ج/ 34 ص -19-باب العدَد
وسئل رَحمه الله عن امرأة طلقها زوجها في الثامن والعشرين من ربيع الأول، وأن دم الحيض جاءها مرة، ثم تزوجت بعد ذلك في الثالث والعشرين من جمادي الآخر من السنة. وادعت أنها حاضت ثلاث حيض، ولم تكن حاضت إلا مرة، فلما علم الزوج طلقها طلقة واحدة ثانيا في العشر من شعبان من السنة، ثم أرادت أن تزوج بالمطلق الثاني، وادعت أنها آيسة، فهل يقبل قولها، وهل يجوز تزويجها؟
فأجاب:
الإياس لا يثبت بقول المرأة، لكن هذه إذا قالت إنه ارتفع لا تدري ما رفعه فإنها تؤجل سنة، فإن لم تحض فيها زوجت. وإذا طعنت في سن الإياس فلا تحتاج إلى تأجيل. وإن علم أن حيضها ارتفع بمرض أو رضاع كانت في عدة حتى يزول العارض.
فهذه المرأة كان عليها عدتان: عدة للأول، وعدة من وطئ الثاني. ونكاحه فاسد لا يحتاج إلى طلاق، فإذا لم تحض إلا مرة واستمر انقطاع الدم،
ج/ 34 ص -20-فإنها تعتد العدتين بالشهور ستة أشهر بعد فراق الثاني إذا كانت آيسة. وإذا كانت مستريبة كان سنة وثلاثة أشهر. وهذا على قول من يقول: إن العدتين لا تتداخلان كمالك، والشافعي، وأحمد وعند أبي حنيفة تتداخل العدتان من رجلين، لكن عنده الإياس حد بالسن وهذا الذي ذكرناه هو أحسن قولي الفقهاء وأسهلهما، وبه قضي عمر وغيره. وأما على القول الآخر فهذه المستريبة تبقي في عدة حتى تطعن في سن الإياس، فتبقي على قولهم تمام خمسين أو ستين سنة لا تتزوج. ولكن في هذا عسر وحرج في الدين وتضييع مصالح المسلمين.
وسئل رَحمه الله عن رجل تزوج امرأة ولها عنده أربع سنين لم تحض، وذكرت أن لها أربع سنين قبل زواجها لم تحض، فحصل من زوجها الطلاق الثلاث، فكيف يكون تزويجها بالزوج الآخر؟ وكيف تكون العدة وعمرها خمسون سنة؟
فأجاب:
الحمد لله، هذه تعتد عدة الآيسات ثلاثة أشهر في أظهر قولي العلماء؛ فإنها قد عرفت أن حيضها قد انقطع، وقد عرفت أنه قد انقطع انقطاعا مستمراً، بخلاف المستريبة التي لا تدري ما رفع حيضها: هل هو ارتفاع
ج/ 34 ص -21-أياس، أو ارتفاع لعارض ثم يعود كالمرض، والرضاع؟ فهذه [ثلاثة أنواع].
فما ارتفع لعارض، كالمرض، والرضاع، فإنها تنتظر زوال العارض بلا ريب. ومتى ارتفع لا تدري ما رفعه، فمذهب مالك وأحمد في المنصوص عنه، وقول للشافعي: أنها تعتد عدة الآيسات بعد أن تمكث مدة الحمل، كما قضي بذلك عمر. ومذهب أبي حنيفة والشافعي في الجديد أنها تمكث حتى تطعن في سن الإياس، فتعتد عدة الآيسات. وفي هذا ضرر عظيم عليها؛ فإنها تمكث عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة لا تتزوج. ومثل هذا الحرج مرفوع عن الأمة، وإنما "وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ" [الطلاق: 4]، فإنهن يعتددن ثلاثة أشهر بنص القرآن، وإجماع الأمة.
لكن العلماء مختلفون: هل للإياس سن لا يكون الدم بعده إلا دم إياس؟ وهل ذلك السن خمسون، أو ستون، أو فيه تفصيل؟ ومتنازعون: هل يعلم الإياس بدون السن؟
وهذه المرأة قد طعنت في سن الإياس على أحد القولين، وهو الخمسون، ولها مدة طويلة لم تحض، وقد ذكرت أنها شربت ما يقطع الدم، والدم يأتي بدواء، فهذه لا ترجو عود الدم إليها، فهي من الآيسات تعتد عدة الآيسات، والله أعلم.
ج/ 34 ص -22-وسئل رَحمه الله عن امرأة فسخ الحاكم نكاحها عقب الولادة، لما ثبت عنده من تضررها بانقطاع نفقة زوجها، وعدم تصرفه الشرعي عليها المدة التي يسوغ فيها فسخ النكاح لمثلها. وبعد ثلاثة شهور من فسخ النكاح رغب فيها من يتزوجها: فهل يجوز أن تعتد بالشهور، إذ أكثر النساء لا يحضن مع الرضاعة أو يستمر بها الضرر إلى حيث ينقضي الرضاع ويعود إليها حيضها، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، بل تبقي في العدة حتى تحيض ثلاث حيض، وإن تأخر ذلك إلى انقضاء مدة الرضاع، وهذا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وبذلك قضي عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب بين المهاجرين والأنصار، ولم يخالفهما أحد. فإن أحبت المرأة أن تسترضع لابنها من يرضعه لتحيض، أو تشرب ما تحيض به، فلها ذلك. والله أعلم.
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة كانت تحيض وهي بكر، فلما تزوجت ولدت ستة أولاد ولم تحض بعد ذلك، ووقعت الفرقة من زوجها وهي مرضع، وأقامت عند أهلها
ج/ 34 ص -23-نصف سنة ولم تحض، وجاء رجل يتزوجها غير الزوج الأول، فحضروا عند قاض من القضاة، فسألها عن الحيض، فقالت: لي مدة سنين ما حضت. فقال القاضي: ما يحل لك عندي زواج، فزوجها حاكم آخر ولم يسألها عن الحيض، فبلغ خبرها إلى قاض آخر، فاستحضر الزوج والزوجة، فضرب الرجل مائة جلدة، وقال: زنيت، وطلق عليه، ولم يذكر الزوج الطلاق، فهل يقع به طلاق؟
فأجاب:
إن كان قد ارتفع حيضها بمرض أو رضاع فإنها تتربص حتى يزول العارض وتحيض باتفاق العلماء، وإن كان ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه فهذه في أصح قولي العلماء على ما قال عمر: تمكث سنة، ثم تزوج، وهو مذهب أحمد المعروف في مذهبه، وقول للشافعي: وإن كانت في القسم الأول فنكاحها باطل، والذي فرق بينهما أصاب في ذلك، وأصاب في تأديب من فعل ذلك. وإن كانت من القسم الثاني قد زوجها حاكم لم يكن لغيره من الحكام أن يفرق بينهما، ولم يقع بها طلاق، فإن فعل الحاكم لمثل ذلك يجوز في أصح الوجهين.
وسئل رَحمه الله تعالى عن مرضع استبطأت الحيض، فتداوت لمجيء الحيض، فحاضت ثلاث حيض وكانت مطلقة: فهل تنقضي عدتها، أم لا؟
ج/ 34 ص -24-فأجاب:
نعم إذا أتي الحيض المعروف لذلك اعتدت به، كما أنها لو شربت دواء قطع الحيض أو باعد بينه، كان ذلك طهراً. وكما لو جاعت أو تعبت، أو أتت غير ذلك من الأسباب التي تسخن طبعها وتثير الدم فحاضت بذلك. والله أعلم.
وسئل رَحمه الله عن امرأة شابة لم تبلغ سن الإياس، وكانت عادتها أن تحيض فشربت دواء، فانقطع عنها الدم واستمر انقطاعه، ثم طلقها زوجها وهي على هذه الحالة: فهل تكون عدتها من حين الطلاق بالشهور، أو تتربص حتى تبلغ سن الآيسات؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إن كانت تعلم أن الدم يأتي فيما بعد فعدتها ثلاثة أشهر. وإن كان يمكن أن يعود الدم ويمكن ألا يعود فإنها تتربص بعد سنة ثم تتزوج، كما قضي به عمر ابن الخطاب في المرأة يرتفع حيضها لا تدري ما رفعه، فإنها تتربص سنة، وهذا مذهب الجمهور، كمالك والشافعي. ومن قال: إنها تدخل في سن الآيسات، فهذا قول ضعيف جداً، مع ما فيه من الضرر الذي لا تأتي الشريعة بمثله، أو تمنع من النكاح وقت حاجتها إليه، ويؤذن لها فيه حين لا تحتاح إليه.
ج/ 34 ص -25-وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل مرض مرضا متصلا بموته، وله زوجة، فأمرها أن تخرج من داخل الدار إلى خارجها، فتوقفت عن الخروج، فقال لها: أنت طالق، فخرجت وحجبت وجهها عنه، فطلبها فدخلت عليه محتجبة فسألها عن احتجابها لما هو؟ فأخبرته بما أوقع من الطلاق، فأنكر، وقال: ما حلفت، ولا طلقت، ومات بعد أيام: فهل يلزمها الطلاق أم عدة الوفاة؟
فأجاب:
عليها عدة الوفاة مع عدة الطلاق، ولها الميراث. هذا إن كان عقله حاضراً حين تكلم بالطلاق، وإن كان عقله غائبا لم يلزمها إلا عدة الوفاة. والله أعلم.
ج/ 34 ص -26-وسئل رَحمه الله عن رجل تزوج امرأة من مدة ثلاث سنين، ورزق منها ولداً له من العمر سنتان، وذكرت أنها لما تزوجت لم تحض إلا حيضتين، وصدقها الزوج، وكان قد طلقها ثانيا على هذا العقد المذكور: فهل يجوز الطلاق على هذا العقد المفسوخ؟
فأجاب:
إن صدقها الزوج في كونها تزوجت قبل الحيضة الثالثة فالنكاح باطل، وعليه أن يفارقها. وعليها أن تكمل عدة الأول، ثم تعتد من وطء الثاني. فإن كانت حاضت الثالثة قبل أن يطأها الثاني فقد انقضت عدة الأول، ثم إذا فارقها الثاني اعتدت له ثلاث حيض، ثم تزوج من شاءت بنكاح جديد. وولده ولد حلال يلحقه نسبه، وإن كان قد ولد بوطء في عقد فاسد لا يعلم فساده.
ج/ 34 ص -27-وقال شيخ الإسلام رَحمه الله:
فصل
المعتدة عدة الوفاة تتربص أربعة أشهر وعشرا وتجتنب الزينة والطيب في بدنها وثيابها، ولا تتزين، ولا تتطيب، ولا تلبس ثياب الزينة، وتلزم منزلها فلا تخرج بالنهار إلا لحاجة، ولا بالليل إلا لضرورة، ويجوز لها أن تأكل كل ما أباحه الله كالفاكهة واللحم لحم الذكر والأنثي ولها أكل ذلك باتفاق علماء المسلمين، وكذلك شرب ما يباح من الأشربة ويجوز لها أن تلبس ثياب القطن والكتان وغير ذلك مما أباحه الله، وليس عليها أن تصنع ثيابا بيضاء أو غير بيض للعدة، بل يجوز لها لبس المقفص، لكن لا تلبس ما تتزين به المرأة: مثل الأحمر، والأصفر، والأخضر الصافي، والأزرق الصافي، ونحو ذلك، ولا تلبس الحلي مثل الإسورة والخلاخل، والقلايد، ولا تختضب بحناء ولا غيره، ولا يحرم عليها عمل شغل من الأشغال المباحة، مثل التطريز، والخياطة، والغزل، وغير ذلك مما تفعله النساء.
ج/ 34 ص -28-ويجوز لها سائر ما يباح لها في غير العدة: مثل كلام من تحتاج إلى كلامه من الرجال إذا كانت مستترة، وغير ذلك. وهذا الذي ذكرته هو سنة رسول الله ﷺ الذي كان يفعله نساء الصحابة إذا مات أزواجهن ونساؤه ﷺ ولا يحل لهن أن يتزوجن بغيره أبداً لا في العدة ولا بعدها، بخلاف غيرهن، وعلى المسلمين احترامهن كما يحترم الرجل أمه، لكن لا يجوز لغير محرم يخلو بواحدة منهن، ولا يسافر بها. والله أعلم.
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة معتدة عدة وفاة، ولم تعتد في بيتها بل تخرج في ضرورتها الشرعية: فهل يجب عليها إعادة العدة؟ وهل تأثم بذلك؟
فأجاب:
العدة انقضت بمضي أربعة أشهر وعشرا من حين الموت، ولا تقضي العدة. فإن كانت خرجت لأمر يحتاج إليه ولم تبت إلا في منزلها فلا شيء عليها. وإن كانت قد خرجت لغير حاجة وباتت في غير منزلها لغير حاجة، أو باتت في غير ضرورة أو تركت الإحداد، فلتستغفر الله وتتوب إليه من ذلك، ولا إعادة عليها.
ج/ 34 ص -29-وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل توفي وقعدت زوجته في عدته أربعين يوما، فما قدرت تخالف مرسوم السلطان، ثم سافرت وحضرت إلى القاهرة، ولم تتزين لا بطيب، ولا غيره: فهل تجوز خطبتها، أم لا؟
فأجاب:
العدة تنقضي بعد أربعة أشهر وعشرة أيام، فإن كان قد بقي من هذه شيء فلتتمه في بيتها، ولا تخرج ليلا ولا نهارا إلا لأمر ضروري، وتجتنب الزينة، والطيب في بدنها وثيابها. ولتأكل ما شاءت من حلال، وتشم الفاكهة، وتجتمع بمن يجوز لها الاجتماع به في غير العدة، لكن إن خطبها إنسان لا تجيبه صريحا. والله أعلم.
وسئل رَحمه الله تعالى عن امرأة عزمت على الحج هي وزوجها، فمات زوجها في شعبان: فهل يجوز لها أن تحج؟
فأجاب:
ليس لها أن تسافر في العدة عن الوفاة إلى الحج في مذهب الأئمة الأربعة.