ج/ 33 ص -238-باب تعليق الطلاق بالشروط
سئل شيخ الإسلام رحمه اللّه عن رجل حلف بالطلاق، ثم استثنى هنيهة بقدر ما يمكن فيه الكلام؟
فأجاب:
لا يقع فيه الطلاق، ولا كفارة عليه والحال هذه. ولو قيل له: قل: إن شاء اللّه ينفعه ذلك أيضًا، ولو لم يخطر له الاستثناء إلا لما قيل له. واللّه أعلم.
وسئل رحمه اللّه عن رجل حنق من زوجته فقال: أنت طالق ثلاثًا. قالت له زوجته: قل: الساعة قال: الساعة، ونوى الاستثناء؟
ج/ 33 ص -239-فأجاب:
إن كان اعتقاده أنه إذا قال: الطلاق يلزمني إن شاء اللّه أنه لا يقع به الطلاق، ومقصوده تخويفها بهذا الكلام، لا إيقاع الطلاق، لم يقع الطلاق. فإن كان قد قال في هذه الساعة: إن شاء اللّه فإن مذهب أبي حنيفة والشافعي أن الطلاق المعلق بالمشيئة لا يقع، ومذهب مالك وأحمد يقع، كما روي عن ابن عباس، لكن هذا لما كان مقصوده واعتقاده أنه لا يقع صار الكلام عنده كلاما لا يقع به طلاق، فلم يقصد التكلم بالطلاق. وإذا قصد المتكلم بكلام لا يعتقد أنه يقع به الطلاق، مثل ما لو تكلم العجمي بلفظ وهو لا يفهم معناه لم يقع، وطلاق الهازل وقع؛ لأن قصد المتكلم الطلاق وإن لم يقصد إيقاعه. وهذا لم يقصد لا هذا، ولا هذا وهو يشبه ما لو رأى امرأة فقال: أنت طالق يظنها أجنبية فبانت امرأته، فإنه لا يقع به طلاق على الصحيح. واللّه أعلم.
ج/ 33 ص -240-وسئل رحمه اللّه عن رجل اعتقد مسألة [الدور] المسندة لابن سريج، ثم حلف بالطلاق على شيء لا يفعله ثم فعله، ثم رجع عن المسألة وراجع زوجته، ثم بعد ذلك حلف على شيء بالطلاق الثلاث ألا يفعله، ثم بعد ذلك قال لزوجته: أنت طالق: فهل يقع عليه الطلاق الثلاث؟ أم يستعمل المسألة الأولى المشار إليها؟
فأجاب:
المسألة السريجية باطلة في الإسلام، محدثة، لم يفت بها أحد من الصحابة والتابعين ولا تابعيهم، وإنما ذكرها طائفة من الفقهاء بعد المائة الثالثة، وأنكر ذلك عليهم جمهور فقهاء المسلمين. وهو الصواب؛ فإن ما قاله أولئك يظهر فساده من وجوه.
منها أنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن اللّه أباح الطلاق كما أباح النكاح، وأن دين المسلمين مخالف لدين النصارى الذين لا يبيحون الطلاق، فلو كان في دين المسلمين ما يمتنع معه الطلاق لصار دين المسلمين مثل دين النصارى.
ج/ 33 ص -241-وشبهة هؤلاء أنهم قالوا: إذا قال لامرأته: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا، ثم طلقها بعد ذلك طلاقا منجزا، لزم أن يقع المعلق، ولو وقع المعلق يقع المنجز، فكان وقوعه يستلزم عدم وقوعه، فلا يقع، وهذا خطأ، فإن قولهم: لو وقع المنجز لوقع المعلق: إنما يصح لو كان التعليق صحيحا، فأما إذا كان التعليق باطلاً لا يلزم وقوع التعليق، والتعليق باطل؛ لأن مضمونه وقوع طلقة مسبوقة بثلاث، ووقوع طلقة مسبوقة بثلاث باطل في دين المسلمين.
ومضمونه أيضا إذا وقع عليك طلاقي لم يقع عليك طلاقي. وهذا جمع بين النقيضين، فإنه إذا لم يقع الشرط لم يقع الجزاء. وإذا وقع الشرط لزم الوقوع. فلو قيل: لا يقع مع ذلك، لزم أن يقع ولا يقع، وهذا جمع بين النقيضين.
وأيضا، فالطلاق إذا وقع لم يرتفع بعد وقوعه، فلما كان كلام المطلق يتضمن محالاً في الشريعة وهو وقوع طلقة مسبوقة بثلاث ومحالاً في العقل، وهو الجمع بين وقوع الطلاق وعدم وقوعه، كان القائل بالتسريج مخالفا للعقل والدين، لكن إذا اعتقد الحالف صحة هذا اليمين باجتهاد أو تقليد، وطلق بعد ذلك معتقدا أنه لا يقع به الطلاق، لم يقع به الطلاق؛ لأنه لم يقصد التكلم بما يعتقده طلاقا، فصار كما لو تكلم العجمي بلفظ الطلاق وهو لا يفهمه، بل وكذلك لو خاطب من يظنها أجنبية بالطلاق فتبين أنها امرأته، فإنه لا يقع به على الصحيح. ولو تبين له فساد التسريج بعد ذلك، وأنه يقع المنجز
ج/ 33 ص -242-لم يكن ظهور الحق له فيما بعد موجباً لوقوع الطلاق عليه. وكذلك إن احتاط فراجع امرأته خوفاً أن يكون الطلاق وقع به، أو معتقداً وقوع الطلاق به، لم يقع. ولو أقر بعدما تبين له فساد التسريج أن الطلاق وقع لم يقع بهذا الإقرار شيء، ولو اعتقد وقوع الطلاق فراجع امرأته، ثم فعل المحلوف عليه معتقداً أنه قد حنث فيه مرة فلا يحنث فيه مرة ثانية، لم يقع به، فهذا الفعل شيء واليمين التي حلف بها أنه لا يفعل ذلك الشيء باقية، فإن كان سبب اليمين باقيًا فهي باقية، وإن زال سبب اليمين فله فعل المحلوف عليه؛ بناء على ذلك، ولم يحنث. وكذلك لو تزوجها ثم فعل المحلوف عليه معتقدًا أن البينونة حصلت وانقطع حكم اليمين الأولى لم يحنث؛ لاعتقاده زوال اليمين، كما لا يحنث الجاهل بأن ما فعله هو المحلوف عليه في أصح قولي العلماء.
وأما قوله لزوجته بعد ذلك: أنت طالق، فإنه تقع هذه الطلقة، وإذا اعتقد أنه بهذه الطلقة قد كملت ثلاثا، وأقر أنه طلقها ثلاثا، لم يقع بهذا الاعتقاد شيء، ولا بهذا الإقرار.
وسئل رحمه اللّه ما قولكم في العمل بالسريجية وهو أن يقول الرجل لامرأته: إذا طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثا، وهذه المسألة تسمي مسألة ابن سريج؟
ج/ 33 ص -243-الجواب:
هذه المسألة لم يفت بها أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، لا من الصحابة، ولا التابعين، ولا أئمة المذاهب المتبوعين كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد ولا أصحابهم الذين أدركوهم كأبي يوسف، ومحمد، والمزني، والبويطي، وابن القاسم، وابن وهب، وإبراهيم الحربي، وأبي بكر الأثرم، وأبي داود، وغيرهم لم يفت أحد منهم بهذه المسألة، وإنما أفتى بها طائفة من الفقهاء بعد هؤلاء، وأنكر ذلك عليهم جمهور الأمة كأصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد، وكثير من أصحاب الشافعي، وكان الغزالي يقول بها ثم رجع عنها وبين فسادها.
وقد علم من دين المسلمين أن نكاح المسلمين لا يكون كنكاح النصارى. والدور الذي توهموه فيها باطل؛ فإنهم ظنوا أنه إذا وقع المنجز وقع المعلق وهو إنما يقع لو كان التعليق صحيحا، والتعليق باطل؛ لأنه اشتمل على محال في الشريعة، وهو وقوع طلقة مسبوقة بثلاث؛ فإن ذلك محال في الشريعة، والتسريج يتضمن لهذا المحال في الشريعة، فيكون باطلا. وإذا كان قد حلف بالطلاق معتقداً أنه لا يحنث، ثم تبين له فيما بعد أنه لا يجوز، فليمسك امرأته، ولا طلاق عليه فيما مضى، ويتوب في المستقبل.
والحاصل أنه لو قال الرجل لامرأته: إن طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثا. فطلقها، وقع المنجز على الراجح، ولا يقع معه المعلق؛ لأنه لو وقع المعلق وهو الطلاق الثلاث لم يقع المنجز لأنه زائد على عدد الطلاق، وإذا لم يقع المنجز لم
ج/ 33 ص -244-يقع المعلق. وقيل: لا يقع شيء؛ لأن وقوع المنجز يقتضي وقوع المعلق، ووقوع المعلق يقتضي عدم وقوع المنجز، وهذا القيل لا يجوز تقليده. وابن سريج بريء مما نسب إليه فيها، قاله الشيخ عز الدين.
وسئل رحمه اللّه:
هل تصح مسألة ابن سريج، أم لا؟ فإن قلنا: لا تصح فمن قلده فيها، وعمل فيها، فلما علم بطلانها استغفر اللّه من ذلك؟
فأجاب:
الحمد للّه رب العالمين، هذه المسألة محدثة في الإسلام، ولم يفت بها أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أحد من الأئمة الأربعة، وإنما أفتى بها طائفة من المتأخرين، وأنكر ذلك عليهم جماعة علماء المسلمين. ومن قلد فيها شخصا ثم تاب فقد عفا اللّه عما سلف، ولا يفارق امرأته وإن كان قد تزوج بها إذا كان متأولا. واللّه أعلم.
وسئل رحمه اللّه تعالى عن رجل تزوج بامرأة وجاءه منها ولد، وأوصاه الشهود أو غيرهم: أنه إذا دخل على زوجته أن يقول لها: إذا طلقتك فأنت طالق قبل طلاقك ثلاثًا: فهل يجوز ذلك العقد، أم لا؟
ج/ 33 ص -245-فأجاب:
الحمد للّه، النكاح صحيح لا يحتاج إلى استئناف والتسريج الذي لا يتكلم به لا يفسد النكاح باتفاق العلماء، لكنه إن طلقها بعد ذلك وقع به الطلاق عند جماهير أهل العلم: من أصحاب مالك، وأحمد، وأبي حنيفة وكثير من أصحاب الشافعي، أو أكثرهم.
وسئل رحمه اللّه تعالى عن رجل له زوجة طلبت منه الطلاق، وطلقها، وقال: ما بقيت أعود إليها أبداً، فوجده صاحبه، فقال: ما أصدقك على هذا إلا إن قلت: كلما تزوجت هذه كانت طالقا على مذهب مالك، ولم يري الأحكام الشرعية: فهل له أن يردها؟
فأجاب:
الحمد للّه، أما إن قصد كلما تزوجتها برجعة أو عقد جديد وهو ظاهر كلامه فمتى ارتجعها قبل انقضاء العدة طلقت ثانية، ثم إن ارتجعها طلقت ثالثة، وإن تركها حتى تنقضي عدتها بانت منه، فإذا تزوجها بعد ذلك، فمن قال: إن تعليق الطلاق بالنكاح يقع في مثل هذا كأبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية قال: إن هذه إذا تزوجها يقع بها الطلاق. وأما من لم يقل بذلك كالشافعي وأحمد في المشهور عنه فهذه لما علق طلاقها كانت رجعية، والرجعية كالزوجة في مثل هذا، لكن تخلل البينونة: هل يقطع
ج/ 33 ص -246-حكم الصفة؟ ظاهر مذهب أحمد أنه لا يقطع. وقد نص على الفرق في تعليق الطلاق على النكاح بين أن يكون في عدة أو لا يكون، فعلى مذهبه يقع الطلاق بها إذا تزوجها، وهو أحد قولي الشافعي. وعلى قوله الآخر الذي يقول فيه: إن البينونة تقطع حكم الصفة، وهو رواية عن أحمد؛ فإن قوله إذا تزوجها، كقوله إذا دخلت الدار. وإذا بانت انحلت هذه اليمين، فيجوز له أن يتزوجها ولا يقع به طلاق، وهو الذي يرجحه كثير من أصحاب الشافعي.
وأما قوله على مذهب مالك؛ فإنه التزام منه لمذهب بعينه، وذلك لا يلزم؛ بل له أن يقلد مذهب الشافعي. وإن كان الطلاق بائنا بعوض والتعليق بعد هذا في العدة وغيره تعليق بأجنبية، فلا يقع به شيء إذا تزوجها في مذهب الشافعي.
وسئل رحمه اللّه تعالى عن رجل شافعي المذهب بانت منه زوجته بالطلاق الثلاث، ثم تزوجت بعده وبانت من الزوج الثاني، ثم أرادت صلح زوجها الأول؛ لأن لها منه أولاداً فقال لها: إنني لست قادراً على النفقة، وعاجز عن الكسوة، فأبت ذلك، فقال لها: كلما حللت لي حرمت على: فهل تحرم عليه، وهل يجوز ذلك؟
ج/ 33 ص -247-فأجاب:
الحمد للّه، لا تحرم عليه بذلك؛ لكن فيها قولان: أحدهما: أن له أن يتزوجها، ولا شيء عليه. والثاني: عليه كفارة إما كفارة ظهار في قول، وإما كفارة يمين في قول آخر. وكذلك مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما أن له أن يتزوجها ولا يقع به طلاق، لكن في التكفير نزاع. وإنما يقول بوقوع الطلاق بمثل هذه من يجوز تعليق الطلاق على النكاح كأبي حنيفة ومالك بشرط أن يرى الحرام طلاقا كقول مالك، وإذا نواه كقول أبي حنيفة. وأما الشافعي وأحمد فعندهما لو قال: كلما تزوجتك فأنت طالق لم يقع به طلاق، فكيف في الحرام، لكن أحمد يجوز عليه في المشهور عنه تصحيح الظهار قبل الملك، بخلاف الشافعي. واللّه أعلم.
آخر المجلد الثالث والثلاثين