجب قيل‏:‏ مبيت ليلة من أربع ليال، والوطء في كل أربعة أشهر مرة، كما ثبت في المولي والمتزوج أربعا‏.‏ وقيل‏:‏ إن الواجب وطؤها بالمعروف، فيقل ويكثر بحسب حاجتها وقدرته، كالقوت سواء‏.‏
    فصل
    وكذلك ما عليها من موافقته في المسكن وعشرته ومطاوعته في المتعة، فإن ذلك واجب عليها بالاتفاق‏.‏ عليها أن تسكن معه في أي بلد أو دار إذا

    ج/ 34 ص -90-كان ذلك بالمعروف ولم تشترط خلافه، وعليها ألا تفارق ذلك بغير أمره إلا لموجب شرعي، فلا تنتقل، ولا تسافر، ولا تخرج من منزله لغير حاجة إلا بإذنه، كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏فإنهن عوان عندكم‏"‏ بمنزلة العبد والأسير، وعليها تمكينه من الاستمتاع بها إذا طلب ذلك، وذلك كله بالمعروف غير المنكر، فليس له أن يستمتع استمتاعا يضر بها ولا يسكنها مسكنا يضر بها، ولا يحبسها حبسا يضر بها‏.‏
    فصل
    وتنازع العلماء‏:‏ هل عليها أن تخدمه في مثل فراش المنزل، ومناولة الطعام والشراب والخبز، والطحن، والطعام لمماليكه، وبهائمه‏:‏ مثل علف دابته ونحو ذلك‏؟‏ فمنهم من قال‏:‏ لا تجب الخدمة‏.‏ وهذا القول ضعيف، كضعف قول من قال‏:‏ لا تجب عليه العشرة والوطء؛ فإن هذا ليس معاشرة له بالمعروف، بل الصاحب في السفر الذي هو نظير الإنسان وصاحبه في المسكن إن لم يعاونه على مصلحة لم يكن قد عاشره بالمعروف‏.‏ وقيل وهو الصواب وجوب الخدمة، فإن الزوج سيدها في كتاب الله، وهي عانية عنده بسنة رسول الله ﷺ، وعلى العاني والعبد الخدمة؛ ولأن ذلك هو المعروف‏.‏ ثم من هؤلاء من قال‏:‏ تجب الخدمة اليسيرة، ومنهم من قال‏:‏ تجب الخدمة بالمعروف، وهذا هو الصواب، فعليها أن تخدمه

    ج/ 34 ص -91-الخدمة المعروفة من مثلها لمثله، ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال، فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية، وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة‏.‏
    فصل
    والمعروف فيما له ولها هو موجب العقد المطلق، فإن العقد المطلق يرجع في موجبه إلى العرف، كما يوجب العقد المطلق في البيع النقد المعروف فإن شرط أحدهما على صاحبه شرطا لا يحرم حلالا ولا يحلل حراما فالمسلمون عند شروطهم؛ فإن موجبات العقود تتلقي من اللفظ تارة‏.‏ ومن العرف تارة أخرى، لكن كلاهما مقيد بما لم يحرمه الله ورسوله، فإن لكل من العاقدين أن يوجب للآخر على نفسه ما لم يمنعه الله من إيجابه، ولا يمنعه أن يوجب في المعاوضة ما يباح بذله بلا عوض، كعارية البضع، والولاء لغير المعتق، فلا سبيل إلى أن يجب بالشرط، فإنه إذا حرم بذله كيف يجب بالشرط‏؟‏ ‏!‏ فهذه أصول جامعة مع اختصار، والله أعلم‏.‏
    وسئل عن رجل متزوج بامرأة، وسافر عنها سنة كاملة، ولم يترك عندها شيء اً، ولا لها شيء تنفقه عليها، وهلكت من الجوع، فحضر من يخطبها

    ج/ 34 ص -92-ودخل بها، وحملت منه، فعلم الحاكم أن الزوج الأول موجود ففرق بينهما ووضعت الحمل من الزوج الثاني، والزوج الثاني ينفق عليها إلى أن صار عمر المولود أربع سنين، ولم يحضر الزوج الأول، ولا عرف له مكان‏:‏ فهل لها أن تراجع الزوج الثاني، أو تنتظر الأول‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا تعذرت النفقة من جهته فلها فسخ النكاح، فإذا انقضت عدتها تزوجت بغيره‏.‏ والفسخ للحاكم، فإذا فسخت هي نفسها لتعذر فسخ الحاكم أو غيره، ففيه نزاع‏.‏ وأما إذا لم يفسخ الحاكم بل شهد لها أنه قد مات، وتزوجت لأجل ذلك، ولم يمت الزوج، فالنكاح باطل، لكن إذا اعتقد الزوج الثاني أنه صحيح لظنه موت الزوج الأول وانفساخ النكاح أو نحو ذلك، فإنه يلحق به النسب، وعليه المهر، ولا حد عليه، لكن تعتد له حتى تنقضي عدتها منه، ثم بعد ذلك ينفسخ نكاح الأول إن أمكن، وتتزوج بمن شاءت‏.‏
    وسئل رَحمه اللّه تعالى عن رجل زوج ابنته لرجل، وأراد الزوج السفر إلى بلاده، فقال له وكيل الأب في قبول النكاح‏:‏ لا تسافر إما أن تعطي الحال من الصداق وتنتقل بالزوجة، أو ترضي الأب، فسافر ولم يجب إلى ذلك، وهو غائب

    ج/ 34 ص -93-عن الزوجة المذكورة مدة سنة، ولم يصل منه نفقة‏:‏ فهل لوالد الزوجة أن يطلب فسخ النكاح‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    نعم، إذا عرضت المرأة عليه فبذل له تسليمها، وهي ممن يوطأ مثلها وجب عليه النفقة بذلك، فإذا تعذرت النفقة من جهته كان للزوجة المطالبة بالفسخ، إذا كان محجوراً عليها على وجهين‏.‏
    وسئل رَحمه اللّه تعالى عن رجل تبرع وفرض لأمه على نفسه وهي صحيحة عاقلة في كل يوم درهمين، وأذن لها أن تستدين وتنفق عليها وترجع عليه، وبقيت مقيمة عنده مدة ولم تستدن لها نفقة، ثم توفيت ولم تترك عليها دينا، وخلفت من الورثة ابنها هذا، وبنتين‏.‏ ثم توفي ابنها بعدها‏:‏ فهل يصير ما فرض على نفسه دينا في ذمته يؤخذ من تركته، ويقسم على ورثتها، أم لا‏؟‏ وهل إذا حكم حاكم مع قولكم النفقة تسقط بمضي المدة‏:‏ هل ينفذ حكمه، أم لا‏؟‏ وهل يجب استرجاع ما أخذ ورثتها من تركة ولدها بهذا الوجه، أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله رب العالمين، ليس ذاك دينا لها في ذمته، ولا يقضي من تركته ولا يستحق ورثتها، وما علمت أن أحداً من العلماء قال‏:‏ إن نفقة

    ج/ 34 ص -94-القريب تثبت في الذمة لما مضي من الزمان، إلا إذا كان قد استدان عليه النفقة بإذن حاكم، أو أنفق بغير إذن حاكم غير متبرع، وطلب الرجوع بما أنفق، فهذا في رجوعه خلاف‏.‏ فأما استقرارها في الذمة بمجرد الفرض إما بإنفاق متبرع، أو بكسبه، كما يقال مثله في نفقة الزوجة فما علمت له قائلا، فإذا كان الحكم مخالفًا للإجماع لم يلزم بحكم حاكم، ولمن أخذ منه المال بغير حق أن يرجع بما أخذه‏.‏ ومذهب أبي حنيفة تسقط بمضي الزمان، وإن قضى بها القاضي، إلا أن يأذن القاضي في الاستدانة؛ لأن للقاضي ولاية عامة، فصار كإذن الغائب‏.‏ وذكر بعضهم في قضاء القاضي هل يصير به دينا‏؟‏ روايتين، لكن حملوا رواية الوجوب على ما إذا أمر بالاستدانة، الإنفاق عليهم، ويرجع بذلك‏.‏ وكذا إذا كان الزوج موسرا وتمرد وامتنع عن الإنفاق فطلبت المرأة أن يأمرها بالاستدانة فأمرها القاضي بذلك وترجع عليه؛ لأن أمر القاضي كأمره، ولو قضي القاضي لها بالنفقة فأمرها بالاستدانة على الزوج؛ لئلا يبطل حقها في النفقة بموت أحدهما؛ لأن النفقة تسقط بموت أحدهما، فكانت فائدة الأمر بالاستدانة لتأكيد حقها في النفقة؛ لأن القاضي مأمور بإيصال الحق إلى المستحق، وهذه طريقة‏.‏ لكن لو أمر القريب بالاستدانة ولم يستدن، بل استغنى بنفقة متبرع، أو بكسب له، فقد فهم القاضي شمس الدين أن النفقة تستقر في الذمة بهذه الصورة لإطلاقهم الأمر بالاستدانة من غير اشتراط وجود الاستدانة وغيره‏.‏ إنما فهم أن الاستدانة لأجل وجود الاستدانة‏.‏ وأما الإذن في الاستدانة من غير وجودها لا يصير المأذون فيه دينا حتى يستدان‏.‏

    ج/ 34 ص -95-وسئل رَحمه اللّه تعالى عن امرأة توفيت، وخلفت من الورثة ولدا ذكرا، وقد ادعي على أبيه بالصداق والكسوة‏:‏ فهل يلزم الزوج الكسوة الماضية قبل موتها والابن محتاج‏.‏
    فأجاب‏:‏
    إذا كان الأمر على ما ذكر فعلى الأب أن يوفيه ما يستحقه، بل لو لم يكن للابن ميراث، وكان محتاجا عاجزا عن الكسوة، فعلى الأب إذا كان موسرا أن ينفق عليه، وعلى زوجته وأولاده الصغار المحتاجين والعاجزين عن الكسب‏.‏
    وسئل رَحمه اللّه عن رجل تزوج بامرأة ودخل بها، وهو مستمر النفقة، وهي ناشز، ثم إن ولدها أخذها وسافر من غير إذن الزوج، فماذا يجب عليهما‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، إذا سافر بها بغير إذن الزوج، فإنه يعزر على ذلك وتعزر الزوجة إذا كان التخلف يمكنها، ولا نفقة لها من حين سافرت‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 34 ص -96-وسئل رَحمه اللّه تعالى عن رجل تزوج عند قوم مدة سنة، ثم جري بينهم كلام، فادعوا عليه بكسوة سنة، فأخذوها منه، ثم ادعوا عليه بالنفقة، وقالوا‏:‏ هي تحت الحجر، وما أذنا لك أن تنفق عليها‏:‏ فهل يجوز ذلك‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله رب العالمين، إذا كان الزوج تسلمها التسليم الشرعي وهو أو أبوه أو نحوهما، يطعمها كما جرت به العادة، لم يكن للأب ولا لها أن تدعي بالنفقة، فإن هذا هو الإنفاق بالمعروف الذي كان على عهد رسول الله ﷺ وأصحابه وسائر المسلمين في كل عصر ومصر، وكذلك نص على ذلك أئمة العلماء، بل من كلف الزوج أن يسلم إلى أبيها دراهم ليشتري لها بها ما يطعمها في كل يوم فقد خرج عن سنة رسول الله ﷺ والمسلمين، وإن كان هذا قد قاله بعض الناس، فكيف إذا كان قد أنفق عليها بإقرار الأب لها بذلك، وتسليمها إليهم، مع أنه لابد لها من الأكل، ثم أراد أن يطلب النفقة، ولا يعتد بما أنفقوا عليها، فإن هذا باطل في الشريعة لا تحتمله أصلا‏.‏ ومن توهم ذلك معتقداً أن النفقة حق لها كالدين، فلابد أن يقبضه الولي، وهو لم يأذن فيه، كان مخطئا من وجوه‏:‏

    ج/ 34 ص -97-منها‏:‏ أن المقصود بالنفقة إطعامها، لاحفظ المال لها‏.‏ الثاني‏:‏ أن قبض الولي لها ليس فيه فائدة‏.‏ الثالث‏:‏ أن ذلك لا يحتاج إلى إذنه فإنه واجب لها بالشرع، والشارع أوجب الإنفاق عليها، فلو نهي الولي عن ذلك لم يلتفت إليه‏.‏ الرابع‏:‏ إقرار لها مع حاجته إلى النفقة إذن عرفي ولا يقال‏:‏ إنه لم يأمن الزوج على النفقة، لوجهين‏:‏ أحدهما أن الائتمان بها حصل بالشرع، كما اؤتمن الزوج على بدنها، والقسم لها، وغير ذلك من حقوقها، فإن الرجال قوامون على النساء، والنساء عوان عند الرجال، كما دل على ذلك الكتاب والسنة‏.‏ الثاني‏:‏ أن الائتمان العرفي كاللفظي‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رَحمه اللّه عن رجل حبسته زوجته على كسوتها وصداقها، وبقي مدة، فهل لها أن تطالبه بنفقتها مدة إقامته في حبسها، أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إن كان معسرا فحبسته كانت ظالمة له، مانعة له من التمكن منها، فلا تستحق عليه في تلك المدة نفقة‏.‏ وإن كان لها حق واجب حال، وهو قادر على أدائه فمنعه بعد الطلب الشرعي كان ظالما، فإذا كانت مع هذا باذلة ما يجب عليها وجبت لها النفقة‏.‏

    ج/ 34 ص -98-وسئل رَحمه اللّه تعالى عن رجل له زوجة، وله مدة سبع سنين لم ينتفع بها، لأجل مرضها‏:‏ فهل تستحق عليه نفقة، أم لا‏؟‏ فإن لم تكن تستحق وحكم عليه حاكم‏:‏ فهل يجب عليه إعطاؤه، أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    نعم تستحق النفقة في مذهب الأئمة الأربعة‏.‏
    وسئل رَحمه اللّه عن رجل طلق زوجته طلقة واحدة، وكانت حاملا فأسقطت‏:‏ فهل تسقط عنه النفقة، أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    نعم‏.‏ إذا ألقت سقطا انقضت به العدة، وسقطت به النفقة وسواء كان قد نفخ فيه الروح أم لا، إذا كان قد تبين فيه خلق الإنسان، فإن لم يتبين ففيه نزاع‏.‏

    ج/ 34 ص -99-وسئل رَحمه اللّه عن رجل طلق زوجته ثلاثا، وألزمها بوفاء العدة في مكانها، فخرجت منه قبل أن توفي العدة، وطلبها الزوج ما وجدها‏:‏ فهل لها نفقة العدة‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    لا نفقة لها، وليس لها أن تطالب بنفقة الماضي في مثل هذه العدة في المذاهب الأربعة‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رَحمه اللّه عن رجل ماتت زوجته، وخلفت له ثلاث بنات، فأعطاهم لحميه وحماته وقال‏:‏ روحوا بهم إلى بلدكم، حتى أجيء إليهم، فغاب عنهم ثلاث سنين، فهل على والدهم نفقتهم وكسوتهم في هذه المدة أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    ما أنفقوه عليهم بالمعروف بنية الرجوع به على والدهم فلهم الرجوع به عليه، إذا كان ممن تلزمه نفقتهم‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 34 ص -100-وسئل رَحمه اللّه عن رجل وطئ أجنبية حملت منه، ثم بعد ذلك تزوج بها‏:‏ فهل يجب عليه فرض الولد في تربيته، أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الولد ولد زنا، لا يلحقه نسبه عند الأئمة الأربعة، ولكن لابد أن ينفق عليه المسلمون، فإنه يتيم من اليتامى، ونفقة اليتامى على المسلمين مؤكدة‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رَحمه اللّه عن رجل متزوج بامرأة، ولها ولد من غيره، وله فرض على أبيه تتناوله أمه، والزوج يقوم بالصبي بكلفته ومؤنته مدة سنين، وحين تزوج الرجل كان من الصداق خمسة دنانير حالة، فشارطته على أنها لا تطالبه بها إذا كان ينفق على الولد مادام الصبي عنده، ولم تعين له كلفة، ولا نفقة‏:‏ فهل له مطالبة أم الصبي بكلفة مدة مقامه عنده‏؟‏

    ج/ 34 ص -101-فأجاب‏:‏
    إذا كان الأمر على ما ذكر ولم يوف امرأته بما شرطت له فليس له أن يطالب بما أنفقه على الصبي إذا كان الإنفاق بمعروف، فإنه ليس متبرعا بذلك، سواء أنفق بإذن أمه، أم لا‏.‏
    وسئل رَحمه اللّه تعالى عن امرأة تطعم من بيت زوجها، بحكم أنها تتعب فيه‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، تطعم بالمعروف‏:‏ مثل الخبز، والطبيخ، والفاكهة، ونحو ذلك مما جرت العادة بإطعامه‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رَحمه اللّه عن رجل عجز عن الكسب، ولا له شيء، وله زوجة وأولاد، فهل يجوز لولده الموسر أن ينفق عليه، وعلى زوجته، وإخوته الصغار‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله رب العالمين، نعم على الولد الموسر أن ينفق على أبيه وزوجة أبيه، وعلى إخوته الصغار، وإن لم يفعل ذلك كان عاقاً لأبيه، قاطعاً لرحمه مستحقا لعقوبة الله تعالى في الدنيا والآخرة‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 34 ص -102-وسئل رَحمه اللّه عن رجل له ولد، وطلب منه ما يمونه‏.‏
    فأجاب‏:‏
    إذا كان موسرا وأبوه محتاجا فعليه أن يعطيه تمام كفايته وكذلك إخوته إذا كانوا عاجزين عن الكسب، فعليه أن ينفق عليهم إذا كان قادرا على ذلك، ولأبيه أن يأخذ من ماله ما يحتاجه بغير إذن الابن، وليس للابن منعه‏.‏
    وسئل رَحمه اللّه عن رجل له ولد، وله مال، والوالد فقير وله عائلة وزوجة غير والدة الولد الكبير، فهل يجب على ولده نفقة والده، ونفقة إخوته وزوجته، أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا كان الأب عاجزاً عن النفقة، والابن قادرا على الإنفاق عليهم، فعليه الإنفاق عليهم‏.‏

    ج/ 34 ص -103-وسئل رَحمه اللّه تعالى عن رجل عاجز عن نفقة بنته، وكان غائبا وهي عند أمها، وجدتها تنفق عليها، مع أنها موسرة، وليس عليه فرض‏:‏ فهل لها أن ترجع بالنفقة المدة التي كان عاجزا عن النفقة فيها‏؟‏ وهل القول قوله في إعساره إذا لم يعرف له مال، أو قول المدعي‏؟‏ وإذا كان مقيما في بلد فيها خيره، ويريد أخذ بنته معه، وهو يسافر سفر نقلة‏:‏ فيستحق السفر بها، أو تكون الحضانة لأمها‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما المدة التي كان عاجزا عن النفقة فيها فلا نفقة عليه، ولا رجوع لمن أنفق فيها بغير إذنه بغير نزاع بين العلماء، وإنما النزاع فيما إذا أنفق منفق بدون إذنه مع وجوب النفقة على الأب، فقيل‏:‏ يرجع بما أنفق غير متبرع كما هو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد في قول‏.‏ ولا يجوز حبسه على هذه النفقة، ولا على الرجوع بها حتى يثبت الوجوب بيساره‏.‏ فإذا اختلفا في اليسار ولم يعرف له مال، فالقول قوله مع يمينه‏.‏
    وإذا كان مقيما في غير بلد الأم فالحضانة له، لا للأم، وإن كانت الأم أحق بالحضانة في البلد الواحد‏.‏ وهذا أيضاً مذهب الأئمة الأربعة‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 34 ص -104-وسئل رَحمه اللّه تعالى عن رجل له مطلقة، وله منها ولد، وقد بلغ من العمر سبع سنين، وهم يريدون فرضه، وقد تزوجت أمه، وكفلته جدته، ووجهت كفيله وسافروا به إلى الأسكندرية، وغيبوه مدة سبع سنين، وطلب منه فرض السنين الماضية‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا حكم له حاكم لم يكن لأمه أن تغيبه عنه، وإذا غيبته عنه والحالة هذه لم يكن لها أن تطالبه بالنفقة المفروضة، ولا بما أنفقوه عليه في هذه الحالة‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رَحمه اللّه عن رجل عليه وقف من جده ثم على ولده، وهو يتناول أجرته، وله ملك زاد أجرة كثيرة وغيرها، والكل معطل، وله ولد معسر، وله أهل وأولاد، فطلب ابنه بعض الأماكن ليدوليه فلم يجبه، فهل

    ج/ 34 ص -105- يجوز له ذلك‏؟‏ وهل يجب على الأب أن يؤجرهم وينفق على ولده، أو تجب عليه النفقة مع غني الوالد وإعسار الولد‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    نعم، عليه نفقة ولده بالمعروف إذا كان الولد فقيراً عاجزاً عن الكسب والوالد موسراً، وإذا لم يمكن الإنفاق على الولد إلا بإجارة ما هو متعطل في عقاره، وبعمارة ما يمكن عمارته منه، أو يمكن الولد من أن يؤجر ويعمر ما ينفق منه على نفسه، فعلى الوالد ذلك، بل من كان له عقار لا يعمره ولا يؤجره فهو سفيه مبذر لماله، فينبغي أن يحجر عليه الحاكم لمصلحة نفسه، لئلا يضيع ماله‏.‏ فأما إذا كان له ولد يتعين ذلك لأجل مصلحته، ومصلحة ولده‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وَقال رَحمه اللّه تعالى‏:‏
    فصل
    قال الله تعالى‏:‏ ‏
    "‏وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏، فلفظ ‏"‏الْمَوْلُودِ لَهُ‏"‏ أجود من لفظ الوالد لوجوه‏:‏ أنه يعم الوالد وسيد العبد، وأنه يبين أن الولد لأبيه لا لأمه، فيفيد هذا أن الولد لأبيه، كما نقوله نحن من‏:‏ أن الأب يستبيح مال ولده ومنافعه، وأنه يبين جهة الوجوب عليه، وهو كون الولد له، لا للأم‏.‏ وأن الأم هي التي ولدته حقيقة دون الأب، فهذه أربعة أوجه؛ ولهذا يقال‏:‏ ولد لفلان مولود، ولد لي ولد‏.‏

    ج/ 34 ص -106-وهذه الآية توجب رزق المرتضع على أبيه، لقوله‏:‏ ‏"‏وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عليهنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏"‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏، فأوجب نفقته حملا ورضيعا بواسطة الإنفاق على الحامل والمرضع، فإنه لا يمكن رزقه بدون رزق حامله ومرضعه، فسئلت‏:‏ فأين نفقة الولد على أبيه بعد فطامه‏؟‏ فقلت‏:‏ دل عليه النص تنبيها، فإنه إذا كان في حال اختفائه وارتضاعه أوجب نفقة من تحمله وترضعه، إذ لا يمكن الإنفاق عليه إلا بذلك، فالإنفاق عليه بعد فصاله إذا كان يباشر الارتزاق بنفسه أولى وأحري، وهذا من حسن الاستدلال‏.‏
    فقد تضمن الخطاب التنبيه بأن الحكم في المسكوت أولى منه في المنطوق، وتضمن تعليل الحكم بكون النفقة إنما وجبت على الأب لأنه هو الذي له الولد دون الأم، ومن كان الشيء له كانت نفقته عليه؛ ولهذا سمي الولد كسبا في قوله‏:‏
    ‏"‏وَمَا كَسَبَ‏"‏[‏المسد‏:‏ 2‏]‏، وفي قوله‏:‏ ‏"‏إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه‏"‏‏.‏
    وسئل رَحمه اللّه عن رجل له جارية تائبة، وتصلي وتصوم‏:‏ أي شيء يلزم سيدها إذا لم يجامعها‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا كانت محتاجة إلى النكاح فليعفها‏:‏ إما بأن يطأها، وإما بأن يزوجها لمن يطؤها، ولا يجوز أن يطأها إلا زوج أو سيدها‏.‏

    ج/ 34 ص -107-وسئل رحمه الله .
    عن الصدقة على المحتاجين من الأهل وغيرهم ؟
    فأجاب: إن كان مال الإنسان لايتسع للأقارب والأباعد فإن نفقة القريب واجبة عليه، فلا يعطي البعيد ما يضر بالقريب . وأما الزكاة والكفارة فيجوز أن يعطي منها القريب الذي لا ينفق عليه . والقريب أولى إذا استوت الحالة .


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML