أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

باب الخلع

    ج/ 32 ص -282-باب الخُلع
    وسئل الشّيخ رَحمَه اللّه تعالى‏:‏ ماهو الخلع الذي جاء به الكتاب والسنة‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الخلع الذي جاء به الكتاب والسنة أن تكون المرأة كارهة للزوج تريد فراقه فتعطيه الصداق أو بعضه فداء نفسها، كما يفتدي الأسير، وأما إذا كان كل منهما مريدا لصاحبه، فهذا الخلع محدث في الإسلام‏.‏
    وَقَالَ رحمهُ اللّه‏:‏
    إذا كانت مبغضة له مختارة لفراقه فإنها تفتدي نفسها منه، فترد إليه ما أخذته من الصداق، وتبريه مما في ذمته، ويخلعها، كما في الكتاب والسنة واتفق عليه الأئمة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وسئل رَحِمَه اللّه عن امرأة مبغضة لزوجها طلبت الانخلاع منه، وقالت له‏:‏ إن لم تفارقني وإلا قتلت نفسي، فأكرهه الولي على الفرقة، وتزوجت غيره، وقد طلبها الأول، وقال‏:‏ إنه فارقها مكرها، وهي لا تريد إلا الثاني‏؟‏

    ج/ 32 ص -283-فأجاب‏:‏
    إن كان الزوج الأول أكره على الفرقة بحق مثل أن يكون مقصراً في واجباتها، أو مضراً لها بغير حق من قول أو فعل كانت الفرقة صحيحة، والنكاح الثاني صحيحاً، وهي زوجة الثاني‏.‏ وإن كان أكره بالضرب أو الحبس وهو محسن لعشرتها حتىفارقها لم تقع الفرقة، بل إذا أبغضته وهو محسن إليها فإنه يطلب منه الفرقة من غير أن يلزم بذلك، فإن فعل والا أمرت المرأة بالصبر عليه إذا لم يكن ما يبيح الفسخ‏.‏
    وسئل رَحمَه اللّه تعالى عن رجل اتهم زوجته بفاحشة، بحيث أنه لم ير عندها ما ينكره الشرع إلا ادعي أنه أرسلها إلى عرس، ثم تجسس عليها فلم يجدها في العرس، فأنكرت ذلك، ثم إنه أتي إلى أوليائها وذكر لهم الواقعة، فاستدعوا بها لتقابل زوجها على ما ذكر، فامتنعت خوفا من الضرب، فخرجت إلى بيت خالها، ثم إن الزوج بعد ذلك جعل ذلك مستندا في إبطال حقها، وادعي أنها خرجت بغير إذنه‏:‏ فهل يكون ذلك مبطلا لحقها‏؟‏ والإنكار الذي أنكرته عليه يستوجب إنكاراً في الشرع‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    قال اللّه تعالى‏:‏ ‏
    "‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ"[‏النساء‏:‏ 19‏]‏، فلا يحل للرجل أن يعضل المرأة، بأن يمنعها ويضيق عليها

    ج/ 32 ص -284-حتى تعطيه بعض الصداق، ولا أن يضربها لأجل ذلك، لكن إذا أتت بفاحشة مبينة كان له أن يعضلها لتفتدي منه، وله أن يضربها‏.‏ هذا فيما بين الرجل وبين اللّه‏.‏
    وأما أهل المرأة فيكشفون الحق مع من هو فيعينونه عليه، فإن تبين لهم أنها هي التي تعدت حدود اللّه وآذت الزوج في فراشه، فهي ظالمة متعدية، فلتفتد منه‏.‏ وإذا قال‏:‏ إنه أرسلها إلى عرس ولم تذهب إلى العرس فليسأل إلى أين ذهبت‏؟‏ فإن ذكر أنها ذهبت إلى قوم لا ريبة عندهم وصدقها أولئك القوم، أو قالوا‏:‏ لم تأت إلينا، وإلى العرس لم تذهب، كان هذا ريبة وبهذا يقوي قول الزوج‏.‏
    وأما الجهاز الذي جاءت به من بيت أبيها فعليه أن يرده عليها بكل حال، وإن اصطلحوا فالصلح خير، ومتى تابت المرأة جاز لزوجها أن يمسكها ولا حرج في ذلك، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا لم يتفقا على رجوعها إليه فلتبرئه من الصداق، وليخلعها الزوج، فإن الخلع جائز بكتاب اللّه وسنة رسوله، كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏
    "‏فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عليهمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ"[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 32 ص -285-وسئل شيخ الإِسلام رَحمَه اللّه عن ثيب بالغ لم يكن وليها إلا الحاكم، فزوجها الحاكم لعدم الأولياء ثم خالعها الزوج وبرأته من الصداق بغير إذن الحاكم‏:‏ فهل تصح المخالعة والإبراء‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا كانت أهلا للتبرع جاز خلعها وإبراؤها بدون إذن الحاكم‏.‏
    وسئل رَحمَه اللّه عن امرأة قال لها زوجها‏:‏ إن أبرأتِني فأنت طالق‏.‏ فأبرأته‏.‏ ولم تكن تحت الحجر، ولا لها أب، ولا أخ‏.‏ ثم إنها ادعت أنها سفيهة لتسقط بذلك الإبراء‏.‏
    فأجاب‏:‏
    لا يبطل الإبراء بمجرد دعواها، ولو قامت بينة بأنها سفيهة ولم تكن تحت الحجر لم يبطل الإبراء بذلك، وإن كانت هي المتصرفة لنفسها‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

    ج/ 32 ص -286-

    ج/ 32 ص -287-وسئل رَحمَه اللّه تعالى عن رجل قال لامرأته‏:‏ هذا ابن زوجك لا يدخل لي بيتا، ‏[‏قالت‏]‏‏:‏ فإنه ابني ربيته؛ فلما اشتكاه لأبيه قال للزوج‏:‏ إن أبرأتك امرأتك تطلقها‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فأتي بها، فقال لها الزوج‏:‏ إن أبرأتني من كتابك، ومن الحجة التي لك على، فأنت طالق‏؟‏ قالت‏:‏ نعم‏.‏ وانفصلا، وطلع الزوج إلى بيت جيرانه، فقال‏:‏ هي طالق ثلاثا، ونزل إلى الشهود فسألوه كم طلقت‏؟‏ قال‏:‏ ثلاثا على ما صدر منه‏:‏ فهل يقع عليه الطلاق الثلاث‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه، إذا كان إبراؤها على ما دل عليه سياق الكلام ليس مطلقا بل بشرط أن يطلقها بانت منه، ولم يقع بها بعد هذا طلاق، والشرط المتقدم على العقد كالشرط المقارن، والشرط العرفي كاللفظي‏.‏ وقول هذا الذي من جهتها له‏:‏ إن جاءت زوجتك وأبرأتك تطلقها‏؟‏ وقوله‏:‏ اشتراط عليه أنه يطلقها إذا أبرأته، ومجيئه بها بعد ذلك، وقوله‏:‏ أنت إن أبرأتني قالت‏:‏ نعم‏.‏ متنزل على ذلك، وهو أنه إذا أبرأته يطلقها، بحيث لو قالت‏:‏ أبرأته وامتنع لم يصح الإبراء، فإن هذا إيجاب وقبول في العرف، لما تقدم من الشروط ودلالة الحال، والتقدير‏:‏ أبرأتك بشرط أن تطلقني‏.‏

    ج/ 32 ص -288-وسئل شيخ الإسلام رَحمَه اللّه عن رجل طلق زوجته طلقة رجعية، فلما حضر عند الشهود قال له بعضهم‏:‏ قل‏:‏ طلقتها على درهم‏.‏ فقال له ذلك، فلما فعل قالوا له‏:‏ قد ملكت نفسها فلا ترجع إليك إلا برضاها‏.‏ فإذا وقع المنع‏:‏ هل يسقط حقها مع غرره بذلك أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه، إذا كان قد طلقها طلقة رجعية، ثم إن الشاهد قد لقنه أن يقول‏:‏ طلقها على درهم، فقال ذلك معتقداً أنه يقر بذلك الطلاق الأول لا ينشئ طلاقا آخر، لم يقع به غير الطلاق الأول، ويكون رجعيا لا بائنا وإذا ادعي عليه أنه قال ذلك القول الثاني إنشاءاً لطلاق آخر ثان، وقال‏:‏ إنما قلته إقراراً بالطلاق الأول، وليس ممن يعلم أن الطلاق بالعوض يبينها‏.‏ فالقول قوله مع يمينه، لا سيما وقرينة الحال تصدقه، فإن العادة جارية بأنه إذا طلقها ثم حضر عند الشهود فإنما حضر ليشهدوا عليه بما وقع من الطلاق‏.‏

    ج/ 32 ص -289-وسئل رَحمَه اللّه تعالى عن الخلع‏:‏ هل هو طلاق محسوب من الثلاث‏؟‏ وهل يشترط كونه بغير لفظ الطلاق ونيته‏؟‏
    فأجاب رحمه اللّه تعالى‏:‏
    هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين السلف والخلف، فظاهر مذهب الإمام أحمد وأصحابه أنه فرقة بائنة وفسخ للنكاح، وليس من الطلاق الثلاث‏.‏ فلو خلعها عشر مرات كان له أن يتزوجها بعقد جديد قبل أن تنكح زوجاً غيره، وهو أحد قولي الشافعي‏.‏ واختاره طائفة من أصحابه ونصروه، وطائفة نصروه ولم يختاروه، وهذا قول جمهور فقهاء الحديث كإسحاق ابن راهويه، وأبي ثور، وداود، وابن المنذر، وابن خزيمة‏.‏ وهو ثابت عن ابن عباس وأصحابه كطاووس، وعكرمة‏.‏
    والقول الثاني‏:‏ أنه طلاق بائن محسوب من الثلاث وهو قول كثير من السلف، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، والشافعي في قوله الآخر ويقال‏:‏ إنه الجديد، وهو الرواية الأخرى عن أحمد‏.‏ وينقل ذلك عن عمر، وعثمان، وعلى، وابن مسعود، لكن ضعف أحمد وغيره من أئمة العلم بالحديث‏:‏ كابن المنذر، وابن خزيمة، والبيهقي وغيرهم النقل عن هؤلاء، ولم يصححوا إلا قول ابن عباس، إنه فسخ وليس بطلاق‏.‏ وأما الشافعي وغيره فقال‏:‏ لا نعرف حال من روي هذا عن عثمان‏:‏ هل هو ثقة أم ليس بثقة‏؟‏ فما صححوا ما نقل عن الصحابة، بل اعترفوا أنهم لا يعلمون صحته ‏.‏

    ج/ 32 ص -290-وما علمت أحداً من أهل العلم بالنقل صحح ما نقل عن الصحابة من أنه طلاق بائن محسوب من الثلاث، بل أثبت ما في هذا عندهم ما نقل عن عثمان، وقد نقل عن عثمان بالإسناد الصحيح أنه أمر المختلعة أن تستبرأ بحيضة‏.‏ وقال‏:‏ لا عليك عدة‏.‏ وهذا يوجب أنه عنده فرقة بائنة، وليس بطلاق؛ إذ الطلاق بعد الدخول يوجب الاعتداد بثلاث قروء بنص القرآن واتفاق المسلمين، بخلاف الخلع، فإنه قد ثبت بالسنة وآثار الصحابة أن العدة فيها استبراء بحيضة، وهو مذهب إسحق، وابن المنذر، وغيرهما، وإحدى الروايتين عن أحمد‏.‏
    وقد رد ابن عباس امرأة على زوجها بعد طلقتين وخلع مرة قبل أن تنكح زوجا غيره، وسأله إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص لما ولاه الزبير على اليمن عن هذه المسألة وقال له‏:‏ إن عامة طلاق أهل اليمن هو الفداء‏؟‏ فأجابه ابن عباس بأن الفداء ليس بطلاق، ولكن الناس غلطوا في اسمه‏.‏ واستدل ابن عباس بأن اللّه تعالى قال‏:‏
    ‏"‏الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شيئا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عليهمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتىتَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 229، ، 230‏]‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فقد ذكر اللّه تعالى الفدية بعد الطلاق مرتين، ثم قال‏:‏ ‏"‏فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ" وهذا يدخل في الفدية خصوصاً وغيرها عموماً، فلو كانت الفدية طلاقا، لكان الطلاق أربعآً‏.‏ وأحمد في المشهور عنه هو ومن تقدم اتبعوا ابن عباس‏.‏

    ج/ 32 ص -291-واختلف هؤلاء في المختلعة‏:‏ هل عليها عدة ثلاثة قروء أو تستبرأ بحيضة‏؟‏ على قولين‏:‏ هما روايتان عن أحمد‏:‏ أحدهما‏:‏ تستبرئ بحيضة، وهذا قول عثمان، وابن عباس؛ وابن عمر في آخر روايتيه، وهو قول غير واحد من السلف، ومذهب إسحاق، وابن المنذر وغيرهما، وروي ذلك عن النبي ﷺ في السنن من وجوه حسنة، كما قد بينت طرقها في غير هذا الموضع‏.‏
    وهذا مما احتج به من قال‏:‏ إنه ليس من الطلاق الثلاث، وقالوا‏:‏ لو كان منه لوجب فيه تربص ثلاث قروء بنص القرآن، واحتجوا به على ضعف من نقل عن عثمان، أنه جعلها طلقة بائنة؛ فإنه قد ثبت عنه بالإسناد المرضي أنه جعلها تستبرئ بحيضة، ولو كانت مطلقة لوجب عليها تربص ثلاثة قروء‏.‏ وإن قيل‏:‏ بل عثمان جعلها مطلقة تستبرئ بحيضة فهذا لم يقل به أحد من العلماء، فاتباع عثمان في الرواية الثابتة عنه التي يوافقه عليها ابن عباس، ويدل عليها الكتاب والسنة‏:‏ أولى من رواية راويها مجهول وهي رواية جمهان الأسلمي عنه أنه جعلها طلقة بائنة‏.‏ وأجود ما عند من جعلها طلقة بائنة من النقل عن الصحابة هو هذا النقل عن عثمان، وهو مع ضعفه قد ثبت عنه بالإسناد الصحيح ما يناقضه، فلا يمكن الجمع بينهما؛ لما في ذلك من خلاف النص والإجماع‏.‏

    ج/ 32 ص -292-وأما النقل عن علي، وابن مسعود فضعيف جداً، والنقل عن عمر مجمل لا دلالة فيه، وأما النقل عن ابن عباس أنه فرقة وليس بطلاق‏.‏ فمن أصح النقل الثابت باتفاق أهل العلم بالآثار، وهذا مما اعتضد به القائلون بأنه فسخ كأحمد وغيره‏.‏
    والذين اتبعوا ما نقل عن الصحابة من أنه طلقة بائنة من الفقهاء ظنوا تلك نقولا صحيحة؛ ولم يكن عندهم من نقد الآثار والتمييز بين صحيحها وضعيفها ما عند أحمد وأمثاله من أهل المعرفة بذلك، فصار هؤلاء يرون أن الذين خالفوا ابن عباس وأمثاله من الصحابة أجل منه وأكثر عدداً، ولم يعلموا أنه لم يثبت خلافه عن أحد من الصحابة، مع أن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏
    "‏اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل‏"‏ وكان ما استنبطه في هذه المسألة من القرآن، واستدل به من السنة عن كمال فقهه في الدين وعلمه بالتأويل، وهو أكثر الصحابة فتيا‏.‏ قيل للإمام أحمد‏:‏ أي الصحابة أكثر فتياً‏؟‏ قال‏:‏ ابن عباس‏.‏ وهو أعلم وأفقه طبقة في الصحابة، وكان عمر بن الخطاب يدخله مع أكابر الصحابة كعثمان، وعلي، وابن مسعود، ونحوهم في الشوري ولم يكن عمر يفعل هذه بغيره من طبقته، وقال ابن مسعود لو أدرك ابن عباس أسناننا لما عشره منا أحد‏.‏ أي ما بلغ عشره‏.‏
    والناقلون لهذه المسألة عنه أجل أصحابه، وأعلمهم بأقواله‏:‏ مثل طاووس، وعكرمة؛ فإن هذين كانا يدخلان عليه مع الخاصة، بخلاف عطاء، وعمرو بن دينار ونحوهما، فقد كانوا يدخلون عليه مع العامة‏.‏ ومعلوم أن خواص العالم

    ج/ 32 ص -293-عندهم من علمه ما ليس عند غيرهم، كما عند خواص الصحابة مثل الخلفاء الراشدين الأربعة، وابن مسعود، وعائشة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وغيرهم من العلم ما ليس عند من ليس له مثلهم من الاختصاص بالنبي ﷺ ‏.‏
    والمقصود بهذا‏:‏ أن كثيراً من الناس يظن أن ابن عباس خالفه في هذه المسألة كثير من الصحابة أو أكثرهم، ولا يعلمون أنه لم يثبت عن الصحابة إلا ما يوافق قوله، لا ما يناقضه‏.‏ وإن قدر أن بعضهم خالفه فالمرجع فيما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة‏.‏
    قال هؤلاء‏:‏ والطلاق الذي جعله اللّه ثلاثا هو الطلاق الرجعي، وكل طلاق في القرآن في المدخول بها هو الطلاق الرجعي غير الطلقة الثالثة؛ ولذلك قال أحمد في أحد قوليه‏:‏ تدبرت القرآن، فإذا كل طلاق فيه فهو الرجعي‏.‏ قال هؤلاء‏:‏ فمن قسم الطلاق المحسوب من الثلاث إلى رجعي وبائن فقد خالف الكتاب والسنة، بل كل ما فيه بينونة فليس من الطلاق الثلاث، فإذا سمي طلاقا بائناً ولم يجعل من الثلاث، فهذا معني صحيح لا تنازع فيه‏.‏ قالوا‏:‏ ولو كان الخلع طلاقا لما جاز في الحيض؛ فإن اللّه حرم طلاق الحائض، وقد سلم لنا المنازعون أو أكثرهم أنه يجوز في الحيض، ولأن الحاجة داعية إليه في الحيض، قالوا‏:‏ واللّه تعالى إنما حرم المرأة بعد الطلقة الثالثة عقوبة للرجل لئلا يطلق لغير حاجة؛ فإن الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قدر الحاجة، والحاجة تندفع بثلاث مرات؛ ولهذا أبيحت الهجرة ثلاثا، والإحداد لغير موت الزوج ثلاثا، ومقام المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا‏.‏ والأصل في الهجرة ومقام المهاجر بمكة التحريم

    ج/ 32 ص -294-ثم اختلف هؤلاء‏:‏ هل من شرط كونه فسخاً أن يكون بغير لفظ الطلاق ونيته‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏:‏
    أحدها‏:‏ أنه لا بد أن يكون بغير لفظ الطلاق ونيته‏.‏ فمن خالع بلفظ الطلاق أو نواه، فهو من الطلاق الثلاث، وهذا قول أكثر المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد، ثم قد يقول هؤلاء‏:‏ إذا عري عن صريح الطلاق ونيته فهو فسخ‏.‏ وقد يقولون‏:‏ إنه لا يكون فسخاً إلا إذا كان بلفظ الخلع‏.‏ والفسخ والمفاداة دون سائر الألفاظ، كلفظ الفراق، والسراح، والإبانة وغير ذلك من الألفاظ التي لا يفارق الرجل امرأته إلا بها، مع أن ابن عباس لم يسمه إلا فدية وفراقا وخلعا، وقال‏:‏ الخلع فراق، وليس بطلاق‏.‏ ولم يسمه ابن عباس فسخا، ولا جاء في الكتاب والسنة تسميته فسخا، فكيف يكون لفظ الفسخ صريحآً فيه دون لفظ الفراق‏؟‏ ‏!‏ وكذلك أحمد بن حنبل أكثر ما يسميه فرقة ليست بطلاق‏.‏ وقد يسميه فسخا أحيانا؛ لظهور هذا الاسم في عرف المتأخرين‏.‏
    والثاني أنه إذا كان بغير لفظ الطلاق كلفظ الخلع والمفاداة والفسخ فهو فسخ، سواء نوي به الطلاق أو لم ينو‏.‏ وهذا الوجه ذكره غير واحد من أصحاب الشافعي وأحمد‏.‏
    وعلى هذا القول‏:‏ فهل هو فسخ إذا عري عن صريح الطلاق بأي لفظ وقع من الألفاظ والكنايات‏؟‏ أو هو مختص بلفظ الخلع والفسخ والمفاداة‏؟‏ على وجهين، كالوجهين على القول الأول‏.‏

    ج/ 32 ص -295-وهذا القول أشبه بأصولهما من الذي قبله؛ فإن اللفظ إذا كان صريحًا في باب ووجد معادًا فيه لم يكن كناية في غيره، ولهذا لو نوي بلفظ الظهار الطلاق لم يقع عند عامة العلماء، وعلى هذا دل الكتاب والسنة‏.‏ وكذلك عند أحمد‏:‏ لو نوي بلفظ الحرام الطلاق لم يقع؛ لأنه صريح في الظهار، لاسيما على أصل أحمد‏.‏ وألفاظ الخلع والفسخ والفدية مع العوض صريحة في الخلع فلا تكون كناية في الطلاق، فلا يقع بها الطلاق بحال، ولأن لفظ الخلع والمفاداة والفسخ والعوض إما أن تكون صريحة في الخلع، وصريحة في الطلاق، أو كناية فيهما، فإن قيل بالأول وهو الصحيح لم يقع بها الطلاق وإن نواه‏.‏ وإن قيل بالثاني لزم أن يكون لفظ الخلع والفسخ والمفاداة من صريح الطلاق، فيقع بها الطلاق، كما يقع بلفظ الطلاق عند التجرد، وهذا لم يقله أحد، ولم يعدها أحد من الصرائح‏.‏ فإن قيل‏:‏ هي مع العوض صريحة في الطلاق، قيل‏:‏ هذا باطل على أصل الشافعي؛ فإن ما ليس بصريح عنده لا يصير صريحًا بدخول العوض؛ ولهذا قال الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد‏:‏ إن النكاح لا ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج؛ لأن ما سوي ذلك كناية والكناية تفتقر إلى النية، والنية لا يمكن إلا بإشهاد عليها، والنكاح لابد فيه من الشهادة، فإذا قال‏:‏ ملكتكها بألف، وأعطيتكها بألف، ونحو ذلك، أو وهبتكها لم يجعل دخول العوض قرينة في كونه نكاحًا؛ لاحتمال تمليك الرقبة‏.‏ كذلك لفظ المفاداة يحتمل المفاداة من الأسر‏.‏ ولفظ الفسخ إن كان طلاقًا مع

    ج/ 32 ص -296-العوض فهو طلاق بدون العوض، ولم يقل أحد من أصحاب الشافعي‏:‏ إنه صريح في الطلاق بدون العوض، بل غايته أن يكون كناية‏.‏ وهذا القول مع كونه أقرب من الأول؛ فهو أيضًا ضعيف‏.‏
    القول الثالث‏:‏ أنه فسخ بأي لفظ وقع، وليس من الطلاق الثلاث‏.‏ وأصحاب هذا القول لم يشترطوا لفظًا معينًا، ولا عدم نية الطلاق؛ وهذا هو المنقول عن ابن عباس وأصحابه، وهو المنقول عن أحمد بن حنبل وقدماء أصحابه في الخلوع بين لفظ ولفط، لا لفظ الطلاق ولا غيره، بل ألفاظهم صريحة في أنه فسخ بأي لفظ كان، أصرح من لفظ الطلاق في معناه الخالص‏.‏ وأما الشافعي فلم يقل عن أحد من السلف أنه فرق بين لفظ الطلاق وغيره، بل لما ذكر قول ابن عباس وغيره وأصحابه ذكر عن عكرمة أنه قال‏:‏ كل ما أجازه المال فليس بطلاق‏.‏ قال‏:‏ وأحسب من لم يجعله طلاقًا إنما يقول ذلك إذا لم يكن بلفظ الطلاق‏.‏
    ومن هنا ذكر محمد بن نصر، والطحاوي ونحوهما‏:‏ أنهم لا يعلمون نزاعًا في الخلع بلفظ الطلاق‏.‏ومعلوم أن مثل هذا الظن لا ينقل به مذاهب السلف، ويعدل به عن ألفاظهم وعلمهم وأدلتهم البينة في التسوية بين جميع الألفاظ وأما أحمد فكلامه بين في أنه لا يعتبر لفظًا، ولا يفرق بين لفظ ولفظ، وهو متبع لابن عباس في هذا

    ج/ 32 ص -297-القول وبه اقتدي‏.‏ وكان أحمد يقول‏:‏ إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام‏.‏ وإمامه في هذه المسألة هو ابن عباس، ونقله أحمد وغيره عن ابن عباس وأصحابه‏.‏ فتبين أن الاعتبار عندهم ببذل المرأة العوض، وطلبها الفرقة‏.‏ وقد كتبت ألفاظهم في هذا الباب في الكلام المبسوط‏.‏
    وأيضًا، فقد روي البخاري في صحيحه، عن ابن عباس‏:‏ أن النبي ﷺ قال لثابت بن قيس بن شماس وهو أول من خالع في عهد النبي ﷺ، لما جاءت امرأته إلى النبي ﷺ، وقالت له‏:‏ لا أنقم عليه خلقًا ولا دينًا، ولكن أكره الكفر بعد في الإسلام، فذكرت أنها تبغضه‏.‏ فقال لها النبي ﷺ‏:‏ ‏
    "‏أتردين عليه الحديقة‏؟‏‏"‏ فقالت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة‏"‏‏.‏
    وابن عباس الذي يروي هذا اللفظ عن النبي ﷺ، وروي أيضًا عن النبي ﷺ أنه أمرها بحيضة استبراء‏.‏ وقال‏:‏ لا عدة عليك، وأفتي بأن طلاق أهل اليمن الذي يسمونه الفداء ليس من الطلاق الثلاث، مع أن إبراهيم بن سعد قال له‏:‏ عامة أهل اليمن الفداء، فقال له‏:‏ ليس الفداء بطلاق، وإنما هو فراق، ولكن الناس غلطوا في اسمه‏.‏ فأخبره السائل أن طلاقهم هو الفداء، وهذا ظاهر في أن ذلك يكون بلفظ الطلاق، وأدني أحواله أن يعم لفظ الطلاق وغيره، وابن عباس أطلق الجواب

    ج/ 32 ص -298-وعمم، ولم يستثن الفداء بلفظ الطلاق ولا عين له لفظًا، مع علمه بأن وقوع ذلك بلفظ الطلاق أكثر منه بغيره، بل العامة لا تعرف لفظ الفسخ والخلع ونحو ذلك إن لم يعلمها ذلك معلم، ولا يفرقون بين لفظ ولفظ، بل كثير منهم إذا قيل له‏:‏ خالع امرأتك، طلقها بلا عوض، وقال‏:‏ قد خلعتها‏.‏ فلا يعرفون الفرق بين لفظ ولفظ إن لم يذكر لهم الغرض في أحد اللفظين‏.‏وأهل اليمن إلى اليوم تقول المرأة لزوجها‏:‏ طلقني‏.‏ فيقول لها‏:‏ ابذلي لي فتبذل له الصداق أو غيره فيطلقها‏.‏ فهذا عامة طلاقهم، وقد أفتاهم ابن عباس بأن هذا فدية وفراق وليس بطلاق‏.‏ ورد امرأة على زوجها بعد طلقتين وفداء مرة‏.‏ فهذا نقل ابن عباس وفتياه واستدلاله بالقرآن بما يوافق هذا القول‏.‏
    وهذا كما أنه مقتضي نصوص أحمد وأصوله فهو مقتضي أصول الشرع، ونصوص الشارع؛ فإن الاعتبار في العقود بمقاصدهما ومعانيها، لا بألفاظها‏.‏ فإذا كان المقصود باللفظين واحدًا لم يجز اختلاف حكمهما‏.‏ ولو كان المعني الواحد إن شاء العبد جعله طلاقًا وإن شاء لم يجعله طلاقًا كان تلاعبًا وهذا باطل‏.‏
    وقد أوردوا على هذا أن المعتقة تحته إذا خيرها زوجها فإن لها أن تطلق نفسها، ولها أن تفسخ النكاح لأجل عتقها‏.‏ قالوا‏:‏ فهي مخيرة بين الأمرين وكذلك الزوج مع العوض يملك إيقاع فسخ، ويملك إيقاع طلاق‏.‏ وهذا القياس ضعيف، فإن هذه إذا طلقت نفسها إنما يقع الطلاق رجعيًا، فتكون مخيرة بين

    ج/ 32 ص -299-إيقاع فرقة بائنة، وبين إيقاع طلاق رجعي‏.‏ وهذا مستقيم، كما يخير الزوج بين أن يخلعها مفارقة فرقة بائنة، وبين أن يطلقها بلا عوض طلاقًا رجعيًا، وإنما المخالف للأصول أن يملك فرقة بائنة إن شاء جعلها فسخًا، وإن شاء جعلها طلاقًا، والمقصود في الموضعين واحد، وهو الفرقة البائنة، والأمر إليه في جعلها طلاقًا، أو غير طلاق، فهذا هو المنكر الذي يقتضي أن يكون العبد إن شاء جعل العقد الواحد طلاقًا، وإن شاء جعله غير طلاق، مع أن المقصود في الموضعين واحد‏.‏
    وأيضًا، فالذي يرجع إلى العبد هو قصد الأفعال وغايتها، وأما الأحكام فإلى الشارع‏.‏ فالشارع يفرق بين حكم هذا الفعل وحكم هذا الفعل، لاختلاف المقصود بالفعلين‏.‏ فإذا كان مقصود الرجل بها واحداً لم يكن مخيرا في إثبات الحكم ونفيه، ومعلوم أن مقصود الفرقة واحد لا يختلف‏.‏
    وأيضًا، فمعني الافتداء ثابت فيما إذا سألته أن يفارقها بعوض، والله علق حكم الخلع بمسمي الفدية، فحيث وجد هذا المعني فهو الخلع المذكور في كتاب الله تعالى‏.‏
    وأيضًا، فإن الله جعل الرجعة من لوازم الطلاق في القرآن، فلم يذكر الله تعالى طلاق المدخول بها إلا وأثبت فيه الرجعة، فلو كان الافتداء طلاقا

    ج/ 32 ص -300-لثبت فيه الرجعة وهذا يزيل معني الافتداء؛ إذ هو خلاف الإجماع، فإنا نعلم من قال‏:‏ إن الخلع المطلق يملك فيه العوض ويستحق فيه الرجعة‏.‏ لكن قال طائفة‏:‏ هو غير لازم، فإن شاء رد العوض وراجعها، وتنازع العلماء فيما إذا شرط الرجعة في العوض‏:‏ هل يصح‏؟‏ على قولين‏:‏ هما روايتان عن مالك‏.‏ وبطلان الجمع مذهب أبي حنيفة والشافعي، وهو قول متأخرى أصحاب أحمد‏.‏ ثم من هؤلاء من يوجب العوض ويرد الرجعة‏.‏ ومنهم من يثبت الرجعة ويبطل العوض‏.‏ وهما وجهان في مذهب أحمد والشافعي، وليس عن أحمد في ذلك نص‏.‏ وقياس مذهب أحمد صحته بهذا الشرط، كما لو بذلت مالا على أن تملك أمرها‏.‏ فإنه نص على جواز ذلك، ولأن الأصل عنده جواز الشرط في العقود، إلا أن يقوم على فسادها دليل شرعي، وليس الشرط الفاسد عنده ما يخالف مقتضي العقد عند الطلاق، بل ما خالف مقصود الشارع وناقض حكمه، كاشتراط الولاء لغير المعتق، واشتراط البائع للوطء مع أن الملك للمشتري، ونحو ذلك‏.‏
    وأيضًا، فالفرق بين لفظ ولفظ في الخلع قول محدث لم يعرف عن أحد من السلف‏:‏ لا الصحابة، ولا التابعين، ولا تابعيهم‏.‏ والشافعي رضي الله عنه لم ينقله عن أحد، بل ذكر‏:‏ أنه يحسب أن الصحابة يفرقون‏.‏ ومعلوم أن هذا ليس نقلا لقول أحد من السلف‏.‏ والشافعي ذكر هذا في أحكام القرآن‏.‏ ورجح فيه أن الخلع طلاق وليس بفسخ، فلم يجز هذا القول لما ظنه من تناقض أصحابه، وهو أنهم يجعلونه بلفظ طلاقاً بائناً من الثلاث،

    ج/ 32 ص -301-وبلفظ ليس من الثلاث‏.‏ فلما ظنه من تناقضه عدل عن ترجيحه‏.‏ ولكن هذا التناقض لم ينقله لا هو، ولا أحد غيره عن أحد من السلف القائلين به ولا من اتبعه‏.‏ كأحمد بن حنبل وقدماء أصحابه، وإنما قاله بعض المت أخرىن من أصحاب أحمد، لما وجدو غيرهم قد ذكروا الفرق فيه بين لفظ الطلاق وغيره، وذكر بعضهم كمحمد بن نصر والطحاوي‏:‏ أنهم لا يعلمون في ذلك نزاعاً، وإنما قاله بعض المت أخرىن من أصحاب أحمد، والمنقول عن السلف قاطبة‏:‏ إما جعل الخلع فرقة بائنة، وليس بطلاق‏.‏ وإما جعله طلاقاً‏.‏ وما رأيت في كلام أحد منهم أنه فرق بين لفظ ولفظ، ولا اعتبر فيه عدم نية الطلاق، بل قد يقولون كما يقول عكرمة‏:‏ كل ما أجازه المال فليس بطلاق، ونحو ذلك من العبارات، مما يبين أنهم اعتبروا مقصود العقد، لا لفظاً معيناً، والتفريق بين لفظ ولفظ مخالف للأصول والنصوص‏.‏ وببطلان هذا الفرق يستدل من يجعل الجميع طلاقاً، فيبطل القول الذي دل عليه الكتاب والسنة‏.‏ وهذا الفرق إذا قيل به كان من أعظم الحجج على فساد قول من جعله فسخاً؛ ولهذا عدل الشافعي رضي الله عنه عن ترجيح هذا القول، لما ظهر له أن أهله يفرقون‏.‏
    وأيضًا، ففي السنن أن فيروز الديلمي أسلم وتحته أختان، فقال له النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏طلق أيتهما شئت‏"‏ قال‏:‏ فعمدت إلى أسبقهما صحبة ففارقتها‏.‏ وهو حديث حسن، فقد أمره النبي ﷺ أن يطلق إحداهما، وهذه الفرقة عند الشافعي وأحمد فرقة بائنة، وليست

    ج/ 32 ص -302-من الطلاق الثلاث، فدل ذلك على أن لفظ الطلاق قد تناول ما هو فسخ ليس من الثلاث‏.‏ ويدل على أن الذي أسلم وتحته أكثر من أربع إذا قال‏:‏ قد طلقت هذه، كان ذلك فرقة لها واختياراً لل أخرى، خلاف ما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد‏:‏ أنه إذا قال لإحداهما طلقها، كان ذلك اختياراً لها‏.‏ قالوا‏:‏ لأن الطلاق لا يكون إلا لزوجة فإن هذا القول مخالف للسنة والعقول؛ فإن المطلق للمرأة زاهد فيها، راغب عنها، فكيف يكون مختاراً لها، مريداً لبقائها‏؟‏‏!‏‏!‏ وإنما أوقعهم في مثل هذا ظنهم أن لفظ الطلاق لا يستعمل إلا فيما هو من الطلاق الثلاث، وهذا ظن فاسد مخالف للشرع واللغة وإجماع العلماء‏.‏
    وأيضًا، فإن الطلاق لم يجعل الشارع له لفظا معينا، بل إذا وقع الطلاق بأي لفظ يحتمله وقع عند الصحابة والسلف وعامة العلماء لم ينازع في ذلك إلا بعض متأخرى الشيعة، والظاهرية‏.‏ ولا يعرف في ذلك خلاف عن السلف‏.‏ فإذا قال‏:‏ فارقتك، أو سرحتك، أو سيبتك، ونوى به الطلاق وقع، وكذلك سائر الكنايات‏.‏ فإذا أتي بهذه الكنايات مع العوض مثل أن تقول له‏:‏ سرحني، أو سيبني بألف، أو فارقني بألف، أو خلني بألف‏.‏ فأي فرق بين هذا وبين أن تقول‏:‏ فادني بألف، أو اخلعني بألف، أو افسخ نكاحي بألف‏.‏ وكذلك سائر ألفاظ الكنايات‏.‏ مع أن لفظ الخلع والفسخ إذا كان بغير عوض ونوى بهما الطلاق وقع الطلاق رجعياً، فهما من ألفاظ الكناية في الطلاق‏.‏ فأي فرق في ألفاظ الكنايات بين لفظ ولفظ‏؟‏‏!‏

    ج/ 32 ص -303-وقد اختلف العلماء في صحة الخلع بغير عوض على قولين‏:‏ هما روايتان عن أحمد‏.‏ أحدهما‏:‏ كقول أبي حنيفة والشافعي، وهي اختيار أكثر أصحابه‏.‏ والثانية‏:‏ يصح، كالمشهور في مذهب مالك، وهي اختيار الخرقي‏.‏ وعلى هذا القول فلابد أن ينوى بلفظ الخلع الطلاق، ويقع به طلاق بائن لا يكون فسخاً على الروايتين، نص على ذلك أحمد - رحمه الله؛ فإنه لو أجاز أن يكون فسخاً بلا عوض لكان الرجل يملك فسخ النكاح ابتداءاً ولا يحسب ذلك عليه من الثلاث، وهذا لا يقوله أحد؛ فإنه لو جاز ذلك لكان هذا يستلزم جعل الطلاق بغير عدد، كما كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام لم يكن للطلاق عدد‏.‏ فلو كان لفظ الفسخ أو غيره يقع ولا يحسب من الثلاث لكان ذلك يستعمل بدل لفظ الطلاق، ومعناه معني الطلاق بلا عدد‏.‏ وهذا باطل‏.‏
    وإن قيل‏:‏ هو طلاق بائن، قيل‏:‏ هذا أشد بطلاناً؛ فإنه إن قيل‏:‏ إنه لا يملك إلا الطلاق الرجعي ولا يملك طلاقاً بائناً بطل هذا‏.‏ وإن قيل‏:‏ إنه يملك إيقاع طلاق بائن فلو جوز له أن يوقعه بلفظ الفسخ ولا يكون من الثلاث لزم المحذور، وهو أن يطلق المرأة كلما شاء، ولا يحسب عليه من الثلاث‏.‏ ولهذا لم يتنازع العلماء أن لفظ الخلع بلا عوض ولا سؤال لا يكون فسخاً؛ وإنما النزاع فيما إذا طلبت المرأة أن يطلقها طلقة بائنة بلا عوض‏:‏ هل تملك ذلك‏؟‏ على قولين‏.‏

    ج/ 32 ص -304-فإن العلماء تنازعوا على ثلاثة أقوال في الطلاق البائن‏.‏ فقيل‏:‏ إن شاء الزوج طلق طلاقا بائنا، وإن شاء طلق طلاقا رجعيا، بناء على أن الرجعة حق له‏.‏ وإن شاء أثبتها‏.‏ وإن شاء نفاها‏.‏ وهذا مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد‏.‏ وأظنه رواية عن مالك‏.‏ وقيل‏:‏ لا يملك الطلاق البائن ابتداء، بل إذا طلبت منه الإبانة ملك ذلك، وهذا معروف عن مالك، ورواية عن أحمد اختارها الخرقي‏.‏ وقيل‏:‏ لا يملك إبانتها بلا عوض، بل سواء طلبت ذلك أو لم تطلبه، ولا يملك إبانتها إلا بعوض‏.‏ وهذا مذهب أكثر فقهاء الحديث، وهو مذهب الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه، وعليه جمهور أصحابه، وهو قول إسحاق، وأبي ثور، وابن المنذر، وابن خزيمة، وداود وغيرهم، وعليه أكثر النقول الثابتة عن أكثر الصحابة، وعلى هذا القول يدل الكتاب والسنة، فإن الله لم يجعل الطلاق إلا رجعيا، وليس في كتاب الله طلاق بائن من الثلاث، إلا بعوض، لا بغير عوض، بل كل فرقة تكون بائنة فليست من الثلاث‏.‏
    وأيضًا، فإن الخلع والطلاق يصح بغير اللفظ العربي باتفاق الأئمة، ومعلوم أنه ليس في لغة العجم لفظ يفرق مع العوض بين ما هو خلع وما هو طلاق ليس بخلع، وإنما يفرق بينهما ما يختص بالخلع من دخول العوض فيه وطلب المرأة الفرقة‏.‏ فلفظ الطلاق يضاف إلى غير المرأة،كقولهم‏:‏ طلقت الدنيا، وطلقت ودك‏.‏وإذا أضيف إلى المرأة فقد يراد به الطلاق من غير الزوج،كما تقول أنت‏:‏طالق من وثاق، أو طالق من الهموم والأحزان

    ج/ 32 ص -305-ولو وصل لفظ الطلاق بذلك لم يقع به بلا ريب، وإن نواه ولم يصله بلفظ دين، وفي قبوله في الحكم نزاع‏.‏
    فإذا وصل لفظ الطلاق بقوله‏:‏ أنت طالق بألف‏.‏ فقالت‏:‏ قبلت‏.‏ أو قالت‏:‏ طلقني بألف‏.‏ فقال‏:‏ طلقتك‏.‏ كان هذا طلاقا مقيداً بالعوض، ولم يكن هو الطلاق المطلق في كتاب الله، فإن ذلك جعله الله رجعياً، وجعل فيه تربص ثلاثة قروء، وجعله ثلاثا‏.‏ فأثبت له ثلاثة أحكام‏.‏ وهذا ليس برجعي بدلالة النص والإجماع، ولا تتربص فيه المرأة ثلاثة قروء بالسنة فلذلك يجب ألا يجعل من الثلاث، وذلك لأن هذا لا يدخل في مسمي الطلاق عند الإطلاق، وإنما يعبر عنه بلفظ الطلاق مع قيد كما يسمي الحلف بالنذر نذر اللجاج والغضب فيسمي نذراً مقيداً؛ لأن لفظه لفظ النذر، وهو في الحقيقة من الأيمان؛ لا من النذور عند الصحابة، وجمهور السلف، والشافعي وأحمد وغيرهما‏.‏
    وكذلك لفظ الماء عند الإطلاق لا يتناول المني، وإن كان يسمي ماء مع التقييد، كقوله تعالى‏:‏ ‏
    "‏خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ‏"‏ ‏[‏الطارق‏:‏6، 7‏]‏‏.‏
    وكذلك لفظ الخف لا يتناول عند الإطلاق المقطوع، وإن كان يقال خف مقطوع‏.‏ فلا يدخل المقطوع في لفظ المسح على الخفين،

    ج/ 32 ص -306-ولا فيما نهى عنه المحرم من لبس الخف على الأصح من أقوال العلماء، فلهذا أمر النبي ﷺ المحرم أولاً بقطع الخفين؛ لأن المقطوع ليس بخف، ثم رخص في عرفات في لبس السراويل ولبس الخفاف، ولم يشترط فتق السراويل، ولا قطع الخفاف‏.‏ والسراويل المفتوق، والخف المقطوع، لا يدخل في مسمي الخف والسراويل عند الإطلاق‏.‏
    وكذلك لفظ البيع المطلق لا يتناول بيع الخمر والميتة والخنزير، وإن كان يسمي بيعاً مع التقييد‏.‏
    وكذلك الإيمان عند الإطلاق إنما يتناول الإيمان بالله ورسوله، وأما مع التقييد فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏
    "‏أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ‏"‏[‏النساء‏:‏ 51‏]‏، لا يدخل في مطلق الإيمان‏.‏
    وكذلك لفظ البشارة عند الإطلاق إنما تناول الإخبار بما يسر، وأما مع التقييد فقد قال تعالى‏:‏ ‏
    "‏فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ إليمٍ‏"[‏آل عمران‏:‏ 21‏]‏‏.‏ وأمثال ذلك كثيرة‏.‏
    فالطلاق المطلق في كتاب الله يتناول الطلاق الذي يوقعه الزوج بغير عوض فتثبت له فيه الرجعة، وما كان بعوض فلا رجعة له فيه، وليس من الطلاق المطلق؛ وإنما هو فداء تفتدي به المرأة نفسها من زوجها

    ج/ 32 ص -307-كما تفتدي الأسيرة نفسها من أسرها، وهذا الفداء ليس من الطلاق الثلاث سواء وقع بلفظ الخلع، أو الفسخ، أو الفداء، والسراح، أو الفراق، أو الطلاق، أو الإبانة، أو غير ذلك من الألفاظ‏.‏
    ولهذا جاز عند الأئمة الأربعة والجمهور من الأجنبي، فيجوز للأجنبي أن يختلعها، كما يجوز أن يفتدي الأسيرة، كما يجوز أن يبذل الأجنبي لسيد العبد عوضاً ليعتقه، ولهذا ينبغي أن يكون ذلك مشرطا بما إذا كان قصده تخليصها من رق الزوج، لمصلحتها في ذلك، كما يفتدي الأسير‏.‏ وفي مذهب الشافعي وأحمد وجه أنه إذا قيل‏:‏ إنه فسخ، لم يصح من الأجنبي‏.‏ قالوا‏:‏ لأنه حينئذ يكون إقالة، والإقالة لا تصح مع الأجنبي‏.‏ وهذا الذي ذكره أبو المعالى وغيره من أهل الطريقة الخراسانية‏.‏ والصحيح في المذهبين أنه على القول بأنه فسخ هو فسح، وإن كان من الأجنبي، كما صرح بذلك من صرح به من فقهاء المذهبين، وإن كان صاحب شرح الوجيز لم يذكر ذلك، فقد ذكره أئمة العراقيين، كأبي إسحق الشيرازي في خلافه وغيره‏.‏ وهذا لأنهم جعلوه كافتداء الأسير، وكالبذل لإعتاق العبد، لا كالإقالة؛ فإن المقصود به رفع ملك الزوج عن رق المرأة لتعود خالصة من رقه، ليس المقصود منه نقل ملك إليها، فهو شبيه بإعتاق العبد، وفك الأسير، لا بالإقالة في البيع؛ فلهذا يجوز باتفاق الأئمة بدون الصداق المسمي، وجوزه الأكثرون بأكثر من الصدقات، ويجوز أيضًا بغير جنس الصداق، وليست الإقالة كذلك، بل

    ج/ 32 ص -308-الإقالة المقصود بها تراد العوض‏.‏ وإذا كرهنا أو حرمنا أخذ زيادة على صداقها فهذا لأن العوض المطلق في خروجها من ملك الزوج هو المسمي في النكاح فإن البضع لا يباع ولا يوهب ولا يورث كما يباع المال ويوهب ويورث، وكما تؤجر المنافع وتعار وتورث والتجارة والإجارة جائزة في الأموال بالنص والإجماع‏.‏
    وأما التجارة المجردة في المنافع‏:‏ مثل أن يستأجر داراً ويؤجرها بأكثر من الأجرة من غير عمل يحدثه، ففيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد أشهرهما عنه‏:‏ يجوز، وهو قول أكثر العلماء، كمالك والشافعي‏.‏ والثاني‏:‏ لا يجوز كقول أبي حنيفة‏.‏ قالوا‏:‏ لأنه يدخل في ربح مالم يضمن‏.‏ والأول أصح؛ لأن هذه المنافع مضمونة على المستأجر، بمعني أنه إذا سلم إليه العين المؤجرة ولم ينتفع بالعين تلفت على ملكه، بخلاف ما إذا تلفت العين المؤجرة، فإن هذا بمنزلة تلف الثمر قبل صلاحه‏.‏
    والمقصود هنا أن المنافع التي تورث قد تنوزع في جواز التجارة فيها، فكيف بالأبضاع التي لا توهب ولا تورث بالنص والإجماع، وإنما كان أهل الجاهلية يرثون الأبضاع، فأبطل الله ذلك‏.‏ فلو أراد الزوج أن يفارق المرأة ويزوجها بغيره ليأخذ صداقها لم يملك ذلك‏.‏ ولو وطئت بشبهة لكان المهر لها دونه، فلهذا نهي عن الزيادة‏.‏ وإذا شبه الخلع بالإقالة، فالإقالة في كل عقد بحسبه‏.‏ وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع‏.‏

    ج/ 32 ص -309-وهذا القول الذي ذكرناه من أن الخلع فسخ تبين به المرأة بأي لفظ كان هو الصحيح الذي عليه تدل النصوص والأصول‏.‏ وعلى هذا فإذا فارق المرأة بالعوض عدة مرات كان له أن يتزوجها، سواء كان بلفظ الطلاق أو غيره‏.‏وإذا قيل‏:‏ الطلاق صريح في إحدى الثلاث فلا يكون كناية في الخلع‏.‏ قيل‏:‏ إنما الصريح اللفظ المطلق‏.‏فأما المقيد بقيد يخرجه عن ذلك، فهو صريح في حكم المقيد، كما إذا قال‏:‏ أنت طالق من وثاق، أو من الهموم والأحزان، فإن هذا صريح في ذلك، لا في الطلاق من النكاح‏.‏وإذا قال‏:‏ أنت طالق بألف‏.‏ فقالت‏:‏ قبلت، فهو مقيد بالعوض‏.‏ وهو صريح في الخلع، لا يحتمل أن يكون من الثلاث البتة، فإذا نوى أن يكون من الثلاث فقد نوى باللفظ مالا يحتمله، كما لو نوى بالخلع أن تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره‏.‏ فنيته هذا الحكم باطل، كذلك نيته أن يكون من الثلاث باطل، وكذلك لو نوى بالظهار الطلاق، أو نوى بالإيلاء الطلاق مؤجلا، مع أن أهل الجاهلية كانوا يعدون الظهار طلاقا، والإيلاء طلاقا، فأبطل الله ورسوله ذلك، وحكم في الإيلاء بأن يمسك بمعروف أو يسرح بإحسان، مع تربص أربعة أشهر‏.‏ وحكم في الظهار بأنه إذا عاد كما قال، كفر قبل المماسة، ولا يقع به الطلاق‏.‏
    ولهذا كان من جعل الإيلاء طلاقا مؤجلا، أو جعل التحريم الذي في معني الظهار طلاقا، قوله مرجوح، فيه شبه لما كانوا عليه أولاً، بخلاف من

    ج/ 32 ص -310-فرق بين حقيقة الظهار، وحقيقة الإيلاء، وحقيقة الطلاق، فإن هذا علم حدود ما أنزل الله على رسوله، فلم يدخل في الحدود ما ليس منه، ولم يخرج منه ما هو فيه‏.‏
    وكذلك الافتداء له حقيقة يباين بها معني الطلاق الثلاث‏:‏ فلا يجوز أن يدخل حقيقة الطلاق في حقيقة الافتداء، ولا حقيقة الافتداء في حقيقة الطلاق، وإن عبر عن أحدهما بلفظ الآخر، أو نوى بأحدهما حكم الآخر، فهو كما إذا نوى بالطلقة الواحدة، أو الخلع‏:‏ أن تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره‏.‏ فنية هذا الحكم باطل، وكذلك نيته أن تكون من الثلاث باطل، فإن الله لم يحرمها حتى تنكح زوجاً غيره إلا بعد الطلقة الثالثة فمن نوى هذا الحكم بغير هذا الطلاق فقد قصد ما يناقض حكم الله ورسوله، كذلك من نوى بالفرقة البائنة أن الفرقة نقص بعض من الثلاث فقد قصد ما يناقض حكم الله ورسوله، وليس له ذلك‏.‏ وإذا كان قصد هذا أو هذا لجهله بحكم الله ورسوله كان كما لو قصد بسائر العقود ما يخالف حكم الله ورسوله، فيكون جاهلا بالسنة، فيرد إلى السنة، كما قال عمر بن الخطاب‏:‏ ردوا الجهالات إلى السنة‏.‏ وكما قال طائفة من السلف فيمن طلق ثلاثا بكلمة‏:‏ هو جاهل بالسنة، فيرد إلى السنة‏.‏
    وقول النبي ﷺ للمخالع‏:‏
    ‏"‏وطلقها تطليقة‏"‏ إذن له في الطلقة الواحدة بعوض، ونهى له عن الزيادة‏.‏
    كما قد بين دلالة الكتاب والسنة على أن الطلاق السنة أن يطلق طلقة واحدة، ثم يراجعها، أو يدعها حتى تنقضي عدتها، وأنه متى طلقها

    ج/ 32 ص -311-ثنتين أو ثلاثا قبل رجعة أو عقد جديد، فهو طلاق بدعة، محرم عند جمهور السلف والخلف، كما هو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأصحابهما، وأحمد في آخر قوليه، واختيار أكثر أصحابه‏.‏ وهل يقع الطلاق المحرم‏؟‏ فيه نزاع بين السلف والخلف، كما قد بسط في موضعه‏.‏ وذكر ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ﷺ واحدة، وزمان أبي بكر، وصدراً من خلافة عمر، فلما تتابع الناس على ذلك قال عمر‏:‏ إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو نفذناه عليهم، فأنفذه عليهم‏.‏ وقد تكلمنا على هذا الحديث وعلى كلام الناس فيه بما هو مبسوط في موضعه‏.‏
    وذكرنا الحديث الآخر الذي يوافقه الذي رواه الإمام أحمد وغيره من حديث محمد بن إسحق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثا، فلما أتي النبي ﷺ قال له النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏في مجلس أم مجالس‏"‏ قال‏:‏ بل في مجلس واحد، فردها عليه‏.‏ وقد أثبت هذا الحديث أحمد بن حنبل، وبين أنه أصح من رواية من روي في حديث ركانة‏.‏ أنه طلقها البتة، وأن النبي ﷺ استحلفه‏:‏ ‏"‏ما أردت إلا واحدة‏"‏ قال‏:‏ ما أردت إلا واحدة، فردها عليه‏.‏فإن رواة هذا مجاهيل الصفات لا يعرف عدلهم وحفظهم، ولهذا ضعف أحمد وأبو عبيد وابن حزم وغيرهم

    ج/ 32 ص -312-من أئمة الحديث حديثهم، بخلاف حديث الثلاث فإن إسناده جيد، وهو من رواية ابن عباس موافق لحديثه الذي في الصحيح، والذين رواه علماء فقهاء وقد عملوا بموجبه، كما أفتي طاووس، وعكرمة، وابن إسحق‏:‏ أن الثلاث واحدة‏.‏ وقد قال من قال منهم‏:‏ هذا أخطأ السنة، فيرد إلى السنة‏.‏ وما ذكره أبو داود في سننه من تقديم رواية البتة، فإنما ذاك لأنه لم يذكر حديث داود بن الحصين هذا عن عكرمة عن ابن عباس، وإنما ذكر طريقاً آخر عن عكرمة من رواية مجهول‏.‏ فقدم رواية مجهول على مجهول‏.‏ وأما رواية داود بن الحصين هذه، فهي مقدمة على تلك باتفاق أهل المعرفة، ولكن هذه الطريق لم تبلغ أكثر العلماء، كما أن حديث طاووس لا يعرفه كثير من الفقهاء، بل أكثرهم‏.‏ وقد بسط الكلام على هذا في مواضع، وبين الكلام على ما نقل عن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة في الإفتاء بلزوم الثلاث‏:‏ أن ذلك كان لما أكثر الناس من فعل المحرم وأظهروه، فجعل عقوبة لهم‏.‏
    وذكر كلام الناس على الإلزام بالثلاث‏:‏ هل فعله من فعله من الصحابة؛ لأنه شرع لازم من النبي ﷺ أو فعله عقوبة ظهور المنكر وكثرته‏؟‏ وإذا قيل‏:‏ هو عقوبة‏:‏ فهل موجبها دائم لا يرتفع أو يختلف باختلاف الأحوال‏؟‏ وبين أن هذا لا يجوز أن يكون شرعاً لازما، ولا عقوبة اجتهادية لازمة، بل غايته أنه اجتهاد سايغ مرجوح، أو عقوبة عارضة

    ج/ 32 ص -313-شرعية، والعقوبة إنما تكون لمن أقدم عليها عالما بالتحريم‏.‏ فأما من لم يعلم بالتحريم، ولما علمه تاب منه‏:‏ فلا يستحق العقوبة، فلا يجوز إلزام هذا بالثلاث المجموعة، بل إنما يلزم واحدة، هذا إذا كان الطلاق بغير عوض‏.‏
    فأما إذا كان بعوض فهو فدية كما تقدم، فلا يحل له أن يوقع الثلاث أيضًا بالعوض، كما أمر النبي ﷺ أن لا يطلق بالعوض إلا واحدة لا أكثر، كما لا يطلق بغيره إلا واحدة لا أكثر، لكن الطلاق بالعوض طلاق مقيد، هو فدية، وفرقة بائنة، ليس هو الطلاق المطلق في كتاب الله، فإن هذا هو الرجعي‏.‏ فإذا طلقها ثلاثاً مجموعة بعوض، وقيل‏:‏ إن الثلاث بلا عوض واحدة، وبالعوض فدية لا تحسب من الثلاث، كانت هذه الفرقة بفدية لا تحسب من الثلاث، وكان لهذا المفارق أن يتزوجها عقداً جديداً، ولا يحسب عليه ذلك الفراق بالعوض من الثلاث، فلا يلزمه الطلاق لكونه محرماً، والثنتان محرمة، والواحدة مباحة، ولكن تستحب الواحدة بالعوض من الثلاث؛ لأنها فدية، وليست من الطلاق الذي جعلها الله ثلاثاً، بل يجوز أن يتزوج المرأة وتكون معه على ثلاث‏.‏
    وجماع الأمر أن البينونة نوعان‏:‏ البينونة الكبري وهي إيقاع البينونة الحاصلة بإيقاع الطلاق الثلاث الذي تحرم به المرأة حتى تنكح زوجا غيره‏.‏ والبينونة الصغري وهي التي تبين بها المرأة وله أن يتزوجها بعقد

    ج/ 32 ص -314-جديد في العدة وبعدها‏.‏ فالخلع تحصل به البينونة الصغري، دون الكبري‏.‏ والبينونة الكبري الحاصلة بالثلاث تحصل إذا أوقع الثلاث على الوجه المباح المشروع، وهو أن يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يصبها فيه، أو يطلقها واحدة وقد تبين حملها ويدعها حتى تنقضي العدة، ثم يتزوجها بعقد جديد‏.‏ وله أن يراجعها في العدة‏.‏ وإذا تزوجها أو ارتجعها فله أن يطلقها الثانية على الوجه المشروع‏.‏
    فإذا طلقها ثلاثاً بكلمة واحدة أو كلمات قبل رجعة أو عقد فهو محرم عند الجمهور، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة في المشهور عنه، بل وكذلك إذا طلقها الثلاث في أطهار قبل رجعة أو عقد، في مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه‏.‏ ولو أوقع الثلاث إيقاعا محرماً‏:‏ فهل يقع الثلاث أو واحدة‏؟‏ على قولين معروفين للسلف والخلف، كما قد بسط في موضعه‏.‏ فإذا قيل‏:‏ إنه لا يقع لم يملك البينونة الكبري بكلمة واحدة، وإذا لم يملكها لم يجز أن تبذل له العوض فيما لا يملكه، فإذا بذلت له العوض على الطلاق الثلاث المحرمة بذلت له العوض فيما يحرم عليه فعله ولا يملكه، فإذا أوقعه لم يقع منه إلا المباح، والمباح بالعوض إنما هو بالبينونة الصغري دون الكبري، بل لو طلقها ثنتين وبذلت له العوض على الفرقة بلفظ الطلاق أو غير الطلاق لم تقع الطلقة الثالثة على قولنا‏:‏ إن الفرقة بعوض فسخ تحصل به البينونة الصغري؛ فإذا فارقها بلفظ الطلاق أو غيره في هذه الصورة وقعت به البينونة الصغري وهو الفسخ

    ج/ 32 ص -315-دون الكبري‏.‏ وجاز له أن يتزوج المرأة بعقد جديد، لكن إن صرحت ببذل العوض في الطلقة الثالثة المحرمة وكان مقصودها أن تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره، فقد بذلت العوض في غير البينونة الصغري، وهو يشبه ما إذا بذلت العوض في الخلع بشرط الرجعة‏.‏ فإن اشتراطه الرجعة في الخلع يشبه اشتراطها الطلاق المحرم لها فيه، وهو في هذه الحال بملك الطلقة الثالثة المحرمة لها، كما كان يملك قبل ذلك الطلاق الرجعي‏.‏ والله سبحانه أعلم‏.
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله‏:‏
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له‏.‏ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً‏.‏
    فصل
    في الفرقة التي تكون من الطلاق الثلاث، والتي لا تكون من الثلاث، فإن انقسام الفرقة إلى هذين النوعين متفق عليه بين المسلمين فيما أظن فإنه لو حدث بينهما ما أوجب التحريم المؤبد بدون اختيارهما

    ج/ 32 ص -316-كالمصاهرة كانت فرقة تعتبر طلاقاً، لكن تنازع العلماء في أنواع كثيرة من ‏[‏المفارقات‏]‏ مثل‏:‏ الخلع، ومثل الفرقة باختلاف الدين، والفرقة لعيب في الرجل مثل جب، أو عنة، ونحو ذلك‏:‏ هل هو طلاق من الثلاث، أم ليس من ذلك‏؟‏
    وسبب ذلك تنقيح مناط الفرق بين الطلاق وغيره‏.‏ ومذهب الشافعي وأحمد في هذا الباب أوسع من مذهب أبي حنيفة ومالك؛ ولهذا اختلف قولهما في الخلع‏:‏ هل هو طلاق أم ليس بطلاق‏؟‏ والمشهور عن أحمد أنه ليس بطلاق، كقول ابن عباس، وطاووس، وغيرهما، وهو أحد قولي الشافعي، لكن فرق من فرق، من أصحاب الشافعي وأحمد بين أن يكون بلفظ الطلاق أو بغيره‏.‏ فإن كان بلفظه، فهو طلاق منقص‏.‏ وإن كان بلفظ آخر ونوى به الطلاق فهو طلاق أيضًا‏.‏وإن خلا عن لفظ الطلاق ونيته فهو محل النزاع‏.‏ وهذا موضع يحتاج إلى تحقيق، كما يحتاج مناط الفرق إلى تحرير، فإن هذا يبني على أصلين‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن لفظ الطلاق لا يمكن أن ينوى به غير الطلاق المعدود‏.‏
    الثاني‏:‏ تحرير معني الخلع المخالف لمعني الطلاق المعدود، وإلا فإذا قدر أن لفظ الطلاق يحتمل الطلاق المعدود، ويحتمل معني آخر، ونوى

    ج/ 32 ص -317-ذلك المعني، لم يقع به الطلاق المعدود‏.‏ وقد قال الفقهاء‏:‏ أنه إذا قال‏:‏ أنت طالق ونوى من وثاق، أو من زوج قبلي، لم يقع به الطلاق فيما بينه وبين الله‏.‏ وهل يقبل منه في الحكم‏؟‏ على قولين معروفين، هما روايتان عن أحمد‏.‏ فعلم أن الطلاق المضاف إلى المرأة يعني به الطلاق المعدود، ويعني به غير ذلك‏.‏ وقد يضاف الطلاق إلى غير المرأة، كما يروي عن على رضي الله عنه أنه قال‏:‏ يا دنيا قد طلقتك ثلاثاً، لا رجعة لي فيك‏.‏ ومثل الشعر المأثور عن الشافعي‏:‏ اذهب فودك من ودادي طالق‏.‏
    والمنع من ذلك، لما جاءت به السنة من أن لفظ الطلاق المضاف إلى المرأة يراد به الفرقة، ولا يكون من الطلاق المعدود، كما روي الإمام أحمد، وأهل السنن الثلاثة أبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث يزيد بن أبي حبيب، عن أبي وهب الجيشاني، عن الضحاك بن فيروز، عن أبيه قال‏:‏ قلت يا رسول الله، إني أسلمت وتحتى أختان قال‏:‏ ‏
    "‏طلق ايتهما شئت‏"‏، هذا لفظ أبي داود قال‏:‏ حدثنا يحيي بن معين، حدثنا وهب بن جرير، عن أبيه، قال‏:‏ سمعت يحيي بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب‏.‏
    وروي أبو داود من حديث هشيم وعيسي بن المختار، عن ابن أبي ليلي، عن خميصة ابن الشمردل، عن قيس بن الحارث أنه قال‏:‏ أسلمت وعندي ثماني نسوة، فذكرت ذلك للنبي ﷺ، فقال‏:‏
    ‏"‏اختر منهن أربعًا‏"‏‏.

    ج/ 32 ص -318-ورواه ابن ماجه أيضًا‏.‏ وقد روي أحمد والترمذي وابن ماجه واللفظ له ‏:‏ أن ابن عمر قال‏:‏ أسلم غيلان وتحته عشر نسوة، فقال له النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏خذ منهن أربعا‏"‏، قال الترمذي سمعت محمد يقول‏:‏ هذا غير محفوظ، والصحيح ما روي شعيب وغيره عن الزهري قال‏:‏ حدثت عن محمد بن سويد أن غيلان‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ فذكره ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وفي لفظ الإمام أحمد‏:‏ فلما كان في عهد عمر طلق نساءه، وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر، فقال‏:‏ إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك، ولعلك لا تملك إلا قليلا، وايم الله لتراجعن نساءك، ولترجعن مالك، أو لأورثهن منك، ولآمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال‏.‏
    وقد روي هذا الحديث مالك في الموطأ عن الزهري مرسلا، وقد رواه الشافعي وأحمد في مسنديهما في حديث محمد بن جعفر وغيره، عن معمر، عن الزهري مرسلا، لكن بين الإمام أحمد وغيره أن هذا مما غلط فيه معمر لما عدم البصر، فإنه حدثهم به من حفظه، وكان معمر يغلط إذا حدث من حفظه فرواه البصريون عنه كمحمد بن جعفر غندر وغيره، على الغلط، وأما أصحابه الذين سمعوا من كتبه كعبد الرزاق وغيره فرووه على الصواب‏.‏
    ففي حديث فيروز‏:‏ أن النبي ﷺ قال له‏:‏ ‏"‏طلق أيتهما شئت‏"‏، ليس المراد بذلك الطلاق المعدود على قول الشافعي وأحمد وغيرهما، بل المراد

    ج/ 32 ص -319-منه فراقا ليس من الطلاق المعدود؛ فإنه لا يجب عليه أن يطلقها بنص الطلاق المعدود، بل يفارقها عندهم بغير لفظ الطلاق، وأما لفظ الطلاق فلهم فيه كلام سنذكره إن شاء الله‏.‏ وهكذا ما جاء في حديث غيلان‏:‏ ‏"‏أمسك أربعاً، وفارق سائرهن‏"‏‏.‏ وليس عليه أن يفارقها فرقة تحسب من الطلاق المعدود‏.‏ وقد تنازع الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد‏.‏‏.‏‏.‏
    والدليل على أن النبي ﷺ لم يرد بذلك أنه يطلقها بنص الطلاق المعدود، بل أراد المفارقة‏:‏ وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أنه قال في الحديث الآخر‏:‏
    ‏"‏خذ منهن أربعاً‏"‏، فدل على أنه إذا اختار منهن أربعاً كفي ذلك، ولا يحتاج إلى إنشاء طلاق في البواقي فلو كان فراقهن من الطلاق المعدود لاحتاج إلى إنشاء سببه، كما لو قال‏:‏ والله لأطلقن إحدى امرأتي‏.‏ فإنه لابد أن يحدث لها طلاقاً، فلو قال‏:‏ أخذت هذه لم يكن هذا وحده طلاقاً لل أخرى‏.‏ اللهم إلا أن يقال‏:‏ هذا مما قد يقع به الطلاق بالأخرى مع النية‏.‏
    الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ ما زاد على الأربع حرام عليه بالشرع، وما كانت محرمة بالشرع لم تحتج إلى طلاق، لكن المحرمة لما لم تكن معينة كانت له ولاية التعيين‏.‏

    ج/ 32 ص -320-الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ إن الله قد ذكر في كتابه خصائص الطلاق، وهي منتفية من هذه الفرقة، فقال تعالى‏:‏ ‏"‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، فجعل المطلقة زوجها أحق برجعتها في العدة، وما زاد على الأربع لا يمكنه أن يختار واحدة منهن في العدة، إلا أن يقول قائل‏:‏ له في العدة أن يرتجع واحدة من المفارقات ويطلق غيرها، وهذا لا أعلمه قولاً‏.‏
    الرابع‏:‏ أن الله قال‏:‏
    ‏"‏الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏، فجعل له بعد الطلقتين أن يمسك بمعروف، أو يسرح بإحسان، وهذا ليس له في ما زاد على الأربع إذا فارقهن، إلا أن يقال‏:‏ له الرجعة بشرط البدل‏.‏
    الخامس‏:‏ أن الله قال‏:‏ ‏
    "‏إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏"‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، وهذا الفراق لا يقضي على العدة، بل عليه إذا أسلم أن يفارق ما زاد على الأربع‏.‏ وهذا دليل ظاهر‏.‏
    السادس‏:‏ أنه قال‏:‏
    ‏"‏لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ‏"‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، وهذه المفارقة ليست كذلك‏.‏
    السابع‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏
    "‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 232‏]‏، وهذه ليست كذلك‏.‏

    ج/ 32 ص -321-الثامن‏:‏ أن فراق إحدى الأختين وما زاد على الأربع واجب بالشرع عينا‏.‏ والله لم يوجب الطلاق عيناً قط، بل أوجب إما الإمساك بالمعروف وإما التسريح بإحسان‏.‏
    التاسع‏:‏ أن الطلاق مكروه في الأصل؛ ولهذا لم يرخص الله فيه إلا في ثلاث، وحرم الزوجة بعد الطلقة الثالثة؛ عقوبة للرجل لئلا يطلق وهنا الفرقة مما أمر الله بها ورسوله، فكيف يجعل ما يحبه الله ورسوله داخلا في الجنس الذي يكرهه الله ورسوله‏؟‏‏!‏ وصار هذا كما أن هجرة المسلمين كانت محظورة في الأصل رخص الشارع منها في الثلاث‏.‏ فأما الهجرة المأمور بها كهجرة النبي ﷺ وأصحابه للثلاثة الذين خلفوا خمسين ليلة فإنها كانت هجرة يحبها الله ورسوله، فلا تكون من جنس ما هو مكروه أبيح منه الثلاث للحاجة، وكذلك إحداد غير الزوجة لما كان محرماً في الأصل أبيح منه الثلاث للحاجة‏.‏ فأما إحداد الزوجة أربعة أشهر وعشراً، فلما كان مما أمر الله به ورسوله لم يكن من جنس ما كرهه الله ورخص منه في ثلاث للحاجة، فكذلك الفرقة التي يأمر الله بها ورسوله لا تكون من جنس الطلاق الذي يكرهه الله ورسوله ورخص منه في ثلاث للحاجة‏.‏
    والخلع من هذا الباب، فقد روي البخاري في صحيحه من حديث خالد الحذاء عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي ﷺ فقالت‏:‏ يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعيب عليه من خلق ولا دين،

    ج/ 32 ص -322-ولكني أكره الكفر في الإسلام‏.‏ فقال رسول الله ﷺ ‏"‏أتردين عليه حديقته‏؟‏‏"‏ قالت‏:‏ نعم‏.‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة‏"‏، فهذا فيه من رواية عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال‏:‏ ‏"‏اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة‏"‏‏.‏
    وقد ثبت عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما‏:‏ أنهم لم يكونوا يجعلون الخلع من الطلاقات الثلاث، قال أحمد بن حنبل‏:‏ حدثنا يحيي بن سعيد القطان، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس قال‏:‏ الخلع تفريق، وليس بطلاق‏.‏ وقال عبد الله بن أحمد‏:‏ رأيت أبي يذهب إلى قول ابن عباس‏.‏ وهو قول إسحاق، وأبي ثور، وداود وأصحابه، غير ابن حزم‏.‏ وروي عبد الرزاق، عن ابن عينية، عن عمرو بن دينار، عن طاووس أنه سأله إبراهيم بن سعد عن رجل طلق امرأته تطليقتين، ثم اختلعت منه‏:‏ أينكحها‏؟‏ قال ابن عباس‏:‏ نعم‏.‏ ذكر الله الطلاق في الآية وفي آخرها والخلع بين ذلك‏.‏ وروى عبد الرزاق عن ابن جريج، عن ابن طاووس، قال‏:‏ كان أبي لا يري الفداء طلاقا، ويخير له بينهما‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ أخبرني عمرو ابن دينار‏:‏ أنه سمع عكرمة، سمع ابن عباس يقول‏:‏ ما أجازه المال فليس بطلاق، فهذا عكرمة يقول‏:‏ إن كل فرقة وقعت بمال فليست من الطلاق الثلاث، وذلك أن هذا هو معني الفدية المذكورة في كتاب الله

    ج/ 32 ص -323-والفدية ليست من الطلاق الثلاث كما بينه ابن عباس، مع أن ابن عباس وعكرمة هما اللذان روي البخاري من طريقهما حديث امرأة ثابت بن قيس، كما تقدم‏.‏‏.‏‏.‏ قال‏:‏ وحديثهم يرويه عكرمة مرسلا‏.‏ قال أبو بكر عبد العزيز‏:‏ هو ضعيف مرسل، فيقال‏.‏ هذا في بعض طرقه، وسائر طرقه ليس فيها إرسال‏.‏ ثم هذه الطريق قد رواها مسندة من هو مثل من أرسلها إن لم يكن أجل منه‏.‏ وفي مثل هذا يقضي المسند على المرسل‏.‏ وقد روي هذا الحديث الحاكم في صحيحه المسمى بالمستدرك وقال‏:‏ هذا حديث صحيح الإسناد غير أن عبد الرزاق أرسله عن معمر، وخرجه القشيري في أحكامه التي شرط فيها أن لا يروي إلا حديث من وثقة إمام من مزكي رواة الأخبار، وكان صحيحاً على طريقة بعض أهل الحديث الحفاظ وأئمة الفقه النظار‏.‏
    قال‏:‏ وقول عثمان وابن عباس قد خالفه قول عمر وعلى، فإنهما قالا‏:‏ عدتها ثلاث حيض‏.‏ وأما ابن عمر فقد روي مالك عن نافع عنه قال‏:‏ عدة المختلعة عدة المطلقة، وهو أصح عنه‏.‏
    فيقال‏:‏ أما المنقول عن عمر وعلى‏.‏‏.‏‏.‏ وبتقدير ثبوت النزاع بين الصحابة، فالواجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، والسنة قد بينت أن الواجب حيضة‏.‏‏.‏‏.‏ ومما بين ذلك أن النبي ﷺ أمر امرأة ثابت بن قيس أن تحيض

    ج/ 32 ص -324-وتتربص حيضة واحدة، وتلحق بأهلها‏.‏ فلو كان قد طلقها إحدى الطلقات الثلاث للزمتها عدة مطلقة بنص القرآن واتفاق المسلمين، بخلاف الخلع فإنه قد ثبت عن غير واحد من السلف والخلف أنه ليس له عدة، وإنما فيه استبراء بحيض‏.‏ والنزاع في هذه المسألة معروف‏.‏
    أما الحديث المسند فرواه أهل السنن فقال النسائي‏:‏ حدثنا محمد بن يحيي المروزي، حدثني شاذان بن عثمان أخو عبدان، حدثنا أبي، حدثنا علي بن ‏[‏المبارك‏]‏ عن يحيي بن أبي كثير، أخبرني محمد بن عبد الرحمن، أن الربيع بنت معوذ بن عفراء أخبرته‏.‏ ورواه النسائي عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثني عمي، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق‏.‏ ورواه ابن أبي عاصم، عن محمد بن سعد وعن يعقوب بن مهران، عن الربيع بنت معوذ‏.‏ ورواه ابن ماجه عن علي بن سلمة النيسابوري، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثني أبي، عن ابن إسحاق، حدثنا عبادة بن الوليد، عن عبادة بن الصامت وكلاهما يزعم أن ثابت بن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسر يدها فأتت النبي ﷺ بعد الصبح وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي فأتي أخوها يشتكيه إلى النبي ﷺ، فأرسل إليه، فقال له‏:‏
    ‏"‏خذ الذي لها عليك، وخل سبيلها‏"‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فأمرها رسول الله ﷺ أن تتربص حيضة واحدة، وتلحق بأهلها‏.‏ أي بعد حيضة‏.‏ ورواه

    ج/ 32 ص -325-أبو داود في سننه، والترمذي في جامعة وأبو بكر بن أبي عاصم في كتاب الطلاق له‏:‏ ثلاثتهم عن محمد بن عبد الرحمن البغدادي، حدثنا علي بن يحيي القطان أخبرنا هشام بن يوسف، عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن عكرمة عن ابن عباس‏:‏ أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل النبي ﷺ عدتها حيضة، وقال الترمذي‏:‏ حديث حسن غريب‏.‏ ورواه الحاكم في صحيحه‏.‏ وقال أبو داود‏:‏ هذا الحديث رواه عبد الرازق، عن عمرو بن مسلم عن عكرمة، عن النبي ﷺ، وروي الترمذي أيضًا عن الربيع بنت معوذ بن عفراء‏:‏ أنها اختلعت على عهد رسول الله ﷺ، فأمرها النبي ﷺ أو أمرت أن تعتد بحيضة وقال الترمذي‏:‏ حديث الربيع الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة، وروي النسائي وابن أبي عاصم وابن ماجه عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت‏:‏ اختلعت من زوجي، ثم جئت عثمان فسألت ماذا على من العدة‏؟‏ فقال‏:‏ لا عدة عليك، إلا أن يكون حديث عهد بك فتمكثين حتى تحيضي حيضة‏.‏ ولفظ ابن ماجه‏:‏ تمكثين عنده، حتى تحيضي حيضة‏.‏ وأما النسائي، وابن أبي عاصم، فلم يقولا‏:‏ عنده‏.‏ قالت‏:‏ وإنما تبع في ذلك قضاء رسول الله ﷺ في المعالية، كانت تحت ثابت ابن قيس فاختلعت منه‏.‏
    فهذه ثلاث طرق لحديث امرأة ثابت بن قيس بن شماس التي خالعها أن النبي ﷺ أمرها أن تعتد بحيضة واحدة، ورواه أبو بكر

    ج/ 32 ص -326-ابن أبي عاصم في كتاب الطلاق من الحديث المسند عن رسول الله ﷺ أربع طرق، فيكون للحديث خمسة طرق، أو ستة‏:‏ ذكر حديث الربيع الذي فيه ذكر مريم المعالية، ولم يذكر حديث الربيع المتقدم الذي فيه ضرب ثابت لامرأته جميلة‏.‏
    وقد صححه ابن حزم وغيره، ذكر‏:‏ قال‏:‏ حدثنا أحمد بن محمد بن عمر حدثنا عمر بن يونس، عن سليمان ابن أبي سليمان، عن يحيي بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن الربيع‏:‏ أن النبي ﷺ أمر المختلعة أن تعتد بحيضة‏.‏ وقال أيضًا‏:‏ حدثنا محمد ابن سليمان حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو الأسود، عن يحيي بن النظر ويزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن عبد الرحمن ابن ثوبان، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء‏:‏ أنها سمعت رسول الله ﷺ يحدث عن امرأة ثابت بن قيس‏:‏ أنه كان بينها وبين زوجها بعض الشيء، وكان رجلا فيه حدة، فأتت رسول الله ﷺ فكلمته، فأرسل إلى ثابت، ثم إنه قبل منها الفدية فافتدت منه، فأمرها رسول الله ﷺ أن تعتد حيضة‏.‏
    قال أبو بكر ابن أبي عاصم‏:‏ مما دل على أن الخلع فسخ، لا طلاق‏:‏ ما ثبت به الإسناد، حدثنا محمد بن مصفي، حدثنا سويد بن عبد العزيز

    ج/ 32 ص -327-هو يحيي بن سعيد عن عمرة، عن حبيبة بنت سهيل، قالت‏:‏ امرأة كان هم أن يتزوجها رسول الله ﷺ؛ فخطبها ثابت بن قيس فتزوجها وكان في خلق ثابت شدة، فضربها، فأصبحت بالغلس على باب رسول الله ﷺ، فخرج رسول الله ﷺ، فقال‏:‏ ‏"‏من هذه‏؟‏‏"‏ فقالت حبيبة‏:‏ أنا يا رسول الله، لا أنا ولا ثابت‏.‏ قال‏:‏ فلم يكن إلا أن جاء ثابت، فقال له رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏ضربتها‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ ضربتها، فقال له رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏خذ منها‏"‏ فقالت يا رسول الله‏:‏ إن عندي كل شيء أعطانيه‏.‏ فقال‏:‏ فأخذ منها، وجلست في بيتها‏.‏ قال ابن أبي عاصم‏:‏ ولم يذكر ‏[‏طلاقًا‏]‏‏.‏ قال‏:‏ وفي حيضة واحدة دليل على أنها ليست بمطلقة، وكذلك في عدتها في بيتها، ولو كانت مطلقة لكان لها السكني والنفقة‏.‏
    قلت‏:‏ هذا على قول من يجعل الخلع طلقة رجعية إذا كان طلاقا، كما هو قول أبي محمد عن جمهور أهل الحديث، وداود‏.‏ وابن أبي عاصم يوافقهم على ذلك‏:‏ مذهبه أن المبتوتة لا نفقة لها ولا سكني، على حديث فاطمة بنت قيس، قال ابن أبي عاصم‏:‏ وممن قال تعتد بحيضة‏:‏ عثمان بن عفان، وابن عمر وممن قال‏:‏ فسخ، وليس بطلاق‏:‏ ابن عباس، وابن الزبير‏.‏
    قلت‏:‏ وقد ذكر ابن المنذر عن أحمد بن حنبل‏.‏ أنه ضعف كل ما يروي عن الصحابة مخالفا لقول ابن عباس‏.‏

    ج/ 32 ص -328-وقد ذكر الشيخ أبو محمد في مغنية هذه الرواية التي ذكرها أبو بكر عبد العزيز في الشافي عن أحمد، منه نقلها أبو محمد، وهي موجودة في غير ذلك من الكتب، فقال‏:‏ وأكثر أهل العلم يقولون‏:‏ عدة المختلعة عدة المطلقة ومنهم سعيد بن المسيب‏.‏ ومنهم طائفة من العلماء منهم مالك والشافعي‏.‏ قال‏:‏ وروي عن عثمان بن عفان، وابن عمر، وابن عباس وأبان بن عثمان وإسحاق وابن المنذر‏:‏ أن عدة المختلعة حيضة‏.‏ وروي ابن القاسم عن أحمد كما روي ابن عباس‏:‏ أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه، فجعل النبي ﷺ عدتها حيضة رواه النسائي، وعن الربيع بنت معوذ مثل ذلك، رواه النسائي وابن ماجه‏.‏ قال‏:‏ ولنا قوله تعالى‏:‏ ‏"‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، ولأنها فرقة بعد الدخول في الحياة فكانت ثلاثة قروء، كالخلع‏.‏
    فيقال‏:‏ أما الآية فلا يجوز الاحتجاج بها حتى يبين أن المختلعة مطلقة، وهذا محل النزاع، ولو قدر شمول نص لها فالخاص يقضي على العام، والآية قد استثني منها غير واحدة من المطلقات، كغير المدخول بها، والحامل، والأمة، والتي لم تحض، وإنما تشمل المطلقة التي لزوجها عليها الرجعة‏.‏
    وأما القياس المذكور، فيقال لا نسلم أن العلة في الأصل مجرد الوصف المذكور،ولا نسلم الحكم في جميع صور الناس، ثم هو منقوض بالمفارقة لزوجها، وقد دلت السنة على أن الواجب فيهما الاستبراء‏.‏

    ج/ 32 ص -329-وأما الرواية‏:‏ هل هي جميلة بنت أبي‏؟‏ أو سهلة بنت سهيل‏؟‏ أو أخرى‏؟‏ فهذا مما اختلفت فيه الرواية، فأما أن يكونا قصتين، أو ثلاثاِ، وإما أن أحد الراويين غلط في إسمها، وهذا لا يضر مع ثبوت القصة، فإن الحكم لا يتعلق باسم امرأته‏.‏ وقصة خلعه لامرأته مما تواترت به النقول، واتفق عليه أهل العلم‏.‏
    وقد روي مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، عن حبيبة بنت سهل الأنصارية‏:‏ أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله ﷺ خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس، فقال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏من هذه‏؟‏‏"‏ قالت‏:‏ أنا حبيبة بنت سهل يا رسول الله، قال‏:‏‏"‏ما شأنك‏؟‏‏"‏ قالت‏:‏لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها فلما جاء ثابت قال رسول الله ﷺ‏:‏
    ‏"‏هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر‏"‏، فقالت حبيبة‏:‏ يا رسول الله، كل ما أعطاني عندي، فقال رسول الله ﷺ لثابت‏:‏ ‏"‏خذ منها‏"‏، فأخذ منها وجلست في أهلها‏.‏
    وقد ذكر ابن حزم هذا الحديث وحديث الاعتداد بحيضة في حجة من يقول إن الخلع فسخ، وقال‏:‏ قالوا‏:‏ فهذا يبين أن الخلع ليس طلاقاً، لكنه فسخ، ولم يذكر حديث ابن عباس إلا من طريق عبد الرزاق المرسل، وقال‏:‏ أما حديث عبد الرزاق فساقط؛ لأنه مرسل،

    ج/ 32 ص -330-وفيه عمرو بن مسلم وليس بشيء، وأما خبر الربيع وحبيبة فلو لم يأت غيرهما لكانا حجة قاطعة، لكن رويا من طريق البخاري‏.‏ وذكر ما تقدم من قول النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏اقبل الحديقة وطلقها تطليقة‏"‏، قال‏:‏ فكان هذا الخبر فيه زيادة على الخبرين المذكورين لا يجوز تركها، وإذ هو طلاق فقد ذكر الله عدة الطلاق، فهو زائد على ما في حديث الربيع، والزيادة لا يجوز تركها‏.‏
    فيقال له‏:‏ أما قولك عن حديث عبد الرزاق‏:‏ إنه مرسل، فقد رواه أبو داود، والترمذي‏:‏ من حديث همام بن يوسف مسنداً، كما تقدم، ومن أصلك‏:‏ أن هذه زيادة من الثقة، فتكون مقبولة، والحديث قد حسنه الترمذي‏.‏ وأما قولك عن عمرو بن مسلم، فيقال‏:‏ قد روي له مسلم في صحيحه والبخاري في كتاب أفعال العباد وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال يحيي بن معين في رواية إبراهيم ابن المسند‏:‏ لا بأس به، وقال أبو أحمد بن عدي‏:‏ وليس له حديث منكر جداً‏.‏
    وأما الحديث الآخر، الذي اعترفت بصحته، وجعلته حجة قاطعة لولا المعارض، فهو نص في المسألة، حيث أمرها النبي ﷺ أن تعتد بحيضة واحدة، وتلحق بأهلها‏.‏

    ج/ 32 ص -331-وأما ما ذكرت‏:‏ أن الطريق الأخرى فيه زيادة، وهو أنه أمره أن يطلقها تطليقة واحدة، والمطلقة تجب عليها العدة، فليس هذا زيادة، بل إن لم يكن المراد بالطلقة هنا الفسخ، كانت هذه الرواية معارضة لتلك، فإن تلك الرواية فيها نص بأنها تلحق بأهلها مع الحيضة الواحدة، ولو لم يكن إلا قوله‏:‏ أمرها أن تعتد بحيضة واحدة، لكان هذا بينا في أنه أمرها بحيضة واحدة لا بأكثر منها، إذ لو أمرها بثلاث لما جاز أن يقتصر على قوله‏:‏ أمرها بحيضة واحدة، فكيف وقد قال‏:‏ ‏"‏وتلحق بأهلها‏"‏‏؟‏ ‏!‏
    وأيضًا، فسائر الروايات من الطرق يعاضد هذا أو يوافق، وقد عضدها عمل عثمان بن عفان، وهو أحد الخلفاء الراشدين بذلك، وقد تقدم بعض طرق حديثه، وأنه اتبع في ذلك السنة في امرأة ثابت بن قيس‏.‏
    وأيضًا، فلو قدر أنه قال في الرواية الأخري‏:‏ أمرها أن تعتد بثلاث حيض، لكان هذا تعارضًا في الرواية، ينظر فيه إلى أصح الطريقين‏.‏ فكيف وليس فيه إلا قوله‏:‏ ‏"‏وطلقها تطليقة‏"‏‏؟‏ ‏!‏ والراوي لذلك هو ابن عباس وصاحبه، وهما يرويان أيضا ‏"‏أنه أمرها أن تعتد بحيضة‏"‏ وهما أيضا يقولان‏:‏ الخلع فدية، لا تحسب من الطلقات الثلاث‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏"‏وطلقها تطليقة‏"‏ إن كان هذا محفوظا من كلام النبي ﷺ مع ما قبله، فلابد من أحد أمرين‏:‏ إما أن يقال‏:‏ الطلاق

    ج/ 32 ص -332-بعوض لا تحسب فيه العدة بثلاثة أشهر، ويكون هذا مخصوصًا من لفظ القرآن‏.‏ وإذا قيل‏:‏ هذا في الطلاق بعوض، فهو في الخلع بطريق الأولى‏.‏ وإما أن يقال‏:‏ مراده بقوله‏:‏ ‏"‏طلقها تطليقة‏"‏ هو الخلع، وأنه لا فرق عند الشارع بين لفظ الخلع والطلاق إذا كان ذلك بعوض، فإن هذا فدية، وليس هو الطلاق المطلق في كتاب الله، كما قال ذلك من قاله من السلف، وهذا يعود إلى المعني الأول‏.‏ وبكل حال، فإنه إذا لم يجعل الشارع في ذلك عدة علم أنه ليس من الطلاق الثلاث، فإن القرآن صريح بأن ما كان من الطلاق الثلاث ففيه العدة‏.‏
    وأيضًا، فهذا إجماع فيما نعلمه، لا نعلم أحدًا نازع في هذا وقال‏:‏ إن الخلع طلقة محسوبة من الثلاث، ومع ذلك لا عدة فيه‏.‏ وهذا مما يؤيد أن الخلع فسخ، وقد تقدم بعض المنقول عن عثمان وغيره‏.‏ وروى يحيي بن بكير حدثنا الليث بن سعد، عن نافع مولي ابن عمر‏:‏ أنه سمع الربيع بنت معوذ بن عفراء، وهي تخبر عبد الله بن عمر‏:‏ أنها اختلعت من زوجها على عهد عثمان، فجاء عمها إلى عثمان، فقال‏:‏ إن ابنة معوذ اختلعت من زوجها اليوم، أفتنتقل‏؟‏ فقال عثمان‏:‏ لتنتقل، ولا ميراث بينهما ولا عدة عليها، إلا أنها لا تنكح حتى تحيض حيضة؛ خشية أن يكون بها حبل، فقال عبد الله بن عمر‏:‏ ولعثمان خيرنا، وأعلمنا‏.‏ قال ابن حزم‏:‏ فهذا عثمان، والربيع ولها صحبة، وعمها وهو من كبار الصحابة، وابن عمر‏:‏ كلهم لا يري في الفسخ عدة‏.‏

    ج/ 32 ص -333-فإن قيل‏:‏ فقد نقل عن عثمان وابن عمر‏:‏ أنه طلاق، كما روي حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن جمهان أن أم بكرة الأسلمية كانت تحت عبد الله بن أسيد، فاختلعت منه، فندما، فارتفعا إلى عثمان بن عفان فأجاز ذلك، وقال‏:‏ هي واحدة؛ إلا أن تكون سميت شيئا، فهو على ما سميت‏.‏ وقد روي مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ عدة المختلعة عدة المطلقة‏.‏ وقد روي أبو داود قال‏:‏ حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عفان، حدثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ أن زوج بريرة كان عبدًا أسود، فخيرها رسول الله ﷺ، وأمرها أن تعتد، وهكذا رواه ابن أبي عاصم‏:‏ حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ قضى رسول الله ﷺ في بريرة بأربع قضايا‏:‏ أمرها أن تختار، وأمرها أن تعتد‏.‏ وقال‏:‏ حدثنا الحلواني، حدثنا عمرو بن‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ، حدثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس ذكر النبي ﷺ قال‏:‏ أحسبه قال فيه‏:‏ ‏[‏تعتدي عدة الخلع‏]‏، فهذا فسخ أوجب فيه العدة؛ ولهذا قال ابن حزم‏:‏ إنه لا عدة في شيء من الفسوخ، إلا في هذا؛ لأنه لا يقول بالقياس، وليس في النص إيجاب العدة في فسخ‏.‏

    ج/ 32 ص -334-لكن لفظ الاعتداد يستعمل عندهم في الاعتداد بحيضة، كما في حديث المختلعة من غير وجه أمرها أن تعتد بحيضة وقالت عائشة في قوله‏:‏ ‏"‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏، أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن، والمراد بها‏:‏ الاستبراء؛ فإن المسبية لا يجب في حقها إلا الاستبراء بحيضة، كما قال ﷺ في سبايا أوطاس‏:‏ ‏"‏لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة‏"‏، وقال فيه‏:‏ فأنزل الله‏:‏ ‏"‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏"‏، وهكذا في الحديث المعروف عن أبي سعيد الخدري في سبايا أوطاس من رواية أبي الخليل‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏"‏حلال إذا انقضت عدتهن‏"‏، وفي هذا قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ‏"‏ وأبو سعيد روي هذا وهذا‏.‏ وعلى الحديثين‏:‏ أم الولد تعتد بحيضة وقال عمرو بن عاصم‏:‏ وأحسبه قال‏:‏ تعتد عدة الحرة‏.‏ شك لا تقوم به حجة‏.‏
    وعن أحمد في عدة المختلعة روايتان‏:‏ ذكرهما أبو بكر في كتاب الشافي قال أبو بكر في الشافي‏:‏ باب عدة المختلعة والملاعنة وامرأة عصبي، وروي بإسناده عن الأثرم، وإبراهيم بن الحارث؛ أنه قيل لأبي عبد الله‏:‏ عدة كل مطلقة ثلاث حيض‏؟‏ قال‏:‏ نعم، إلا الأمة‏.‏ قيل له‏:‏ المختلعة، والملاعنة وامرأة المرتد‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ كل فرقة عدتها ثلاث حيض‏.‏ وعن أبي طالب أن

    ج/ 32 ص -335-أبا عبد الله قال في المختلعة تعتد مثل المطلقة ثلاث حيض‏.‏ وروي عن أحمد ابن القاسم قال أبو عبد الله‏:‏ عدة المختلعة حيضة‏.‏ قال عبد العزيز‏:‏ والعمل على رواية الأثرم، والعبادي‏:‏ أن كل فرقة من الحرائر عدتها ثلاث حيض، وحديث المختلعة أمرت أن تعتد بحيضة ضعيف؛ لأنه مرسل عن رسول الله ﷺ، وبما قلت أذهب، وهو قول عثمان بن عفان‏.‏
    قلت‏:‏ ابن القاسم كثيرًا ما يروى عن أحمد الأقوال المتأخرة التي رجع إليها، كما روي عنه أن جمع الثلاث محرم، وذكر أنه رجع عن قوله‏:‏ إنه مباح، وأنه تدبر القرآن فلم يجد فيه الطلاق إلا رجعيًا‏.‏ وهكذا قد يكون أحمد ثبتت عنده في المختلعة فرجع إليها، فقوله‏:‏ عدتها حيضة، لا يكون إلا إذا ثبت عنده الحديث، وإذا ثبت عنده لم يرجع عنه‏.‏ ولأصحاب أحمد في وطء الشبهة وجهان، وكذلك ابن عمر كان يقول أولاً‏:‏ إن عدتها ثلاث حيض، فلما بلغه قول عثمان بن عفان أنها تستبرأ بحيضة رجع إليه ابن عمر‏.‏
    وما ذكره أبو بكر عن عثمان رواية مرجوحة، والمشهور عن عثمان أنها تعتد بحيضة، وهو قول ابن عباس، وآخر القولين عن ابن عمر، ولم يثبت عن صحابي خلافه، فإنه روي خلافه عن عمر وعلى بإسناد ضعيف، وهو قول أبان بن عثمان، وعكرمة، وإسحاق ابن راهويه، وغيره من فقهاء الحديث‏.‏

    ج/ 32 ص -336-وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال‏:‏ كان المشركون على منزلتين من النبي ﷺ والمؤمنين، كانوا مشركين أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركين أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه، فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه، وإن هاجر عبد منهم أو أمة فهما حران، ولهما للمهاجرين، ثم ذكر في أهل العهد مثل حديث مجاهد، وإن هاجر عبد أو أمة للمشركين أهل العهد لم يردوا وردت أثمانهم‏.‏
    ففي هذا الحديث أن المهاجرة من دار الحرب إذا حاضت ثم طهرت، حل لها النكاح، فلم يكن يجب عليها إلا الاستبراء بحيضة، لا بثلاثة قروء، وهي معتدة من وطء زوج، لكن زال نكاحه عنها بإسلامها‏.‏ ففي هذا أن الفرقة الحاصلة باختلاف الدين كإسلام امرأة الكافر إنما يوجب استبراءًا بحيضة‏:‏ وهي فسخ من الفسوخ، ليست طلاقا‏.‏ وفي هذا نقض لعموم من يقول‏:‏ كل فرقة في الحياة بعد الدخول توجب ثلاثة قروء‏.‏ وهذه حرة مسلمة؛ لكنها معتدة من وطء كافر‏.‏

    ج/ 32 ص -337-وقد تنازع العلماء في امرأة الكافر هل عليها عدة أم استبراء‏؟‏ على قولين مشهورين، ومذهب أبي حنيفة ومالك لا عدة عليها‏.‏
    وما في هذا الحديث من رد إناث عبيد المعاهدين، فهو نظير رد مهور النساء المهاجرات من أهل الهدنة، وهن الممتحنات اللاتي قال الله فيهن‏:‏ ‏
    "‏إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ‏"‏ الآية ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ومن أنه كان إذا هاجر زوجها قبل أن تنكح فهو أحق بها، فهذا أحد الأقوال في المسألة، وهو أن الكافر إذا أسلمت امرأته‏:‏ هل تتعجل الفرقة مطلقا، أو يفرق بين المدخول بها وغيرها، أو الأمر موقوف ما لم تتزوج، فإذا أسلم فهي امرأته‏؟‏ والأحاديث إنما تدل على هذا القول، ومنها هذا الحديث، ومنها حديث زينب بنت رسول الله ﷺ، فإن الثابت في الحديث أنه ردها بالنكاح الأول بعد ست سنين، كما رواه أحمد في مسنده، ورواه أهل السنن‏:‏ أبو داود وغيره، والحاكم في صحيحه عن ابن عباس قال‏:‏ رد رسول الله ﷺ زينب على أبي العاص بالنكاح الأول لم يحدث شيئًا‏.‏ وفي رواية‏:‏ بعد ست سنين، وفي إسناده ابن إسحاق، ورواه الترمذي وقال‏:‏ ليس بإسناده بأس، وروي أبو داود والحاكم في صحيحه عن ابن عباس قال‏:‏ أسلمت امرأة على عهد رسول الله ﷺ فتزوجت، فجاء زوجها إلى النبي ﷺ، فقال‏:‏ يا رسول الله، إني كنت أسلمت، وعلمت بإسلامي، فانتزعها رسول الله ﷺ من زوجها الآخر، وردها إلى زوجها الأول‏.‏ وفي إسناده سماك‏.‏

    ج/ 32 ص -338-فقد ردها لما ذكر أنه أسلم وعلمت بإسلامه‏.‏ ولم يستفصله‏:‏ هل أسلما معا‏؟‏ أو هل أسلمت قبل أن تنقضي العدة‏؟‏ وترك الاستفصال يدل على أن الجواب عام مطلق في كل ما تتناوله صور السؤال؛ وهذا لأنه متي أسلم على شيء فهو له‏.‏ وإذا أسلم على مواريث لم تقسم قسمت على حكم الإسلام، وكذلك على عقود لم تقبض فإنه يحكم فيها بحكم الإسلام، ولو أسلم رقيق الكافر الذمي لم يزل ملكه عنه، بل يؤمر بإزالة ملكه عنه، ويحال بينه وبين ثبوت يده عليه، واستمتاعه بإمائه‏:‏ أم ولده، وغيرها والاستخدام، فكذلك إذا أسلمت المرأة حيل بينها وبين زوجها، فإن أسلم قبل أن يتعلق بها حق غيره فهو كما لو أسلم قبل أن يباع رقيقه فهو أحق بهم، والدوام أقوي من الابتداء، ولأن القول بتعجيل الفرقة خلاف المعلوم بالتواتر من سنة رسول الله ﷺ، والقول بالتوقف على انقضاء العدة أيضا كذلك، فإن النبي ﷺ لم يوقت ذلك فيمن أسلم على عهده من النساء والرجال مع كثرة ذلك؛ ولأنه لا مناسبة بين العدة وبين استحقاقها بإسلام أحدهما‏.‏ وقياس ذلك على الرجعة من أبطل القياس من وجوه كثيرة‏.‏
    وأيضًا، فالنبي ﷺ قال في السبايا‏:‏ ‏
    "‏لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض‏"‏‏.‏ وهذا الحديث يقتضي أنه لا يجب في الاستبراء إلا الحيض، أو الحمل في الصغيرة التي لا تحيض، والأمة لا يتصور هذا في حقها، فليس في الحديث إيجاب استبراء على من لا تحيض

    ج/ 32 ص -339-وإيجاب ذلك بعيد عن القياس؛ ولهذا اضطرب القائلون به على أقوال كل منها منقوض‏.‏
    وأيضًا، فلم ينقل أحد عن النبي ﷺ أنه أمر بالاستبراء في غير هذا؛ لأنهن كن موطؤات لهن أزواج‏.‏ وأما الإماء اللاتي كن يبعن على عهده فلم يكن يوطئن في العادة، بل كن للاستخدام في الغالب‏.‏ وهذا يقتضي أن الأمة التي لم يطأها سيدها لا يجب على المستبرئ استبراؤها، كما لا يجب استبراؤها إذا تزوجت، فإذا لم يجب في التزويج، ففي التسري أولى وأحري، وقد قال ابن عمر‏:‏ لا استبراء على المسلمة؛ وذلك لأنها توطأ، فمن لا يجب عليها عدة ولا استبراء إذا زوجت لم يجب عليها استبراء إذا وطأت بملك اليمين، وكذلك قال الليث بن سعد قال‏:‏ إن كانت ممن لا يحمل مثلها لم يجب استبراءها لا بحيض، ومن لا تحمل، فهذا موافق للنص‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا استبرؤها‏.‏ ‏.‏ استبراء عليه، وقال مالك‏:‏ إذا كانت في يده كالوديعة ونحوها وعلم أنها لم توطأ، لم يحتج إلى استبراء إذا استبرأها، وكذلك الذي قال‏:‏ لا يجب الاستبراء إلا على حامل أو موطوءة‏.‏ وإليه مال الروياني‏.‏

    ج/ 32 ص -340-والذي يدل عليه النص أن الاستبراء مشروع حيث أمكن أن تكون حاملا، فإنه أمر بالاستبراء الحامل والحائض من المسبيات اللاتي لا تعلم حالهن‏.‏ فأما مع العلم ببراءة الرحم فلا معنى للاستبراء‏.‏ وحديث ابن شهاب الذي في الموطأ مرسل‏.‏
    والقرآن ليس فيه إيجاب العدة بثلاثة قروء إلا على المطلقات، لا على من فارقها زوجها بغير طلاق، ولا على من وطئت بشبهة، ولا على المزني بها‏.‏ فإذا مضت السنة بأن المختلعة إنما عليها الاعتداد بحيضة الذي هو استبراء، فالموطوءة بشبهة والمزني بها أولى بذلك، كما هو أحد الروايتين عن أحمد في المختلعة، وفي المزني بها‏.‏ والموطوءة بشبهة، دون المزني بها، ودون المختلعة‏.‏ فبأيهما ألحقت لم يكن عليها إلا الاعتداد بحيضة، كما هو أحد الوجهين‏.‏
    والاعتبار يؤيد هذا القول، فإن المطلقة لزوجها عليها رجعة ولها متعة بالطلاق ونفقة، وسكنى في زمن العدة، فإذا أمرت أن تتربص ثلاثة قروء لحق الزوج، ليتمكن من ارتجاعها في تلك المدة، كان هذا مناسبا، وكان له في طول العدة حق، كما قال تعالى‏:‏

    ج/ 32 ص -341-"‏إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا‏"‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏، فبين سبحانه أن العدة للرجل على المطلقة إذا وجبت؛ فإذا مسها كان له عليها العدة لأجل مسه لها، وكان له الرجعة عليها، ولها بإزاء ذلك النفقة والسكنى، كما لها متاع لأجل الطلاق‏.‏ أما غير المطلقة إذا لم يكن لها نفقة ولا سكنى ولا متاع، ولا للزوج الحق برجعتها، فالتأكد من براءة الرحم تحصل بحيضة واحدة، كما يحصل في المملوكات، وكونها حرة لا أثر له، بدليل أن أم الولد تعتد بعد وفاة زوجها بحيضة عند أكثر الفقهاء، كما هو قول ابن عمر وغيره، وهي حرة‏:‏ فالموطوءة بشبهة ليست خيرًا منها‏.‏ والتي فورقت بغير طلاق، وليست لها نفقة، ولا سكنى، ولا رجعة عليها، ولا متاع هي بمنزلتها‏.‏
    فإن قيل‏:‏ هذا ينتقض بالمطلقة آخر ثلاث تطليقات، فإنه لا نفقة لها ولا سكنى ولا رجعة، ومع هذا تعتد بحيضة‏؟‏ قيل‏:‏ هذه المطلقة لها المتعة عند الشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين، وكثير من السلف أو أكثرهم ولها النفقة عند مالك والشافعي، وكثير من فقهاء الحجاز، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ولها السكنى مع ذلك عند كثير من فقهاء العراق كأبي حنيفة وغيره، فلابد لها من متاع، أو سكنى عند عامة العلماء‏.‏ فإذا وجبت العدة بإزاء ذلك، كان فيه من المناسبة ما ليس في إيجابها على من لا متاع لها ولا نفقة ولا سكنى‏.‏ وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه أمر فاطمة بنت قيس

    ج/ 32 ص -342-لما طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات أن تعتد، وأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، ثم أمرها بالانتقال إلى بيت أم شريك‏.‏
    والحديث وإن لم يكن في لفظه أن تعتد ثلاث حيض، فهذا هو المعروف عند من بلغنا قوله من العلماء؛ فإن كان هذا إجماعا، فهو الحق، والأمة لا تجتمع على ضلالة‏.‏ وإن كان من العلماء من قال‏:‏ إن المطلقة ثلاثا إنما عليها إلا الاستبراء لا الاعتداد بثلاث حيض، فهذا له وجه قوي بأن يكون طول العدة في مقابلة استحقاق الرجعة، وهذا هو السبب في كونها جعلت ثلاثة قروء‏.‏ فمن لا رجعة عليها لا تتربص ثلاثة قروء، وليس في ظاهر القرآن إلا ما يوافق هذا القول، لا يخالفه، وكذلك ليس في ظاهره إلا ما يوافق القول المعروف لا يخالفه‏.‏ فأي القولين قضت السنة كان حقا موافقا لظاهر القرآن‏.‏ والمعروف عند العلماء هو الأول، بخلاف المختلعة فإن السنة مضت فيها بما ذكر، وثبت ذلك عن أكابر الصحابة وغير واحد من السلف، وهو مذهب غير واحد من أئمة العلم، وليس في القرآن إلا ما يوافقه لا يخالفه، فلا يقاس هذا بهذا‏.‏ والمعاني المفرقة بين الاعتداد بثلاثة قروء والاستبراء إن علمناها وإلا فيكفينا اتباع ما دلت عليه الأدلة الشرعية الظاهرة المعروفة‏.‏
    ومما يوضح هذا أن المسبيات اللاتي يبتدأ الرق عليهن قد تقدم الإشارة إلى حديث أبي سعيد الذي فيه‏:‏ إن الله أباح وطئهن للمسلمين لما تحرجوا من

    ج/ 32 ص -343-وطئهن، وأنزل في ذلك‏:‏ ‏"‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏، وقال فيه‏:‏ إن أجل وطئهن إذا انقضت عدتهن‏.‏ وروي أن النبي ﷺ قال في سبي أوطاس‏:‏ ‏"‏لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ‏"‏، وروي‏:‏ ‏"‏حتى تحيض حيضة‏"‏‏.‏
    والعلماء عامة إنما يوجبون في ذلك استبراء بحيضة، وهو اعتداد من وطء زوج يلحقه النسب، ووطؤه محترم وإن كان كافرًا حربيًا، فإن محاربته أباحت قتله، وأخذ ماله، واسترقاق امرأته‏.‏ على نزاع وتفصيل بين العلماء، لكن لا خلاف أن نسب ولده ثابت منه، وأن مائه ماء محترم لا يحل لأحد أن يطأ زوجته قبل الاستبراء باتفاق المسلمين، بل قد لعن النبي ﷺ من فعل ذلك، كما في الحديث الصحيح في مسلم‏:‏ أنه أتي على امرأة مجح على باب فسطاط، فقال‏:‏ ‏"‏لعل سيدها يلم بها‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له‏؟‏ ‏!‏ كيف يستعبده وهو لا يحل له‏؟‏ ‏!‏‏"‏ ونهي أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره‏.‏
    لكن هذه الزوجة لم يفارقها زوجها باختياره، لا بطلاق؛ ولا غيره، لكن طريان الرق عليها أزال ملكه إلى المسترق، أو اشتباه زوجها بغيره أزال ذلك‏.‏ فعلم أنه ليس بنكاح زال عن امرأة؛ فإنه يوجب العدة بثلاثة قروء‏.‏ ولو أن الكافر تحاكم إلينا هو وامرأته في العدة ثم طلق امرأته،

    ج/ 32 ص -344-لألزمناها بثلاثة قروء، فعلم أن المطلقة عليها ثلاثة قروء مطلقا، وأن هذه لما زال نكاحها بغير طلاق لم يكن عليها ثلاثة قروء‏.‏ فلا يقال‏:‏ إن كل معتدة من مفارقة زوج في الحياة عليها ثلاثة قروء، بل هذا منقوض بهذه بالنص والإجماع‏.
    فصل
    وهذا الذي دل عليه القرآن والسنة وآثار أكابر الصحابة كعثمان وغيره من أن عدة المختلعة حيضة واحدة يزول به الإشكال في مسألة تداخل العدتين، كما إذا تزوجت المرأة في عدتها بمن أصابها؛ فإن المأثور عن الصحابة كعمر وعلى ‏:‏ أنها تكمل عدة الأول، ثم تعتد من وطء الثاني فعليها تمام عدة الأول، وعدة للثاني‏.‏ وبه أخذ جمهور الفقهاء، كمالك والشافعي، وأحمد‏.‏ واختلف عمر وعلى‏:‏ هل تباح للأول بعد قضاء العدتين‏؟‏ فقال عمر‏:‏ لا ينكحها أبدًا‏.‏ وبه أخذ مالك‏.‏ وقال على‏:‏ هو خاطب من الخطاب‏.‏ وبه أخذ الشافعي‏.‏ وعن أحمد روايتان‏.‏ وأما أبوحنيفة فعنده لا يجب عليها إلا عدة واحدة من الثاني، وتدخل فيها بقية عدة الأول، وذكر بعض أصحابه أن هذا القول منقول عن ابن مسعود، لكن لم نعرف لذلك إسنادا‏.‏ فنقول بتداخل العدتين، فإن العدة حق له؛ إذ لو أراد الزوج إسقاطها لم يمكنه ذلك، فدخل بعضها في بعض كالحدود؛، والكفارات فإنه

    ج/ 32 ص -345-لو سرق، ثم سرق لم يقطع إلا يد واحدة، وكذلك لو شرب، ثم شرب، لم يكن عليه إلا حد واحد‏.‏ فالحدود وجبت في جنس الذنب، لا في قدره‏.‏ ولهذا تجب بسرقة المال الكثير والقليل، وتجب بشرب القليل والكثير؛ لأن الموجب له جنس الذنب، لا قدره‏.‏ فإذا لم يفترق الحكم بين قليله وكثيره في القدر لم يفترق بين واحده وعده؛ فإن الجميع من جنس القدر، وكذلك كفارة الجماع في رمضان إذا وطأ ثم وطأ قبل أن يكفر‏.‏ فمن قال بتداخل العدتين قال‏:‏ عدة المطلقة من هذا الباب، فإن سببها الوطء، ليست مثل عدة الوفاة التي سببها العقد، وهي تجب مع قليل الوطء وكثيره، فإن الموجب لها الجنس الوطء، ولا فرق بين أن يكون الواطئ واحدًا أو اثنين‏.‏
    وطرده لو اشترى أمة قد اشترك في وطئها جماعة لم يكن عليها إلا استبراء واحد، وإن كان الواطئ جماعة‏.‏ وقد نوزعوا في هذه الصورة‏.‏ فقيل‏:‏ بل تستبرأ لكل من الشريكين استبراءً واحدًا إذا كانت في ملكهما‏.‏ فأما إذا باعاها لغيرهما، فهنا لا يجب على المشتري إلا استبراءً واحدًا، ولم يقل أحد علمناه‏:‏ فإن الأمة المملوكة بسبي أو شراء أو إرث ونحو ذلك عليها استبرآت متعددة بعدد الواطئين‏.‏ وكذلك لو اشترى رجل جارية وباعها قبل أن يستبرأها لم يكن على المشتري الثاني إلا استبراء واحدًا‏.‏ قال الفقهاء‏:‏ ولا نقول عليه أن يستبرأها مرتين‏.‏ واعتذر بعضهم بأن الاستبراء سببه تعدد الملك ولم يتعدد؛ ولهذا لا يوجبون الاستبراء إذا أعتقها وتزوجها إذا لم يكن البائع قد وطأها، ويوجبونه إذا لم يعتقها، بخلاف العدة فإن سببها الرق‏.‏ والكلام في عدة الاستبراء له موضع آخر‏.‏

    ج/ 32 ص -346-والمقصود هنا أنه لا يتعدد، وما علمنا أحدًا قال‏:‏ يتعدد، وإن كان أحد قال هذا فإن السنة تخصمه؛ فإن النبي ﷺ لم يأمر إلا بمجرد الاستبراء حيث قال‏:‏ ‏"‏لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ‏"‏، فعلق الحل بمجرد الاستبراء ولم يفرق‏.‏ وإذا كان الاستبراء من جنس العدة، ولا يتعدد بتعدد الواطئ، فالعدة كذلك‏.‏ هذا ما يحتج به لأبي حنيفة رحمه الله‏.‏
    وأما الجمهور فقالوا‏:‏ العدة فيها حق لآدمي واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏
    "‏إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ‏"‏ الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏، وقالوا‏:‏ فقد نفي الله أن يكون للرجال على النساء عدة في هذا الموضع، وليس هنا عدة لغير الرجال، فعلم أن العدة فيها حق للرجال حيث وجبت، إذ لو لم يكن كذلك لم يكن في نفي أن يكون للرجال عليهن عدة ما ينفي أن يكون لله عدة، فلو كانت العدة حقا محضا لله لم يقل‏:‏ ‏"‏فَمَا لَكُمْ عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ‏"‏، إذ لا عدة لهم لا في هذا الموضع ولا غيره، ولو كانت العدة نوعين نوعًا لله، ونوعًا فيه حق للأزواج، لم يكن في نفي عدة الأزواج ما ينفي العدة الأخري، فدل القرآن على أن العدة حيث وجبت ففيها حق للأزواج، وحينئذ فإذا كانت العدة فيها حق لرجلين، لم يدخل حق أحدهما في الآخر؛ فإن حقوق الآدميين لا تتداخل، كما لو كان لرجلين دَيْنَان على واحد، أو كان لهما عنده أمانة، أو غصب، فإن عليه أن يعطي كل ذي حق حقه، فهذا الذي قاله الجمهور من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم‏.‏

    ج/ 32 ص -347-واحتجوا على أبي حنيفة بأنه يقول‏:‏ لو تزوج المسلم ذمية وجبت عليها العدة حقا محضا للزوج؛ لأن الذمية لا توآخذ بحق الله؛ ولهذا لا يوجبها إذا كان زوجها ذميا، وهم لا يعتقدون وجوب العدة، وهذا الذي قاله له الأكثرون‏:‏ حسن، موافق لدلالة القرآن‏.‏ ولما قضي به الخلفاء الراشدون لا سيما ولم يثبت عن غيرهم خلافه؛ وإن ثبت فإن الخلفاء الراشدين إذا خالفهم غيرهم كان قولهم هو الراجح؛ لأن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي‏:‏ تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة‏"‏‏.‏
    لكن من تمام كون العدة حقا للرجل أن يكون له فيها حق على المرأة وهو ثبوت الرجعة، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، ‏"‏وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، فأمرهن بالتربص، وجعل الرجل أحق بردها في مدة التربص، وليس في القرآن طلاقا إلا طلاق رجعي، إلا الثالثة المذكورة في قوله‏:‏ ‏"‏فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏، وذلك طلاق أوجب تحريمها فلا تحل له بعقد يكون برضاها ورضا وليها، فكيف تباح بالرجعة‏؟‏ ‏!‏ أما المرأة التي تباح لزوجها في العدة فإن زوجها أحق برجعتها في العدة بدون عقد، وليس في القرآن طلاق بائن تباح فيه بعقد ولا يكون الزوج أحق بها، بل متي كانت حلالا له كان أحق بها‏.‏

    ج/ 32 ص -348-وعلى هذا فيظهر كون العدة حقا للرجل، فإنه يستحق بها الرجعة، بخلاف ما إذا أوجبت في الطلاق البائن التي تباح فيه بعقد؛ فإنه هنا لا حق له، إذ النكاح إنما يباح برضاهما جميعا، ولهذا طرد أبو حنيفة أصله، لما كان الطلاق عنده ينقسم إلى بائن، ورجعي، وله أن يوقع البائن بلا رضاها، جعل الرجعة حقا محضا للزوج، له أن يسقطها، وله ألا يسقطها، بخلاف العدة فإنه ليس له إسقاطها، فلا تكون حقا له‏.‏
    وهذا يؤيد أن الخلع ليس بطلاق، فإنه موجب للتسوية‏.‏ ويؤيد أنه ليس للرجل فيه عدة على المرأة كما يكون في الطلاق، بل عليها استبراء بحيضة؛ فإن الاستبراء بحيضة حق الله؛ لأجل براءة الرحم فلابد منه في كل موطوءة، سواء وطئت بنكاح صحيح، أو فاسد، أو بملك يمين، فإنه يجب لبراءة رحمها من ماء الواطئ الأول؛ لئلا يختلط ماؤه بماء غيره، وكذلك يجب على أصح قولي العلماء على الموطوءة بالزني؛ لأجل ماء الواطئ الثاني؛ لئلا يختلط ماؤه بماء الزاني‏.‏ وهذا مذهب مالك وأحمد‏.‏ وإذا لم يجب على المختلعة إلا عدة بحيضة، فعلى المنكوحة نكاحًا فاسدًا أولى؛ فإنه لا رجعة عليها ولا نفقة لها‏.‏
    فإن قيل‏:‏ ففي حديث طليحة أن عمر بن الخطاب قال‏:‏ أيما امرأة نكحت في عدتها فإن لم يدخل بها الثاني أتمت عدة زوجها، وإن دخل بها أتمت بقية عدتها للأول، ثم اعتدت للثاني‏.‏ وكذلك عن على‏:‏ أنه قضي أنها تأتي ببقية عدتها للأول، ثم تأتي للثاني بعدة مستقبلة، فإذا انقضت عدتها فإن شاءت نكحت، وإن شاءت لم تنكح‏.‏

    ج/ 32 ص -349-قيل‏:‏ نعم‏.‏ لكن لفظ العدة في كلام السلف يقال على القروء الثلاثة، وعلى الاستبراء بحيضة، كما تقدم نظائره‏.‏ وحينئذ فعمر وعلى إن كان قولهما في المختلعة ونحوها أنها تعتد بحيضة فيكونان أراد أنها تعتد بحيضة‏.‏ وإن كان قولهما أنها تعتد بثلاثة قروء، فيكون هذا فيه قولان للصحابة؛ فإن عثمان قد ثبت عنه أن المختلعة تعتد بحيضة‏.‏ وإن قيل‏:‏ بل قد نقول‏:‏ تعتد المختلعة بحيضة، والمنكوحة نكاحا فاسدًا بثلاثة قروء، فهذا القول إذا قيل به يحتاج إلى بيان الفرق بين المسألتين‏.‏
    فإن قيل‏:‏ فقد اختلف عمر وعلى هل تباح للثاني‏؟‏ فقال عمر‏:‏ لا ينكحها أبدًا‏.‏ وقال علي‏:‏ إذا انقضت عدتها يعني من الثاني فإن شاءت نكحت، وإن شاءت لم تنكح‏.‏ ولو كان وطء الثاني كوطء الشبهة لم يمنع الأول أن يتزوجها؛ فإن الرجل لو وطئت امرأته بشبهة لم يزل نكاحه بالإجماع، بل يعتزلها حتى تعتد، ولو وطئت الرجعية بشبهة لم يسقط حق الزوج شيء‏؟‏ ‏.‏
    قيل‏:‏ أولاً هذا السؤال لا تعلق له بقدر العدة، فسواء كانت العدة استبراء بحيضة، أو كانت بتربص ثلاثة قروء، هذا وارد في الصورتين‏.‏ ولا ريب أن الزوج المطلق الذي اعتدت من وطئه إن كان طلقها الطلقة الثالثة فقد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، فلا يمكنه أن يراجعها في عدتها منه، وأما إن فارقها فرقة بائنة كالخلع ونكحت في مدة اعتدادها منه، مثل أن تنكح قبل أن تستبرأ بحيضة، فهنا إذا أراد أن يتزوجها في عدتها فإنما يتزوجها بعقد

    ج/ 32 ص -350-جديد، وليس له أن يتزوج بعدة من غيره بعقد جديد؛ فإن العدة من الغير تمنع ابتداء النكاح، ولا تمنع دوامه فليس لأحد أن يتزوج بعدة، لا من وطء شبهة، ولا نكاح فاسد، بل ولا زني؛ وإن كانت امرأته إذا وطئت بشبهة أو زني لم يبطل نكاحه، بل يجتنبها حتى يستبرأها، ثم يطأها‏.‏
    وإذا قيل‏:‏ فهذه معتدة من الوطء، فكيف يمنع من نكاحها في العدة‏؟‏
    قيل أولاً‏:‏ هذا لا يتعلق بقدر العدة‏.‏
    وقيل ثانيا‏:‏ لا نص ولا إجماع يبيح لكل معتدة أن تنكح في عدتها، لكن الإجماع انعقد على ذلك في مثل المختلعة؛ إذ لا عدة عليها لغير الناكح‏.‏ فأما إذا وجبت عليها عدة من غيره، فهنا المانع كونها معتدة من غيره، كما يمنع بعد انقضاء عدتها منه؛ فإن الخلية من عدتها له أن ينكحها، وإذا كان بعدة من الغير لم يكن له ذلك‏.‏ فالعدة ليست مانعة من النكاح ولا موجبة لحله، وانتفاء مانع واحد لا يبيح الغير إذا وجد مانع آخر، ولكن يظن الظان أن العدة منه وجبت لإباحة عقده‏.‏ وهذا غلط‏.‏ وأما إن كان الطلاق الأول رجعية، فارتجاعه إياها في بقية عدتها منه كارتجاعه لو وطئت بشبهة في عدتها من الطلاق الرجعي، لا فرق بينهما‏.‏

    ج/ 32 ص -351-وكذلك الذي قضي به على‏:‏ أن الثاني لا ينكحها حتى تنقضي عدتها منه وهو ظاهر مذهب أحمد‏.‏ وأما مذهب الشافعي فيجوز عنده للثاني أن ينكحها في عدتها منه، كما يجوز للواطئ بشبهة أن يتزوج الموطوءة في عدتها منه، وكذلك كل من نكح امرأة نكاحا فاسدا له أن يتزوجها في عدتها منه‏.‏
    وأحمد له في هذا الأصل روايتان‏:‏
    إحداهما‏:‏ لا يجوز، وهو مذهب مالك؛ ليميز بين ماء وطء الشبهة، وماء المباح المحض‏.‏
    والثانية‏:‏ يجوز كمذهب الشافعي؛ لأن النسب لاحق في كليهما‏.‏ وعلى هذه الرواية فمن أصحاب أحمد من جوز للثاني أن ينكحها في عدتها منه، كما هو قول الشافعي، كما يجوز ذلك لكل معتدة من نكاح فاسد على هذه الرواية‏.‏
    ومنهم من أنكر نصه، وقال هنا‏:‏ كان يذكر فيها عدة من الواطئ الأول، وهذا الواطئ الثاني لم تعتد منه عقب مفارقته لها، بل تخلل بين مفارقته وعدته عدة الأول، وهي قد وجب عليها عدتان لهما، وتقديم عدة الأول كان لقدم حقه، وإلا فلو وضعت ولدًا ألحق بالثاني لكانت عدة الثاني متقدمة على عدة الأول، فهي في أيام عدة الأول عليها حق للثاني، وفي الاعتداد

    ج/ 32 ص -352-من الثاني عليها حق الأول؛ بدليل أنها لو وضعت ولدا بعد اعتدادها من الأول وأمكن كونه من الأول والثاني عرض على القافة‏.‏ فإذا كان للأول حق في مدة عدتها من الثاني لم يكن للثاني أن يتزوجها في مدة العدة‏.‏
    فهذا أشهر الأقوال في هذه المسألة، وهو المأثور عن الصحابة، وهو نص أحمد، وعليه جمهور أصحابه، وقد تبعه الجد رحمه الله في محرره‏.‏
    وأما مقدار العدة فقد ذكرنا عن أحمد روايتين في المختلعة فإن لم يكن بينها وبين المنكوحة نكاحا فاسدًا فرق شرعي، وإلا وجب أن يقال في المنكوحة نكاحا فاسدًا‏:‏ إنما تعتد بحيضة، كما مضت به السنة‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل تخاصم مع زوجته وهي معه بطلقة واحدة، فقالت له‏:‏ طلقني‏.‏ فقال‏:‏ إن أبرأتيني فأنت طالق، فقالت‏:‏ أبرأك الله مما يدعي النساء على الرجال‏.‏ فقال لها‏:‏ أنت طالق، وظن أنه يبرأ من الحقوق، وهو شافعي المذهب‏.‏
    فأجاب‏:‏
    نعم هو بريء مما تدعي النساء على الرجال إذا كانت رشيدة‏.‏

    ج/ 32 ص -353-وسئل رحمه الله تعالى عن رجل قالت له زوجته‏:‏ طلقني وأنا أبرأتك من جميع حقوقي عليك، وآخذ البنت بكفايتها، يكون لها عليك مائة درهم، كل يوم سدس درهم، وشهد العدول بذلك فطلقها على ذلك بحكم الإبراء أو الكفالة‏:‏ فهل لها أن تطالبه بفرض البنت بعد ذلك، أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا خالعها على أن تبرئه من حقوقها، وتأخذ الولد بكفالته‏.‏ ولا تطالبه بنفقة، صح ذلك عند جماهير العلماء، كمالك، وأحمد في المشهور من مذهبه وغيرهما؛ فإنه عند الجمهور يصح الخلع بالمعدوم الذي ينتظر وجوده كما تحمل أمتها وشجرها‏.‏ وأما نفقة حملها ورضاع ولدها، ونفقته، فقد انعقد سبب وجوده وجوازه، وكذلك إذا قالت له‏:‏ طلقني وأنا أبرأتك من حقوقي وأنا آخذ الولد بكفالته‏.‏ وأنا أبرأتك من نفقته، ونحو ذلك مما يدل على المقصود‏.‏
    وإذا خالع بينهما على ذلك من يري صحة مثل هذا الخلع كالحاكم المالكي لم يجز لغيره أن ينقضه، وإن رآه فاسدًا، ولا يجوز له أن يفرض له

    ج/ 32 ص -354-عليه بعد هذا نفقة للولد، فإن فعل الحاكم الأول كذلك حكم في أصح قولي العلماء‏.‏ والحاكم من متي عقد عقدًا ساغ فيه الاجتهاد، أو فسخ فسخًا جاز فيه الاجتهاد، لم يكن لغيره نقضه‏.‏
    وسئل رحمه الله عن رجل قال لصهره‏:‏ إن جئت لي بكتابي وأبرأتني منه فبنتك طالق ثلاثا، فجاء له بكتاب غير كتابه، فقطعه الزوج ولم يعلم هل هو كتابه أم لا‏؟‏ فقال‏:‏ أبو الزوجة‏:‏ اشهدوا عليه أن بنتي تحت حجري، واشهدوا على أني أبرأته من كتابها، ولم يبيّن ما في الكتاب، ثم إنه مكث ساعة وجاء أبو الزوجة بحضور الشهود، وقال له‏:‏ أي شيء قلت يا زوج‏؟‏ فقال الزوج اشهدوا على أن بنت هذا طالق ثلاثا، ثم إن الزوج ادعي أن هذا الطلاق الصريح بناء على أن الإبراء الأول صحيح‏:‏ فهل يقع‏؟‏ أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    قوله الأول معلق على الإبراء، فإن لم يبره لم يقع الطلاق‏.‏ وأما قوله الثاني فهو إقرار منه، بناء على أن الأول قد وقع، فإن كان الأول لم يقع فإنه لم يقع بالثاني شيء‏.‏

    ج/ 32 ص -355-وسئل رحمه الله تعالى عن رجل له زوجة، فحلف أبوها أنه ما يخليها معه، وضربها، وقال لها أبوها‏:‏ أبريه، فأبرأته، وطلقها طلقة، ثم ادعت أنها لم تبره إلا خوفا من أبيها‏:‏ فهل تقع على الزوجة الطلقة أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، إن كانت أبرأته مكرهة بغير حق لم يصح الإبراء، ولم يقع الطلاق المعلق به‏.‏ وإن كانت تحت حجر الأب وقد رأي الأب أن ذلك مصلحة لها فإن ذلك جائز في أحد قولي العلماء، كما في مذهب مالك وقول في مذهب أحمد‏.‏
    وسئل رحمه الله تعالى عن بنت يتيمة تحت الحجر مزوجة، قال لها الزوج‏:‏ إن أبرأتيني من صداقك فأنت طالق ثلاثًا، فمن شدة الضرب والفزع أوهبته، ثم رجعت فندمت‏:‏ هل لها أن ترجع‏.‏ ولا يحنث أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا أكرهها على الهبة، أو كانت تحت الحجر، لم تصح الهبة، ولم يقع الطلاق‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 32 ص -356-وسئل رحمه الله تعالى عن رجل له امرأة كساها كسوة مثمنة مثل مصاغ، وحلي، وقلائد، وما أشبه ذلك خارجا عن كسوة القيمة وطلبت منه المخالعة، وعليه مال كثير مستحق لها عليه، وطلب حلية منها ليستعين به على حقها أو على غير حقها، فأنكرته، ويعلم أنها تحلف وتأخذ الذي ذكره عندها، والثمن يلزمه، ولم يكن له بينة عليها‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إن كان قد أعطاها ذلك الزائد عن الواجب على وجه التمليك لها فقد ملكته، وليس له إذا طلقها هو ابتداء أن يطالبها بذلك، لكن إن كانت الكارهة لصحبته، وأرادت الاختلاع منه، فلتعطه ما أعطاها من ذلك ومن الصداق الذي ساقه إليها، والباقي في ذمته، ليخلعها، كما مضت سنة رسول الله ﷺ في امرأة ثابت بن قيس بن شماس، حيث أمرها برد ما أعطاها‏.‏
    وإن كان قد أعطاها لتتجمل به، كما يركبها دابته، ويحذيها غلامه، ونحو ذلك، لا على وجه التمليك للعين، فهو باق على ملكه، فله أن يرجع

    ج/ 32 ص -357-فيه متي شاء، سواء طلقها أو لم يطلقها، وإن تنازعا هل أعطاها على وجه التمليك، أو على وجه الإباحة‏؟‏ ولم يكن هناك عرف يقضي به، فالقول قوله مع يمينه أنه لم يملكها ذلك‏.‏ وإن تنازعا هل أعطاها شيئا أو لم يعطها، ولم يكن حجة يقضي له بها، لا شاهد واحد، ولا إقرار، ولا غير ذلك، فالقول قولها مع يمينها أنه لم يعطها‏.‏
    وسئل رحمه الله عن رجل باع شيئا من قماشه، فخاصمته زوجته لأجل أنه باع قماشه، وحصل بينهما شنآن عليه، وهم في الخصام، وجاء ناس من قرابتها، فقال الرجل للناس الذين حضروا‏:‏ هذه المرأة إن لم تقعد مثل الناس وإلا تخلي وتزوج‏.‏ ثم قال‏:‏ إن أعطيتني كتابك لهذا الرجل كنت طالقا ثلاثا وكان نيته أنها تبرئه، فحنقت وأعطت الكتاب للرجل‏:‏ فهل يقع الطلاق أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا كان مقصوده إعطاء الكتاب على وجه الإبراء فأعطته عطاء مجردًا ولم تبرئه منه، لم يقع به الطلاق‏.‏ وإذا قال‏:‏ كان مقصودي الإعطاء في ذلك؛ إذ لا غرض له إلا في الإبراء، وتسليم الصداق يمنع من الادعاء به ومجرد إيداعه فلا غرض له‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 32 ص -358-وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل مالكي المذهب حصل له نكد بينه وبين والد زوجته فحضر قدام القاضي، فقال الزوج لوالد الزوجة‏:‏ إن أبرأتني ابنتك أوقعت عليها الطلاق‏.‏ فقال والدها أنا أبرأتك‏.‏ فحضر الزوج ووالد الزوجة قدام بعض الفقهاء، فأبرأه والدها بغير حضورها، وبغير إذنها‏:‏ فهل يقع الطلاق أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، أصل هذه المسألة فيه نزاع بين العلماء، فمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المنصوص المعروف عنهم‏:‏ أنه ليس للأب أن يخالع على شيء من مال ابنته، سواء كانت محجورًا عليها أو لم تكن؛ لأن ذلك تبرع بمالها فلا يملكه، كما لا يملك إسقاط سائر ديونها‏.‏ ومذهب مالك يجوز له أن يخالع عن ابنته الصغيرة بكرًا كانت أو ثيبًا؛ لكونه يلي مالها‏.‏ وروي عنه‏:‏ أن له أن يخالع عن ابنته البكر مطلقا؛ لكونه يجبرها على النكاح‏.‏ وروي عنه‏:‏ يخالع عن ابنته مطلقا، كما يجوز له أن يزوجها بدون

    ج/ 32 ص -359-مهر المثل للمصلحة، وقد صرح بعض أصحاب الشافعي وجها في مذهبه أنه يجوز في حق البكر الصغيرة أن يخالعها بالإبراء من نصف مهرها إذا قلنا‏:‏ إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، وخطأه بعضهم؛ لأنه إنما يملك الإبراء بعد الطلاق؛ لأنه إذا ملك إسقاط حقها بعد الطلاق لغير فائدة فجواز ذلك لمنفعتها وهو يخلعها من الزوج أولي؛ ولهذا يجوز عندهم كلهم أن يختلعها الزوج بشيء من ماله، وكذلك لها أن تخالعه بمالها إذا ضمن ذلك الزوج‏.‏ فإذا جاز له أن يختلعها ولم يبق عليها ضرر إلا إسقاط نصف صداقها‏.‏
    ومذهب مالك يخرج على أصول أحمد من وجوه‏:‏
    منها أن الأب له أن يطلق ويخلع امرأة ابنه الطفل في إحدى الروايتين، كما ذهب إليه طوائف من السلف‏.‏ ومالك يجوز الخلع دون الطلاق؛ لأن في الخلع معاوضة‏.‏ وأحمد يقول‏:‏ له التطليق عليه؛ لأنه قد يكون ذلك مصلحة له لتخليصه من حقوق المرأة وضررها، وكذلك لا فرق في إسقاط حقوقه بين المال وغير المال‏.‏
    وأيضا، فإنه يجوز في إحدى الروايتين للحكم في الشقاق أن يخلع المرأة بشيء من مالها بدون إذنها، ويطلق على الزوج بدون إذنه، كمذهب

    ج/ 32 ص -360-مالك وغيره‏.‏ وكذلك يجوز للأب أن يزوج المرأة بدون مهر المثل، وعنده في إحدى الروايتين أن الأب بيده عقدة النكاح، وله أن يسقط نصف الصداق‏.‏ ومذهبه أن للأب أن يتملك لنفسه من مال ولده ما لا يضر بالولد، حتى لو زوجها واشترط لنفسه بعض الصداق، جاز له ذلك‏.‏ وإذا كان له من التصرف في المال والتملك هذا التصرف لم يبق إلا طلبه لفرقتها، وذلك يملكه بإجماع المسلمين‏.‏ ويجوز عنده للأب أن يعتق بعض رقبة المولي عليه للمصلحة‏.‏
    فقد يقال‏:‏ الأظهر أن المرأة إن كانت تحت حجر الأب له أن يخالع معاوضة وافتداء لنفسها من الزوج فيملكه الأب، كما يملك غيره من المعاوضات، وكما يملك افتداءها من الأسر، وليس له أن يفعل ذلك إلا إذا كان مصلحة لها‏.‏ وقد يقال‏:‏ قد لا يكون مصلحتها في الطلاق، ولكن الزوج يملك أن يطلقها وهو لا يقدر على منعه، فإذا بذل له العوض من غيرها لم يمكنها منعه من البذل‏.‏ فأما إسقاط مهرها وحقها الذي تستحقه بالنكاح فقد يكون عليها في ذلك ضرر‏.‏ والأب قد يكون غرضه باختلاعها حظه لا لمصلحتها، وهو لا يملك إسقاط حقها بمجرد حظه بالاتفاق‏.‏
    فعلى قول من يصحح الإبراء يقع الإبراء والطلاق‏.‏ وعلى قول من لا يجوز إبراءه إن ضمنه وقع الطلاق بلا نزاع، وكان على الأب للزوج

    ج/ 32 ص -361-مثل الصداق عند أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، والشافعي في القديم‏.‏ وعنده في الجديد‏:‏ إنما عليه مهر المثل‏.‏ وأما إن لم يضمنه إن علق الطلاق بالإبراء‏.‏ فقال له‏:‏ إن أبرأتني فهي طالق، فالمنصوص عن أحمد أنه يقع الطلاق إذا اعتقد الزوج أنه تبرأ، ويرجع على الأب بقدر الصداق؛ لأنه غره، وهو إحدى الروايتين في مذهب أبي حنيفة، وفي الأخرى لا يقع شيء‏.‏ وهو قول الشافعي‏.‏ وهو قول في مذهب أحمد؛ لأنه لم يبرأ في نفس الأمر‏.‏ والأولون قالوا‏:‏ وجد الإبراء‏.‏ وأمكن أن يجعل الأب ضامنا بهذا الإبراء‏.‏ وأما إن طلقها طلاقا لم يعلقه على الإبراء، فإنه يقع، لكن عند أحمد يضمن للزوج الصداق؛ لأنه غره‏.‏ وعند الشافعي لا يضمن له شيئا؛ لأنه لم يلزم شيئا‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عن امرأة طلقها زوجها ثلاثا وأبرأت الزوج من حقوق الزوجية قبل علمها بالحمل، فلما بان الحمل طالبت الزوج بفرض الحمل‏:‏ فهل يجوز لها ذلك أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا كان الأمر كما ذكر لم تدخل نفقة الحمل في الإبراء، كان لها أن تطلب نفقة الحمل‏.‏ ولو علمت بالحمل وأبرأته من حقوق الزوجية فقط لم

    ج/ 32 ص -362-يدخل في ذلك نفقة الحمل؛ لأنها تجب بعد زوال النكاح، وهي واجبة للحمل في أظهر قولي العلماء، كأجرة الرضاع‏.‏ وفي الآخر هي للزوجة من أجل الحمل فتكون من جنس نفقة الزوجات، والصحيح أنها من جنس نفقة الأقارب كأجرة الرضاع، اللهم إلا أن يكون الإبراء بمقتضى أنه لا تبقى بينهما مطالبة بعد النكاح أبدًا، فإذا كان الأمر كذلك ومقصودهما المبارأة، بحيث لا يبقي للآخرة مطالبة بوجه، فهذا يدخل فيه الإبراء من نفقة الحمل‏.‏
    آخر المجلد الثاني والثلاثين


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML