ج/ 32 ص -247-باب العِشْرَة
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن أقوام يعاشرون المردان، وقد يقع من أحدهم قبلة ومضاجعة للصبي ويدعون أنهم يصحبون لله، ولا يعدون ذلك ذنبا ولا عارا، ويقولون: نحن نصحبهم بغير خنا، ويعلم أبو الصبي بذلك وعمه وأخوه فلا ينكرون: فما حكم الله تعالى في هؤلاء؟وماذا ينبغي للمرء المسلم أن يعاملهم به والحالة هذه؟
فأجاب:
الحمد لله الصبي الأمرد المليح بمنزلة المرأة الأجنبية في كثير من الأمور، ولا يجوز تقبيله على وجه اللذة، بل لا يقبله إلا من يؤمن عليه، كالأب والإخوة. ولا يجوز النظر إليه على هذا الوجه باتفاق الناس، بل يحرم عند جمهورهم النظر إليه عند خوف ذلك، وإنما ينظر إليه لحاجة بلا ريبة مثل معاملته، والشهادة عليه، ونحو ذلك كما ينظر إلى المرأة للحاجة.
وأما مضاجعته، فهذا أفحش من أن يسأل عنه، فإن النبي ﷺ قال: "مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا
ج/ 32 ص -248-بينهم في المضاجع" إذا بلغوا عشر سنين ولم يحتلموا بعد، فكيف بما هو فوق ذلك، وإذا كان النبي ﷺ قد قال: "لا يخلو رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان"، قال: "إياكم والدخول على النساء". قالوا: يا رسول الله، أفرأيت الحم؟قال: "الحمو الموت" فإذا كانت الخلوة محرمة لما يخاف منها فكيف بالمضاجعة؟ !
وأما قول القائل: إنه يفعل ذلك لله، فهذا أكثره كذب، وقد يكون لله مع هوي النفس، كما يدعي من يدعي مثل ذلك في صحبة النساء الأجانب، فيبقي كما قال تعالى في الخمر: "فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا" [البقرة: 219] وقد روي الشعبي عن النبي ﷺ: "أن وفد عبد القيس لما قدموا على النبي ﷺ وكان فيهم غلام ظاهر الوضاءة أجلسه خلف ظهره، وقال: إنما كانت خطيئة داود عليه السلام النظرة". هذا وهو رسول الله ﷺ، وهو مزوج بتسع نسوة، والوفد قوم صالحون، ولم تكن الفاحشة معروفة في العرب وقد روي عن المشائخ من التحذير عن صحبة الأحداث ما يطول وصفه.
وليس لأحد من الناس أن يفعل ما يفضي إلى هذه المفاسد المحرمة، وإن ضم إلى ذلك مصلحة من تعليم أو تأديب؛ فإن المردان يمكن تعليمهم وتأديبهم بدون هذه المفاسد التي فيها مضرة عليهم، وعلى من يصحبهم، وعلى المسلمين: بسوء الظن تارة، وبالشبهة أخري، بل روي: أن رجلا كان يجلس
ج/ 32 ص -249-إليه المردان، فنهى عمر رضي الله عنه عن مجالسته. ولقي عمر بن الخطاب شابا فقطع شعره؛ لميل بعض النساء إليه؛ مع ما في ذلك من إخراجه من وطنه، والتفريق بينه وبين أهله.
ومن أقر صبيا يتولاه مثل ابنه، وأخيه، أو مملوكه، أو يتيم عند من يعاشره على هذا الوجه فهو ديوث ملعون، و"لا يدخل الجنة ديوث"، فإن الفاحشة الباطنة ما يقوم عليها بينة في العادة؛ وإنما تقوم على الظاهرة، وهذه العشرة القبيحة من الظاهرة، وقد قال الله تعالى: "وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ" [الأنعام: 151]، وقال تعالى: "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ" [الأعراف: 33]، فلو ذكرنا ما حصل في مثل هذا من الضرر والمفاسد، وما ذكروه العلماء، لطال. سواء كان الرجل تقيا أو فاجرا؛ فإن التقي يعالج مرارة في مجاهدة هواه وخلاف نفسه، وكثيرا ما يغلبه شيطانه ونفسه بمنزلة من يحمل حملا لا يطيقه فيعذبه أو يقتله، والفاجر يكمل فجوره بذلك. والله أعلم.
وسئل رحمه الله عن رجلين تراهنا في عمل زجلين، وكل منهما له عصبية، وعلى من تعصب لهما، وفي ذكرهما التغزل في المردان وغير ذلك، وما أشبههما أفتونا مأجورين.
ج/ 32 ص -250-فأجاب:
الحمد لله، هؤلاء المتغالبون بهذه الأزجال، وما كان من جنسها هم والمتعصبون من الطرفين، والمراهنة في ذلك وغير المراهنة ظالمون معتدون آثمون، مستحقون العقوبة البليغة الشرعية التي تردعهم وأمثالهم من سفهاء الغواة العصاة الفاسقين عن مثل هذه الأقوال والأعمال، التي لا تنفع في دين ولا دنيا، بل تضر أصحابها في دينهم ودنياهم. وعلى ولاة الأمور، وجميع المسلمين الإنكار على هؤلاء وأعوانهم؛ حتى ينتهوا عن هذه المنكرات ويراجعوا طاعة الله ورسوله، وملازمة الصراط المستقيم الذي يجب على المسلمين ملازمته؛ فإن هذه المغالبات مشتملات على منكرات محرمات، وغير محرمات بل مكروهات. ومن المحرمات التي فيها تحريمه ثابت بالإجماع وبالنصوص الشرعية، وذلك من وجوه.
أحدها: المراهنة على ذلك بإجماع المسلمين، وكذلك لو كان المال مبذولا من أحدهما، أو من غيرها، لم يجز؛ لا على قول من يقول: لا سبق إلا في خف أو حافر، أو نصل. ولا على قول من يقول: السبق في غير هذه الثلاثة. أما على القول الأول فظاهر، وفي ذلك الحديث المعروف في السنن عن النبي ﷺ أنه قال: "لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل". وهذه الثلاثة من أعمال الجهاد في سبيل الله، فإخراج السبق فيها من أنواع إنفاق المال في سبيل الله، بخلاف غيرها من المباحات كالمصارعة، والمسابقة بالأقدام فإن هذه الأعمال ليست من الجهاد؛ فلهذا رخص فيها من غير سبق. فإن النبي ﷺ
ج/ 32 ص -251-صارع ابن عبد يزيد، وسابق عائشة رضي الله عنه وأذن في السباق لسلمة بن الأكوع. وأما على القول الثاني فلابد أن تكون المغالبة في عمل مباح، وهذه ليست كذلك. وذلك يظهر بالوجه الثاني:
وهو أن هذه الأقوال فيها من وصف المردان وعشقهم، ومقدمات الفجور بهم ما يقتضي ترغيب النفوس في ذلك، وتهييج ذلك في القلوب. وكل ما فيه إعانة على الفاحشة والترغيب فيها، فهو حرام؛وتحريم هذا أعظم من تحريم الندب والنياحة، وذلك يثير الحزن، وهذا يثير الفسق. والحزن قد يرخص فيه، وأما الفسق فلا يرخص في شيء منه. وهذا من جنس القيادة. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "لا تنعت المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها"، فنهى النبي ﷺ عن وصف المرأة؛ لئلا تتمثل في نفسه صورتها، فكيف بمن يصف المردان بهذه الصفات، ويرغب في الفواحش بمثل هذه الأقوال المنكرات التي تخرج القلب السليم، وتعمي القلب السقيم، وتسوق الإنسان إلى العذاب الإليم؟ ! وقد أمر عمر رضي الله عنه بضرب نائحة، فضربت حتى بدا شعرها، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنه قد بدا شعرها؟فقال: لا حرمة لها، إنما تأمر بالجزع وقد نهى الله عنه، وتنهى عن الصبر وقد أمر الله به، وتفتن الحي وتؤذي الميت، وتبيع عبرتها، وتبكي شجو غيرها، إنها لا تبكي على ميتكم، وإنما تبكي على أخذ دراهمكم. وبلغ عمر أن شابا يقال له: نصر
ج/ 32 ص -252-ابن حجاج تغنت به امرأة فأخذ شعره، ثم رآه جميلا فنفاه إلى البصرة، وقال: لا يكون عندي من تغني به النساء، فكيف لو رأي عمر من يغني بمثل هذه الأقوال الموزونة في المردان، مع كثرة الفجور، وظهور الفواحش، وقلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ! فإن هؤلاء من المضادين لله ولرسوله ولدينه. ويدعون إلى ما نهى الله عنه، ويصدون عما أمر الله به، ويصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجًا.
الوجه الثالث: أن هذا الكلام الموزون كلام فاسد مفردًا أو مركبًا؛ لأنهم غيروا فيه كلام العرب، وبدلوه، بقولهم: ماعوا وبدوا وعدوا. وأمثال ذلك مما تمجه القلوب والأسماع، وتنفر عنه العقول والطباع.
وأما مركباته، فإنه ليس من أوزان العرب، ولا هو من جنس الشعر ولا من أبحره الستة عشر، ولا من جنس الأسجاع والرسائل والخطب.
ومعلوم أن تعلم العربية وتعليم العربية فرض على الكفاية، وكان السلف يؤدبون أولادهم على اللحن، فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي، ونصلح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة، والاقتداء بالعرب في خطابها. فلو ترك الناس على لحنهم كان نقصا وعيبا فكيف إذا جاء قوم إلى الألسنة العربية المستقيمة، والأوزان القويمة، فأفسدوها بمثل هذه المفردات والأوزان المفسدة للسان، الناقلة عن العربية العرباء إلى أنواع الهذيان، الذي لا يهذي به الأقوم من الأعاجم الطِّماطِم الصميان؟ !!
ج/ 32 ص -253-الوجه الرابع: أن المغالبة بمثل هذا توقع العداوة والبغضاء وتصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا من جنس النقار بين الديوك، والنطاح بين الكباش، ومن جنس مغالبات العامة التي تضرهم ولا تنفعهم، والله سبحانه حرم الخمر والميسر. والميسر هو القمار؛ لأنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء. والميسر المحرم ليس من شرطه أن يكون فيه عوض، بل اللعب بالنرد حرام باتفاق العلماء وإن لم يكن فيه عوض، وإن كان فيه خلاف شاذ لا يلتفت إليه. وقد قال ﷺ: "من لعب بالنرد فقد عصي الله ورسوله"؛ لأن النرد يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء، وهذه المغالبات تصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، وتوقع بينهم العداوة والبغضاء، أعظم من النرد، فإذا كان أكثر الأئمة قد حرم الشطرنج، وجعله مالك أعظم من النرد، مع أن اللاعبين بالنرد، والشطرنج وإن كانوا فساقًا، فهم أمثل من هؤلاء، وهذا بين الوجه الخامس: وهو أن غالب هؤلاء، إما زنديق منافق، وإما فاجر فاسق، ولا يكاد يوجد فيهم مؤمن بر، بل وجد حاذقهم منسلخًا من دين الإسلام، مضيعًا للصلوات، متبعًا للشهوات، لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرم ما حرم الله ورسوله، ولا يدين دين المسلمين. وإن كان مسلمًا كان فاسقًا مرتكبًا للمحرمات، تاركًا للواجبات. وإن كان الغالب عليهم، إما النفاق، وإما الفسق، كان حكم الله في الزنديق قتله من غير استتابة، وحكمه في الفاسق إقامة الحد عليه؛ إما بالقتل، أو بغيره والمخالط
ج/ 32 ص -254-لهم والمعاشر إذا ادعى سلامته من ذلك لم يقبل؛ فإنه إما أن يفعل معهم المحرمات، ويترك الواجبات، وإما أن يقرهم على المنكرات، فلا يأمرهم بمعروف، ولا ينهاهم عن منكر. وعلى كل حال فهو مستحق للعقوبة، وقد رفع إلى عمر بن عبد العزيز أقوام يشربون الخمر فأمر بجلدهم الحد، فقيل: إن فيهم صائمًا؟ فقال: إبدؤوا بالصائم فاجلدوه: ألم يسمع إلى قوله تعالى: "وَقَدْ نَزَّلَ عليكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ" [النساء: 140]. وقوله تعالى: "وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" [الأنعام: 68، 69]، فنهى سبحانه عن القعود مع الظالمين، فكيف بمعاشرتهم؟ أم كيف بمخادنتهم؟ !
وهؤلاء قوم تركوا المقامرة بالأيدي، وعجزوا عنها، ففتحوا القمار بالألسنة، والقمار بالألسنة أفسد للعقل والدين من القمار بالأيدي. والواجب على المسلمين المبالغة في عقوبة هؤلاء، وهجرهم، واستتابتهم، بل لو فرض أن الرجل نظم هذه الأزجال العربية من غير مبالغة لنهي عن ذلك، بل لو نظمها في غير الغزل، فإنهم تارة ينظمونها بالكفر بالله وبكتابه ورسوله، كما نظمها أبو الحسن التستري في وحدة الوجود، وأن الخالق هو المخلوق. وتارة ينظمونها في الفسق، كنظم هؤلاء الغواة، والسفهاء الفساق. ولو قدر أن ناظمًا نظم هذه الأزجال في مكان حانوت، نهى؛ فإنها تفسد اللسان العربى، وتنقله إلى العجمة المنكرة.
ج/ 32 ص -255-وما زال السلف يكرهون تغيير شعائر العرب حتى في المعاملات، وهو التكلم بغير العربية إلا الحاجة، كما نص على ذلك مالك والشافعي وأحمد، بل قال مالك: من تكلم في مسجدنا بغير العربية أخرج منه. مع أن سائر الألسن يجوز النطق بها لأصحابها، ولكن سوغوها للحاجة، وكرهوها لغير الحاجة، ولحفظ شعائر الإسلام؛ فإن الله أنزل كتابه باللسان العربى، وبعث به نبيه العربى، وجعل الأمة العربية خير الأمم، فصار حفظ شعارهم من تمام حفظ الإسلام، فكيف بمن تقدم على الكلام العربي مفرده ومنظومه فيغيره ويبدله، ويخرجه عن قانونه ويكلف الانتقال عنه؟ !! إنما هذا نظير ما يفعله بعض أهل الضلال من الشيوخ الجهال، حيث يصمدون إلى الرجل العاقل فيولهونه، ويخنثونه، فإنهم ضادوا الرسول إذ بعث بإصلاح العقول والأديان. وتكميل نوع الإنسان وحرم ما ينير العقل من جميع الألوان، فإذا جاء هؤلاء إلى صحيح العقل فأفسدوا عقله وفهمه، وقد ضادو الله وراغموا حكمه. والذين يبدلون اللسان العربي ويفسدونه، لهم من هذا الذم والعقاب بقدر ما يفتحونه؛ فإن صلاح العقل واللسان، مما يؤمر به الإنسان، ويعين ذلك على تمام الإيمان، وصد ذلك يوجب الشقاق والضلال والخسران. والله أعلم.
وسئل رحمه الله عمن يتحدث بين الناس بكلام وحكايات مفتعلة، كلها كذب:هل يجوز ذلك؟
ج/ 32 ص -256-فأجاب:
أما المتحدث بأحاديث مفتعلة ليضحك الناس، أو لغرض آخر، فإنه عاص لله ورسوله، وقد روى بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن النبي ﷺ قال:"إن الذي يحدث فيكذب ليضحك القوم، ويل له، ويل له، ثم ويل له" وقد قال ابن مسعود:إن الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يعد أحدكم صبيه شيئا ثم لا ينجزه. وأما إن كان في ذلك ما فيه عدوان على مسلم وضرر في الدين، فهو أشد تحريمًا من ذلك. وبكل حال ففاعل ذلك مستحق للعقوبة الشرعية التي تردعه عن ذلك. والله أعلم.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
فصل
التشبه بالبهائم في الأمور المذمومة في الشرع مذموم، منهي عنه، في أصواتها، وأفعالها، ونحو ذلك مثل:أن ينبح نبيح الكلاب، أو ينهق نهيق الحمير، ونحو ذلك؛ وذلك لوجوه:
أحدها:أنا قررنا في اقتضاء الصراط المستقيم نهى الشارع عن التشبه بالآدميين الذين جنسهم ناقص كالتشبه، بالأعراب، وبالأعاجم، وبأهل الكتاب ونحو ذلك في أمور من خصائصهم، وبينا أن من أسباب ذلك
ج/ 32 ص -257-أن المشابهة تورث مشابهة الأخلاق، وذكرنا أن من أكثر عشرة بعض الدواب اكتسب من أخلاقها، كالكلابين، والجمالين. وذكرنا ما في النصوص من ذم أهل الجفاء وقسوة القلوب أهل الإبل، ومن مدح أهل الغنم، فكيف يكون التشبه بنفس البهائم فيما هي مذمومة؟ ! بل هذه القاعدة تقتضي بطريق التنبيه النهي عن التشبه بالبهائم مطلقًا فيما هو من خصائصها، وإن لم يكن مذمومًا بعينه؛ لأن ذلك يدعو إلى فعل ما هو مذموم بعينه؛ إذ من المعلوم أن كون الشخص أعرابيًا أو عجميًا خير من كونه كلبًا أو حمارًا أو خنزيرًا، فإذا وقع النهي عن التشبه بهذا الصنف من الآدميين في خصائصه؛ لكون ذلك تشبهًا فيما يستلزم النقص، ويدعو إليه، فالتشبه بالبهائم فيما هو من خصائصها أولى أن يكون مذمومًا ومنهيًا عنه.
الوجه الثاني:أن كون الإنسان مثل البهائم مذموم، قال تعالى:"وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" [الأعراف:179].
الوجه الثالث:أن الله سبحانه إنما شبه الإنسان بالكلب والحمار ونحوهما في معرض الذم له كقوله:"فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عليه يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ" [الأعراف:176، 177]،
ج/ 32 ص -258-
ج/ 32 ص -259-سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطانًا" فدل ذلك على أن أصواتها مقارنة للشياطين، وإنها منفرة للملائكة. ومعلوم أن المشابه للشيء لابد أن يتناوله من أحكامه بقدر المشابهة، فإذا نبح نباحها كان في ذلك من مقارنة الشياطين وتنفير الملائكة بحسبه. وما يستدعى الشياطين، وينفر الملائكة، لا يباح إلا لضرورة، ولهذا لم يبح اقتناء الكلب إلا لضرورة؛ لجلب منفعة كالصيد أو دفع مضرة عن الماشية والحرث حتى قال ﷺ:"من اقتنى كلبًا إلا كلب ماشية أو حرث أو صيد، نقص من عمله كل يوم قيراط".
وبالجملة فالتشبه بالشىء يقتضى من الحمد والذم بحسب الشبه، لكن كون المشبه به غير مكلف لا ينفي التكليف عن المتشبه، كما لو تشبه بالأطفال والمجانين. والله سبحانه أعلم.
الوجه السادس:أن النبي ﷺ "لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال"؛ وذلك لأن الله خلق كل نوع من الحيوان، وجعل صلاحه وكماله في أمر مشترك بينه وبين غيره، وبين أمر مختص به. فأما الأمور المشتركة فليست من خصائص أحد النوعين؛ ولهذا لم يكن من مواقع النهى، وإنما مواقع النهى الأمور المختصة. فإذا كانت الأمور التي هى من خصائص النساء ليس للرجال التشبه بهن فيها، والأمور التي هي من خصائص الرجال ليس
ج/ 32 ص -260-للنساء التشبه بهم فيها، فالأمور التي هي من خصائص البهائم لا يجوز للآدمي التشبه بالبهائم فيها بطريق الأولى والأحرى؛ وذلك لأن الإنسان بينه وبين الحيوان قدر جامع مشترك، وقدر فارق مختص ثم الأمر المشترك كالأكل، والشرب، والنكاح، والأصوات، والحركات لما اقترنت بالوصف المختص كان للإنسان فيها أحكام تخصه، ليس له أن يتشبه بما يفعله الحيوان فيها. فالأمور المختصة به أولى، مع أنه في الحقيقة لا مشترك بينه وبينها، ولكن فيه أوصاف تشبه أوصافها من بعض الوجوه. والقدر المشترك إنما وجوده في الذهن، لا في الخارج.
وإذا كان كذلك فالله تعالى قد جعل الإنسان مخالفًا بالحقيقة للحيوان، وجعل كماله وصلاحه في الأمور التي تناسبه، وهي جميعها لا يماثل فيها الحيوان، فإذا تعمد مماثلة الحيوان، وتغيير خلق الله، فقد دخل في فساد الفطرة والشرعة، وذلك محرم. والله أعلم.
وقال رحمه الله:
فصل
قوله:"فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ" [النساء:34]، يقتضي وجوب طاعتها لزوجها مطلقًا من خدمة، وسفر معه، وتمكين له، وغير ذلك كما
ج/ 32 ص -261-دلت عليه سنة رسول الله ﷺ في حديث الجبل الأحمر وفي السجود وغير ذلك، كما تجب طاعة الأبوين. فإن كل طاعة كانت للوالدين انتقلت إلى الزوج، ولم يبق للأبوين عليها طاعة، تلك وجبت بالأرحام، وهذه وجبت بالعهود، كما سنقرر إن شاء الله هذين الأصلين العظيمين.
وسئل رحمه الله عن امرأة تزوجت، وخرجت عن حكم والديها، فأيهما أفضل:برها لوالديها، أو مطاوعة زوجها؟
فأجاب:
الحمد رب العالمين، المرأة إذا تزوجت كان زوجها أملك بها من أبويها، وطاعة زوجها عليها أوجب، قال الله تعالى:"فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ" [النساء:34]، وفي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال:"الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة؛ إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك"، وفي صحيح ابن أبي حاتم، عن أبي هريرة، قال:قال رسول الله ﷺ:"إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت"، وفي الترمذي عن أم سلمة، قالت:قال رسول الله ﷺ:"أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت
ج/ 32 ص -262-الجنة"، وقال الترمذي:حديث حسن، وعن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال:"لو كنت آمرًا لأحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها". أخرجه الترمذي، وقال:حديث حسن، وأخرجه أبو داود، ولفظه:"لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن، لما جعل الله لهم عليهن من الحقوق". وفي المسند عن أنس:أن النبي ﷺ قال:"لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها، والذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تجري بالقيح والصديد، ثم استقبلته فلحسته ما أدت حقه"! وفي المسند وسنن ابن ماجه، عن عائشة عن النبي ﷺ قال:"لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولو أن رجلاً أمر امرأته أن تنقل من جبل أحمر إلى جبل أسود، ومن جبل أسود إلى جبل أحمر، لكان لها أن تفعل"، أي لكان حقها أن تفعل.
وكذلك في المسند، وسنن ابن ماجه، وصحيح ابن حبان، عن عبد الله بن أبي أوفي، قال:لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي ﷺ، فقال:"ما هذا يا معاذ؟" قال:أتيت الشام فوجدتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك يا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ:"لا تفعلوا ذلك، فإني لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لغير الله لأمرت
ج/ 32 ص -263-المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه"، وعن طلق بن على قال:قال رسول الله ﷺ:"أيما رجل دعا زوجته لحاجته فلتأته ولو كانت على التنور" رواه أبو حاتم في صحيحه والترمذي، وقال:حديث حسن، وفي الصحيح عن أبي هريرة قال:قال رسول الله ﷺ:"إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجىء، فبات غضبانا عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح". والأحاديث في ذلك كثيرة عن النبي ﷺ، وقال زيد بن ثابت:الزوج سيد في كتاب الله، وقرأ قوله تعالى:"وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْباب" [يوسف:25]. وقال عمر بن الخطاب:النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته. وفي الترمذي وغيره عن النبي ﷺ أنه قال:"استوصوا بالنساء خيرًا، فإنما هن عندكم عوان"، فالمرأة عند زوجها تشبه الرقيق والأسير، فليس لها أن تخرج من منزله إلا بإذنه سواء أمرها أبوها أو أمها أو غير أبويها باتفاق الأئمة.
وإذا أراد الرجل أن ينتقل بها إلى مكان آخر مع قيامه بما يجب عليه وحفظ حدود الله فيها ونهاها أبوها عن طاعته في ذلك، فعليها أن تطيع زوجها دون أبويها؛ فإن الأبوين هما ظالمان، ليس لهما أن ينهاياها عن طاعة مثل هذا الزوج، وليس لها أن تطيع أمها فيما تأمرها به من الاختلاع منه أو مضاجرته حتى يطلقها، مثل أن تطالبه من النفقة والكسوة والصداق بما
ج/ 32 ص -264-تطلبه ليطلقها، فلا يحل لها أن تطيع واحدًا من أبويها في طلاقه إذا كان متقيًا لله فيها. ففي السنن الأربعة وصحيح ابن أبي حاتم عن ثوبان قال:قال رسول الله ﷺ:"أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة". وفي حديث آخر:"المختلعات والمنتزعات هن المنافقات". وأما إذا أمرها أبواها أو أحدهما بما في طاعة الله مثل المحافظة على الصلوات، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، ونهوها عن تبذير مالها وإضاعته، ونحو ذلك مما أمر الله ورسوله أو نهاها الله ورسوله عنه، فعليها أن تطيعهما في ذلك، ولو كان الأمر من غير أبويها، فكيف إذا كان من أبويها؟ ! وإذا نهاها الزوج عما أمر الله، أو أمرها بما نهى الله عنه، لم يكن لها أن تطيعه في ذلك، فإن النبي ﷺ قال:"إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، بل المالك لو أمر مملوكه بما فيه معصية لله لم يجز له أن يطيعه في معصية، فكيف يجوز أن تطيع المرأة زوجها أو أحد أبويها في معصية؟ ! فإن الخير كله في طاعة الله ورسوله، والشر كله في معصية الله ورسوله.
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل له زوجة أسكنها بين ناس مناجيس، وهو يخرج بها إلى الفرج، وإلى أماكن الفساد، ويعاشر مفسدين. فإذا قيل له:انتقل من هذا المسكن السوء، فيقول:أنا زوجها، ولي الحكم في امرأتي، ولي السكنى. فهل له ذلك؟
ج/ 32 ص -265-فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، ليس له أن يسكنها حيث شاء، ولا يخرجها إلى حيث شاء، بل يسكن بها في مسكن يصلح لمثلها، ولا يخرج بها عند أهل الفجور، بل ليس له أن يعاشر الفجار على فجورهم، ومتى فعل ذلك وجب أن يعاقب عقوبتين عقوبة على فجوره بحسب ما فعل، وعقوبة على ترك صيانة زوجته وإخراجها إلى أماكن الفجور، فيعاقب على ذلك عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل ذلك. والله أعلم.
وقال رحمه الله تعالى:
فصل
وأما "إتيان النساء في أدبارهن"، فهذا محرم عند جمهور السلف والخلف كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة، وهو المشهور في مذهب مالك. وأما القول الآخر بالرخصة فيه:فمن الناس من يحكيه رواية عن مالك، ومنهم من ينكر ذلك. ونافع نقل عن ابن عمر أنه لما قرأ عليه:"نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ" [البقرة:223]، قال له ابن عمر:إنها نزلت في إتيان النساء في أدبارهن. فمن الناس من يقول غلط نافع على ابن عمر، أو لم يفهم مراده، وكان مراده:أنها نزلت في إتيان النساء من جهة الدبر في القبل؛ فإن الآية نزلت في ذلك باتفاق العلماء، وكانت
ج/ 32 ص -266-
اليهود تنهى عن ذلك، وتقول:إذا أتى الرجل المرأة في قبلها من دبرها جاء الولد أحول فأنزل الله هذه الآية. [والحرث] موضع الولد، وهو القبل. فرخص الله للرجل أن يطأ المرأة في قبلها من أي الجهات شاء.
وكان سالم بن عبد الله بن عمر يقول:كذب العبد على أبي، وهذا مما يقوي غلط نافع على ابن عمر، فإن الكذب كانوا يطلقونه بإزاء الخطأ، كقول عبادة:كذب أبو محمد. لما قال:الوتر واجب. وكقول ابن عباس:كذب نوف:قال:لما قال صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل.
ومن الناس من يقول:ابن عمر هو الذي غلط في فهم الآية. والله أعلم أي ذلك كان، لكن نقل عن ابن عمر أنه قال. أو يفعل هذا مسلم؟ ! لكن بكل حال معنى الآية هو ما فسرها به الصحابة والتابعون، وسبب النزول يدل على ذلك. والله أعلم.
وسئل رحمه الله عن رجل ينكح زوجته في دبرها:أحلال هو، أم حرام؟
فأجاب:
وطء المرأة في دبرها حرام بالكتاب والسنة، وهو قول جماهير السلف والخلف، بل هو اللوطية الصغرى، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال:"إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في
ج/ 32 ص -267-أدبارهن". وقد قال تعالى:"نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ" [البقرة:223] [والحرث] هو موضع الولد؛ فإن الحرث هو محل الغرس والزرع. وكانت اليهود تقول:إذا أتى الرجل امرأته من دبرها جاء الولد أحول، فأنزل الله هذه الآية، وأباح للرجل أن يأتي امرأته من جميع جهاتها، لكن في الفرج خاصة. ومتى وطئها في الدبر وطاوعته عزرا جميعًا، فإن لم ينتهيا وإلا فرق بينهما، كما يفرق بين الرجل الفاجر ومن يفجر به. والله أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى عما يجب على من وطئ زوجته في دبرها؟ وهل أباحه أحد من العلماء؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، [الوطء في الدبر] حرام في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وعلى ذلك عامة أئمة المسلمين، من الصحابة، والتابعين، وغيرهم فإن الله قال في كتابه:"نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ"، وقد ثبت في الصحيح:إن اليهود كانوا يقولون:إذا أتى الرجل امرأته في قبلها من دبرها جاء الولد أحول، فسأل المسلمون عن ذلك النبي ﷺ، فأنزل الله هذه الآية:"نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ". والحرث:موضع الزرع، والولد إنما يزرع في الفرج؛ لا في الدبر "فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ" وهو موضع الولد "أَنَّى شِئْتُمْ" أي:من أين شئتم:من قبلها، ومن دبرها، وعن يمينها، وعن شمالها. فالله تعالى سمى النساء حرثًا، وإنما رخص في إتيان الحروث، والحرث إنما يكون
ج/ 32 ص -268-في الفرج. وقد جاء في غير أثر:أن الوطء في الدبر هو اللوطية الصغرى، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال:"إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في حشوشهن" والحش هو الدبر، وهو موضع القذر والله سبحانه حرم إتيان الحائض، مع أن النجاسة عارضة في فرجها، فكيف بالموضع الذي تكون فيه النجاسة المغلظة؟ !
وأيضًا، فهذا من جنس اللواط، ومذهب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي وأحمد وأصحابه أن ذلك حرام لا نزاع بينهم، وهذا هو الظاهر من مذهب مالك وأصحابه، لكن حكى بعض الناس عنهم رواية أخرى بخلاف ذلك، ومنهم من أنكر هذه الرواية وطعن فيها.
وأصل ذلك ما نقل عن نافع أنه نقله عن ابن عمر، وقد كان سالم بن عبد الله يكذب نافعًا في ذلك. فأما أن يكون نافع غلط، أو غلط من هو فوقه. فإذا غلط بعض الناس غلطة لم يكن هذا مما يسوغ خلاف الكتاب والسنة كما أن طائفة غلطوا في إباحة الدرهم بالدرهمين، واتفق الأئمة على تحريم ذلك لما جاء في ذلك من الأحاديث الصحيحة، وكذلك طائفة غلطوا في أنواع من الأشربة. ولما ثبت عن النبي ﷺ أنه قال:"كل مسكر خمر، وكل خمر حرام"، وأنه
سئل عن أنواع من الأنبذة، فقال:"كل مسكر حرام"، "ما أسكر كثيره فقليله حرام"، وجب اتباع هذه السنن الثابتة، ولهذا نظائر في الشريعة. ومن وطئ امرأته في دبرها وجب أن يعاقبا على ذلك عقوبة تزجرهما، فإن علم أنهما لا ينزجران، فإنه يجب التفريق بينهما. والله أعلم.