أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

باب طلاق السنة وطلاق البدعة

    ج/ 33 ص -5-"الفقه"
    شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
    كتاب الطلاق
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده‏.‏
    قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه‏:‏
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله نستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ تسليمًا كثيرًا‏.‏
    باب طلاق السنة وطلاق البدعة
    فصل

    مختصر فيما ‏[‏يحل من الطلاق ويحرم‏]‏ وهل يلزم المحرم‏؟‏ أو لا يلزم‏؟‏
    فنقول‏:‏ الطلاق منه ما هو محرم بالكتاب والسنة والإجماع، ومنه ما ليس بمحرم‏.‏ فالطلاق المباح باتفاق العلماء ‏:‏ هو أن يطلق الرجل

    ج/ 33 ص -6- امرأته طلقة واحدة، إذا طهرت من حيضتها، بعد أن تغتسل وقبل أن يطأها، ثم يدعها فلا يطلقها حتى تنقضي عدتها‏.‏ وهذا الطلاق يسمى ‏[‏طلاق السنة‏]‏‏.‏ فإن أراد أن يرتجعها في العدة فله ذلك بدون رضاها ولا رضا وليها، ولا مهر جديد‏.‏ وإن تركها حتى تقضي العدة، فعليه أن يسرحها بإحسان، فقد بانت منه‏.‏
    فإن أراد أن يتزوجها بعد انقضاء العدة جاز له ذلك، لكن يكون بعقد؛ كما لو تزوجها إبتداءً أو تزوجها غيره ثم ارتجعها في العدة، أو تزوجها بعد العدة وأراد أن يطلقها؛ فإنه يطلقها كما تقدم‏.‏ ثم إذا ارتجعها، أو تزوجها مرة ثانية، وأراد أن يطلقها، فإنه يطلقها كما تقدم، فإذا طلقها الطلقة الثالثة حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره، كما حرم الله ذلك ورسوله، وحينئذ فلا تباح له إلا بعد أن يتزوجها غيره، النكاح المعروف الذي يفعله الناس إذا كان الرجل راغبًا في نكاح المرأة ثم يفارقها‏.‏
    فأما إن تزوجها بقصد أن يحلها لغيره، فإنه محرم عند أكثر العلماء، كما نقل عن الصحابة و التابعين لهم بإحسان، وغيرهم، وكما دلت على ذلك النصوص النبوية، والأدلة الشرعية‏.‏ ومن العلماء من رخص في ذلك، كما قد بين ذلك في غير هذا الموضع‏.‏

    ج/ 33 ص -7- وإن كانت المرأة مما لا تحيض لصغرها أو كبرها؛ فإنه يطلقها متى شاء، سواء كان وطئها أو لم يكن يطؤها؛ فإن هذه عدتها ثلاثة أشهر‏.‏ ففي أي وقت طلقها لعدتها، فإنها لا تعتد بقروء، ولا بحمل، لكن من العلماء من يسمى هذا ‏[‏طلاق سنة‏]‏، ومنهم من لا يسمه ‏[‏طلاق سنة‏]‏ ولا ‏[‏بدعة‏]‏
    وإن طلقها في الحيض، أو طلقها بعد أن وطئها وقبل أن يتبين حملها‏:‏ فهذا الطلاق محرم، ويسمى ‏[‏طلاق البدعة‏]‏ وهو حرام بالكتاب والسنة والإجماع‏.‏ وإن كان قد تبين حملها، وأراد أن يطلقها فله أن يطلقها‏.‏ وهل يسمى هذا طلاق سنة‏؟‏ أو لا يسمى طلاق سنة، ولا بدعة‏؟‏ فيه نزاع لفظي‏.‏
    وهذا ‏[‏الطلاق المحرم‏]‏ في الحيض، وبعد الوطء وقبل تبين الحمل هل يقع‏؟‏ أو لا يقع‏؟‏ سواء كانت واحدة أو ثلاثًا‏؟‏ فيه قولان معروفان للسلف والخلف‏.‏
    وإن طلقها ثلاثًا في طهر واحد بكلمة واحدة أو كلمات؛ مثل أن يقول‏:‏ أنت طالق ثلاثًا، أو أنت طالق وطالق وطالق، أو أنت طالق، ثم طالق، ثم طالق‏.‏ أو يقول‏:‏ أنت طالق، ثم يقول‏:‏ أنت طالق، ثم يقول‏:‏ أنت طالق‏.‏ أو يقول‏:‏ أنت طالق ثلاثًا، أو عشر طلقات أو مائة طلقة، أو

    ج/ 33 ص -8- ألف طلقة، ونحو ذلك من العبارات، فهذا للعلماء من السلف والخلف فيه ثلاثة أقوال، سواء كانت مدخولاً بها أو غير مدخول بها‏.‏ ومن السلف من فرق بين المدخول بها وغير المدخول بها‏.‏ وفيه قول رابع محدث مبتدع‏:‏
    أحدها‏:‏ أنه طلاق مباح لازم، وهو قول الشافعي، وأحمد في الرواية القديمة عنه‏.‏ اختارها الخرقي‏.‏
    الثاني‏:‏ أنه طلاق محرم لازم وهو قول مالك‏.‏ وأبي حنيفة، وأحمد في الرواية المتأخرة عنه‏.‏ اختارها أكثر أصحابه، وهذا القول منقول عن كثير من السلف‏:‏ من الصحابة، والتابعين‏.‏ والذي قبله منقول عن بعضهم‏.‏
    الثالث‏:‏ أنه محرم، ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة، وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله ﷺ مثل الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، ويروي عن على وابن مسعود وابن عباس القولان، وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم؛ مثل طاووس وخلاس بن عمرو ومحمد بن إسحاق، وهو قول داود وأكثر أصحابه، ويروي ذلك عن أبي جعفر محمد بن على بن الحسين وابنه جعفر بن محمد؛ ولهذا ذهب إلى ذلك من ذهب من الشيعة، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد بن حنبل‏.‏

    ج/ 33 ص -9- وأما القول الرابع الذي قاله بعض المعتزلة والشيعة، فلا يعرف عن أحد من السلف، وهو‏:‏ أنه لا يلزمه شيء‏.‏
    والقول الثالث هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة؛ فإن كل طلاق شرعه الله في القرآن في المدخول بها إنما هو الطلاق الرجعي، لم يشرع الله لأحد أن يطلق الثلاث جميعًا، ولم يشرع له أن يطلق المدخول بها طلاقًا بائنًا، ولكن إذا طلقها قبل الدخول بها بانت منه، فإذا انقضت عدتها بانت منه‏.‏
    فالطلاق ثلاثة أنواع باتفاق المسلمين‏:‏
    الطلاق الرجعي‏:‏ وهو الذي يمكنه أن يرتجعها فيه بغير اختيارها، وإذا مات أحدهما في العدة ورثه الآخر‏.‏
    والطلاق البائن‏:‏ وهو ما يبقي به خاطبًا من الخطاب، لا تباح له إلا بعقد جديد‏.‏
    والطلاق المحرم لها‏:‏ لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، وهو فيما إذا طلقها ثلاث تطليقات، كما أذن الله ورسوله، وهو‏:‏ أن يطلقها ثم يرتجعها في العدة‏.‏ أو يتزوجها ثم يطلقها ثم يرتجعها‏.‏ أو يتزوجها ثم يطلقها الطلقة الثالثة‏.‏ فهذا الطلاق المحرم لها حتى تنكح زوجًا غيره باتفاق العلماء‏.‏ وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله في المدخول بها طلاق بائن يحسب من الثلاث‏.‏
    ولهذا كان مذهب فقهاء الحديث؛ كالإمام أحمد في ظاهر مذهبه، والشافعي في أحد قوليه، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وابن المنذر،

    ج/ 33 ص -10- وداود، وابن خزيمة وغيرهم‏:‏ أن ‏[‏الخلع‏]‏ فسخ للنكاح، وفرقة بائنة بين الزوجين، لا يحسب من الثلاث‏.‏ وهذا هو الثابت عن الصحابة؛ كابن عباس‏.‏ وكذلك ثبت عن عثمان بن عفان، وابن عباس وغيرهما‏:‏ أن المختلعة ليس عليها أن تعتد بثلاثة قروء، وإنما عليها أن تعتد بحيضة، وهو قول إسحاق بن راهويه؛ وابن المنذر وغيرهما، وهو إحدى الروايتين عن أحمد‏.‏ وروي في ذلك أحاديث معروفة في السنن عن النبي ﷺ يصدق بعضها بعضاً، وبين أن ذلك ثابت عن النبي ﷺ، وقال‏:‏ روي عن طائفة من الصحابة أنهم جعلوا الخلع طلاقًا، لكن ضعفه أئمة الحديث؛ كالإمام أحمد بن حنبل، وابن خزيمة، وابن المنذر، والبيهقي، وغيرهم‏.‏ كما روي في ذلك عنهم‏.‏ و‏[‏الخلع‏]‏ أن تبذل المرأة عوضًا لزوجها؛ ليفارقها، قال الله تعالى‏:‏ ‏"وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَاليوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عليهنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عليهنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عليهمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عليهمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عليكُمْ وَمَا أَنزَلَ عليكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عليمٌ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 228231‏]‏،

    ج/ 33 ص -11-فبين سبحانه أن المطلقات بعد الدخول يتربصن أي‏:‏ ينتظرن ثلاث قروء‏.‏ و ‏[‏القرء‏]‏ عند أكثر الصحابة؛ كعثمان، وعلى، وابن مسعود، وأبي موسي، وغيرهم‏:‏ الحيض‏.‏ فلا تزال في العدة حتى تنقضي الحيضة الثالثة، وهذا مذهب أبي حنيفة، وأحمد في أشهر الروايتين عنه‏.‏ وذهب ابن عمر وعائشة وغيرهما أن العدة تنقضي بطعنها في الحيضة الثالثة، وهي مذهب مالك، والشافعي‏.‏
    وأما المطلقة قبل الدخول، فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏
    "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا‏"‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏"وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، أي‏:‏ في ذلك التربص، ثم قال‏:‏ ‏"الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏، فبين أن الطلاق الذي ذكره هو الطلاق الرجعي الذي يكون فيه أحق بردها‏:‏ هو"مَرَّتَانِ‏"‏ مرة بعد مرة، كما إذا قيل للرجل‏:‏ سبح مرتين، أو سبح ثلاث مرات، أو مائة مرة‏.‏ فلابد أن يقول‏:‏ سبحان الله، سبحان الله، حتى يستوفي العدد‏.‏ فلو أراد أن يجمل

    ج/ 33 ص -12-ذلك فيقول‏:‏ سبحان الله مرتين، أو مائة مرة‏.‏ لم يكن قد سبح إلا مرة واحدة‏.‏ والله تعالى لم يقل‏:‏ الطلاق طلقتان، بل قال‏:‏ ‏"مَرَّتَانِ‏"‏ فإذا قال لامرأته‏:‏ أنت طالق اثنتين، أو ثلاثًا، أو عشرًا، أو ألفًا، لم يكن قد طلقها إلا مرة واحدة، وقول النبي ﷺ لأم المؤمنين جويرية‏:‏ ‏"‏لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلته منذ اليوم لوزنتهن‏:‏ سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضي نفسه، سبحان الله مداد كلماته‏"‏ أخرجه مسلم في صحيحه‏.‏ فمعناه‏:‏ أنه سبحانه يستحق التسبيح بعدد ذلك، كقوله ﷺ‏:‏ ‏"‏ربنا ولك الحمد، مِلْء السموات، وَمِلْء الأرض، وَمِلْء ما بينهما، وَمِلْء ما شئت من شيء بعد‏"‏، ليس المراد أنه سبح تسبيحًا بقدر ذلك‏.‏ فالمقدار تارة يكون وصفًا لفعل العبد، وفعله محصور، وتارة يكون لما يستحقه الرب، فذاك الذي يعظم قدره، وإلا فلو قال المصلي في صلاته‏:‏ سبحان الله عدد خلقه، لم يكن قد سبح إلا مرة واحدة‏.‏ ولما شرع النبي ﷺ أن يسبح دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، ويحمد ثلاثًا وثلاثين، ويكبر ثلاثًا وثلاثين‏.‏ فلو قال‏:‏ سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، عدد خلقه، لم يكن قد سبح إلا مرة واحدة‏.‏
    ولا نعرف أن أحدًا طلق على عهد النبي ﷺ امرأته ثلاثًا بكلمة واحدة فألزمه النبي ﷺ بالثلاث، ولا روي في ذلك حديث صحيح ولا حسن، ولا نقل أهل الكتب المعتد عليها في ذلك شيئاً،

    ج/ 33 ص -13-بل رويت في ذلك أحاديث كلها ضعيفة باتفاق علماء الحديث، بل موضوعة، بل الذي في صحيح مسلم وغيره من السنن والمسانيد عن طاوس عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كان الطلاق على عهد رسول الله ﷺ، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر‏:‏ طلاق الثلاث واحدة‏.‏ فقال عمر‏:‏ إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم‏.‏ وفي رواية لمسلم وغيره عن طاوس‏:‏ أن أبا الصهباء قال لابن عباس‏:‏ أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وثلاثاً من إمارة عمر‏؟‏ فقال ابن عباس‏:‏ نعم، وفي رواية‏:‏ أن أبا الصهباء قال لابن عباس‏:‏ هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر واحدة‏؟‏ قال‏:‏ قد كان ذلك، فلما كان في زمن عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم‏.‏
    وروى الإمام أحمد في مسنده‏:‏ حدثنا سعيد بن إبراهيم، حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولي ابن عباس، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، قال‏:‏ فسأله رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏كيف طلقتها‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ طلقتها ثلاثًا‏.‏ قال‏:‏ فقال‏:‏ ‏"‏في مجلس واحد‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فإنما تلك واحدة، فأرجعها إن شئت‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فرجعها‏.‏ فكان ابن عباس يري أن الطلاق عند كل طهر‏.‏ وقد أخرجه أبو عبد الله المقدسي في كتابه ‏[‏المختارة‏]‏ الذي هو أصح من ‏[‏صحيح الحاكم‏]‏‏.‏ وهكذا روى أبو داود وغيره من حديث‏.‏ ‏.‏ ‏.‏

    ج/ 33 ص -14-وقول النبي ﷺ‏:‏ ‏[‏في مجلس واحد‏]‏ مفهومه‏:‏ أنه لو لم يكن في مجلس واحد لم يكن الأمر كذلك؛ وذلك لأنها لو كانت في مجالس لأمكن في العادة أن يكون قد ارتجعها؛ فإنها عنده، والطلاق بعد الرجعة يقع‏.‏ والمفهوم لا عموم له في جانب المسكوت عنه، بل قد يكون فيه تفصيل، كقوله‏:‏ ‏"‏إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث‏"‏ أو ‏"‏لم ينجسه شيء‏"‏، وهو إذا بلغ قلتين فقد يحمل الخبث، وقد لا يحمله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏في الإبل السائمة الزكاة‏"‏ وهي إذا لم تكن سائمة قد يكون فيها الزكاة زكاة التجارة وقد لا يكون فيها، وكذلك قوله‏:‏ ‏"‏من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبة‏"‏ ومن لم يقمها فقد يغفر له بسبب آخر‏.‏ وكقوله‏:‏ ‏"‏من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه‏"‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 218‏]‏، ومن لم يكن كذلك فقد يعمل عملاً آخر يرجو به رحمة الله مع الإيمان، وقد لا يكون كذلك‏.‏ فلو كان في مجالس فقد يكون له فيها رجعة، وقد لا يكون، بخلاف المجلس الواحد الذي جرت عادة صاحبه بأنه لا يراجعها فيه، فإن له فيه الرجعة، كما قال النبي ﷺ، حيث قال‏:‏ ‏"‏ارجعها إن شئت‏"‏ ولم يقل كما قال في حديث ابن عمر‏:‏ ‏"‏مره فليراجعها‏"‏ فأمره بالرجعة، والرجعة يستقل بها الزوج، بخلاف المراجعة‏.‏
    وقد روي أبو داود وغيره أن ركانة طلق امرأته البتة، فقال له النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏الله ما أردت إلا واحدة‏؟‏‏"‏ فقال‏:‏ ما أردت بها إلا واحدة‏.‏

    ج/ 33 ص -15-فردها إليه رسول الله ﷺ‏.‏ وأبو داود لما لم يرو في سننه الحديث الذي أخرجه أحمد في مسنده فقال‏:‏ حديث ‏[‏البتة‏]‏ أصح من حديث ابن جريج‏:‏ أن ركانة طلق امرأته ثلاثًا؛ لأن أهل بيته أعلم، لكن الأئمة الأكابر العارفين بعلل الحديث والفقه فيه؛ كالإمام أحمد بن حنبل، والبخاري، وغيرهما وأبي عبيد، وأبي محمد بن حزم، وغيره، ضعفوا حديث البتة، وبينوا أن رواته قوم مجاهيل؛ لم تعرف عدالتهم وضبطهم‏.‏ وأحمد أثبت حديث الثلاث، وبين أنه الصواب مثل قوله‏:‏ حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته البتة‏.‏
    وقال أيضاً‏:‏ حديث ركانة في البتة ليس بشيء؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ أن ركانة طلق امرأته ثلاثًا‏.‏ وأهل المدينة يسمون من طلق ثلاثًا طلق البتة‏.‏ وأحمد إنما عدل عن حديث ابن عباس؛ لأنه كان يري أن الثلاث جائزة، موافقة للشافعي‏.‏ فأمكن أن يقال‏:‏ حديث ركانة منسوخ‏.‏ ثم لما رجع عن ذلك، وتبين أنه ليس في القرآن والسنة طلاق مباح إلا الرجعي عدل عن حديث ابن عباس؛ لأنه أفتى بخلافه، وهذا علة عنده في إحدى الروايتين عنه، لكن الرواية الأخرى التي عليها أصحابه أنه ليس بعلة، فيلزم أن يكون مذهبه العمل بحديث ابن عباس‏.‏
    وقد بين في غير هذا الموضع أعذار الأئمة المجتهدين رضي الله عنهم الذين ألزموا من أوقع جملة الثلاث بها مثل عمر، رضي الله عنه، فإنه لما رأى الناس قد أكثروا مما حرمه الله عليهم من جمع الثلاث، ولا ينتهون عن ذلك إلا بعقوبة‏:‏

    ج/ 33 ص -16-رأي عقوبتهم بإلزامها؛ لئلا يفعلوها، إما من نوع التعزير العارض الذي يفعل عند الحاجة، كما كان يضرب في الخمر ثمانين، ويحلق الرأس، وينفي، وكما منع النبي ﷺ الثلاثة الذين تخلفوا عن الاجتماع بنسائهم‏.‏ وإما ظنًا أن جعلها واحدة كان مشروطًا بشرط وقد زال، كما ذهب إلى مثل ذلك في متعة الحج، إما مطلقًا، وإما متعة الفسخ‏.‏
    والإلزام بالفرقة لمن لم يقم بالواجب، مما يسوغ فيه الاجتهاد، لكن تارة يكون حقًا للمرأة، كما في العنين والمولي، عند جمهور العلماء، والعاجز عن النفقة عند من يقول به‏.‏ وتارة يقال‏:‏ إنه حق لله، كما في تفريق الحكمين بين الزوجين عند الأكثرين إذا لم يجعلا وكيلين، وكما في وقوع الطلاق بالمولي عند من يقول بذلك من السلف والخلف إذا لم يف في مدة التربص، وكما قال من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره‏:‏ إنهما إذا تطاوعا في الإتيان في الدبر فرق بينهما، والأب الصالح إذا أمر ابنه بالطلاق لما رآه من مصلحة الولد فعليه أن يطيعه، كما قال أحمد وغيره، كما أمر النبي ﷺ عبد الله بن عمر أن يطيع أباه، لما أمره أبوه بطلاق امرأته‏.‏ فالإلزام إما من الشارع، وإما من الإمام بالفرقة إذا لم يقم الزوج بالواجب‏.‏ هو من موارد الاجتهاد‏.‏
    فلما كان الناس إذا لم يلزموا بالثلاث يفعلون المحرم رأي عمر إلزامهم بذلك؛ لأنهم لم يلزموا طاعة الله ورسوله مع بقاء النكاح؛ ولكن كثير من الصحابة

    ج/ 33 ص -17-والتابعين نازعوا من قال ذلك؛ إما لأنهم لم يروا التعزير بمثل ذلك‏.‏ وإما لأن الشارع لم يعاقب بمثل ذلك‏.‏ وهذا فيمن يستحق العقوبة‏.‏ وأما من لا يستحقها بجهل أو تأويل فلا وجه لإلزامه بالثلاث‏.‏ وهذا شرع شرعه النبي ﷺ، كما شرع نظائره لم يخصه؛ ولهذا قال من قال من السلف والخلف‏:‏ إن ما شرعه النبي ﷺ في فسخ الحج إلى العمرة التمتع كما أمر به أصحابه في حجة الوداع هو شرع مطلق، كما أخبر به لما سئل‏:‏ أعمرتنا هذه لعامنا هذا‏؟‏ أم للأبد‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏لا، بل لأبد الأبد، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة‏"‏‏.‏ وإن قول من قال‏:‏ إنما شرع للشيوخ لمعني يختص بهم مثل بيان جواز العمرة في أشهر الحج، قول فاسد؛ لوجوه مبسوطة في غير هذا الموضع‏.‏
    وقد قال تعالى‏:‏ ‏
    "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأولى الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏"‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏، فأمر المؤمنين عند تنازعهم برد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، فما تنازع فيه السلف والخلف وجب رده إلى الكتاب والسنة، وليس في الكتاب والسنة ما يوجب الإلزام بالثلاث بمن أوقعها جملة بكلمة أو كلمات بدون رجعة أو عقدة، بل إنما في الكتاب والسنة الإلزام بذلك من طلق الطلاق الذي أباحه الله ورسوله، وعلى هذا

    ج/ 33 ص -18-يدل القياس والاعتبار بسائر أصول الشرع؛ فإن كل عقد يباح تارة ويحرم تارة كالبيع والنكاح إذا فعل على الوجه المحرم لم يكن لازمًا نافذًا كما يلزم الحلال الذي أباحه الله ورسوله‏.‏
    ولهذا اتفق المسلمون على أن ما حرمه الله من نكاح المحارم ومن النكاح في العدة ونحو ذلك، يقع باطلاً غير لازم، وكذلك ما حرمه الله من بيع المحرمات؛ كالخمر، والخنزير، والميتة‏.‏ وهذا بخلاف ما كان محرم الجنس؛ كالظهار، والقذف، والكذب، وشهادة الزور، ونحو ذلك‏.‏ فإن هذا يستحق من فعله العقوبة بما شرعه الله من الأحكام؛ فإنه لا يكون تارة حلالاً وتارة حرامًا، حتى يكون تارة صحيحًا وتارة فاسدًا‏.‏ وما كان محرمًا من أحد الجانبين مباحاً من الجانب الآخر كافتداء الأسير، واشتراء المجحود عتقه، ورشوة الظالم لدفع ظلمه أو لبذل الحق الواجب، وكاشتراء الإنسان المصراة وما دلس عيبه، وإعطاء المؤلفة قلوبهم ليفعل الواجب أو ليترك المحرم، وكبيع الجالب لمن تلقي منه ونحو ذلك فإن المظلوم يباح له فعله‏.‏ وله أن يفسخ العقد، وله أن يمضيه، بخلاف الظالم فإن ما فعله ليس بلازم‏.‏
    والطلاق هو مما أباحه الله تارة، وحرمه أخري‏.‏ فإذا فعل على الوجه الذي حرمه الله ورسوله لم يكن لازمًا نافذًا كما يلزم ما أحله الله ورسوله، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه

    ج/ 33 ص -19-قال‏:‏ ‏"‏من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد‏"‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏"الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏، فبين أن الطلاق الذي شرعه الله للمدخول بها وهو الطلاق الرجعي ‏"مَرَّتَانِ‏"‏ وبعد المرتين‏:‏ إما ‏"فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏، بأن يراجعها فتبقي زوجته، وتبقي معه على طلقة واحدة، وإما ‏"تّسًرٌيحِ بٌإحًسّانُ‏"‏، بأن يرسلها إذا انقضت العدة، كما قال تعالى‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا‏"‏[‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏، ثم قال بعد ذلك‏:‏ ‏"وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شيء ا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عليهمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏، وهذا هو الخلع، سماه ‏[‏افتداء‏]‏ لأن المرأة تفتدي نفسها من أسر زوجها، كما يفتدي الأسير والعبد نفسه من سيده بما يبذله‏.‏
    قال تعالى‏:‏ ‏
    "فَإِن طَلَّقَهَا‏"‏ يعني‏:‏ الطلقة الثالثة ‏"فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏"‏، ‏"فَإِن طَلَّقَهَا‏"‏ يعني‏:‏ هذا الزوج الثاني ‏"فَلاَ جُنَاحَ عليهمَا‏"‏ يعني‏:‏ عليها وعلى الزوج الأول ‏"أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏، وكذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏"‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 13‏]‏‏.‏

    ج/ 33 ص -20-وفي الصحيح والسنن والمسانيد عن عبد الله بن عمر‏:‏ أنه طلق امرأته وهي حائض‏.‏ فذكر عمر للنبي ﷺ فتغيظ عليه النبي ﷺ، وقال‏:‏ ‏"‏مره فليراجعها حتى تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء بعد أمسكها، وإن شاء طلقها قبل أن يجامعها، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء‏"‏، وفي رواية في الصحيح‏:‏ ‏"‏أنه أمره أن يطلقها طاهرًا أو حاملاً‏"‏، وفي رواية في الصحيح‏:‏ قرأ النبي ﷺ‏:‏ ‏"إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏"‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏
    وعن ابن عباس وغيره من الصحابة‏:‏ الطلاق على أربعة أوجه‏:‏ وجهان حلال، ووجهان حرام‏.‏ فأما اللذان هما حلال فأن يطلق امرأته طاهرًا في غير جماع، أو يطلقها حاملاً قد استبان حملها‏.‏ وأما اللذان هما حرام فأن يطلقها حائضًا، أو يطلقها بعد الجماع لا يدري اشتمل الرحم على ولد أم لا‏.‏ ورواه الدارقطني وغيره‏.‏
    وقد بين النبي ﷺ أنه لا يحل له أن يطلقها إلا إذا طهرت من الحيض قبل أن يجامعها؛ وهذا هو الطلاق للعدة، أي‏:‏ لاستقبال العدة‏.‏ فإن ذلك الطهر أو العدة، فإن طلقها قبل العدة يكون قد طلقها قبل الوقت الذي أذن الله فيه، ويكون قد طول عليها التربص، وطلقها من غير حاجة به إلى

    ج/ 33 ص -21-طلاقها‏.‏ والطلاق في الأصل مما يبغضه الله، وهو أبغض الحلال إلى الله، وإنما أباح منه ما يحتاج إليه الناس كما تباح المحرمات للحاجة؛ فلهذا حرمها بعد الطلقة الثالثة حتى تنكح زوجاً غيره عقوبة له؛ لينتهي الإنسان عن إكثار الطلاق‏.‏ فإذا طلقها لم تزل في العدة متربصة ثلاثة قروء، وهو مالك لها يرثها وترثه، وليس له فائدة في تعجيل الطلاق قبل وقته، كما لا فائدة في مسابقة الإمام؛ ولهذا لا يعتد له بما فعله قبل الإمام، بل تبطل صلاته إذا تعمد ذلك في أحد قولي العلماء، وهو لا يزال معه في الصلاة حتى يسلم‏.‏
    ولهذا جوز أكثر العلماء الخلع في الحيض؛ لأنه على قول فقهاء الحديث ليس بطلاق، بل فرقة بائنة، وهو في أحد قوليهم تستبرأ بحيضة لا عدة عليها، وهذه إحدى الروايتين عند أحمد؛ ولأنها تملك نفسها بالاختلاع فلهما فائدة في تعجيل الإبانة لرفع الشر الذي بينهما، بخلاف الطلاق الرجعي فإنه لا فائدة في تعجيله قبل وقته، بل ذلك شر بلا خير‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه طلاق في وقت لا يرغب فيها، وقد لا يكون محتاجاً إليه، بخلاف الطلاق وقت الرغبة فإنه لا يكون إلا عن حاجة‏.‏
    وقول النبي ﷺ لابن عمر‏:‏ ‏"‏مره فليراجعها‏"‏مما تنازع العلماء فيه في مراد النبي ﷺ‏:‏ ففهم منه طائفة من العلماء‏:‏ أن الطلاق قد لزمه، فأمره أن يرتجعها، ثم يطلقها في الطهر إن شاء‏.‏ وتنازع

    ج/ 33 ص -22-هؤلاء‏:‏ الارتجاع واجب، أو مستحب‏؟‏ وهل له أن يرتجعها في الطهر الأول أو الثاني‏؟‏ وفي حكمة هذا النهي أقوال، ذكرناها وذكرنا مأخذها في غير هذا الموضع‏.‏
    وفهم طائفة أخري‏:‏ أن الطلاق لم يقع، ولكنه لما فارقها ببدنه، كما جرت العادة من الرجل إذا طلق امرأته اعتزلها ببدنه واعتزلته ببدنها، فقال لعمر‏:‏ ‏"‏مره فليراجعها‏"‏، ولم يقل‏:‏ فليرتجعها‏.‏ و ‏"‏المراجعة‏"‏ مفاعلة من الجانبين، أي ترجع إليه ببدنها فيجتمعان كما كانا؛ لأن الطلاق لم يلزمه، فإذا جاء الوقت الذي أباح الله فيه الطلاق طلقها حينئذ إن شاء الله‏.‏
    قال هؤلاء‏:‏ ولو كان الطلاق قد لزم لم يكن في الأمر بالرجعة ليطلقها طلقة ثانية فائدة، بل فيه مضرة عليهما؛ فإن له أن يطلقها بعد الرجعة بالنص والإجماع، وحينئذ يكون في الطلاق مع الأول تكثير الطلاق، وتطويل العدة، وتعذيب الزوجين جميعًا؛ فإن النبي ﷺ لم يوجب عليه أن يطأها قبل الطلاق، بل إذا وطئها لم يحل له أن يطلقها حتى يتبين حملها، أو تطهر الطهر الثاني‏.‏ وقد يكون زاهدًا فيها يكره أن يطأها فتعلق منه، فكيف يجب عليه وطؤها‏؟‏ ‏!‏ ولهذا لم يوجب الوطء أحد من الأئمة الأربعة وأمثالهم من أئمة المسلمين، ولكن أخر الطلاق إلى الطهر الثاني‏.‏ ولولا أنه طلقها أولاً لكان له أن يطلقها في الطهر الأول؛ لأنه لو أبيح له الطلاق في

    ج/ 33 ص -23-الطهر الأول لم يكن في إمساكها فائدة مقصودة بالنكاح إذا كان لا يمسكها إلا لأجل الطلاق؛ فإنه لو أراد أن يطلقها في الطهر الأول لم يحصل إلا زيادة ضرر عليهما، والشارع لا يأمر بذلك، فإذا كان ممتنعًا من طلاقها في الطهر الأول ليكون متمكنًا من الوطء الذي لا يعقبه طلاق؛ فإن لم يطأها، أو وطئها أو حاضت بعد ذلك، فله أن يطلقها؛ ولأنه إذا امتنع من وطئها في ذلك الطهر ثم طلقها في الطهر الثاني، دل على أنه محتاج إلى طلاقها؛ لأنه لا رغبة له فيها، إذ لو كانت له فيها رغبة لجامعها في الطهر الأول‏.‏
    قالوا‏:‏ لأنه لم يأمر ابن عمر بالإشهاد على الرجعة، كما أمر الله ورسوله، ولو كان الطلاق قد وقع وهو يرتجعها لأمر بالإشهاد؛ ولأن الله تعالى لما ذكر الطلاق في غير آية لم يأمر أحداً بالرجعة عقيب الطلاق؛ بل قال‏:‏ ‏
    "فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏"‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏، فخير الزوج إذا قارب انقضاء العدة بين أن يمسكها بمعروف وهو الرجعة وبين أن يسيبها فيخلي سبيلها إذا انقضت العدة، ولا يحبسها بعد انقضاء العدة كما كانت محبوسة عليه في العدة، قال الله تعالى‏:‏ ‏"لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ‏"‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏
    وأيضًا، فلو كان الطلاق المحرم قد لزم لكان حصل الفساد الذي كرهه الله ورسوله، وذلك الفساد لا يرتفع برجعة يباح له الطلاق

    ج/ 33 ص -24-بعدها، والأمر برجعة لا فائدة فيها مما تنزه عنه الله ورسوله؛ فإنه إن كان راغبًا في المرأة فله أن يرتجعها، وإن كان راغبًا عنها فليس له أن يرتجعها، فليس في أمره برجعتها مع لزوم الطلاق له مصلحة شرعية، بل زيادة مفسدة، ويجب تنزيه الرسول ﷺ عن الأمر بما يستلزم زيادة الفساد، والله ورسوله إنما نهي عن الطلاق البدعي لمنع الفساد، فكيف يأمر بما يستلزم زيادة الفساد‏؟‏ ‏!‏
    وقول الطائفة الثانية أشبه بالأصول والنصوص‏:‏ فإن هذا القول متناقض؛ إذ الأصل الذي عليه السلف والفقهاء‏:‏ أن العبادات والعقود المحرمة إذا فعلت على الوجه المحرم لم تكن لازمة صحيحة، وهذا وإن كان نازع فيه طائفة من أهل الكلام فالصواب مع السلف وأئمة الفقهاء؛ لأن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، كانوا يستدلون على فساد العبادات والعقوبة بتحريم الشارع لها، وهذا متواتر عنهم‏.‏
    وأيضًا، فإن لم يكن ذلك دليلاً على فسادها لم يكن عن الشارع ما يبين الصحيح من الفاسد، فإن الذين قالوا‏:‏ النهي لا يقتضي الفساد، قالوا‏:‏ نعلم صحة العبادات والعقود وفسادها بجعل الشارع هذا شرطًا أو مانعًا ونحو ذلك‏.‏ وقوله

    ج/ 33 ص -25-هذا صحيح‏.‏ وليس بصحيح من خطاب الوضع والإخبار، ومعلوم أنه ليس في كلام الله ورسوله‏.‏ وهذه العبارات مثل قوله‏:‏ الطهارة شرط في الصلاة، والكفر مانع من صحة الصلاة، وهذا العقد، وهذه العبادة لا تصح، ونحو ذلك، بل إنما في كلامه الأمر والنهي، والتحليل والتحريم، وفي نفي القبول والصلاح، كقوله‏:‏ ‏"‏لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول‏"‏، وقوله‏:‏ ‏[‏هذا لا يصلح‏]‏ وفي كلامه‏:‏ ‏[‏إن الله يكره كذا‏]‏ وفي كلامه‏:‏ الوعد، ونحو ذلك من العبارات فلم نستفد الصحة والفساد إلا بما ذكره، وهو لا يلزم أن يكون الشارع بين ذلك، وهذا مما يعلم فساده قطعًا‏.‏
    وأيضًا، فالشارع يحرم الشيء لما فيه من المفسدة الخالصة، أو الراجحة، ومقصوده بالتحريم المنع من ذلك الفساد، وجعله معدومًا‏.‏ فلو كان مع التحريم يترتب عليه من الأحكام ما يترتب على الحلال فيجعله لازمًا نافذًا كالحلال لكان ذلك إلزاماً منه بالفساد الذي قصد عدمه‏.‏ فيلزم أن يكون ذلك الفساد قد أراد عدمه مع أنه ألزم الناس به، وهذا تناقض ينزه عنه الشارع ﷺ‏.‏
    وقد قال بعض هؤلاء‏:‏ إنه إنما حرم الطلاق الثلاث لئلا يندم المطلق، دل على لزوم الندم له إذا فعله، وهذا يقتضي صحته‏.‏

    ج/ 33 ص -26-فيقال له‏:‏ هذا يتضمن أن كل ما نهي الله عنه يكون صحيحًا، كالجمع بين المرأة وعمتها؛ لئلا يفضي إلى قطيعة الرحم‏.‏ فيقال‏:‏ إن كان ما قاله هذا صحيحًا هنا دليل على صحة العقد‏:‏ إذ لو كان فاسدًا لم تحصل القطيعة، وهذا جهل، وذلك أن الشارع بين حكمته في منعه مما نهي عنه، وأنه لو أباحه للزم الفساد، فقوله تعالى‏:‏ ‏"لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا‏"‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، وقوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها؛ فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم‏"‏ ونحو ذلك، يبين أن الفعل لو أبيح لحصل به الفساد، فحرم منعًا من هذا الفساد‏.‏ ثم الفساد ينشأ من إباحته ومن فعله‏.‏ إذا اعتقد الفاعل أنه مباح، أو أنه صحيح فأما مع اعتقاد أنه محرم باطل والتزام أمر الله ورسوله فلا تحصل المفسدة، وإنما تحصل المفسدة من مخالفة أمر الله ورسوله، والمفاسد فيها فتنة وعذاب، قال الله تعالى‏:‏ ‏"فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ اليمٌ‏"‏ ‏[‏النور‏:‏ 63‏]
    وقول القائل‏:‏ لو كان الطلاق غير لازم لم يحصل الفساد‏.‏ فيقال‏:‏ هذا هو مقصود الشارع ﷺ، فنهي عنه، وحكم ببطلانه، ليزول الفساد، ولولا ذلك لفعله الناس واعتقدوا صحته فيلزم الفساد‏.‏
    وهذا نظير قول من يقول‏:‏ النهي عن الشيء يدل على أنه مقصود، وأنه شرعي، وأنه يسمى بيعاً، ونكاحًا، وصومًا‏.‏ كما يقولون في نهيه عن نكاح الشغار، ولعنه المحلل والمحلل له، ونهيه عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها،

    ج/ 33 ص -27-ونهيه عن صوم يوم العيدين، ونحو ذلك‏.‏ فيقال‏:‏ أما تصوره حسًا فلا ريب فيه‏.‏ وهذا كنهيه عن نكاح الأمهات والبنات، وعن بيع الخمر والميتة ولحم الخنزير والأصنام، كما في الصحيحين عن جابر أن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام‏"‏ فقيل‏:‏ يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلي بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏لا، هو حرام‏"‏، ثم قال‏:‏ ‏"‏قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها، وأكلوا أثمانها‏"‏، فتسميته لهذا نكاحًا وبيعًا لم يمنع أن يكون فاسدًا باطلاً، بل دل على إمكانه حسًا‏.‏
    وقول القائل‏:‏ إنه شرعي‏.‏ إن أراد أنه يسمى بما أسماه به الشارع، فهذا صحيح‏.‏ وإن أراد أن الله أذن فيه، فهذا خلاف النص، والإجماع‏.‏ وإن أراد أنه رتب عليه حكمه، وجعله يحصل المقصود، ويلزم الناس حكمه، كما في المباح، فهذا باطل بالإجماع في أكثر الصور التي هي من موارد النزاع، ولا يمكنه أن يدعي ذلك في صورة مجمع عليها؛ فإن أكثر ما يحتج به هؤلاء بنهيه ﷺ عن الطلاق في الحيض، ونحو ذلك مما هو من موارد النزاع، فليس معهم صورة قد ثبت فيها مقصودهم؛ لا بنص، ولا إجماع‏.‏ وكذلك ‏[‏المحلل‏]‏ الملعون لعنه؛ لأنه قصد التحليل للأول بعقده، لا لأنه أحلها في نفس الأمر، فإنه لو تزوجها بنكاح رغبة لكان قد أحلها بالإجماع،

    ج/ 33 ص -28-وهذا غير ملعون بالإجماع، فعلم أن اللعنة لمن قصد التحليل، وعلم أن الملعون لم يحللها في نفس الأمر، ودلت اللعنة على تحريم فعله، والمنازع يقول فعله مباح‏.‏
    فتبين أنه لا حجة معهم، بل الصواب مع السلف وأئمة الفقهاء، ومن خرج عن هذا الأصل من العلماء المشهورين في بعض المواضع، فإن لم يكن له جواب صحيح وإلا فقد تناقض، كما تناقض في مواضع غير هذه‏.‏ والأصول التي لا تناقض فيها ما أثبت بنص أو إجماع‏.‏ وما سوي ذلك فالتناقض موجود فيه، وليس هو حجة على أحد‏.‏ والقياس الصحيح الذي لا يتناقض هو موافق للنص والإجماع، بل ولابد أنم يكون النص قد دل على الحكم، كما قد بسط في موضع آخر‏.‏ وهذا معني العصمة؛ فإن كلام المعصوم لا يتناقض، ولا نزاع بين المسلمين أن الرسول ﷺ معصوم فيما بلغه عن الله تعالى، فهو معصوم فيما شرعه للأمة بإجماع المسلمين‏.‏ وكذلك الأمة أيضًا معصومة أن تجتمع على ضلالة، بخلاف ما سوي ذلك؛ ولهذا كان مذهب أئمة الدين أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ؛ فإنه الذي فرض الله على جميع الخلائق الإيمان به وطاعته، وتحليل ما حلله وتحريم ما حرمه، وهو الذي فرق الله به بين المؤمن والكافر، وأهل الجنة وأهل النار، والهدي والضلال والغي والرشاد‏.‏ فالمؤمنون أهل الجنة وأهل الهدي والرشاد، هم متبعون‏.‏ والكفار أهل النار، وأهل الغي، والضلال، هم الذين لم يتبعوه‏.‏

    ج/ 33 ص -29-ومن آمن به باطنًا وظاهرًا، واجتهد في متابعته‏:‏ فهو من المؤمنين السعداء، وإن كان قد أخطأ وغلط في بعض ما جاء به، فلم يبلغه أو لم يفهمه، قال الله تعالى عن المؤمنين‏:‏ ‏"رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أن الله قال‏:‏ ‏"‏قد فعلت‏"‏، وفي السنن عنه ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم؛ فمن أخذ به أخذ بحظ وافر‏"‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏"وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 78، 79‏]‏، فقد خص أحد النبيين الكريمين بالتفهم، مع ثنائه على كل منهما بأنه أوتي علمًا وحكمًا‏.‏
    فهكذا إذا خص الله أحد العالمين بعلم أمر وفهمه، لم يوجب ذلك ذم من لم يحصل له ذلك من العلماء، بل كل من اتقي الله ما استطاع فهو من أولياء الله المتقين، وإن كان قد خفي عليه من الدين ما فهمه غيره، وقد قال واثلة بن الأسقع وبعضهم يرفعه إلى النبي ﷺ‏:‏ ‏
    "‏من طلب علمًا فأدركه فله أجران، ومن طلب علمًا فلم يدركه فله أجر‏"‏‏.‏ وهذا يوافق ما في الصحيح عن عمرو بن العاص، وعن أبي هريرة‏:‏ عن النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر‏"‏‏.‏ وهذه الأصول لبسطها موضع آخر‏.‏
    وإنما المقصود هنا التنبيه على هذا؛ لأن الطلاق المحرم مما يقول فيه كثير من الناس‏:‏ إنه لازم‏.‏ والسلف أئمة الفقهاء والجمهور يسلمون‏:‏ أن النهي يقتضي

    ج/ 33 ص -30-الفساد، ولا يذكرون في الاعتذار عن هذه الصورة فرقًا صحيحًا‏.‏ وهذا مما تسلط به عليهم من نازعوه في أن النهي يقتضي الفساد‏.‏ واحتج بما سلموه له من الصور، وهذه حجة جدلية لا تفيد العلم بصحة قوله، وإنما تفيد أن منازعيه أخطؤوا‏:‏ إما في صور النقص، وإما في محل النزاع‏.‏ وخطؤهم في إحداهما لا يوجب أن يكون الخطأ في محل النزع، بل هذا الأصل أصل عظيم عليه مدار كثير من الأحكام الشرعية، فلا يمكن نقضه بقول بعض العلماء الذين ليس معهم نص ولا إجماع، بل الأصول والنصوص لا توافق، بل تناقض قولهم‏.‏
    ومن تدبر الكتاب والسنة تبين له أن الله لم يشرع الطلاق المحرم جملة قط، وأما الطلاق البائن فإنه شرعه قبل الدخول، وبعد انقضاء العدة‏.‏
    وطائفة من العلماء تقول لمن لم يجعل الثلاث المجموعة إلا واحدة‏:‏ أنتم خالفتم عمر، وقد استقر الأمر على التزام ذلك في زمن عمر، وبعضهم يجعل ذلك إجماعًا، فيقول لهم‏:‏ أنتم خالفتم عمر في الأمر المشهور عنه الذي اتفق عليه الصحابة، بل وفي الأمر الذي معه فيه الكتاب والسنة، فإن منكم من يجوز التحليل‏.‏ وقد ثبت عن عمر أنه قال‏:‏ لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما‏.‏ وقد اتفق الصحابة على النهي عنه، مثل عثمان، وعلى، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وغيره، ولا يعرف عن أحد من الصحابة أنه أعاد المرأة إلى زوجها بنكاح تحليل‏.‏ وعمر وسائر الصحابة معهم الكتاب

    ج/ 33 ص -31-والسنة كلعن النبي ﷺ المحلل و المحلل له، وقد خالفهم من خالفهم في ذلك اجتهادًا، والله يرضى عن جميع علماء المسلمين‏.‏
    وأيضًا، فقد ثبت عن عمر أنه كان يقول في الخلية والبرية ونحو ذلك‏:‏ إنها طلقة رجعية‏.‏ وأكثرهم يخالفون عمر في ذلك‏.‏ وقد ثبت عن عمر أنه خير المفقود إذا رجع فوجد امرأته قد تزوجت، خيره بين امرأته وبين المهر‏.‏ وهذا أيضًا معروف عن غيره من الصحابة، كعثمان، وعلى، وذكره أحمد عن ثمانية من الصحابة، وقال‏:‏ إلى أي شيء يذهب الذي يخالف هؤلاء‏؟‏ ‏!‏ ومع هذا، فأكثرهم يخالفون عمر وسائر الصحابة في ذلك، ومنهم من ينقض حكم من حكم به‏.‏ وعمر والصحابة جعلوا الأرض المفتوحة عنوة، كأرض الشام، ومصر، والعراق، وخراسان، والمغرب، فيء ا للمسلمين، ولم يقسم عمر ولا عثمان أرضًا فتحها عنوة، ولم يستطب عمر أنفس جميع الغانمين في هذه الأرضين، وإن ظن بعض العلماء أنهم استطابوا أنفسهم في السواد، بل طلب منهم بلال والزبير وغيرهما قسمة أرض العنوة فلم يجبهم، ومع هذا فطائفة منهم يخالف عمر والصحابة في مثل هذا الأمر العظيم الذي استقر الأمر عليه من زمنهم، بل ينقض حكم من حكم بحكمهم أيضًا فأبو بكر وعمر وعثمان وعلى لم يخمسوا قط مال فيء ولا خمسه رسول الله ﷺ، ولا جعلوا خمس الغنيمة خمسة أقسام متساوية، ومع هذا، فكثير منهم يخالف ذلك‏.‏ ونظائر هذا متعددة‏.‏

    ج/ 33 ص -32-والأصل الذي اتفق عليه علماء المسلمين، أن ما تنازعوا فيه وجب رده إلى الله والرسول، كما قال تعالى‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأولى الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏"‏ [‏النساء‏:‏ 59‏]‏، ولا يجوز لأحد أن يظن بالصحابة أنهم بعد رسول الله ﷺ أجمعوا على خلاف شريعته، بل هذا من أقوال أهل الإلحاد‏.‏ ولا يجوز دعوي نسخ ما شرعه الرسول بإجماع أحد بعده، كما يظن طائفة من الغالطين، بل كل ما أجمع المسلمون عليه فلا يكون إلا موافقًا لما جاء به الرسول، لا مخالفًا له، بل كل نص منسوخ بإجماع الأمة فمع الأمة النص الناسخ له، تحفظ الأمة النص الناسخ كما تحفظ النص المنسوخ، وحفظ الناسخ أهم عندها وأوجب عليها من حفظ المنسوخ، ويمنع أن يكون عمر والصحابة معه أجمعوا على خلاف نص الرسول ﷺ، ولكن قد يجتهد الواحد وينازعه غيره، وهذا موجود في مسائل كثيرة، هذا منها كما بسط في موضع غير هذا‏.‏
    ولهذا لما رأى عمر رضي الله عنه أن المبتوتة لها السكنى والنفقة فظن أن القرآن يدل عليه نازعه أكثر الصحابة، فمنهم من قال‏:‏ لها السكنى فقط، ومنهم من قال‏:‏ لا نفقة لها ولا سكني‏.‏ وكان من هؤلاء ابن عباس وجابر وفاطمة بنت قيس، وهي التي روت عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏
    "‏ليس لك نفقة ولا سكني‏"‏، فلما احتجوا عليها بحجة عمر، وهي قوله تعالى‏:‏

    ج/ 33 ص -33-" لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ"‏‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، قالت هي وغيرها من الصحابة كابن عباس وجابر وغيرهما هذا في الرجعية لقوله تعالى‏:‏ ‏"لا تَدْرِي لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمْرًا‏"‏، فأي أمر يحدث بعد الثلاث‏؟‏ ‏!‏ وفقهاء الحديث كأحمد بن حنبل في ظاهر مذهبه وغيره من فقهاء الحديث مع فاطمة بنت قيس‏.‏
    وكذلك أيضًا في الطلاق لما قال تعالى‏:‏
    ‏"لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا‏"‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، قال غير واحد من الصحابة والتابعين والعلماء هذا يدل على أن الطلاق الذي ذكره الله هو الطلاق الرجعي؛ فإنه لو شرع إيقاع الثلاث عليه لكان المطلق يندم إذا فعل ذلك، ولا سبيل إلى رجعتها، فيحصل له ضرر بذلك، والله أمر العباد بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم؛ ولهذا قال تعالى أيضًا بعد ذلك‏:‏ ‏"فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏"‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏، وهذا إنما يكون في الطلاق الرجعي، لا يكون في الثلاث، ولا في البائن‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ‏"‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏، فأمر بالإشهاد على الرجعة، والإشهاد عليها مأمور به باتفاق الأمة، قيل‏:‏ أمر إيجاب، وقيل‏:‏ أمر استحباب‏.‏
    وقد ظن بعض الناس أن الإشهاد هو الطلاق، وظن أن الطلاق الذي لا يشهد عليه لا يقع‏.‏ وهذا خلاف الإجماع، وخلاف الكتاب والسنة، ولم يقل أحد من العلماء المشهورين به، فإن الطلاق أذن فيه أولاً، ولم يأمر فيه

    ج/ 33 ص -34-بالإشهاد، وإنما أمر بالإشهاد حين قال‏:‏"فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏"‏، والمراد هنا بالمفارقة تخلية سبيلها إذا قضت العدة، وهذا ليس بطلاق ولا برجعة ولا نكاح‏.‏ والإشهاد في هذا باتفاق المسلمين، فعلم أن الإشهاد إنما هو على الرجعة‏.‏ ومن حكمة ذلك أنه قد يطلقها ويرتجعها، فيزين له الشيطان كتمان ذلك حتي يطلقها بعد ذلك طلاقا محرما، ولا يدري أحد، فتكون معه حراما، فأمر الله أن يشهد على الرجعة ليظهر أنه قد وقعت به طلقة، كما أمر النبي ﷺ من وجد اللقطة أن يشهد عليها؛ لئلا يزين الشيطان كتمان اللقطة، وهذا بخلاف الطلاق فإنه إذا طلقها ولم يراجعها بل خلي سبيلها، فإنه يظهر للناس أنها ليست امرأته، بل هي مطلقة، بخلاف ما إذا بقيت زوجة عنده فإنه لا يدري الناس أطلقها أم لم يطلقها‏.‏
    وأما النكاح فلابد من التمييز بينه وبين السفاح واتخاذ الأخدان، كما أمر الله تعالى؛ ولهذا مضت السنة بإعلانه، فلا يجوز أن يكون كالسفاح مكتوما، لكن‏:‏ هل الواجب مجرد الإشهاد أو مجرد الإعلان وإن لم يكن إشهاد، أو يكفي أيهما كان‏؟‏ هذا فيه نزاع بين العلماء، كما قد ذكر في موضعه‏.‏
    وقال الله تعالى‏:‏
    ‏"وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏"‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2، 3‏]‏، وهذه الآية عامة في كل من يتق الله‏.‏ وسياق الآية يدل على أن التقوي مرادة من هذا النص العام، فمن اتقي الله في الطلاق فطلق كما

    ج/ 33 ص -35-أمر الله تعالى جعل الله له مخرجا مما ضاق على غيره، ومن يتعد حدود الله فيفعل ما حرم الله عليه فقد ظلم نفسه، ومن كان جاهلا بتحريم طلاق البدعة، فلم يعلم أن الطلاق في الحيض محرم، أو أن جمع الثلاث محرم، فهذا إذا عرف التحريم وتاب صار ممن اتقي الله فاستحق أن يجعل الله له مخرجا‏.‏ ومن كان يعلم أن ذلك حرام، وفعل المحرم وهو يعتقد أنها تحرم عليه، ولم يكن عنده إلا من يفتيه بأنها تحرم عليه، فإنه يعاقب عقوبة بقدر ظلمه، كمعاقبة أهل السبت بمنع الحيتان أن تأتيهم، فإنه ممن لم يتق الله فعوقب بالضيق‏.‏ وإن هداه الله فعرفه الحق، وألهمه التوبة، وتاب، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وحينئذ فقد دخل فيمن يتقي الله، فيستحق أن يجعل الله له فرجا ومخرجا، فإن نبينا محمدًا ﷺ نبي الرحمة، ونبي الملحمة‏.‏ فكل من تاب فله فرج في شرعه، بخلاف شرع من قبلنا فإن التائب منهم كان يعاقب بعقوبات كقتل أنفسهم، وغير ذلك؛ ولهذا كان ابن عباس إذا سئل عمن طلق امرأته ثلاثا يقول له‏:‏ لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا‏.‏ وكان تارة يوافق عمر في الإلزام بذلك للمكثرين من فعل البدعة المحرمة عليهم، مع علمهم بأنها محرمة‏.‏ وروي عنه أنه كان تارة لا يلزم إلا واحدة‏.‏ وكان ابن مسعود يغضب على أهل هذه البدعة، ويقول‏:‏ أيها الناس من أتي الأمر على وجهه فقد تبين له؛ وإلا فوالله ما لنا طاقة بكل ما تحدثون‏.‏

    ج/ 33 ص -36-ولم يكن على عهد النبي ﷺ‏:‏ ولا أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا على ‏[‏نكاح تحليل‏]‏ ظاهر تعرفه الشهود والمرأة والأولياء ولم ينقل أحد عن النبي ﷺ ولا خلفائه الراشدين أنهم أعادوا المرأة على زوجها بنكاح تحليل، فإنهم إنما كانوا يطلقون في الغالب طلاق السنة‏.‏
    ولم يكونوا يحلفون بالطلاق؛ ولهذا لم ينقل عن الصحابة نقل خاص في الحلف، وإنما نقل عنهم الكلام في إيقاع الطلاق لا في الحلف به‏.‏ والفرق ظاهر بين الطلاق وبين الحلف به، كما يعرف الفرق بين النذر وبين الحلف بالنذر، فإذا كان الرجل يطلب من الله حاجة فقال‏:‏ إن شفي الله مرضي، أو قضي ديني، أو خلصني من هذه الشدة، فلله على أن اتصدق بألف درهم‏.‏ أو أصوم شهرًا، أو أعتق رقبة، فهذا تعليق نذر يجب عليه الوفاء به بالكتاب والسنة والإجماع‏.‏ وإذا علق النذر على وجه اليمين فقال‏:‏ إن سافرت معكم، إن زوجت فلانا، أن أضرب فلانا‏.‏ إن لم أسافر من عندكم، فعلى الحج‏.‏ أو‏:‏ فمالي صدقة‏.‏ أو‏:‏ فعلى عتق‏.‏ فهذا عند الصحابة وجمهور العلماء هو حالف بالنذر، ليس بناذر، فإذا لم يف بما التزمه أجزأه كفارة يمين، وكذلك أفتى الصحابة فيمن قال‏:‏ إن فعلت كذا فكل مملوك لي حر‏.‏ أنه يمين يجزيه فيها كفارة اليمين، وكذلك قال كثير من التابعين في هذا كله لما أحدث الحجاج بن يوسف تحليف الناس بأيمان البيعة وهو التحليف بالطلاق، والعتاق، والتحليف باسم الله، وصدقة المال‏.‏ وقيل‏:‏ كان فيها التحليف بالحج

    ج/ 33 ص -37-تكلم حينئذ التابعون ومن بعدهم في هذه الأيمان، وتكلموا في بعضها على ذلك‏.‏ فمنهم من قال‏:‏ إذا حنث بها لزمه ما التزمه‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ لا يلزمه إلا الطلاق، والعتاق‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ بل هذا جنس أيمان أهل الشرك، لا يلزم بها شيء‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ بل هي من أيمان المسلمين يلزم فيها ما يلزم في سائر أيمان المسلمين‏.‏ واتبع هؤلاء ما نقل في هذا الجنس عن الصحابة، وما دل عليه الكتاب والسنة، كما بسط في موضع آخر‏.‏
    والمقصود هنا‏:‏ أنه على عهد رسول الله ﷺ وخلفائه الراشدين لم تكن امرأة ترد إلى زوجها بنكاح تحليل، وكان إنما يفعل سرا؛ ولهذا قال النبي ﷺ‏:‏ ‏[‏لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه‏][‏ولعن المحلل، والمحلل له‏]‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏ ولعن ﷺ في الربا‏:‏ الآخذ، والمعطي، والشاهدين، والكاتب؛ لأنه دين يكتب ويشهد عليه، ولعن في التحليل‏:‏ المحلل، والمحلل له، ولم يلعن الشاهدين والكاتب؛ لأنه لم يكن على عهده تكتب الصداقات في كتاب، فإنهم كانوا يجعلون الصداق في العادة العامة قبل الدخول، ولا يبقي دينار في ذمة الزوج، ولا يحتاج إلى كتاب وشهود، وكان المحلل يكتم ذلك هو والزوج المحلل له‏.‏ والمرأة والأولياء والشهود لا يدرون بذلك‏.‏ ولعن رسول الله ﷺ المحلل والمحلل له؛ إذ كانوا هم الذين فعلوا المحرم، دون هؤلاء‏.‏ والتحليل لم يكونوا يحتاجون إليه في الأمر الغالب؛ إذ كان الرجل إنما يقع منه الطلاق الثلاث إذا طلق بعد رجعة أو عقد فلا يندم بعد الثلاث إلا نادر من الناس، وكان

    ج/ 33 ص -38-يكون ذلك بعد عصيانه وتعديه لحدود الله فيستحق العقوبة، فيلعن من يقصد تحليل المرأة له، ويلعن هؤلاء أيضًا لأنهما تعاونا على الإثم والعدوان‏.‏
    فلما حدث الحلف بالطلاق واعتقد كثير من الفقهاء‏.‏ أن الحانث يلزمه ما ألزمه نفسه، ولا تجزيه كفارة يمين، واعتقد كثير منهم أن الطلاق المحرم يلزم، واعتقد كثير منهم أن جمع الثلاث ليس بمحرم، واعتقد كثير منهم أن طلاق السكران يقع، واعتقد كثير منهم أن طلاق المكره يقع‏.‏ وكان بعض هذه الأقوال مما تنازع فيه الصحابة، وبعضها مما قيل بعدهم، كثر اعتقاد الناس لوقوع الطلاق، مع ما يقع من الضرر العظيم والفساد في الدين والدنيا بمفارقة الرجل امرأته، فصار الملزمون بالطلاق في هذه المواضع المتنازع فيها حزبين‏.‏
    حزبا اتبعوا ما جاء عن النبي ﷺ والصحابة في تحريم التحليل، فحرموا هذا مع تحريمهم لما لم يحرمه الرسول ﷺ من تلك الصور، فصار في قولهم من الأغلال والآصار والحرج العظيم المفضي إلى مفاسد عظيمة في الدين والدنيا أمور‏.‏ منها‏:‏ ردة بعض الناس عن الإسلام لما أفتى بلزوم ما التزمه‏.‏ ومنها سفك الدم المعصوم‏.‏ ومنها زوال العقل‏.‏ ومنها العداوة بين الناس‏.‏ ومنها تنقيص شريعة الإسلام، إلى كثير من الآثام، إلى غير ذلك من الأمور العظام‏.‏
    وحزبا رأوا أن يزيلوا ذلك الحرج العظيم بأنواع من الحيل التي بها تعود المرأة إلى زوجها‏.‏

    ج/ 33 ص -39-وكان مما أحدث أولاً نكاح التحليل‏.‏ ورأي طائفة من العلماء أن فاعله يثاب؛ لما رأي في ذلك من إزالة تلك المفاسد بإعادة المرأة إلى زوجها، وكان هذا حيلة في جميع الصور لرفع وقوع الطلاق، ثم أحدث في الأيمان حيل أخري‏.‏ فأحدث أولاً الاحتيال في لفظ اليمين، ثم أحدث الاحتيال بخلع اليمين، ثم أحدث الاحتيال بدور الطلاق، ثم أحدث الاحتيال بطلب إفساد النكاح‏.‏ وقد أنكر جمهور السلف والعلماء وأئمتهم هذه الحيل وأمثالها، ورأوا أن في ذلك إبطال حكمة الشريعة، وإبطال حقائق الأيمان المودعة في آيات الله، وجعل ذلك من جنس المخادعة والاستهزاء بآيات الله، حتي قال أيوب السختياني في مثل هؤلاء‏:‏ يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه، لكان أهون على، ثم تسلط الكفار والمنافقون بهذه الأمور على القدح في الرسول ﷺ وجعلوا ذلك من أعظم ما يحتجون به على من آمن به ونصره وعزره، ومن أعظم ما يصدون به عن سبيل الله ويمنعون من أراد الإيمان به، ومن أعظم ما يمتنع الواحد منهم به عن الإيمان، كما أخبر من آمن منهم بذلك عن نفسه، وذكر أنه كان يتبين له محاسن الإسلام إلا ما كان من جنس التحليل فإنه الذي لا يجد فيه ما يشفي الغليل، وقد قال تعالى‏:‏ ‏"وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عليهمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عليهمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156، 157‏]‏،

    ج/ 33 ص -40-فوصف رسوله بأنه يأمر بكل معروف، وينهى عن كل منكر، ويحل كل طيب ويحرم كل خبيث ويضع الآصار والأغلال التي كانت على من قبله‏.‏
    وكل من خالف ما جاء به من الكتاب والحكمة من الأقوال المرجوحة، فهي من الأقوال المبتدعة التي أحسن أحوالها أن تكون من الشرع المنسوخ الذي رفعه الله بشرع محمد ﷺ، إن كان قائله من أفضل الأمة وأجلها، وهو في ذلك القول مجتهد قد اتقي الله ما استطاع، وهو مثاب على اجتهاده وتقواه، مغفور له خطؤه، فلا يلزم الرسول قول قاله غيره باجتهاده‏.‏ وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر‏"‏‏.‏ وثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول لمن بعثه أميرًا على سرية وجيش‏:‏ ‏"‏وإذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك‏"‏‏.‏ وهذا يوافق ما ثبت في الصحيح أن سعد بن معاذ لما حكمه النبي ﷺ في بني قريظة، وكان النبي ﷺ قد حاصرهم، فنزلوا على حكمه، فأنزلهم على حكم سعد ابن معاذ لما طلب منهم حلفا وهم من الأنصار أن يحسن إليهم، وكان سعد بن معاذ خلاف ما يظن به بعض قومه، كان مقدما لرضي الله ورسوله على رضا

    ج/ 33 ص -41-قومه؛ ولهذا لما مات اهتز له عرش الرحمن فرحا بقدوم روحه، فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى حريمهم، وتقسم أموالهم‏.‏ فقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏لقد حكمت فيهم بحكم الملك‏"‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات‏"‏‏.‏ والعلماء ورثة الأنبياء، وقد قال تعالى‏:‏ ‏"وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا‏"‏[‏الأنبياء‏:‏ 78، 79‏]‏، فهذان نبيان كريمان حكما في حكومة واحدة، فخص الله أحدهما بفهمها مع ثنائه على كل منهما بأنه آتاه حكما وعلما فكذلك العلماء المجتهدون رضي الله عنهم للمصيب منهم أجران‏.‏ وللآخر أجر‏.‏ وكل منهم مطيع لله بحسب استطاعته، ولا يكلفه الله ما عجز عن علمه‏.‏ ومع هذا فلا يلزم الرسول ﷺ قول غيره، ولا يلزم ما جاء به من الشريعة شيء من الأقوال المحدثة، لا سيما إن كانت شنيعة‏.‏
    ولهذا كان الصحابة إذا تكلموا باجتهادهم ينزهون شرع الرسول ﷺ من خطئهم وخطأ غيرهم، كما قال عبد الله بن مسعود في المفوضة‏:‏ أقول فيها برأيي‏.‏ فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمنى ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه‏.‏ وكذلك روي عن الصديق في الكلالة، وكذلك عن عمر في بعض الأمور، مع أنهم كانوا يصيبون فيما يقولونه على هذا الوجه حتي يوجد النص موافقا لاجتهادهم، كما وافق النص اجتهاد ابن مسعود وغيره،

    ج/ 33 ص -42-وإنما كانوا أعلم بالله ورسوله، وبما يجب من تعظيم شرع الرسول ﷺ أن يضيفوا إليه إلا ما علموه منه، وما أخطؤوا فيه وإن كانوا مجتهدين قالوا‏:‏ إن الله ورسوله بريئان منه‏.‏ وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏"وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ‏"‏ ‏[‏النور‏:‏ 54‏]‏، وقال‏:‏ ‏"فَإِنَّمَا عليه مَا حُمِّلَ وَعليكُم مَّا حُمِّلْتُمْ‏"‏[‏النور‏:‏ 54‏]‏، وقال‏:‏ ‏"فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إليهمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 6‏]‏‏.‏
    ولهذا تجد المسائل التي تنازعت فيها الأمة على أقوال؛ وإنما القول الذي بعث به الرسول ﷺ واحد منها، وسائرها إذا كان أهلها من أهل الاجتهاد أهل العلم والدين، فهم مطيعون لله ورسوله، مأجورون غير مأزورين، كما إذا خفيت جهة القبلة في السفر اجتهد كل قوم فصلوا إلى جهة من الجهات الأربع، فإن الكعبة ليست إلا في جهة واحدة منها وسائر المصلين مأجورين على صلاتهم حيث اتقوا ما استطاعوا‏.‏
    ومن آيات ما بعث به الرسول ﷺ أنه إذا ذكر مع غيره على الوجه المبين ظهر النور والهدي على ما بعث به، وعلم أن القول الآخر دونه؛ فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ‏.‏ وقد قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏
    "قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 88‏]‏، وهذا التحدي

    ج/ 33 ص -43-والتعجيز‏.‏ ثابت في لفظه ونظمه ومعناه، كما هو مذكور في غير هذا الموضع‏.‏
    ومن أمثال ذلك‏:‏ ما تنازع المسلمون فيه من مسائل الطلاق، فإنك تجد الأقوال فيه ‏[‏ثلاثة‏]‏‏:‏ قول فيه آصار وأغلال، وقول فيه خداع واحتيال‏.‏ وقول فيه علم واعتدال‏.‏ وقول يتضمن نوعا من الظلم والاضطراب‏.‏ وقول يتضمن نوعا من الظلم والفاحشة والعار، وقول يتضمن سبيل المهاجرين والأنصار‏.‏ وتجدهم في مسائل الأيمان بالنذر، والطلاق والعتاق، على ثلاثة أقوال‏:‏ قول يسقط أيمان المسلمين، ويجعلها بمنزلة أيمان المشركين‏.‏ وقول يجعل الأيمان اللازمة ليس فيها كفارة ولا تحلة، كما كان شرع غير أهل القبلة‏.‏ وقول يقيم حرمة أيمان أهل التوحيد والإيمان، ويفرق بينهما وبين أيمان أهل الشرك والأوثان، ويجعل فيها من الكفارة والتحليل ما جاء به النص والتنزيل واختص به أهل القرآن دون أهل التوراة والإنجيل‏.‏ وهذا هو الشرع الذي جاء به خاتم المرسلين، وإمام المتقين، وأفضل الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين‏.

    ج/ 33 ص -44-وقال شيخ الإسلام رحمه الله‏:‏
    فصل

    مختصر جامع في مسائل الأيمان والطلاق، وما بينهما من اتفاق وافتراق؛ فإن المسألة قد تكون من مسائل الأيمان دون الطلاق، وقد تكون من مسائل الطلاق دون الأيمان، وقد تكون من مسائل النوعين‏.‏
    فإن الكلام المتعلق بالطلاق ثلاثة أنواع‏.‏ والأيمان ثلاثة أنواع، أما الكلام المتعلق بالطلاق فهو، إما صيغة تنجيز، وإما صيغة تعليق‏.‏ وإما صيغة قسم‏.‏
    أما صيغة التنجيز فهو إيقاع الطلاق مطلقا مرسلا من غير تقييد بصفة ولا يمين، كقوله‏:‏ أنت طالق‏.‏ أو مطلقة‏.‏ أو‏:‏ فلانة طالق‏.‏ أو أنت الطلاق‏.‏ أو‏:‏ طلقتك، ونحو ذلك مما يكون بصيغة الفعل، أو المصدر، أو اسم الفاعل، أو اسم المفعول، فهذا يقال له‏:‏ طلاق منجز‏.‏ ويقال طلاق مرسل‏.‏ ويقال‏:‏ طلاق مطلق‏.‏ أي غير معلق بصفة، فهذا إيقاع للطلاق، وليس هذا

    ج/ 33 ص -45-بيمين يخير فيه بين الحنث وعدمه، ولا كفارة في هذا باتفاق المسلمين والفقهاء في عرفهم المعروف بينهم لا يسمون هذا يمينا ولا حلفا، ولكن الناس من يقول‏:‏ حلفت بالطلاق، ومراده أنه أوقع الطلاق‏.‏
    وأما صيغة القسم فهو أن يقول‏:‏ الطلاق يلزمنى لأفعلن كذا، أو لا أفعل كذا‏.‏ فيحلف به على حض لنفسه أو لغيره، أو منع لنفسه أو لغيره، أو على تصديق خبر أو تكذيبه، فهذا يدخل في مسائل الطلاق والأيمان، فإن هذا يمين باتفاق أهل اللغة، فإنها صيغة قسم، وهو يمين أيضًا في عرف الفقهاء، لم يتنازعوا في أنها تسمي يمينا، ولكن تنازعوا في حكمها‏.‏ فمن الفقهاء من غلب عليها جانب الطلاق فأوقع به الطلاق إذا حنث‏.‏ ومنهم من غلب عليه جانب اليمين فلم يوقع به الطلاق، بل قال‏:‏ عليه كفارة يمين‏.‏ أو قال‏:‏ لا شيء عليه بحال‏.‏
    وكذلك تنازعوا فيما إذا حلف بالنذر فقال‏:‏ إذا فعلت كذا فعلى الحج أو صوم شهر، أو مالي صدقة، لكن هذا النوع اشتهر الكلام فيه عن السلف من الصحابة وغيرهم‏.‏ وقالوا‏:‏ إنه أيمان تجزي فيه كفارة يمين؛ لكثرة وقوع هذا في زمن الصحابة، بخلاف الحلف بالطلاق، فإن الكلام فيه إنما عرف عن التابعين ومن بعدهم، وتنازعوا فيه على القولين‏.‏

    ج/ 33 ص -46-والثالث‏:‏ صيغة تعليق كقوله‏:‏ إن دخلت الدار فأنت طالق‏.‏ ويسمي هذا طلاقا بصفة‏.‏ فهذا إما أن يكون قصد صاحبه الحلف وهو يكره وقوع الطلاق إذا وجدت الصفة‏.‏ وإما أن يكون قصده إيقاع الطلاق عند تحقق الصفة‏.‏
    فالأول‏:‏ حكمه حكم الحلف بالطلاق باتفاق الفقهاء‏.‏ ولو قال‏:‏ إن حلفت يمينا فعلى عتق رقبة، وحلف بالطلاق حنث بلا نزاع نعلمه بين العلماء المشهورين، وكذلك سائر ما يتعلق بالشرط لقصد اليمين، كقوله‏:‏ إن فعلت كذا فعلى عتق رقبة، أو فعبيدي أحرار، أو فعلى الحج، أو على صوم شهر، أو ف مالي صدقة أو هدي، ونحو ذلك؛ فإن هذا بمنزلة أن يقول‏:‏ العتق يلزمنى لا أفعل كذا، وعلى الحج لا أفعل كذا، ونحو ذلك، لكن المؤخر في صيغة الشرط مقدم في صيغة القسم، والمنفي في هذه الصيغة مثبت في هذه الصيغة‏.‏
    والثاني‏:‏ وهو أن يكون قصد إيقاع الطلاق عند الصفة، فهذا يقع به الطلاق إذا وجدت الصفة، كما يقع المنجز عند عامة السلف والخلف، وكذلك إذا وقت الطلاق بوقت، كقوله‏:‏ أنت طالق عند رأس الشهر، وقد ذكر غير واحد الإجماع على وقوع هذا الطلاق المعلق، ولم يعلم فيه خلافا قديما، لكن ابن حزم زعم أنه لا يقع به الطلاق، وهو قول الإمامية، مع أن ابن حزم ذكر في كتاب الإجماع إجماع العلماء على أنه يقع به الطلاق،

    ج/ 33 ص -47-وذكر أن الخلاف إنما هو فيما إذا أخرجه مخرج اليمين‏:‏ هل يقع الطلاق‏؟‏ أو لا يقع ولا شيء عليه‏؟‏ أو يكون يمينا مكفرة‏؟‏ على ثلاثة أقوال، كما أن نظائر ذلك من الأيمان فيها هذه الأقوال الثلاثة‏.‏
    وهذا الضرب وهو الطلاق المعلق بصفة يقصد إيقاع الطلاق عندها وليس فيها معني الحض والمنع، كقوله‏:‏ إن طلعت الشمس فأنت طالق‏.‏ هل هو يمين‏؟‏ فيه قولان‏.‏ أحدهما‏:‏ هو يمين، كقول أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب أحمد‏.‏ والثاني‏:‏ أنه ليس بيمين، كقول الشافعي، والقول الآخر في مذهب أحمد‏.‏ وهذا القول أصح شرعا ولغة، وأما العرف فيختلف‏.‏
    فصل
    وأما أنواع الأيمان الثلاثة‏:‏
    فالأول‏:‏ أن يعقد اليمين بالله‏.‏
    والثاني‏:‏ أن يعقدها الله‏.‏
    والثالث‏:‏ أن يعقدها بغير الله أو لغير الله‏.‏
    فأما الأول، فهو الحلف بالله‏.‏ فهذه يمين منعقدة، مكفرة بالكتاب والسنة، والإجماع، وأما الثالث، وهو أن يعقدها بمخلوق أو لمخلوق مثل أن يحلف بالطواغيت، أو بأبيه، أو الكعبة، أو غير ذلك من المخلوقات، فهذه يمين غير

    ج/ 33 ص -48-محترمة، لا تنعقد، ولا كفارة بالحنث فيها باتفاق العلماء، لكن نفس الحلف بها منهي عنه، فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏من حلف فقال في حلفه‏:‏ واللات والعزي، فليقل لا إله إلا الله‏"‏ وسواء في ذلك الحلف بالملائكة والأنبياء وغيرهم باتفاق العلماء، إلا أن في الحلف بالنبي ﷺ قولين في مذهب أحمد، وقول الجمهور، أنها يمين غير منعقدة ولا كفارة فيها‏.‏
    وأما عقدها لغير الله، فمثل أن ينذر للأوثان والكنائس، أو يحلف بذلك فيقول‏:‏ إن فعلت كذا فعلى للكنيسة كذا، أو لقبر فلان كذا، ونحو ذلك فهذا إن كان نذرا فهو شرك، وإن كان يمينا، فهو شرك، إذا كان يقول ذلك على وجه التعظيم، كما يقول المسلم‏:‏ إن فعلت كذا فعلى هدي، وأما إذا قاله على وجه البغض لذلك، كما يقول المسلم‏:‏ إن فعلت كذا فأنا يهودي، أو نصراني، فهذا ليس مشركا، وفي لزوم الكفارة له قولان معروفان للعلماء‏.‏ وما كان من نذر شرك أو يمين شرك فعليه أن يتوب إلى الله من عقدها، ليس فيها وفاء ولا كفارة، إنما ذلك فيما كان لله أو بالله‏.‏
    وأما المعقود لله فعلى وجهين‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن يكون قصده التقرب إلى الله، لا مجرد أن يحض أو يمنع، وهذا هو النذر‏.‏ فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏

    ج/ 33 ص -49-"‏كفارة النذر كفارة يمين‏"‏ وثبت عنه أن قال‏:‏ ‏"‏من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه‏"‏‏.‏ فإذا كان قصد الإنسان أن ينذر لله طاعة فعليه الوفاء به، وإن نذر ما ليس بطاعة لم يكن عليه الوفاء به‏.‏ وما كان محرما لا يجوز الوفاء به، لكن إذا لم يوف بالنذر لله فعليه كفارة يمين عند أكثر السلف، وهو قول أحمد، وهو قول أبي حنيفة‏.‏ قيل‏:‏ مطلقا‏.‏ وقيل‏:‏ إذا كان في معنى اليمين‏.‏
    والثاني‏:‏ أن يكون مقصوده الحض أو المنع أو التصديق أو التكذيب، فهذا هو الحلف بالنذر، والطلاق والعتاق، والظهار، والحرام، كقوله‏:‏ إن فعلت كذا فعلى الحج، وصوم سنة، و مالي صدقة، وعبيدي أحرار، ونسائي طوالق، فهذا الصنف يدخل في مسائل الأيمان، ويدخل في مسائل الطلاق والعتاق، والنذر، والظهار، وللعلماء فيه ثلاثة أقوال‏:‏
    أحدها‏:‏ أنه يلزمه ما حلف به إذا حنث؛ لأنه التزم الجزاء عند وجود الشرط، وقد وجد الشرط، فيلزمه، كنذر التبرر المعلق بالشرط‏.‏
    والقول الثاني‏:‏ هذه يمين غير منعقدة فلا شيء فيها إذا حنث، لا كفارة، ولا وقوع؛ لأن هذا حلف بغير الله، وقد قال النبي ﷺ‏:‏ ‏
    "‏من كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت‏"‏‏.‏ وفي رواية في الصحيح‏:‏ ‏"‏لا تحلفوا إلا بالله‏"‏‏.‏

    ج/ 33 ص -50-والقول الثالث‏:‏ أن هذه أيمان مكفرة إذا حنث فيها كغيرها من الأيمان‏.‏ ومن العلماء من فرق بين ما عقده لله من الوجوب وهو الحلف بالنذر وما عقده لله من تحريم وهو الحلف بالطلاق والعتاق فقالوا في الأول‏:‏ عليه كفارة يمين إذا حنث‏.‏ وقالوا في الثاني‏:‏ يلزمه ما علقه وهو الذي حلف به إذا حنث؛ لأن الملتزم في الأول فعل واجب، فلا يبرأ إلا بفعله فيمكنه التكفير قبل ذلك، والملتزم في الثاني وقوع حرمة، وهذا يحصل بالشرط فلا يرتفع بالكفارة‏.‏
    والقول الثالث‏:‏ هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار وعليه تدل أقوال أصحاب رسول الله ﷺ في الجملة، كما قد بسط في موضعه؛ وذلك أن الله قال في كتابه‏:‏ ‏
    "وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ‏"‏[‏التحريم‏:‏ 2‏]‏، وثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏من حلف على يمين فرأي غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه‏"‏، وهذا يتناول جميع أيمان المسلمين لفظا ومعني‏.‏ أما اللفظ فلقوله‏:‏ ‏"قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ‏"‏، وقوله‏:‏ ‏"ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ‏"‏، وهذا خطاب للمؤمنين، فكل ما كان من أيمانهم فهو داخل في هذا، والحلف بالمخلوقات شرك ليس من أيمانهم؛ لقول النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏من حلف بغير الله فقد أشرك‏"‏‏.‏ رواه أهل السنن وأبو داود

    ج/ 33 ص -51-وغيره، فلا تدخل هذه في أيمان المسلمين‏.‏ وأما ما عقده بالله أو لله فهو من أيمان المسلمين، فيدخل في ذلك؛ولهذا لو قال‏:‏ أيمان المسلمين أو أيمان البيعة تلزمني، ونوي دخول الطلاق والعتاق، دخل في ذلك، كما ذكر ذلك الفقهاء، ولا أعلم فيه نزاعا، ولا يدخل في ذلك الحلف بالكعبة وغيرها من المخلوقات، وإذا كانت من أيمان المسلمين تناولها الخطاب‏.‏
    وأما من جهة المعني فهو أن الله فرض الكفارة في أيمان المسلمين؛ لئلا تكون اليمين موجبة عليهم أو محرمة عليهم لا مخرج لهم، كما كانوا عليه في أول الإسلام قبل أن تشرع الكفارة، لم يكن للحالف مخرج إلا الوفاء باليمن، فلو كان من الأيمان مالا كفارة فيه كانت هذه المفسدة موجودة‏.‏ وأيضا، فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏
    "وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 224‏]‏، نهاهم الله أن يجعلوا الحلف بالله مانعاً لهم من فعل ما أمر به؛ لئلا يمتنعوا عن طاعته باليمين التي حلفوها، فلو كان في الأيمان ما ينعقد ولا كفارة فيه لكان ذلك مانعاً لهم من طاعة الله إذا حلفوا به‏.‏
    وأيضًا، فقد قال تعالى‏:‏ ‏
    "لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عليمٌ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 226، 227‏]‏، والإيلاء هو الحلف والقسم، والمراد بالإيلاء هنا أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته، وهو إذا حلف بما عقده بالله كان موليا، وإن حلف بما عقده لله

    ج/ 33 ص -52-كالحلف بالنذر والظهار والطلاق والعتاق كان موليا عند جماهير العلماء، كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي في قوله الجديد، وأحمد، ومن العلماء من لم يذكر في هذه المسألة نزاعا كابن المنذر وغيره، وذكر عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء، والله سبحانه وتعالى قد جعل المولي بين خيرتين‏:‏ إما أن يفيء، وإما أن يطلق‏.‏ والفيء ة هي الوطء، خير بين الإمساك بمعروف، والتسريح بإحسان‏.‏ فإن فاء فوطئها حصل مقصودها، وقد أمسك بمعروف، وقد قال تعالى‏:‏ ‏"فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 226‏]‏، ومغفرته ورحمته للمولي توجب رفع الإثم عنه وبقاء امرأته‏.‏ ولا تسقط الكفارة، كما في قوله‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ‏"‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 1، 2‏]‏، فبين أنه غفور رحيم بما فرضه من تحلة الأيمان، حيث رحم عباده بما فرضه لهم من الكفارة، وغفر لهم بذلك نقضهم لليمين التي عقدوها؛ فإن موجب العقد الوفاء لولا ما فرضه من التحلة التي جعلها تحل عقدة اليمين‏.‏ وإن كان المولي لا يفيء؛ بل قد عزم على الطلاق؛ فإن الله سميع عليم، فحكم المولي في كتاب الله‏:‏ أنه إما أن يفيء، وإما أن يعزم الطلاق‏.‏ فإن فاء فإن الله غفور رحيم لا يقع به طلاق، وهذا متفق عليه في اليمين بالله تعالى‏.‏
    وأما اليمين بالطلاق فمن قال‏:‏ إنه يقع به الطلاق فلا يكفر، فإنه يقول‏:‏ إن فاء المولي بالطلاق وقع به الطلاق، وإن عزم الطلاق فأوقعه وقع به

    ج/ 33 ص -53-الطلاق‏.‏ فالطلاق على قوله لازم سواء أمسك بمعروف، أو سرح بإحسان‏.‏ والقرآن يدل على أن المولي مخير‏:‏ إما أن يفيء، وإما أن يطلق‏.‏ فإذا فاء لم يلزمه الطلاق، بل عليه كفارة الحنث إذا قيل بأن الحلف بالطلاق فيه الكفارة، فإن المولي بالحلف بالله إذا فاء لزمته كفارة الحنث عند جمهور العلماء، وفيه قول شاذ أنه لاشيء عليه بحال‏.‏ وقول الجمهور أصح، فإن الله بين في كتابه كفارة اليمين في سورة المائدة، وقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه‏"‏‏.‏
    فإن قيل‏:‏ المولي بالطلاق إذا فاء غفر الله له ما تقدم من تأخير الوطء للزوجة، وإن وقع به الطلاق، ورحمه بذلك قيل‏:‏ هذا لا يصح‏.‏ فإن أحد قولي العلماء القائلين بهذا الأصل أن الحالف بالطلاق ثلاثاً ألا يطأ امرأته لا يجوز له وطؤها بحال؛ فإنه إذا أولج حنث، وكان النزع في أجنبية، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، وأحد القولين في مذهب مالك‏.‏ والثاني‏:‏ يجوز له وطأة واحدة ينزع عقبها، وتحرم بها عليه امرأته‏.‏ ومعلوم أن الإيلاء إنما كان لحق المرأة في الوطء، والمرأة لا تختار وطأة يقع بها الطلاق الثلاث عقبها إلا إذا كانت كارهة له، فلا يحصل مقصودها بهذه الفيء ة‏.‏ وأيضا، فإنه على هذا التقدير لا فائدة في

    ج/ 33 ص -54-التأجيل، بل تعجيل الطلاق أحب إليها لتقضي العدة لتباح لغيره، فإذا كان لابد لها من الطلاق على التقديرين، كان التأجيل ضررًا محضا لها، وهذا خلاف مقصود الإيلاء الذي شرع لنفع المرأة، لا لضرها‏.‏
    وما ذكرته من النصوص قد استدل به الصحابة وغيرهم من العلماء في هذا الجنس، فأفتوا من حلف فقال‏:‏ إن فعلت كذا فمالي هدي، وعبيدي أحرار، ونحو ذاك، بأن يكفر يمينة، فجعلوا هذا يمينا مكفرة، وكذلك غير واحد من علماء السلف والخلف جعلوا هذا متناولا للحلف بالطلاق والعتاق وغير ذلك من الأيمان، وجعلوا كل يمين يحلف بها الحالف ففيها كفارة يمين وإن عظمت‏.‏
    وقد ظن طائفة من العلماء أن هذا الضرب فيه شبه من النذر والطلاق والعتاق، وشبه من الأيمان، وليس كذلك بل هذه أيمان محضة، ليست نذرًا، ولا طلاقا‏.‏ ولا عتاقا، وإنما يسميها بعض الفقهاء نذر اللجاج والغضب تسمية مقيدة، ولا يقتضي ذلك أنها تدخل في اسم النذر عند الإطلاق‏.‏ وأئمة الفقهاء الذين اتبعوا الصحابة بينوا أن هذه أيمان محضة كما قرر ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما في الحلف بالنذر، لكن هي أيمان علق الحنث فيها على شيء ين‏:‏ أحدهما‏:‏ فعل المحلوف عليه‏.‏ والثاني‏:‏ عدم إيقاع المحلوف به‏.‏

    ج/ 33 ص -55-فقول القائل‏:‏ إن فعلت كذا فعلى الحج هذا العام‏.‏ بمنزلة قوله‏:‏ والله إن فعلت كذا لأحجن هذا العام، وهو لو قال ذلك لم يلزمه كفارة إلا إذا فعل ولم يحج ذلك العام، كذلك إذا قال‏:‏ إن فعلت كذا فعلى أن أحج هذا العام، إنما تلزمه الكفارة إذا فعله ولم يحج ذلك العام، وكذلك إذا قال‏:‏ إن فعلت كذا فعلى أن أعتق عبدي، أو أطلق امرأتي، فإنه لا تلزمه الكفارة إلا إذا فعله ولم يطلق ولم يعتق، ولو قال‏:‏ والله إن فعلت كذا فوالله لأطلقن امرأتي ولأعتقن عبدي‏.‏ وكذلك إذا قال‏:‏ إن فعلت كذا فامرأتي طالق، وعبدي حر، هو بمنزلة قوله‏:‏ والله إن فعلت كذا ليقعن بي الطلاق والعتاق، ولأوقعن الطلاق والعتاق، وهو إذا فعله لم تلزمه الكفارة إلا إذا لم يقع به الطلاق والعتاق، وإذا لم يوقعه لم يقع لأنه لم يوجد شرط الحنث؛ لأن الحنث معلق بشرطين، والمعلق بالشرط قد يكون وجوبًا، وقد يكون وقوعًا‏.‏ فإذا قال‏:‏ إن فعلت كذا فعلى صوم شهر‏.‏ فالمعلق وجوب الصوم‏.‏ وإذا قال‏:‏ فعبدي حر، وامرأتي طالق فالمعلق وقوع العتاق، والطلاق وقد تقدم أن الرجل المعلق إن كان قصده وقوع الجزاء عند الشرط وقع، كما إذا كان قصده أن يطلقها إذا أبرأته من الصداق، فقال‏:‏ إن أبرأتني من صداقك فأنت طالق‏.‏ فهنا إذا وجدت الصفة وقع الطلاق‏.‏
    وأما إذا كان قصده الحلف وهو يكره وقوع الجزاء عند الشرط، فهذا حالف، كما لو قال‏:‏ الطلاق يلزمنى لأفعلن كذا‏.‏

    ج/ 33 ص -56-وأما قول القائل‏:‏ إنه التزم الطلاق عند الشرط فيلزمه، فهذا الباطل من أوجه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن الحالف بالكفر والإسلام كقوله‏:‏ إن فعلت كذا فأنا يهودي، أو نصراني‏.‏ وقول الذمي‏:‏ إن فعلت كذا فأنا مسلم، هو التزام للكفر والإسلام عند الشرط، ولايلزمه ذلك بالاتفاق؛ لأنه لم يقصد وقوعه عند الشرط، بل قصد الحلف به، وهذا المعني موجود في سائر أنواع الحلف بصيغة التعليق‏.‏
    الثاني‏:‏ أنه إذا قال‏:‏ إن فعلت كذا فعلى أن أطلق امرأتي، لم يلزمه أن يطلقها بالاتفاق إذا فعله‏.‏
    الثالث‏:‏ أن الملتزم لأمر عند الشرط إنما يلزمه بشرطين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون الملتزم قربة‏.‏ والثاني‏:‏ أن يكون قصده التقرب إلى الله به لا الحلف به، فلو التزم ما ليس بقربة كالتطليق والبيع والإجارة والأكل والشرب لم يلزمه‏.‏ ولو التزم قربة كالصلاة، والصيام، والحجة على وجه الحلف بها لم يلزمه بل تجزيه كفارة يمين عند الصحابة وجمهور السلف، وهو مذهب الشافعي وأحمد، وآخر الروايتين عن أبي حنيفة، وقول المحققين من أصحاب مالك‏.‏

    ج/ 33 ص -57-وهنا الحالف بالطلاق هو التزم وقوعه على وجه اليمين، وهو يكره وقوعه إذا وجد الشرط، كما يكره وقوع الكفر إذا حلف به، وكما يكره وجوب تلك العبادات إذا حلف بها‏.‏
    وأما قول القائل‏:‏ إن هذا حالف بغير الله فلا يلزمه كفارة‏.‏
    فيقال‏:‏ النص ورد فيمن حلف بالمخلوقات؛ ولهذا جعله شركا؛ لأنه عقد اليمين بغير الله فمن عقد اليمين لله فهو أبلغ ممن عقدها بالله؛ ولهذا كان النذر أبلغ من اليمين؛ فوجوب الكفارة فيما عقد لله أولى من وجوبها فيما عقد بالله‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله تعالى عن الفرق بين الطلاق، والحلف، وإيضاح الحكم في ذلك‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم‏.‏ الصيغ التي يتكلم بها الناس في الطلاق والعتاق والنذر والظهار والحرام ثلاثة أنوع‏:‏

    ج/ 33 ص -58-النوع الأول‏:‏ صيغة التنجيز مثل أن يقول‏:‏ امرأتي طالق‏.‏ أو‏:‏ أنت طالق، أو‏:‏ فلانة طالق، أو هي مطلقة‏.‏ ونحو ذلك، فهذا يقع به الطلاق، ولا تنفع فيه الكفارة بإجماع المسلمين‏.‏ ومن قال‏:‏ إن هذا فيه كفارة فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل‏.‏ وكذلك إذا قال‏:‏ عبدي حر‏.‏ أو على صيام شهر‏.‏ أو‏:‏ عتق رقبة، أو‏:‏ الحل على حرام، أو‏:‏ أنت على كظهر أمي، فهذه كلها إيقاعات لهذه العقود بصيغ التنجيز والإطلاق‏.‏
    والنوع الثاني‏:‏ أن يحلف بذلك فيقول‏:‏ الطلاق يلزمنى لأفعلن كذا‏.‏ أو لا أفعل كذا‏.‏ أو يحلف على غيره كعبده وصديقه الذي يري أنه يبر قسمه ليفعلن كذا‏.‏ أو لا يفعل كذا‏.‏ أو يقول‏:‏ الحل على حرام لأفعلن كذا، أو لا أفعله‏.‏ أو يقول‏:‏ على الحج لأفعلن كذا‏.‏ أو لا أفعله، ونحو ذلك، فهذه صيغ قسم، وهو حالف بهذه الأمور، لا موقع لها‏.‏ وللعلماء في هذه الأيمان ثلاثة أقوال‏:‏
    أحدها‏:‏ أنه إذا حنث لزمه ما حلف به‏.‏ والثاني‏:‏ لا يلزمه شيء‏.‏ والثالث‏:‏ يلزمه كفارة يمين‏.‏ ومن العلماء من فرق بين الحلف والطلاق والعتاق وغيرها‏.‏ والقول الثالث أظهر الأقوال؛ لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏
    "قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ‏"‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 2‏]‏ وقال‏:‏ "ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏، وثبت عن النبي ﷺ في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة وعدي بن حاتم وأبي

    ج/ 33 ص -59-موسى أنه قال‏:‏ ‏"‏ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه‏"‏‏.‏ وجاء هذا المعني في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وأبي موسى وعبد الرحمن بن سمرة، وهذا يعم جميع أيمان المسلمين، فمن حلف بيمين من أيمان المسلمين وحنث، أجزأته كفارة يمين‏.‏ ومن حلف بأيمان الشرك، مثل أن يحلف بتربة أبيه، أو الكعبة، أو نعمة السلطان، أو حياة الشيخ، أو غير ذلك من المخلوقات، فهذه اليمين غير منعقدة، ولا كفارة فيها إذا حنث باتفاق أهل العلم‏.‏
    والنوع الثالث من الصيغ‏:‏ أن يعلق الطلاق أو العتاق أو النذر بشرط فيقول‏:‏ إن كان كذا فعلى الطلاق، أو الحج‏.‏ أو فعبيدي أحرار، ونحو ذلك، فهذا ينظر إلى مقصوده، فإن كان مقصوده أن يحلف بذلك ليس غرضه وقوع هذه الأمور كمن ليس غرضه وقوع الطلاق إذا وقع الشرط فحكمه حكم الحالف؛ وهو من ‏[‏باب اليمين‏]‏‏.‏ وأما إن كان مقصوده وقوع هذه الأمور، كمن غرضه وقوع الطلاق عند وقوع الشرط، مثل أن يقول لامرأته‏:‏ إن أبرأتني من طلاقك فأنت طالق‏.‏ فتبرئه، أو يكون غرضه أنها إذا فعلت فاحشة أن يطلقها، فيقول‏:‏ إذا فعلت كذا فأنت طالق، بخلاف من كان غرضه أن يحلف عليها ليمنعها، ولو فعلته لم يكن له غرض في طلاقها، فإنها تارة يكون طلاقها أكره إليه من الشرط، فيكون حالفا‏.‏ وتارة يكون الشرط المكروه أكرم إليه من طلاقها؛ فيكون موقعا للطلاق إذا وجد

    ج/ 33 ص -60-ذلك الشرط، فهذا يقع به الطلاق، وكذلك إن قال‏:‏ إن شفي الله مريضي فعلى صوم شهر، فشفي، فإنه يلزمه الصوم‏.‏
    فالأصل في هذا‏:‏ أن ينظر إلى مراد المتكلم ومقصوده فإن كان غرضه أن تقع هذه المأمور وقعت منجزة أو معلقة إذا قصد وقوعها عند وقوع الشرط‏.‏ وإن كان مقصوده أن يحلف بها، وهو يكره وقوعها إذا حنث وإن وقع الشرط فهذا حالف بها، لا موقع لها، فيكون قوله من باب اليمين، لا من باب التطليق والنذر، فالحالف هو الذي يلتزم ما يكره وقوعه عند المخالفة، كقوله‏:‏ إن فعلت كذا فأنا يهودي، أو نصراني، ونسائي طوالق، وعبيدي أحرار، وعلى المشي إلى بيت الله فهذا ونحوه يمين، بخلاف من يقصد وقوع الجزاء من ناذر ومطلق ومعلق فإن ذلك يقصد ويختار لزوم ما التزمه، وكلاهما ملتزم، لكن هذا الحالف يكره وقوع اللازم وإن وجد الشرط الملزوم، كما إذا قال إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني، فإن هذا يكره الكفر، ولو وقع الشرط، فهذا حالف‏.‏ والموقع يقصد وقوع الجزاء اللازم عند وقوع الشرط الملزوم، سواء كان الشرط مراداً له، أو مكروهاً أو غير مراد له، فهذا موقع ليس بحالف‏.‏ وكلاهما ملتزم معلق، لكن هذا الحالف يكره وقوع اللازم‏.‏
    والفرق بين هذا وهذا ثابت عن أصحاب رسول الله ﷺ وأكابر التابعين، وعليه دل الكتاب والسنة، وهو مذهب جمهور العلماء

    ج/ 33 ص -61-كالشافعي وأحمد وغيرهما في تعليق النذر‏.‏ قالوا‏:‏ إذا كان مقصوده النذر فقال‏:‏ لئن شفي الله مريضي فعلى الحج، فهو ناذر إذا شفي الله مريضه لزمه الحج فهذا حالف تجزئه كفارة يمين، ولا حج عليه‏.‏ وكذلك قال أصحاب رسول الله ﷺ‏:‏ مثل ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وأم سلمة‏.‏ وزينب ربيبة النبي ﷺ، وغير واحد من الصحابة في من قال‏:‏ إن فعلت كذا فكل مملوك لي حر‏.‏ قالوا‏:‏ يكفر عن يمينه، ولا يلزمه العتق‏.‏ هذا مع أن العتق طاعة وقربة، فالطلاق لا يلزمه بطريق الأولي، كما قال ابن عباس رضي الله عنه ‏:‏ الطلاق عن وطر، والعتق ما ابتغي به وجه الله‏.‏ ذكره البخاري في صحيحه، بين ابن عباس أن الطلاق إنما يقع بمن غرضه أن يوقعه، لا لمن يكره وقوعه، كالحالف به، والمكره عليه، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت‏:‏ كل يمين وإن عظمت فكفارتها كفارة اليمين بالله وهذا يتناول جميع الأيمان، من الحلف بالطلاق، والعتاق، والنذر‏.‏ وغير ذلك والقول بأن الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق مذهب خلق كثير من السلف والخلف، لكن فيهم من لا يلزمه الكفارة، كداود، وأصحابه‏.‏ ومنهم من يلزمه كفارة يمين، كطاووس، وغيره من السلف والخلف‏.‏
    والأيمان التي يحلف بها الخلق ثلاثة أنواع‏:‏
    أحدهما‏:‏ يمين محترمة منعقدة كالحلف باسم الله تعالى‏:‏ فهذه فيها الكفارة بالكتاب والسنة والإجماع‏.‏

    ج/ 33 ص -62-الثاني‏:‏ الحلف بالمخلوقات، كالحالف بالكعبة فهذه لا كفارة فيها باتفاق المسلمين‏.‏
    والثالث‏:‏ أن يعقد اليمين لله، فيقول‏:‏ إن فعلت كذا فعلى الحج‏.‏ أو مالي صدقة‏.‏ أو فنسائي طوالق‏.‏ أو فعبيدي أحرار، ونحو ذلك، فهذه فيها الأقوال الثلاثة المتقدمة‏:‏ إما لزوم المحلوف به، وإما الكفارة، وإما لا هذا ولا هذا‏.‏ وليس في حكم الله ورسوله إلا يمينان‏:‏ يمين من أيمان المسلمين ففيها الكفارة‏.‏ أو يمين ليست من أيمان المسلمين، فهذه لا شيء فيها إذا حنث‏.‏ فهذه الأيمان إن كانت من أيمان المسلمين ففيها كفارة، وإن لم تكن من أيمان المسلمين لم يلزم بها شيء‏.‏
    فأما إثبات يمين يلزم الحالف بها ما التزمه، ولا تجزئه فيها كفارة، فهذا ليس في دين المسلمين، بل هو مخالف للكتاب والسنة‏.‏ والله تعالى ذكر في سورة التحريم حكم أيمان المسلمين‏.‏ وذكر في السورة التي قبلها حكم طلاق المسلمين فقال في سورة التحريم‏:‏ ‏"
    يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعليمُ الْحَكِيمُ‏"‏[‏التحريم‏:‏ 1، 2‏]‏، وقال في سورة الطلاق‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏"‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 13‏]‏،

    ج/ 33 ص -63-فهو سبحانه بين في هذه السورة حكم الطلاق، وبين في تلك حكم أيمان المسلمين‏.‏ وعلى المسلمين أن يعرفوا حدود ما أنزل الله على رسوله، فيعرفوا ما يدخل في الطلاق وما يدخل في أيمان المسلمين، ويحكموا في هذا بما حكم الله ورسوله، ولا يتعدوا حدود الله فيجعلوا حكم أيمان المسلمين، وحكم طلاقهم حكم أيمانهم، فإن هذا مخالف لكتاب الله وسنة رسوله‏.‏ وإن كان قد اشتبه بعض ذلك على كثير من علماء المسلمين فقد عرف ذلك غيرهم من علماء المسلمين، والذين ميزوا بين هذا وهذا من الصحابة والتابعين هم أجل قدرا عند المسلمين ممن اشتبه عليه هذا وهذا، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأولى الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ واليوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏، فما تنازع فيه المسلمون وجب رده إلى الكتاب والسنة‏.‏
    والاعتبار الذي هو أصح القياس وأجلاه إنما يدل على قول من فرق بين هذا وهذا، مع مافي ذلك من صلاح المسلمين في دينهم ودنياهم إذا

    ج/ 33 ص -64-فرقوا بين ما فرق الله ورسوله بينه، فإن الذين لم يفرقوا بين هذا وهذا أوقعهم هذا الاشتباه‏:‏ إما في آصار وأغلال، وإما في مكر واحتيال، كالاحتيال في ألفاظ الأيمان، والاحتيال بطلب إفساد النكاح، والاحتيال بدور الطلاق، والاحيتال بخلع اليمين، والاحتيال بالتحليل‏.‏ والله أغني المسلمين بنبيهم الذي قال الله فيه‏:‏ ‏"يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عليهمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عليهمْ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏، أي‏:‏ يخلصهم من الآصار والأغلال، ومن الدخول في منكرات أهل الحيل‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏
    فصل
    في التفريق بين التعليق الذي يقصد به الإيقاع والذي يقصد به اليمين
    فالأول‏:‏ أن يكون مريدًا للجزاء عند الشرط، وإن كان الشرط مكروها له، لكنه إذا وجد الشرط فإنه يريد الطلاق؛ لكون الشرط أكره إليه من الطلاق؛ فإنه وإن كان يكره طلاقها، ويكره الشرط‏.‏ لكن إذا وجد الشرط فإنه يختار طلاقها، مثل أن يكون كارها للتزوج بامرأة بغي أو فاجرة أو خائنة أو هو لا يختار طلاقها، لكن إذا فعلت هذه الأمور، اختار طلاقها، فيقول‏:‏ إن زنيت أو سرقت أو خنت فأنت طالق‏.‏ ومراده إذا فعلت ذلك أن يطلقها، إما عقوبة لها، وإما كراهة لمقامه معها

    ج/ 33 ص -65-على هذا الحال، فهذا موقع للطلاق عند الصفة؛ لاحالف، ووقوع الطلاق في مثل هذا هو المأثور عن الصحابة، كابن مسعود؛ وابن عمر؛ وعن التابعين وسائر العلماء وما علمت أحدًا من السلف قال في مثل هذا‏:‏ إنه لا يقع به الطلاق، ولكن نازع في ذلك طائفة من الشيعة، وطائفة من الظاهرية‏.‏ وهذا ليس بحالف، ولا يدخل في لفظ اليمين المكفرة الواردة في الكتاب والسنة، ولكن من الناس من سمى هذا حالفا، كما أن منهم من يسمي كل معلق حالفًا، ومن الناس من يسمي كل منجز للطلاق حالفًا، وهذه الاصطلاحات الثلاثة ليس لها أصل في اللغة، ولا في كلام الشارع، ولا كلام الصحابة، وإنما سمى ذلك يمينًا لما بينه وبين اليمين من القدر المشترك عند المسمي وهو ظنه وقوع الطلاق عند الصفة‏.‏
    وأما التعليق الذي يقصد به اليمين فيمكن التعبير عن معناه بصيغة القسم، بخلاف النوع الأول فإنه لا يمكن التعبير عن معناه بصيغة القسم‏.‏ وهذا القسم إذا ذكره بصيغة الجزاء فإنما يكون إذا كان كارهًا للجزاء، وهو أكره إليه من الشرط، فيكون كارهًا للشرط، وهو للجزاء أكره، ويلتزم أعظم المكروهين عنده ليمتنع به من أدني المكروهين، فيقول‏:‏ إن فعلت كذا فامرأتي طالق أو عبيدي أحرار‏.‏ أو على الحج، ونحو ذلك‏.‏ أو يقول لامرأته‏:‏ إن زنيت أو سرقت أو خنت، فأنت طالق يقصد زجرها أو تخويفها باليمين، لا إيقاع الطلاق إذا فعلت؛ لأنه يكون مريدًا لها وإن

    ج/ 33 ص -66-فعلت ذلك؛ لكون طلاقها أكره إليه من مقامها على تلك الحال، فهو علق بذلك لقصد الحظر والمنع، لا لقصد الإيقاع، فهذا حالف ليس بموقع‏.‏ وهذا هو الحالف في الكتاب والسنة، وهو الذي تجزئه الكفارة‏.‏ والناس يحلفون بصيغة القسم، وقد يحلفون بصيغة الشرط التي في معناها، فإن علم هذا وهذا سواء باتفاق العلماء‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله تعالى بعد أن ذكر مبني أحكام أصول الدين على ثلاثة أقسام‏:‏ الكتاب والسنة والإجماع، وتقدم‏.‏
    فصل
    والطلاق نوعان‏:‏ نوع أباحه الله، ونوع حرمه‏.‏ فالذي أباحه أن يطلقها إذا كانت ممن تحيض بعد أن تطهر من الحيض قبل أن يطأها، ويسمي ‏[‏طلاق السنة‏]‏ فإن كانت ممن لا تحيض طلقها أي وقت شاء، أو يطلقها حاملاً قد تبين حملها، فإن طلقها بالحيض، أو في طهر بعد أن وطأها، كان هذا طلاقًا محرماً بإجماع المسلمين‏.‏ وفي وقوعه قولان للعلماء، والأظهر أنه لا يقع‏.

    ج/ 33 ص -67-وطلاق السنة المباح‏:‏ إما أن يطلقها طلقة واحدة ويدعها حتى تنقضي العدة فتبين، أو يراجعها في العدة‏.‏ فإن طلقها ثلاثًا، أو طلقها الثانية، أو الثالثة في ذلك الطهر، فهذا حرام، وفاعله مبتدع عند أكثر العلماء كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه وكذلك إذا طلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة أو العقد عند مالك وأحمد في ظاهر مذهبه وغيرهما، ولكن هل يلزمه واحدة، أو ثلاث‏؟‏ فيه قولان‏:‏ قيل‏:‏ يلزمه الثلاث، وهو مذهب الشافعي، والمعروف من مذهب الثلاثة‏.‏ وقيل‏:‏ لا يلزمه إلا طلقة واحدة، وهو قول كثير من السلف والخلف، وقول طائفة من أصحاب مالك وأبي حنيفة، وهذا القول أظهر‏.‏ وقد ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس قال‏:‏ كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ﷺ، وأبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر‏:‏ طلاق الثلاث واحدة‏.‏ وفي مسند الإمام أحمد بإسناد جيد عن ابن عباس‏:‏ أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏هي واحدة‏"‏، ولم ينقل أحد عن النبي ﷺ بإسناد ثابت أنه ألزم بالثلاث لمن طلقها جملة واحدة‏.‏ وحديث ركانة الذي يروي فيه أنه طلقها البتة، وأن النبي ﷺ سأله، وقال‏:‏ ‏"‏ما أردت إلا واحدة‏؟‏‏"‏ ضعيف عند أئمة الحديث، ضعفه أحمد، والبخاري، وأبو عبيد، وابن حزم، بأن رواته ليسوا موصوفين بالعدل والضبط‏.‏ وبين أحمد أن الصحيح في حديث ركانة أنه طلقها ثلاثاً وجعلها واحدة‏.‏ وقد بسطنا الكلام في غير هذا الموضع‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 33 ص -68-وقال شيخ الإسلام رحمه الله‏:‏
    إذا حلف الرجل يمينًا من الأيمان، فالأيمان ثلاثة أقسام‏:‏
    أحدها‏:‏ ما ليس من أيمان المسلمين، وهو الحلف بالمخلوقات كالكعبة والملائكة، والمشايخ، والملوك والآباء؛ وتربتهم، ونحو ذلك فهذه يمين غير منعقدة، ولا كفارة فيها باتفاق العلماء، بل هي منهي عنها باتفاق أهل العلم والنهي نهي تحريم في أصح قوليهم‏.‏ ففي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم‏"‏ وفي السنن عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏من حلف بغير الله فقد أشرك‏"‏‏.‏
    والثاني‏:‏ اليمين بالله تعالى كقوله‏:‏ والله لأفعلن‏.‏ فهذه يمين منعقدة فيها الكفارة إذا حنث فيها باتفاق المسلمين‏.‏ وأيمان المسلمين التي هي في معنى الحلف بالله مقصود الحالف بها تعظيم الخالق لا الحلف بالمخلوقات كالحلف بالنذر، والحرام، والطلاق، والعتاق، كقوله‏:‏ إن فعلت كذا فعلى صيام شهر أو الحج إلى بيت الله، أو الحل على حرام لا أفعل كذا، أو إن فعلت كذا فكل ما أملكه حرام‏.‏ أو الطلاق يلزمنى لأفعلن كذا، أو لا أفعله‏.‏ أو إن

    ج/ 33 ص -69-فعلته فنسائي طوالق، وعبيدي أحرار، وكل ما أملكه صدقة، ونحو ذلك، فهذه الأيمان للعلماء فيها ثلاثة أقوال‏:‏ قيل‏:‏ إذا حنث لزمه ما علقه وحلف به‏.‏ وقيل‏:‏ لا يلزمه شيء‏.‏ وقيل‏:‏ يلزمه كفارة يمين‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ الحلف بالنذر يجزيه فيه الكفارة، والحلف بالطلاق والعتاق يلزمه ما حلف به‏.‏
    وأظهر الأقوال، وهو القول الموافق للأقوال الثابتة عن الصحابة وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار‏:‏ أنه يجزئه كفارة يمين في جميع أيمان المسلمين، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏
    "ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ‏"‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 2‏]‏، وثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏من حلف على يمين فرأي غيرها خيرًا، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه‏"‏، فإذا قال‏:‏ الحل على حرام لا أفعل كذا، أو الطلاق يلزمنى لا أفعل كذا، أو إن فعلت كذا فعلى الحج، أو مإلى صدقة؛ أجزأه في ذلك كفارة يمين، فإن كفر كفارة الظهار فهو أحسن‏.‏ وكفارة اليمين يخير فيها بين العتق، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، وإذا أطعمهم أطعم كل واحد جراية من الجرايات المعروفة في بلده، مثل أن يطعم ثمان أواق، أو تسع أواق بالشامي، ويطعم مع ذلك إدامها؛ كما جرت عادة أهل الشام في إعطاء الجرايات خبزًا وإداما، وإذا كفر يمينه لم يقع به الطلاق‏.‏

    ج/ 33 ص -70-وأما إذا قصد إيقاع الطلاق على الوجه الشرعي، مثل أن ينجز الطلاق فيطلقها واحدة في طهر لم يصبها فيه، فهذا يقع به الطلاق باتفاق العلماء، وكذلك إذا علق الطلاق بصفة يقصد إيقاع الطلاق عندها، مثل أن يكون مريدًا للطلاق إذا فعلت أمرًا من الأمور، فيقول لها‏:‏ إن فعلته فأنت طالق‏.‏ قصده أن يطلقها إذا فعلته، فهذا مطلق يقع به الطلاق عند السلف وجماهير الخلف، بخلاف من قصده أن ينهاها ويزجرها باليمين‏.‏ ولو فعلت ذلك الذي يكرهه لم يجز أن يطلقها، بل هو مريد لها وإن فعلته، لكنه قصد اليمين لمنعها عن الفعل، لا مريدًا أن يقع الطلاق وإن فعلته، فهذا حالف لا يقع به الطلاق في أظهر قولي العلماء من السلف والخلف‏.‏ بل يجزئه كفارة يمين، كما تقدم‏.‏
    فصل
    والطلاق الذي يقع بلا ريب هو‏:‏ الطلاق الذي أذن الله فيه وأباحه، وهو أن يطلقها في الطهر قبل أن يطأها، أو بعد ما يبين حملها، طلقة واحدة‏.‏

    ج/ 33 ص -71-فأما الطلاق المحرم مثل أن يطلقها في الحيض، أو يطلقها بعد أن يطأها وقبل أن يبين حملها؛ فهذا الطلاق محرم باتفاق العلماء‏.‏ وكذلك إذا طلقها ثلاثًا بكلمة أو كلمات في طهر واحد، فهو محرم عند جمهور العلماء‏.‏
    وتنازعوا فيما يقع بها، فقيل‏:‏ يقع بها الثلاث‏.‏ وقيل‏:‏ لا يقع بها إلا طلقة واحدة، وهذا هو الأظهر الذي يدل عليه الكتاب والسنة، كما قد بسط في موضعه‏.‏ وكذلك الطلاق المحرم في الحيض وبعد الوطء‏:‏ هل يلزم‏؟‏ فيه قولان للعلماء، والأظهر أنه لا يلزم، كما لا يلزم النكاح المحرم، والبيع المحرم‏.‏ وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال‏:‏ كان الطلاق على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر‏:‏ طلاق الثلاث واحدة‏.‏ وثبت أيضًا في مسند أحمد أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏هي واحدة‏"‏ ولم يثبت عن النبي ﷺ خلاف هذه السنة، بل ما يخالفها إما أنه ضعيف، بل مرجوح‏.‏ وإما أنه صحيح لا يدل على خلاف ذلك، كما قد بسط ذلك في موضعه‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 33 ص -72-فصل
    الطلاق منه طلاق سنة أباحه الله تعالى، وطلاق بدعة حرمه الله‏.‏ فطلاق السنة أن يطلقها طلقة واحدة إذا طهرت من الحيض قبل أن يجامعها، أو يطلقها حاملاً قد تبين حملها‏.‏
    فإن طلقها وهي حائض، أو وطئها وطلقها بعد الوطء قبل أن يتبين حملها، فهذا طلاق محرم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين‏.‏ وتنازع العلماء‏:‏ هل يلزم‏؟‏ أو لا يلزم‏؟‏ على ‏[‏قولين‏]‏‏:‏ والأظهر أنه لا يلزم‏.‏ وإن طلقها ثلاثًا بكلمة، أو بكلمات في طهر واحد قبل أن يراجعها مثل أن يقول‏:‏ أنت طالق ثلاثًا‏.‏ أو‏:‏ أنت طالق ألف طلقة‏.‏ أو‏:‏ أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق‏.‏ ونحو ذلك من الكلام، فهذا حرام عند جمهور العلماء من السلف والخلف، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وظاهر مذهبه‏.‏ وكذلك لو طلقها ثلاثًا قبل أن تنقضي عدتها، فهو أيضًا حرام عند الأكثرين، وهو مذهب مالك وأحمد في ظاهر مذهبه‏.‏
    وأما السنة، إذا طلقها طلقة واحدة لم يطلقها الثانية حتى يراجعها في العدة، أو يتزوجها بعقد جديد بعد العدة، فحينئذ له أن يطلقها الثانية،

    ج/ 33 ص -73-وكذلك الثالثة، فإذا طلقها الثالثة كما أمر الله ورسوله حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره‏.‏
    وأما لو طلقها الثلاث طلاقًا محرمًا، مثل أن يقول لها‏:‏ أنت طالق ثلاثة جملة واحدة، فهذا فيه قولان للعلماء أحدهما‏:‏ يلزمه الثلاث‏.‏ والثاني‏:‏ لا يلزمه إلا طلقة واحدة، وله أن يرتجعها في العدة، وينكحها بعقد جديد بعد العدة، وهذا قول كثير من السلف والخلف، وهو قول طائفة من أصحاب مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل، وهذا أظهر القولين؛ لدلائل كثيرة‏:‏ منها ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال‏:‏ كان الطلاق الثلاث على عهد رسول ﷺ وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر واحدة‏.‏ ومنها ما رواه الإمام أحمد وغيره بإسناد جيد عن ابن عباس‏:‏ أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، وجاء إلى النبي ﷺ فقال‏:‏ ‏
    "‏إنما هي واحدة وردها عليه‏"‏، وهذا الحديث قد ثبته أحمد بن حنبل وغيره‏.‏ وضعف أحمد وأبو عبيد وابن حزم وغيرهم ما روي أنه طلقها البتة، وقد استحلفه ‏"‏ما أردت إلا واحدة‏؟‏‏"‏، فإن رواة هذا مجاهيل لا يعرف حفظهم وعدلهم، ورواة الأول معروفون بذلك، ولم ينقل أحد عن النبي ﷺ بإسناد مقبول أن أحدًا طلق امرأته ثلاثًا بكلمة واحدة فألزمه الثلاث، بل روي في ذلك أحاديث كلها كذب باتفاق أهل العلم، ولكن جاء في أحاديث صحيحة إن فلانًا طلق امرأته ثلاثًا‏.‏ أي‏:‏ ثلاثًا متفرقة‏.‏ وجاء‏:‏ إن الملاعن طلق ثلاثًا، وتلك امرأة لا سبيل له إلى رجعتها، بل هي

    ج/ 33 ص -74-محرمة عليه سواء طلقها أو لم يطلقها، كما لو طلق المسلم امرأته إذا أرتدت ثلاثًا‏.‏ وكما لو أسلمت امرأة اليهودي فطلقها ثلاثًا، أو أسلم زوج المشركة فطلقها ثلاثًا‏.‏ وإنما الطلاق الشرعي أن يطلق من يملك أن يرتجعها أو يتزوجها بعقد جديد، والله أعلم‏.‏
    فصل
    إذا حلف الرجل بالحرام فقال‏:‏ الحرام يلزمنى لا أفعل كذا‏.‏ أو الحل على حرام لا أفعل كذا، أو ما أحل الله على حرام إن فعلت كذا‏.‏ أو ما يحل للمسلمين يحرم على إن فعلت كذا‏.‏ أو نحو ذلك، وله زوجة‏:‏ ففي هذه المسألة نزاع مشهور بين السلف والخلف، ولكن القول الراجح أن هذه يمين من الأيمان لا يلزمه بها طلاق، ولو قصد بذلك الحلف بالطلاق‏.‏ وهذا مذهب الإمام أحمد المشهور عنه حتى لو قال‏:‏ أنت على حرام ونوي به الطلاق لم يقع به الطلاق عنده‏.‏ ولو قال‏:‏ أنت على كظهر أمي وقصد به الطلاق، فإن هذا لا يقع به الطلاق عند عامة العلماء، وفي ذلك أنزل الله القرآن، فإنهم كانوا يعدون الظهار طلاقًا، والإيلاء طلاقًا، فرفع الله ذلك كله، وجعل في الظهار الكفارة الكبري، وجعل الإيلاء يمينًا يتربص فيها الرجل أربعة أشهر‏:‏ فإما أن يمسك بمعروف، أو يسرح بإحسان‏.‏ كذلك قال كثير من السلف والخلف‏:‏ إنه إذا كان مزوجًا فحرم امرأته أو حرم الحلال مطلقاً كان مظاهرًا، وهذا مذهب أحمد‏.‏ وإذا حلف بالظهار والحرام لا يفعل شيئا وحنث

    ج/ 33 ص -75-في يمينه أجزأته الكفارة في مذهبه، لكن قيل‏:‏ إن الواجب كفارة ظهار وسواء حلف، أو أوقع، وهو المنقول عن أحمد‏.‏ وقيل‏:‏ بل إن حلف به أجزأه كفارة يمين‏.‏ وإن أوقعه لزمه كفارة ظهار‏.‏ وهذا أقوي وأقيس على أصول أحمد وغيره‏.‏ فالحالف بالحرام يجزيه كفارة يمين، كما يجزئ الحالف بالنذر إذا قال‏:‏ إن فعلت كذا فعلى الحج‏.‏ أو مإلى صدقة‏.‏ كذلك إذا حلف بالعتق يجزئه كفارة عند أكثر السلف من الصحابة والتابعين، وكذلك الحلف بالطلاق يجزئ فيه أيضًا كفارة يمين كما أفتى به جماعة من السلف والخلف، والثابت عن الصحابة لا يخالف ذلك‏.‏ بل معناه يوافقه‏.‏ فكل يمين يحلف بها المسلمون في أيمانهم ففيها كفارة يمين، كما دل عليه الكتاب والسنة‏.‏ وأما إذا كان مقصود الرجل أن يطلق أو أن يعتق أو أن يظاهر، فهذا يلزمه ما أوقعه، سواء كان منجزاً أو معلقًا، ولا يجزئه كفارة يمين‏.‏ والله سبحانه أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله تعالى عمن طلق في الحيض والنفاس‏:‏ هل يقع عليه الطلاق أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما قوله لها‏:‏ أنت طالق ثلاثًا وهي حائض، فهي مبنية على أصلين‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن الطلاق في الحيض محرم بالكتاب والسنة والإجماع، فإنه

    ج/ 33 ص -76-لا يعلم في تحريمه نزاع، وهو طلاق بدعة‏.‏ وأما طلاق السنة‏:‏ أن يطلقها في طهر لا يمسها فيه، أو يطلقها حاملاً قد استبان حملها، فإن طلقها في الحيض، أو بعد ما وطئها وقبل أن يستبين حملها له، فهو طلاق بدعة، كما قال تعالى‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ‏"‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وفي الصحاح والسنن والمسانيد‏:‏ أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فذكر عمر ذلك لرسول الله ﷺ فقال‏:‏ ‏"‏مره فليراجعها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسكها، وإن شاء طلقها قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق فيها النساء‏"‏‏.‏
    وأما جمع الطلقات الثلاث، ففيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ محرم أيضًا عند أكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه‏.‏ واختاره أكثر أصحابه، وقال أحمد‏:‏ تدبرت القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو الطلاق الرجعي يعني طلاق المدخول بها غير قوله‏:‏
    ‏"فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏، وعلى هذا القول‏:‏ فهل له أن يطلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة بأن يفرق الطلاق على ثلاثة أطهار فيطلقها في كل طهر طلقة‏؟‏ فيه قولان هما روايتان عن أحمد‏:‏ إحداهما‏:‏ له ذلك، وهو قول طائفة من السلف ومذهب أبي حنيفة‏.‏ والثانية‏:‏ ليس له ذلك وهو قول أكثر السلف

    ج/ 33 ص -77-وهو مذهب مالك وأصح الروايتين عن أحمد التي اختارها أكثر أصحابه كأبي بكر عبد العزيز، والقاضي أبي يعلى، وأصحابه‏.‏
    والقول الثاني‏:‏ أن جمع الثلاث ليس بمحرم؛ بل هو ترك الأفضل وهو مذهب الشافعي، والرواية الأخرى عن أحمد، اختارها الخرقي‏.‏ واحتجوا بأن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها أبو حفص بن المغيرة ثلاثًا، وبأن امرأة رفاعة طلقها زوجها ثلاثًا، وبأن الملاعن طلق امرأته ثلاثًا، ولم ينكر النبي ﷺ ذلك‏.‏
    وأجاب الأكثرون بأن حديث فاطمة وامرأة رفاعة إنما طلقها ثلاثًا متفرقات، هكذا ثبت في الصحيح أن الثالثة آخر ثلاث تطليقات، لم يطلق ثلاثًا لا هذا ولا هذا مجتمعات‏.‏ وقول الصحابي‏:‏ طلق ثلاثًا، يتناول ما إذا طلقها ثلاثًا متفرقات، بأن يطلقها ثم يراجعها، ثم يطلقها ثم يراجعها، ثم يطلقها‏.‏ وهذا طلاق سني واقع باتفاق الأئمة، وهو المشهور على عهد رسول الله ﷺ في معنى الطلاق ثلاثًا‏.‏ وأما جمع الثلاث بكلمة، فهذا كان منكرًا عندهم، إنما يقع قليلاً، فلا يجوز حمل اللفظ المطلق على القليل المنكر دون الكثير الحق، ولا يجوز أن يقال‏:‏ يطلق مجتمعات لا هذا ولا هذا؛ بل هذا قول بلا دليل، بل هو بخلاف الدليل‏.‏
    وأما الملاعن فإن طلاقه وقع بعد البينونة، أو بعد وجوب الإبانة التي تحرم بها المرأة أعظم مما يحرم بالطلقة الثالثة، فكان مؤكدًا لموجب اللعان

    ج/ 33 ص -78-والنزاع إنما هو في طلاق من يمكنه إمساكها، لا سيما والنبي ﷺ قد فرق بينهما، فإن كان ذلك قبل الثلاث لم يقع بها ثلاث ولا غيرها وإن كان بعدها دل على بقاء النكاح‏.‏ والمعروف أنه فرق بينهما بعد أن طلقها ثلاثًا، فدل ذلك على أن الثلاث لم يقع بها؛ إذ لو وقعت لكانت قد حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره، وامتنع حينئذ أن يفرق النبي ﷺ بينهما؛ لأنهما صارا أجنبيين، ولكن غاية ما يمكن أن يقال‏:‏ حرمها عليه تحريمًا مؤبدًا، فيقال‏:‏ فكان ينبغي أن يحرمها عليه لا يفرق بينهما، فلما فرق بينهما دل على بقاء النكاح، وأن الثلاث لم تقع جميعًا، بخلاف ما إذا قيل‏:‏ إنه يقع بها واحدة رجعية فإنه يمكن فيه حينئذ أن يفرق بينهما، وقول سهل بن سعد‏:‏ طلقها ثلاثًا، فأنفذه عليه رسول الله ﷺ دليل على أنه احتاج إلى إنفاذ النبي ﷺ، واختصاص الملاعن بذلك، ولو كان من شرعه أنها تحرم بالثلاث لم يكن للملاعن اختصاص ولا يحتاج إلى إنفاذ، فدل على أنه لما قصد الملاعن بالطلاق الثلاث أن تحرم عليه أنفذ النبي ﷺ مقصوده، بل زاده، فإن تحريم اللعان أبلغ من تحريم الطلاق؛ إذ تحريم اللعان لا يزول وإن نكحت زوجًا غيره، وهو مؤبد في أحد قولي العلماء لا يزول بالتوبة‏.‏
    واستدل الأكثرون بأن القرآن العظيم يدل على أن الله لم يبح إلا الطلاق الرجعي، وإلا الطلاق للعدة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏

    ج/ 33 ص -79-"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ‏"‏ إلى قوله ‏"لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏"‏[‏الطلاق‏:‏ 1، 2‏]‏، وهذا إنما يكون في الرجعي وقوله ‏"فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏"‏، يدل على أنه لا يجوز إرداف الطلاق للطلاق حتى تنقضي العدة أو يراجعها؛ لأنه إنما أباح الطلاق للعدة‏.‏ أي‏:‏ لاستقبال العدة، فمتى طلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة بنت على العدة ولم تستأنفها باتفاق جماهير المسلمين‏.‏ فإن كان فيه خلاف شاذ عن خِلاَس وابن حزم فقد بينا فساده في موضع آخر؛ فإن هذا قول ضعيف؛ لأنهم كانوا في أول الإسلام إذا أراد الرجل إضرار امرأته طلقها حتى إذا شارفت انقضاء العدة راجعها ثم طلقها ليطيل حبسها، فلو كان إذا لم يراجعها تستأنف العدة لم يكن حاجة إلى أن يراجعها، والله تعالى قصرهم على الطلاق الثلاث دفعًا لهذا الضرر، كما جاءت بذلك الآثار، ودل على أنه كان مستقرًا عند الله أن العدة لا تستأنف بدون رجعة، سواء كان ذلك لأن الطلاق لا يقع قبل الرجعة، أو يقع ولا يستأنف له العدة وابن حزم إنما أوجب استئناف العدة بأن يكون الطلاق لاستقبال العدة، فلا

    ج/ 33 ص -80-يكون طلاق إلا يتعقبه عدة؛ إذ كان بعد الدخول، كما دل عليه القرآن، فلزمه على ذلك هذا القول الفاسد‏.‏ وأما من أخذ بمقتضي القرآن وما دلت عليه الآثار فإنه يقول‏:‏ إن الطلاق الذي شرعه الله هو ما يتعقبه العدة، وما كان صاحبه مخيرًا فيها بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان، وهذا منتف في إيقاع الثلاث في العدة قبل الرجعة، فلا يكون جائزًا، فلم يكن ذلك طلاقًا للعدة؛ ولأنه قال‏:‏ ‏"فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ‏"‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏، فخيره بين الرجعة وبين أن يدعها تقضي العدة فيسرحها بإحسان، فإذا طلقها ثانية قبل انقضاء العدة لم يمسك بمعروف ولم يسرح بإحسان‏.‏
    وقد قال تعالى‏:‏
    ‏"وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَاليوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، فهذا يقتضي أن هذا حال كل مطلقة، فلم يشرع إلا هذا الطلاق، ثم قال‏:‏ ‏"الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏، أي هذا الطلاق المذكور ‏"مَرَّتَانِ‏"‏‏.‏ وإذا قيل‏:‏ سبح مرتين‏.‏ أو ثلاث مرات، لم يجزه أن يقول‏:‏ سبحان الله مرتين، بل لابد أن ينطق بالتسبيح مرة بعد مرة، فكذلك لا يقال‏:‏ طلق مرتين إلا إذا طلق مرة بعد مرة، فإذا قال‏:‏ أنت طالق ثلاثًا‏.‏ أو مرتين، لم يجز أن يقال‏:‏ طلق ثلاث مرات ولا مرتين، وإن جاز أن يقال طلق ثلاث تطليقات أو طلقتين؛ ثم قال بعد ذلك‏:‏ ‏"فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏، فهذه الطلقة الثالثة لم يشرعها الله إلا بعد الطلاق الرجعي مرتين‏.‏
    وقد قال الله تعالى‏:‏
    "وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 232‏]‏، وهذا إنما يكون فيما دون الثلاث، وهو يعم كل طلاق فعلم أن جمع الثلاث ليس بمشروع‏.‏ ودلائل تحريم الثلاث

    ج/ 33 ص -81-كثيرة قوية‏:‏ من الكتاب والسنة، والآثار، والاعتبار، كما هو مبسوط في موضعه‏.‏
    وسبب ذلك أن الأصل في الطلاق الحظر وإنما أبيح منه قدر الحاجة كما ثبت في الصحيح عن جابر عن النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إن إبليس ينصب عرشه على البحر، ويبعث سراياه، فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة، فيأتيه الشيطان فيقول‏:‏ ما زلت به حتى فعل كذا، حتى يأتيه الشيطان فيقول‏:‏ ما زلت به حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه، ويقول‏:‏ أنت‏!‏ أنت‏!‏ ويلتزمه‏"‏‏.‏ وقد قال تعالى في ذم السحر‏:‏
    ‏"فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏، وفي السنن عن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏إن المختلعات والمنتزعات هن المنافقات‏"‏‏.‏ وفي السنن أيضًا عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة‏"‏ ولهذا لم يبح إلا ثلاث مرات، وحرمت عليه المرأة بعد الثالثة حتى تنكح زوجًا غيره، وإذا كان إنما أبيح للحاجة، فالحاجة تندفع بواحدة، فما زاد فهو باق على الحظر‏.‏
    الأصل الثاني‏:‏ أن الطلاق المحرم الذي يسمي طلاق البدعة إذا أوقعه الإنسان هل يقع، أم لا‏؟‏ فيه نزاع بين السلف والخلف‏.‏ والأكثرون يقولون بوقوعه مع القول بتحريمه‏.‏ وقال آخرون‏:‏ لا يقع‏.‏ مثل طاووس، وعكرمة‏.‏ وخِلاَس، وعمر، ومحمد بن إسحاق، وحجاج ابن أرطاة، وأهل الظاهر

    ج/ 33 ص -82-كداود، وأصحابه‏.‏ وطائفة من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد، ويروي عن أبي جعفر الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وغيرهما من أهل البيت، وهو قول أهل الظاهر‏:‏ داود وأصحابه، لكن منهم من لا يقول بتحريم الثلاث‏.‏ ومن أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد من عرف أنه لا يقع مجموع الثلات إذا أوقعها جميعاً، بل يقع منها واحدة، ولم يعرف قوله في طلاق الحائض، ولكن وقوع الطلاق جميعاً قول طوائف من أهل الكلام والشيعة‏.‏ ومن وهؤلاء وهؤلاء من يقول‏:‏ إذا أوقع الثلاث جملة لم يقع به شيء أصلاً، لكن هذا قول مبتدع لا يعرف لقائله سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وطوائف من أهل الكلام والشيعة، لكن ابن حزم من الظاهرية لا يقول بتحريم جمع الثلاث، فلذا يوقعها، وجمهورهم على تحريمها، وأنه لا يقع إلا واحدة‏.‏ ومنهم من عرف قوله في الثلاث ولم يعرف قوله في الطلاق في الحيض، كمن ينقل عنه من أصحاب أبي حنيفة ومالك‏.‏ وابن عمر روي عنه من وجهين أنه لا يقع‏.‏ وروي عنه من وجوه أخرى أشهر وأثبت‏:‏ أنه يقع‏.‏ وروي ذلك عن زيد‏.‏
    وأما جمع الثلاث فأقوال الصحابة فيها كثيرة مشهورة‏:‏ روي الوقوع فيها عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة‏.‏ وعمران بن حصين، وغيرهم‏.‏ وروي عدم الوقوع فيها عن أبي بكر، وعن عمر صدرًا من خلافته، وعن علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس أيضًا، وعن الزبير، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

    ج/ 33 ص -83-قال أبو جعفر أحمد بن مغيث في كتابه الذي سماه المقنع في أصول الوثائق‏.‏ وبيان ما في ذلك من الدقائق‏:‏ وطلاق البدعة أن يطلقها ثلاثًا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق‏.‏ ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق‏؟‏ فقال علي بن أبي طالب وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما ‏:‏ يلزمه طلقة واحدة، وكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما وذلك لأن قوله‏:‏ ثلاثًا لا معنى له‏:‏ لأنه لم يطلق ثلاث مرات؛ لأنه إذا كان مخبرًا عما مضى فيقول‏:‏ طلقت ثلاث مرات، يخبر عن ثلاث طلقات أتت منه في ثلاثة أفعال كانت منه، فذلك يصح‏.‏ ولو طلقها مرة واحدة فقال‏:‏ طلقتها ثلاث مرات لكان كاذبًا، وكذلك لو حلف بالله ثلاثًا يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان، وأما لو حلف بالله فقال‏:‏ أحلف بالله ثلاثًا لم يكن حلف إلا يميناً واحدة، والطلاق مثله‏.‏ قال‏:‏ ومثل ذلك قال الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف روينا ذلك كله عن ابن وضَّاح يعني الإمام محمد بن وضَّاح الذي يأخذ عن طبقة أحمد بن حنبل وابن أبي شيبة ويحيي ابن معين وسحنون بن سعيد وطبقتهم قال‏:‏ وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع شيخ هدي، ومحمد بن عبد السلام الحسيني فقيه عصره، وابن بقي بن مخلد، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة‏.‏ وذكر هذا عن بضعة عشر فقيها من فقهاء طليطلة المتعبدين على مذهب مالك بن أنس‏.‏
    قلت‏:‏ وقد ذكره التلمساني رواية عن مالك، وهو قول محمد بن مقاتل الرازي من أئمة الحنفية، حكاه عن المازني وغيره، وقد ذكر هذا رواية عن

    ج/ 33 ص -84-مالك، وكان يفتي بذلك أحيانًا الشيخ أبو البركات ابن تيمية، وهو وغيره يحتجون بالحديث الذي رواه مسلم في صحيحه وأبو داود وغيرهما عن طاوس، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كان الطلاق على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب‏:‏ إن الناس قد استعجلوا أمرًا كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم‏.‏ وفي رواية‏:‏ أن أبا الصهباء قال لابن عباس‏:‏ هات من هناتك‏!‏ ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر واحدة‏؟‏ قال‏:‏ قد كان ذلك‏.‏ فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأمضاه عليهم وأجازه‏.‏
    والذين ردوا هذا الحديث تأولوه بتأويلات ضعيفة، وكذلك كل حديث فيه‏:‏ أن النبي ﷺ ألزم الثلاث بيمين أوقعها جملة، أو أن أحدًا في زمنه أوقعها جملة فألزمه بذلك‏:‏ مثل حديث يروي عن علي، وآخر عن عبادة بن الصامت، وآخر عن الحسن عن ابن عمر، وغير ذلك، فكلها أحاديث ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة، ويعرف أهل العلم بنقد الحديث أنها موضوعة، كما هو مبسوط في موضعه‏.‏
    وأقوي ما ردوه به أنهم قالوا‏:‏ ثبت عن ابن عباس من غير وجه أنه أفتى بلزوم الثلاث‏.‏

    ج/ 33 ص -85-وجواب المستدلين أن ابن عباس روي عنه من طريق عكرمة أيضًا أنه كان يجعلها واحدة، وثبت عن عكرمة عن ابن عباس ما يوافق حديث طاووس مرفوعًا إلى النبي ﷺ وموقوفاً على ابن عباس، ولم يثبت خلاف ذلك عن النبي ﷺ، فالمرفوع أن ركانة طلق امرأته ثلاثًا، فردها عليه النبي ﷺ‏.‏ قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده‏:‏ حدثنا سعيد بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولي ابن عباس، قال‏:‏ طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا قال‏:‏ فسأله رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏كيف طلقتها‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ فقال‏:‏ طلقتها ثلاثًا‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏في مجلس واحد‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فإنها تلك واحدة فارجعها إن شئت‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فراجعها‏.‏ وكان ابن عباس يقول‏:‏ إنما الطلاق عند كل طهر‏.‏
    قلت‏:‏ وهذا الحديث قال فيه ابن اسحاق‏:‏ حدثني داود وداود من شيوخ مالك ورجال البخاري؛ وابن إسحاق إذا قال‏:‏ حدثني‏.‏ فهو ثقة عند أهل الحديث‏.‏ وهذا إسناد جيد، وله شاهد من وجه آخر رواه أبو داود في السنن، ولم يذكر أبو داود هذا الطريق الجيد؛ فلذلك ظن أن تطليقه واحدة بائنا أصح، وليس الأمر كما قاله، بل الإمام أحمد رجح هذه الرواية على تلك، وهو كما قال أحمد‏.‏ وقد بسطنا الكلام على ذلك في موضع آخر‏.‏

    ج/ 33 ص -86-وهذا المروي عن ابن عباس في حديث ركانة من وجهين، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس من وجهين عن عكرمة، وهو أثبت من رواية عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة ونافع بن عجين‏:‏ أنه طلقها البتة، وأن النبي ﷺ استحلفه، فقال‏:‏ ما أردت إلا واحدة‏.‏ فإن هؤلاء مجاهيل لا تعرف أحوالهم، وليسوا فقهاء، وقد ضعف حديثهم أحمد بن حنبل وأبو عبيد، وابن حزم، وغيرهم‏.‏ وقال أحمد بن حنبل‏:‏ حديث ركانة في البتة ليس بشيء‏.‏ وقال أيضا ‏:‏ حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته البتة؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثا، وأهل المدينة يسمون ثلاثا البتة‏.‏ فقد استدل أحمد على بطلان حديث البتة بهذا الحديث الآخر الذي فيه أنه طلقها ثلاثا، وبين أن أهل المدينة يسمون من طلق ثلاثا طلق البتة، وهذا يدل على ثبوت الحديث عنده، وقد بينه غيره من الحفاظ، وهذا الإسناد وهو قول ابن إسحاق‏:‏ حدثني داود ابن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ هو إسناد ثابت عن أحمد وغيره من العلماء‏.‏ وبهذا الإسناد روي‏:‏ أن النبي ﷺ رد ابنته زينب على زوجها بالنكاح الأول، وصحح ذلك أحمد وغيره من العلماء‏.‏ وابن إسحاق إذا قال‏:‏ حدثني، فحديثه صحيح عند أهل الحديث إنما يخاف عليه التدليس إذا عنعن، وقد روي أبو داود في سننه هذا عن ابن عباس من وجه آخر، وكلاهما يوافق حديث طاوس عنه، وأحمد كان يعارض حديث طاوس بحديث فاطمة بنت قيس‏:‏ أن زوجها طلقها ثلاثا، ونحوه‏.‏

    ج/ 33 ص -87-وكان أحمد يري جمع الثلاث جائزا، ثم رجع أحمد عن ذلك، وقال‏:‏ تدبرت القرآن فرجدت الطلاق الذي فيه هو الرجعي‏.‏ أو كما قال، واستقر مذهبه على ذلك، وعليه جمهور أصحابه، وتبين من حديث فاطمة أنها كانت مطلقة ثلاثا متفرقات، لا مجموعة، وقد ثبت عنده حديثان عن النبي ﷺ‏:‏ أن من جمع ثلاثا لم يلزمه إلا واحدة‏.‏ وليس عن النبي ﷺ ما يخالف ذلك، بل القرآن يوافق ذلك، والنهي عنده يقتضي الفساد، فهذه النصوص والأصول الثابتة عنه تقتضي من مذهبه أنه لا يلزمه إلا واحدة، وعدوله عن القول بحديث ركانة وغيره كان أولاً لما عارض ذلك عنده من جواز جمع الثلاث، فكان ذلك يدل على النسخ ثم إنه رجع عن المعارضة، وتبين له فساد هذا المعارض، وأن جمع الثلاث لا يجوز، فوجب على أصله العمل بالنصوص السالمة عن المعارض، وليس يعل حديث طاوس بفتيا ابن عباس بخلافه، وهذا علمه في إحدى الروايتين عنه، ولكن ظاهر مذهبه الذي عليه أصحابه أن ذلك لا يقدح في العمل بالحديث، لا سيما وقد بين ابن عباس عذر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الإلزام بالثلاث‏.‏ وابن عباس عذره هو العذر الذي ذكره عن عمر رضي الله عنه وهو أن الناس لما تتابعوا فيما حرم الله عليهم استحقوا العقوبة على ذلك، فعوقبوا بلزومه، بخلاف ما كانوا عليه قبل ذلك، فإنهم لم يكونوا مكثرين من فعل المحرم‏.‏

    ج/ 33 ص -88-وهذا كما أنهم لما أكثروا شرب الخمر واستخفوا بحدها كان عمر يضرب فيها ثمانين، وينفي فيها، ويحلق الرأس، ولم يكن ذلك على عهد النبي ﷺ، وكما قاتل على بعض أهل القبلة ولم يكن ذلك على عهد النبي، والتفريق بين الزوجين هو مما كانوا يعاقبون به أحيانا‏:‏ إما مع بقاء النكاح، وإما بدونه‏.‏ فالنبي ﷺ فرق بين الثلاثة الذين خلفوا وبين نسائهم حتى تاب الله عليهم من غير طلاق، والمطلق ثلاثا حرمت عليه امرأته حتى تنكح زوجا غيره عقوبة له ليمتنع عن الطلاق، وعمر بن الخطاب ومن وافقه كمالك وأحمد في إحدى الروايتين حرموا المنكوحة في العدة على الناكح أبدًا؛ لأنه استعجل ما أحله الله فعوقب بنقيض قصده، والحكمان لهما عند أكثر السلف أن يفرقا بينهما بلا عوض إذا رأيا الزوج ظالما معتديا، لما في ذلك من منعه من الظلم ودفع الضرر عن الزوجة، ودل على ذلك الكتاب والسنة والآثار، وهو قول مالك وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وإلزام عمر بالثلاث لما أكثروا منه‏:‏ إما أن يكون رآه عقوبة تستعمل وقت الحاجة، وإما أن يكون رآه شرعًا لازما، لاعتقاده أن الرخصة كانت لما كان المسلمون لا يوقعونه إلا قليلاً‏.‏
    وهكذا كما اختلف كلام الناس في نهيه عن المتعة‏:‏ هل كان نهي اختيار؛ لأن إفراد الحج بسفرة والعمرة بسفرة كان أفضل من التمتع‏؟‏ أو كان قد نهي عن الفسخ؛ لاعتقاده أنه كان مخصوصا بالصحابة‏؟‏ وعلى التقديرين، فالصحابة قد

    ج/ 33 ص -89-نازعوه في ذلك، وخالفه كثير من أئمتهم من أهل الشوري وغيرهم‏:‏ في المتعة وفي الإلزام بالثلاث‏.‏ وإذا تنازعوا في شيء وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، كما أن عمر كان يري أن المبتوتة لا نفقة لها ولا سكني، ونازعه في ذلك كثير من الصحابة، وأكثر العلماء على قولهم، وكان هو وابن مسعود يريان أن الجنب لا يتيمم، وخالفهما عمار وأبو موسي وابن عباس وغيرهم من الصحابة، وأطبق العلماء على قول هؤلاء، لما كان معهم الكتاب والسنة، والكلام على هذا كثير مبسوط في موضع آخر‏.‏ والمقصود هنا التنبيه على ما أخذ الناس به‏.‏
    والذين لا يرون الطلاق المحرم لازما يقولون‏:‏ هذا هو الأصل الذي عليه أئمة الفقهاء كمالك، والشافعي وأحمد، وغيرهم وهو‏:‏ أن إيقاعات العقود المحرمة لا تقع لازمة‏:‏ كالبيع المحرم، والنكاح المحرم، والكتابة المحرمة؛ ولهذا أبطلوا نكاح الشغار، ونكاح المحلل، وأبطل مالك وأحمد البيع يوم الجمعة عند النداء، وهذا بخلاف الظهار المحرم، فإن ذلك نفسه محرم، كما يحرم القذف، وشهادة الزور، واليمين الغموس، وسائر الأقوال التي هي في نفسها محرمة، فهذا لا يمكن أن ينقسم إلى صحيح وغير صحيح، بل صاحبها يستحق العقوبة بكل حال، فعوقب المظاهر بالكفارة، ولم يحصل ما قصده به من الطلاق، فإنهم كانوا يقصدون به الطلاق وهو موجب لفظه، فأبطل الشارع ذلك؛ لأنه قول محرم، وأوجب فيه الكفارة‏.‏ أما الطلاق فجنسه مشروع كالنكاح والبيع فهو يحل تارة، ويحرم تارة،

    ج/ 33 ص -90-فينقسم إلى صحيح وفاسد، كما ينقسم البيع والنكاح‏.‏ والنهي في هذا الجنس يقتضي فساد المنهي عنه، ولما كان أهل الجاهلية يطلقون بالظهار فأبطل الشارع ذلك؛ لأنه قول محرم، كان مقتضي ذلك أن كل قول محرم لا يقع به الطلاق وإلا فهم كانوا يقصدون الطلاق بلفظ الظهار، كلفظ الحرام، وهذا قياس أصل الأئمة مالك، والشافعي، وأحمد‏.‏
    ولكن الذين خالفوا قياس أصولهم في الطلاق خالفوه لما بلغهم من الآثار، فلما ثبت عندهم عن ابن عمر أنه اعتد بتلك التطليقة التي طلق امرأته وهي حائض قالوا‏:‏ هم أعلم بقصته، فاتبعوه في ذلك‏.‏ ومن نازعهم يقول‏:‏ مازال ابن عمر وغيره يروون أحاديث ولا تأخذ العلماء بما فهموه منها؛ فإن الاعتبار بما رووه؛ لا بما رأوه وفهموه‏.‏ وقد ترك جمهور العلماء قول ابن عمر الذي فسر به قوله‏:‏ ‏"‏فاقدروا له‏"‏، وترك مالك وأبو حنيفة وغيرهما تفسيره لحديث البيعين بالخيار‏.‏ مع أن قوله هو ظاهر الحديث‏.‏ وترك جمهور العلماء تفسيره لقوله‏:‏
    ‏"فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 223‏]‏، وقوله‏:‏ نزلت هذه الآية في كذا‏.‏ وكذلك إذا خالف الراوي ما رواه، كما ترك الأئمة الأربعة وغيرهم قول ابن عباس‏:‏ أن بيع الأمة طلاقها، مع أنه روي حديث بريرة، وأن النبي ﷺ خيرها بعد أن بيعت وعتقت، فإن الاعتبار بما رووه، لا ما رأوه وفهموه‏.‏

    ج/ 33 ص -91-ولما ثبت عندهم عن أئمة الصحابة أنهم ألزموا بالثلاث المجموعة قالوا‏:‏ لا يلزمون بذلك إلا وذلك مقتضي الشرع، واعتقد طائفة لزوم هذا الطلاق وأن ذلك إجماع؛ لكونهم لم يعلموا خلافا ثابتًا، لا سيما وصار القول بذلك معروفا عن الشيعة الذين لم ينفردوا عن أهل السنة بحق‏.‏
    قال المستدلون‏:‏ هؤلاء الذين هم بعض الشيعة وطائفة من أهل الكلام يقولون‏:‏ جامع الثلاث لا يقع به شيء، هذا القول لا يعرف عن أحد من السلف، بل قد تقدم الإجماع على بعضه وإنما الكلام هل يلزمه واحدة، أو يقع ثلاثا‏؟‏ والنزاع بين السلف في ذلك ثابت لا يمكن رفعه، وليس مع من جعل ذلك شرعًا لازما للأمة حجة يجب اتباعها من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، وإن كان بعضهم قد احتج على هذا بالكتاب، وبعضهم بالسنة، وبعضهم بالإجماع، وقد احتج بعضهم بحجتين أو أكثر من ذلك، لكن المنازع يبين أن هذه كلها حجج ضعيفة، وأن الكتاب والسنة والاعتبار إنما تدل على نفي اللزوم، وتبين أنه لا إجماع في المسألة، بل الآثار الثابتة عمن ألزم بالثلاث مجموعة عن الصحابة تدل على أنهم لم يكونوا يجعلون ذلك مما شرعه النبي ﷺ لأمته شرعا لازما، كما شرع تحريم المرأة بعد الطلقة الثالثة، بل كانوا مجتهدين في العقوبة بإلزام ذلك إذا كثر ولم ينته الناس عنه‏.‏

    ج/ 33 ص -92-وقد ذكرت الألفاظ المنقولة عن الصحابة تدل على أنهم ألزموا بالثلاث لمن عصي الله بإيقاعها جملة، فأما من كان يتقي الله فإن الله يقول‏:‏ ‏"وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِب‏"‏[‏الطلاق‏:‏ 2، 3‏]‏، فمن لا يعلم التحريم حتى أوقعها، ثم لما علم التحريم تاب والتزم ألا يعود إلى المحرم، فهذا لا يستحق أن يعاقب وليس في الأدلة الشرعية الكتاب، والسنة، والاجماع، والقياس ما يوجب لزوم الثلاث له، ونكاحه ثابت بيقين، وامرأته محرمة على الغير بيقين، وفي إلزامه بالثلاث إباحتها للغير مع تحريمها عليه وذريعة إلى نكاح التحليل الذي حرمه الله ورسوله‏.‏
    ونكاح التحليل لم يكن ظاهرًا على عهد النبي ﷺ وخلفائه، ولم ينقل قط أن امرأة أعيدت بعد الطلقة الثالثة على عهدهم إلى زوجها بنكاح تحليل، بل لعن النبي ﷺ المحلل والمحلل له ولعن آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه ولم يذكر في التحليل الشهود ولا الزوجة ولا الولي؛ لأن التحليل الذي كان يفعل كان مكتوما بقصد المحلل أو يتواطأ عليه هو والمطلق المحلل له‏.‏ والمرأة ووليها لا يعلمون قصده، ولو علموا لم يرضوا أن يزوجوه؛ فإنه من أعظم المستقبحات والمنكرات عند الناس؛ ولأن عاداتهم لم تكن بكتابة الصداق في كتاب، ولا إشهاد عليه، بل كانوا يتزوجون ويعلنون النكاح، ولا يلتزمون أن يشهدوا عليه شاهدين وقت العقد، كما هو

    ج/ 33 ص -93-مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وليس عن النبي ﷺ في الإشهاد على النكاح حديث صحيح‏.‏ هكذا قال أحمد بن حنبل وغيره‏.‏
    فلما لم يكن على عهد عمر رضي الله عنه تحليل ظاهر، ورأي في إنفاذ الثلاث زجرا لهم عن المحرم، فعل ذلك باجتهاده‏.‏ أما إذا كان الفاعل لا يستحق العقوبة، وإنفاذ الثلاث يفضي إلى وقوع التحليل المحرم بالنص وإجماع الصحابة والاعتقاد وغير ذلك من المفاسد لم يجز أن يزال مفسدة حقيقة بمفاسد أغلظ منها بل جعل الثلاث واحدة في مثل هذا الحال كما كان على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر أولي؛ ولهذا كان طائفة من العلماء مثل أبي البركات يفتون بلزوم الثلاث في حال دون حال، كما نقل عن الصحابة‏.‏ وهذا‏:‏ إما لكونهم رأوه من باب التعزير الذي يجوز فعله بحسب الحاجة، كالزيادة على أربعين في الخمر والنفي فيه، وحلق الرأس‏.‏ وإما لاختلاف اجتهادهم، فرأوه تارة لازما‏.‏ وتارة غير لازم‏.‏
    وبالجملة، فما شرعه النبي ﷺ لأمته شرعا لازما، إنما لا يمكن تغييره؛ لأنه لا يمكن نسخ بعد رسول الله ﷺ، ولا يجوز أن يظن بأحد من علماء المسلمين أن يقصد هذا، لاسيما الصحابة، لاسيما الخلفاء الراشدون، وإنما يظن ذلك في الصحابة أهل الجهل والضلال، كالرافضة والخوارج الذين يكفرون بعض الخلفاء أو يفسقونه، ولو قدر أن أحدًا فعل ذلك،

    ج/ 33 ص -94-لم يقره المسلمون على ذلك؛ فإن هذا إقرار على أعظم المنكرات، والأمة معصومة أن تجتمع على مثل ذلك، وقد نقل عن طائفة كعيسي بن أبان وغيره من أهل الكلام والرأي من المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة ومالك أن الإجماع ينسخ به نصوص الكتاب والسنة، وكنا نتأول كلام هؤلاء على أن مرادهم أن الإجماع يدل على نص ناسخ، فوجدنا من ذكر عنهم أنهم يجعلون الإجماع نفسه ناسخا، فإن كانوا أرادوا ذلك، فهذا قول يجوز تبديل المسلمين دينهم بعد نبيهم، كما تقول النصاري من أن المسيح سوغ لعلمائهم أن يحرموا ما رأوا تحريمه مصلحة، ويحلوا ما رأوا تحليله مصلحة، وليس هذا دين المسلمين ولا كان الصحابة يسوغون ذلك لأنفسهم‏.‏ ومن اعتقد في الصحابة أنهم كانوا يستحلون ذلك فإنه يستتاب كما يستتاب أمثاله، ولكن يجوز أن يجتهد الحاكم والمفتي فيصيب فيكون له أجران، ويخطئ فيكون له أجر واحد‏.‏
    وما شرعه النبي ﷺ شرعا معلقا بسبب إنما يكون مشروعا عند وجود السبب، كإعطاء المؤلفة قلوبهم، فإنه ثابت بالكتاب والسنة‏.‏ وبعض الناس ظن أن هذا نسخ لما روي عن عمر‏:‏ أنه ذكر أن الله أغني عن التألف، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وهذا الظن غلط‏.‏ ولكن عمر استغني في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم، فترك ذلك لعدم الحاجة إليه، لا لنسخه، كما لو فرض أنه عدم في بعض الأوقات ابن السبيل، والغارم، ونحو ذلك‏.‏

    ج/ 33 ص -95-ومتعة الحج قد روي عن عمر أنه نهي عنها، وكان ابنه عبد الله بن عمر وغيره يقولون‏:‏ لم يحرمها، وإنما قصد أن يأمر الناس بالأفضل، وهو أن يعتمر أحدهم من دويرة أهله في غير أشهر الحج؛ فإن هذه العمرة أفضل من عمرة المتمتع والقارن باتفاق الأئمة، حتى إن مذهب أبي حنيفة وأحمد منصوص عنه‏:‏ أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج وأفرد الحج في أشهره، فهذا أفضل من مجرد التمتع والقران، مع قولهما بأنه أفضل من الإفراد المجرد‏.‏ ومن الناس من قال‏:‏ إن عمر أراد فسخ الحج إلى العمرة، قالوا‏:‏ إن هذا محرم به لا يجوز، وأن ما أمر به النبي ﷺ أصحابه من الفسخ كان خاصا بهم، وهذا قول كثير من الفقهاء، كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي‏.‏ وآخرون من السلف والخلف قابلوا هذا، وقالوا‏:‏ بل الفسخ واجب، ولا يجوز أن يحج أحد إلا متمتعًا‏:‏ مبتدأ، أو فاسخا، كما أمر النبي ﷺ أصحابه في حجة الوداع، وهذا قول ابن عباس وأصحابه ومن اتبعه من أهل الظاهر والشيعة‏.‏ والقول الثالث‏:‏ أن الفسخ جائز، وهو أفضل‏.‏ ويجوز ألا يفسخ، وهو قول كثير من السلف والخلف، كأحمد بن حنبل وغيره من فقهاء الحديث، ولا يمكن الإنسان أن يحج حجة مجمعا عليها إلا أن يحج متمتعا ابتداء من غير فسخ‏.‏ فأما حج المفرد والقارن، ففيه نزاع معروف بين السلف والخلف كما تنازعوا في جواز الصوم في السفر، وجواز الإتمام في السفر، ولم يتنازعوا في جواز الصوم والقصر في الجملة‏.

    ج/ 33 ص -96-وعمر لما نهي عن المتعة خالفه غيره من الصحابة، كعمران بن حصين، وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس، وغيرهم، بخلاف نهيه عن متعة النساء فإن عليا وسائر الصحابة وافقوه على ذلك، وأنكر على على ابن عباس إباحة المتعة، قال‏:‏ إنك امرؤ تائه، إن رسول الله ﷺ حرم متعة النساء، وحرم لحوم الحمر الأهلية عام خيبر، فأنكر علي بن أبي طالب على ابن عباس إباحة الحمر، وإباحة متعة النساء؛ لأن ابن عباس كان يبيح هذا وهذا، فأنكر عليه على ذلك، وذكر له أن رسول الله ﷺ حرم المتعة، وحرم الحمر الأهلية، ويوم خيبر كان تحريم الحمر الأهلية‏.‏ وأما تحريم المتعة فإنه عام فتح مكة، كما ثبت ذلك في الصحيح‏.‏ وظن بعض الناس أنها حرمت، ثم أبيحت، ثم حرمت، فظن بعضهم أن ذلك ثلاثا، وليس الأمر كذلك‏.‏
    فقول عمر بن الخطاب‏:‏ إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أنفذناه عليهم فأنفذه عليهم، هو بيان أن الناس أحدثوا ما استحقوا عنده أن ينفذ عليهم الثلاث، فهذا إما أن يكون كالنهي عن متعة الفسخ؛ لكون ذلك كان ذلك مخصوصا بالصحابة وهو باطل؛ فإن هذا كان على عهد أبي بكر، ولأنه لم يذكر ما يوجب اختصاص الصحابة بذلك‏.‏ وبهذا أيضا تبطل دعوي من ظن ذلك منسوخا كنسخ متعة النساء‏.‏ وإن قدر أن عمر رأي ذلك لازما فهو اجتهاد منه اجتهده في المنع من فسخ الحج؛ لظنه أن ذلك كان خاصا،

    ج/ 33 ص -97-وهذا قول مرجوح قد أنكره غير واحد من الصحابة، والحجة الثانية هي مع من أنكره‏.‏ وهكذا الإلزام بالثلاث‏.‏ من جعل قول عمر فيه شرعا لازما‏.‏ قيل له‏:‏ فهذا اجتهاده قد نازعه فيه غيره من الصحابة، وإذا تنازعوا في شيء وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، والحجة مع من أنكر هذا القول المرجوح‏.‏
    وإما أن يكون عمر جعل هذا عقوبة تفعل عند الحاجة، وهذا أشبه الأمرين بعمر، ثم العقوبة بذلك يدخلها الاجتهاد من وجهين من جهة أن العقوبة بذلك‏:‏ هل تشرع أم لا‏؟‏ فقد يري الإمام أن يعاقب بنوع لا يري العقوبة به غيره، كتحريق على الزنادقة بالنار، وقد أنكره عليه ابن عباس، وجمهور الفقهاء مع ابن عباس‏.‏ ومن جهة أن العقوبة إنما تكون لمن يستحقها، فمن كان من المتقين استحق أن يجعل اللّه له فرجا ومخرجا، لم يستحق العقوبة‏.‏ ومن لم يعلم أن جمع الثلاث محرم، فلما علم أن ذلك محرم تاب من ذلك اليوم ألا يطلق إلا طلاقا سنياً، فإنه من المتقين في باب الطلاق‏.‏ فمثل هذا لا يتوجه إلزامه بالثلاث مجموعة، بل يلزم بواحدة منها، وهذه المسائل عظيمة‏.‏ وقد بسطنا الكلام عليها في موضع آخر من مجلدين، وإنما نبهنا عليها هاهنا تنبيها لطيفًا‏.‏
    والذي يحمل عليه أقوال الصحابة أحد أمرين‏:‏ إما أنهم رأوا ذلك من باب التعزير الذي يجوز فعله بحسب العادة، كالزيادة على أربعين في الخمر‏.‏ وإما

    ج/ 33 ص -98-لاختلاف اجتهادهم فرأوه لازما، وتارة غير لازم‏.‏ وأما القول بكون لزوم الثلاث شرعًا لازمًا، كسائر الشرائع، فهذا لا يقوم عليه دليل شرعي‏.‏ وعلى هذا القول الراجح لهذا الموقع أن يلتزم طلقة واحدة، ويراجع امرأته، ولا يلزمه شيء؛ لكونها كانت حائضًا، إذا كان ممن اتقى اللّه وتاب من البدعة‏.‏
    فصل
    وأما الطلاق في الحيض، فمنشأ النزاع في وقوعه‏:‏ أن النبي ﷺ قال لعمر بن الخطاب لما أخبره أن عبد اللّه بن عمر طلق امرأته وهي حائض‏:‏ ‏
    "‏مره فليراجعها، حتى تحيض، ثم تطهر، ثم تحيض ثم تطهر‏"‏‏.‏ فمن العلماء من فهم من قوله‏:‏ ‏"‏فليراجعها‏"‏، أنها رجعة المطلقة‏.‏ وبنوا على هذا أن المطلقة في الحيض يؤمر برجعتها مع وقوع الطلاق‏.‏ وهل هو أمر استحباب، أو أمر إيجاب‏؟‏ على قولين‏:‏ هما روايتان عن أحمد‏.‏ والاستحباب مذهب أبي حنيفة والشافعي‏.‏ والوجوب مذهب مالك‏.‏ وهل يطلقها في الطهر الأول الذي يلي حيضة الطلاق، أولا يطلقها إلا في طهر من حيضة ثانية‏؟‏ على قولين أيضا، هما روايتان عن أحمد، ووجهان في قول أبي حنيفة‏.‏ وهل عليه أن يطأها قبل الطلاق الثاني‏؟‏ جمهورهم لا يوجبه، ومنهم من يوجبه، وهو وجه في مذهب أحمد، وهو قوي على قياس قول من يوقع الطلاق، لكنه ضعيف في الدليل‏.‏

    ج/ 33 ص -99-وتنازعوا في علة منع طلاق الحائض‏:‏ هل هو تطويل العدة، كما يقوله أصحاب مالك والشافعي، وأكثر أصحاب أحمد‏؟‏ أو لكونه حال الزهد في وطئها، فلا تطلق إلا في حال رغبة في الوطء؛ لكون الطلاق ممنوعا لا يباح إلا لحاجة، كما يقول أصحاب أبي حنيفة وأبو الخطاب من أصحاب أحمد‏؟‏ أو هو تعبد لا يعقل معناه، كما يقوله بعض المالكية‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏.‏
    ومن العلماء من قال‏:‏ قوله‏:‏ ‏"‏مره فليراجعها‏"‏، لا يستلزم وقوع الطلاق بل لما طلقها طلاقا محرما حصل منه إعراض عنها ومجانبة لها؛ لظنه وقوع الطلاق، فأمره أن يردها إلى ما كانت، كما قال في الحديث الصحيح لمن باع صاعا بصاعين‏:‏ ‏"‏هذا هو الربا، فرده‏"‏‏.‏ وفي الصحيح عن عمران بن حصين أن رجلاً أعتق ستة مملوكين، فجزأهم النبي ﷺ ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، ورد أربعة للرق‏.‏ وفي السنن عن ابن عباس‏:‏ أن النبي ﷺ رد زينب على زوجها أبي العاص بالنكاح الأول، فهذا رد لها‏.‏ وأمر علي بن أبي طالب أن يرد الغلام الذي باعه دون أخيه‏.‏ وأمر بشيراً أن يرد الغلام الذي وهبه لابنه‏.‏ ونظائر هذا كثيرة‏.‏
    ولفظ المراجعة تدل على العود إلى الحال الأول‏.‏ ثم قد يكون ذلك بعقد جديد، كما في قوله تعالى ‏:‏
    ‏"فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عليهمَا أَن يَتَرَاجَعَا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏، وقد يكون برجوع بدن كل منهما إلى صاحبه وإن لم يحصل هناك طلاق، كما إذا

    ج/ 33 ص -100-أخرج الزوجة أو الأمة من داره فقيل له‏:‏ راجعها؛ فأرجعها كما في حديث على‏:‏ حين راجع الأمر بالمعروف‏.‏ وفي كتاب عمر لأبي موسى وأن تراجع الحق فإن الحق قديم‏.‏
    واستعمال لفظ المراجعة يقتضي المفاعلة‏.‏ والرجعة من الطلاق يستقل بها الزوج بمجرد كلامه، فلا يكاد يستعمل فيها لفظ المراجعة، بخلاف ما إذا رد بدن المرأة إليه فرجعت باختيارها، فإنهما قد تراجعا، كما يتراجعان بالعقد باختيارهما بعد أن تنكح زوجا غيره‏.‏ وألفاظ الرجعة من الطلاق هي الرد، والإمساك‏.‏ وتستعمل في استدامة النكاح، كقوله تعالى ‏:‏
    ‏"وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عليه وَأَنْعَمْتَ عليه أَمْسِكْ عليكَ زَوْجَكَ‏"‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏، ولم يكن هناك طلاق، وقال تعالى ‏:‏ ‏"الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ‏"[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏، والمراد به الرجعة بعد الطلاق‏.‏ والرجعة يستقل بها الزوج، ويؤمر فيها بالإشهاد‏.‏ والنبي ﷺ لم يأمر ابن عمر بالإشهاد، وقال‏:‏ ‏"‏مره فليراجعها‏"‏، ولم يقل‏:‏ ليرتجعها‏.‏
    وأيضا، فلو كان الطلاق قد وقع، كان ارتجاعها ليطلقها في الطهر الأول أو الثاني زيادة وضرراً عليها، وزيادة في الطلاق المكروه، فليس في ذلك مصلحة لا له ولا لها، بل فيه إن كان الطلاق قد وقع بارتجاعه ليطلق مرة ثانية زيادة ضرر، وهو لم يمنعه عن الطلاق، بل أباحه له في استقبال

    ج/ 33 ص -101-الطهر مع كونه مريداً له، فعلم أنه إنما أمره أن يمسكها، وأن يؤخر الطلاق إلى الوقت الذي يباح فيه، كما يؤمر من فعل شيء قبل وقته أن يرد ما فعل ويفعله إن شاء في وقته؛ لقوله ﷺ‏:‏ ‏"‏من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد‏"‏، والطلاق المحرم ليس عليه أمر اللّه ورسوله فهو مردود‏.‏ وأمره بتأخير الطلاق إلى الطهر الثاني ليتمكن من الوطء في الطهر الأول، فإنه لو طلقها فيه لم يجز أن يطلقها إلا قبل الوطء، فلم يكن في أمره بإمساكها إليه إلا بزيادة ضرر عليها إذا طلقها في الطهر الأول‏.‏
    وأيضا، فإن ذلك معاقبة له على أن يعمل ما أحله اللّه، فعوقب بنقيض قصده، وبسط الكلام في هذه المسألة، واستيفاء كلام الطائفتين له موضع آخر‏.‏ وإنما المقصود هنا التنبية على الأقوال ومأخذها‏.‏ لا ريب أن الأصل بقاء النكاح ولا يقوم دليل شرعي على زواله بالطلاق المحرم، بل النصوص والأصول تقتضي خلاف ذلك، واللّه أعلم‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML