-10- باب ما يلحق من النَّسَبِ
وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل تزوج بنتا بكراً، بالغاً، ودخل بها، فوجدها بكرا، ثم إنها ولدت ولدا بعد مضي ستة أشهر بعد دخوله بها: فهل يلحق به الولد أم لا؟ وأن الزوج حلف بالطلاق منها أن الولد ولده من صلبه: فهل يقع به الطلاق أم لا؟ والولد ابن سوي كامل الخلقة، وعمر سنين. أفتونا مأجورين.
فأجاب رضي الله عنه:
الحمد لله، إذا ولدت لأكثر من ستة أشهر حين دخل بها ولو بلحظة لحقه الولد باتفاق الأئمة. ومثل هذه القصة وقعت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه واستدل الصحابة على إمكان كون الولد لستة أشهر بقوله تعالى: "وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا" [الأحقاف: 15]، مع قوله: "وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ" [البقرة: 233]، فإذا كان مدة الرضاع من الثلاثين حولين يكون الحمل ستة أشهر، فجمع في الآية أقل الحمل وتمام الرضاع ولو لم يستلحقه، فكيف إذا استلحقه وأقر به؟ ! بل لو استلحق مجهول النسب، وقال: إنه ابني لحقه باتفاق المسلمين، إذا كان ذلك ممكنا، ولم يدع أحد أنه ابنه، كان بارا في يمينه، ولا حنث عليه. والله أعلم.
ج/ 34 ص -11-وسئل رَحمه الله تعالى عن رجل اشترى جارية بكرا، وباشرها، وهي لا تخرج ولا تدخل، وهي حامل منه، فأخرجها إلى السوق، وينكر ويحلف أنه ما هو ولده.
فأجاب:
إذا اعترف أنه وطئها مثل أن يكون قد أقر بذلك فإن الولد يلحقه، ويجعل هذا الحمل منه إذا وضعت لمدة الإمكان، وليس له أن يبيع الحمل، ولا أمه؛ لكن إذا ادعي الاستبراء ففي قبول قوله وتحليفه نزاع بين العلماء. والله أعلم.
وسئل رَحمه الله عن رجل تزوج امرأة وأقامت في صحبته خمسة عشر يوما، ثم طلقها الطلاق البائن، وتزوجت بعده بزوج آخر بعد إخبارها بانقضاء العدة من الأول، ثم طلقها الزوج الثاني بعد مدة ست سنين، وجاءت بابنة، وادعت أنها من الزوج الأول: فهل يصح دعواها. ويلزم الزوج الأول، ولم يثبت أنها ولدت البنت، وهذا الزوج والمرأة مقيمان ببلد واحد، وليس لها مانع من دعوي النساء، ولا طالبته بنفقة ولا فرض.
ج/ 34 ص -12-فأجاب:
الحمد لله، لا يلحق هذا الولد الذي هو البنت بمجرد دعواها والحالة هذه باتفاق الأئمة. بل لو ادعت أنها ولدته في حال يلحق به نسبه إذا ولدته وكانت مطلقة وأنكر هو أن تكون ولدته لم تقبل في دعوي الولادة بلا نزاع، حتى تقيم بذلك بينة. ويكفي امرأة واحدة عند أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، وعند مالك وأحمد في الرواية الأخرى لابد من امرأتين. وأما الشافعي فيحتاج عنده إلى أربع نسوة، ويكفي يمينه أنه لا يعلم أنها ولدته.
وأما إن كانت الزوجية قائمة ففيها قولان في مذهب أحمد: أحدهما: لا يقبل قولها، كمذهب الشافعي. والثاني: يقبل، كمذهب مالك. وأما إذا انقضت عدتها ومضي لها أكثر الحمل. ثم ادعت وجود حمل من الزوج الأول المطلق، فهذه لا يقبل قولها بلا نزاع، بل لو أخبرت بانقضاء عدتها ثم أتت بولد لستة أشهر فصاعدا ولدون مدة الحمل، فهل يلحقه؟ على قولين مشهورين لأهل العلم. ومذهب أبي حنيفة وأحمد أنه يلحق، وهذا اختيار ابن سريج من أصحاب الشافعي، لكن المشهور من مذهب الشافعي ومالك أنه لا يلحقه.
وهذا النزاع إذا لم تتزوج، فأما إذا تزوجت بعد إخبارها بانقضاء عدتها، ثم أتت بولد لأكثر من ستة أشهر، فإن هذا لا يلحق نسبه بالأول قولا واحدا. فإذا عرفت مذهب الأئمة في هذين الأصلين فكيف يلحقه نسبه
ج/ 34 ص -13-بدعواها بعد ست سنين. ولو قالت: ولدته ذلك الزمن قبل أن يطلقني لم يقبل قولها أيضا، بل القول مع يمينه أنها لم تلدها على فراشه.
ولو قالت هي: وضعت هذا الحمل قبل أن أتزوج بالثاني، وأنكر الزوج الأول ذلك، فالقول قوله أيضا أنها لم تضعها قبل تزوجها بالثاني، لا سيما مع تأخر دعواها إلى أن تزوجت الثاني، فإن هذا مما يدل على كذبها في دعواها، لا سيما على أصل مالك في تأخر الدعوي الممكنة بغير عذر في هذه المسائل ونحوها.
وسئل رَحمه الله تعالى عمن طلق امرأته ثلاثا، وأفتاه مفت بأنه لم يقع الطلاق، فقلده الزوج ووطئ زوجته بعد ذلك، وأتت منه بولد، فقيل: إنه ولد زنا.
فأجاب:
من قال ذلك فهو في غاية الجهل والضلالة، والمشاقة لله ورسوله؛ فإن المسلمين متفقون على أن كل نكاح اعتقد الزوج أنه نكاح سائغ إذا وطئ فيه فإنه يلحقه فيه ولده ويتوارثان باتفاق المسلمين، وإن كان ذلك النكاح باطلا في نفس الأمر باتفاق المسلمين، سواء كان الناكح كافرا أو مسلماً. وإليهودي إذا تزوج بنت أخيه كان ولده منه يلحقه نسبه ويرثه باتفاق المسلمين وإذا كان ذلك النكاح باطلا باتفاق المسلمين،
ج/ 34 ص -14-ومن استحله كان كافراً تجب استتابته. وكذلك المسلم الجاهل لو تزوج امرأة في عدتها كما يفعل جهال الأعراب ووطأها يعتقدها زوجة كان ولده منها يلحقه نسبه ويرثه باتفاق المسلمين. ومثل هذا كثير.
فإن ثبوت النسب لا يفتقر إلى صحة النكاح في نفس الأمر، بل الولد للفراش، كما قال النبي ﷺ: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" فمن طلق امرأته ثلاثا ووطأها يعتقد أنه لم يقع به الطلاق: إما لجهله، وإما لفتوي مفت مخطئ قلده الزوج، وإما لغير ذلك فإنه يلحقه النسب، ويتوارثان بالاتفاق، بل ولا تحسب العدة إلا من حين ترك وطأها، فإنه كان يطؤها يعتقد أنها زوجته، فهي فراش له فلا تعتد منه حتى تترك الفراش.
ومن نكح امرأة نكاحاً فاسداً متفقا على فساده، أو مختلفا في فساده أو ملكها ملكا فاسدا متفقا على فساده، أو مختلفا في فساده، أو وطأها يعتقدها زوجته الحرة، أو أمته المملوكة فإن ولده منها يلحقه نسبه، ويتوارثان باتفاق المسلمين. والولد أيضا يكون حرا، وإن كانت الموطوءة مملوكة للغير في نفس الأمر ووطئت بدون إذن سيدها، لكن لما كان الواطئ مغرورا بها زوج بها وقيل: هي حرة، أو بيعت فاشتراها يعتقدها ملكا للبائع، فإنما وطئ من
ج/ 34 ص -15-يعتقدها زوجته الحرة، أو أمته المملوكة، فولده منها حر لاعتقاده. وإن كان اعتقاده مخطئا، وبهذا قضي الخلفاء الراشدون، واتفق عليه أئمة المسلمين.
فهؤلاء الذين وطئوا وجاءهم أولاد لو كانوا قد وطئوا في نكاح فاسد متفق على فساده، وكان الطلاق وقع بهم باتفاق المسلمين، وهم وطئوا يعتقدون أن النكاح باق، لإفتاء من أفتاهم، أو لغير ذلك، كان نسب الأولاد بهم لاحقا، ولم يكونوا أولاد زنا، بل يتوارثون باتفاق المسلمين. هذا في المجمع على فساده فكيف في المختلف في فساده؟ وإن كان القول الذي وطئ به قولا ضعيفا، كمن وطئ في نكاح المتعة أو نكاح المرأة نفسها بلا ولي ولا شهود، فإن هذا إذا وطئ فيه يعتقده نكاحا لحقه فيه النسب، فكيف بنكاح مختلف فيه، وقد ظهرت حجة القول بصحته بالكتاب والسنة والقياس، وظهر ضعف القول الذي يناقضه، وعجز أهله عن نصرته بعد البحث التام؛ لانتفاء الحجة الشرعية؟!
فمن قال: إن هذا النكاح أو مثله يكون فيه الولد ولد زنا لا يتوارثان هو وأبوه الوطيء مخالف لإجماع المسلمين. منسلخ من رتبة الدين، فإن كان جاهلا عرف وبين له أن رسول الله ﷺ وخلفاءه الراشدين وسائر أئمة الدين ألحقوا أولاد أهل الجاهلية بآبائهم وإن كانت محرمة بالإجماع، ولم يشترطوا في لحوق النسب أن يكون النكاح جائزا في شرع المسلمين، فإن أصر على مشاقة الرسول من
ج/ 34 ص -16-بعد ما تبين له الهدي، واتبع غير سبيل المؤمنين، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل. فقد ظهر أن من أنكر الفتيا بأنه لا يقع الطلاق وادعي الإجماع على وقوعه، وقال: إن الولد ولد زنا، هو المخالف لإجماع المسلمين، مخالف لكتاب الله وسنة رسول الله رب العالمين، وإن المفتي بذلك أو القاضي بذلك فعل ما لا يسوغ له بإجماع المسلمين، وليس لأحد المنع من الفتيا بقوله، ولا القضاء بذلك، ولا الحكم بالمنع من ذلك باتفاق المسلمين، والأحكام باطلة بإجماع المسلمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
وسئل رَحمه الله عن رجل ادعت عليه مطلقته بعد ست سنين ببنت، وبعد أن تزوجت بزوج آخر، فألزمه بعض الحكام باليمين، فقال الرجل: أحلف أن هذه ما هي بنتي. فقال الحاكم: ما تحلف إلا أنها ما هي بنتها، فامتنع أن يحلف إلا أنها ما هي بنتي، وكان معه إنسان فقال للحاكم: هذا ما يحل له أن يحلف أنها ما هي بنت هذه المرأة، فضربه الحاكم بالدرة، وأحرق به، فحلف الرجل، فكتب عليه فرض البنت، فهل يصح هذا الفرض؟
ج/ 34 ص -17-فأجاب:
الحمد لله، عليه اليمين أنها لم تلدها في العدة، أو أنها لم تلدها على فراشه، أو أنها لم تلدها في بيته، بحيث أمكن لحوق النسب به. فأما إذا تزوجت بغيره وأمكن أنها ولدتها من الثاني فليس عليه اليمين أنها لم تلدها. وإذا حلفت أنها لم تلدها قبل نكاح الثاني آخراً. وإذا أكره على الإقرار لم يصح إقراره.
وسئل رَحمه الله عن رجل تزوج بامرأة ولم يدخل بها ولا أصابها، فولدت بعد شهرين: فهل يصح النكاح، وهل يلزمه الصداق، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، لا يلحق به الولد باتفاق المسلمين، وكذلك لا يستقر عليه المهر باتفاق المسلمين، لكن للعلماء في العقد قولان: أصحهما أن العقد باطل، كمذهب مالك، وأحمد، وغيرهما. وحينئذ فيجب التفريق بينهما، ولا مهر عليه، ولا نصف مهر، ولا متعة، كسائر العقود الفاسدة إذا حصلت الفرقة فيها قبل الدخول، لكن ينبغي أن يفرق بينهما حاكم يري فساد العقد لقطع النزاع. والقول الثاني: أن العقد صحيح ثم لا يحل له الوطء حتى تضع، كقول أبي حنيفة، وقيل: يجوز له الوطء قبل الوضع، كقول الشافعي،
ج/ 34 ص -18-فعلى هذين القولين إذا طلقها قبل الدخول فعليه نصف المهر، لكن هذا النزاع إذا كانت حاملا من وطء شبهة أو سيد أو زوج، فإن النكاح باطل باتفاق المسلمين، ولا مهر عليه إذا فارق قبل الدخول. وأما الحامل من الزنا فلا كلام في صحة نكاحها. والنزاع فيما إذا كان نكاحها طائعا، وأما إذا نكحها مكرها فالنكاح باطل في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما.