ج/ 32 ص -174-باب نِكَاح الكُفَّار
وسئل شيخ الإسلام رَحِمهُ اللّه عن قوله ﷺ: "ولدت من نكاح، لا من سفاح" ما معناه؟
فأجاب:
الحمد للّه، الحديث معروف من مراسيل علي بن الحسين رضي اللّه عنهما وغيره. ولفظه: "ولدت من نكاح، لا من سفاح، لم يصبني من نكاح الجاهلية شيء" فكانت مناكحهم في الجاهلية على أنحاء متعددة.
وسئل رَحمه اللّه عن النكاح قبل بعثة الرسل: أهو صحيح، أم لا؟
فأجاب:
كانت مناكحهم في الجاهلية على أنحاء متعددة: منها نكاح الناس اليوم. وذلك النكاح في الجاهلية صحيح عند جمهور العلماء، وكذلك سائر مناكح أهل الشرك التي لا تحرم في الإسلام، ويلحقها أحكام النكاح الصحيح: من الإرث، والإيلاء، واللعان، والظهار، وغير ذلك. وحكي عن مالك أنه قال: نكاح أهل الشرك ليس بصحيح. ومعني هذا عنده: أنه لو طلق
ج/ 32 ص -175-الكافر ثلاثا لم يقع به طلاق، ولو طلق المسلم زوجته الذمية ثلاثا فتزوجها ذمي ووطئها لم يحلها عنده، ولو وطئ ذمي ذمية بنكاح لم يصر بذلك محصنا. وأكثر العلماء يخالفونه في هذا. وأما كونه صحيحا في لحوق النسب، وثبوت الفراش: فلا خلاف فيه بين المسلمين، فليس هو بمنزلة وطء الشبهة، بل لو أسلم الزوجان الكافران أقرا على نكاحهما بالإجماع، وإن كانا لا يقران على وطء شبهة، وقد احتج الناس بهذا الحديث على أن نكاح الجاهلية نكاح صحيح. واحتجوا بقوله: "وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ" [المسد: 4]، وقوله: "اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ" [التحريم: 11]، وقالوا: قد سماها اللّه [امرأة] والأصل في الإطلاق الحقيقة. واللّه أعلم.
وقال رَحمه اللّه تعالى:
في صحيح البخاري قال: قال عطاء عن ابن عباس: كان المشركون على منزلتين من النبي ﷺ والمؤمنين: كانوا مشركين أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركين أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه. وكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح؛ فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه. فإن هاجر عبد منهم أو أمة فهما حران، ولهما ما للمهاجرين، ثم ذكر في أهل العهد مثل حديث مجاهد، وإن هاجر عبد أو أمة للمشركين أهل العهد لم ترد، وردت أثمانهم. وقال عطاء عن ابن عباس: كانت قريبة بنت أبي أمية عند عمر بن الخطاب؛ وطلقها فتزوجها معاوية بن أبي سفيان، وكانت أم الحكم ابنة أبي سفيان تحت عياض بن غنيم الفهري فطلقها فتزوجها عبد اللّه بن عثمان.
ج/ 32 ص -176-ثم ذكر في باب بعده: وقال ابن جريج: قلت لعطاء: امرأة من المشركين جاءت إلى المسلمين أيعاض زوجها منها لقوله تعالى: "وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا"[الممتحنة: 10]، قال: لا، إنما كان ذلك بين النبي ﷺ وبين أهل العهد. قال مجاهد: هذا كله في صلح بين النبي ﷺ وبين قريش.
قلت:
حديث ابن عباس فيه فصول:
أحدها: أن المهاجرة من أهل الحرب ليس عليها عدة، إنما عليها استبراء بحيضة، وهذا أحد قولي العلماء في هذه المسألة؛ لأن العدة فيها حق للزوج كما قال اللّه تعالى: "فَمَا لَكُمْ عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا" [الأحزاب: 49]؛ ولهذا قلنا: لا تتداخل. وهذه ملكت نفسها بالإسلام والهجرة كما يملك العبد نفسه بالإسلام والهجرة، فلم يكن للزوج عليها حق، لكن الاستبراء فيها كالأمة المعتقة، وقد يقوي هذا قول من يقول: المختلعة يكفيها حيضة؛ لأن كلاهما متخلصة.
الثاني: أن زوجها إذا هاجر قبل النكاح ردت إليه وإن كانت قد حاضت، ومع هذا فقد روي البخاري بعد هذا عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس: إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرمت عليه. وما ذكره ابن عباس في المهاجرة يوافق المشهور من أن زينب بنت رسول اللّه ﷺ ردت على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول. وقد كتبت في الفقه في هذا آثاراً ونصوصاً عن الإمام أحمد وغيره.
ج/ 32 ص -177-الثالث: قوله: إن المهاجر من عبيدهم يكون حراً له ما للمهاجرين، كما في قصة أبي بكرة ومن هاجر معه من عبيد أهل الطائف، وهذا لا ريب فيه؛ فإنه بالإسلام والهجرة ملك نفسه؛ لأن مال أهل الحرب مال إباحة، فمن غلب على شيء ملكه؛ فإذا غلب على نفسه فهو أولى أن يملكها، والإسلام يعصم ذلك.
الرابع: أن المهاجر من رقيق المعاهدين، يرد عليهم ثمنه دون عينه؛ لأن ما لهم معصوم، فهو كما لو أسلم عبد الذمي يؤمر بإزالة ملكه عنه ببيع أو هبة أو عتق، فإن فعل وإلا بيع عليه، ولا يرد عينه عليهم؛ لأنهم يسترقون المسلم، وذلك لا يجوز، بخلاف رد الحر إليهم فإنهم لا يسترقونه؛ ولهذا لما شرط النبي ﷺ رد النساء مع الرجال فسخ الله ذلك، وأمره ألا يرد النساء المسلمات فقال: "لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ" [الممتحنة: 10]؛ لأنه يستباح في دار الكفر من المرأة المسلمة ما لا يستباح من الرجل؛ لأن المرأة الأسيرة كالرجل الأسير، وأمره برد المهر عوضا.
ج/ 32 ص -178-وسئل رَحمه اللّه تعالى عن قوله تعالى: "وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ" [البقرة: 221]، وقد أباح العلماء التزويج بالنصرانية وإليهودية: فهل هما من المشركين أم لا؟
فأجاب:
الحمد اللّه، نكاح الكتابية جائز بالآية التي في المائدة، قال تعالى: "وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ" [المائدة: 5]، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف من الأئمة الأربعة وغيرهم. وقد روي عن ابن عمر: أنه كره نكاح النصرانية، وقال: لا أعلم شركا أعظم ممن تقول: إن ربها عيسي ابن مريم وهو اليوم مذهب طائفة من أهل البدع وقد احتجوا بالآية التي في سورة البقرة، وبقوله: "وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ" [الممتحنة: 10]، والجواب عن آية البقرة من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن أهل الكتاب لم يدخلوا في المشركين، فجعل أهل الكتاب غير مشركين بدليل قوله: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا" [الحج: 17].
ج/ 32 ص -179-فإن قيل: فقد وصفهم بالشرك بقوله: "اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" [التوبة: 31]
قيل: إن أهل الكتاب ليس في أصل دينهم شرك؛ فإن اللّه إنما بعث الرسل بالتوحيد، فكل من آمن بالرسل والكتب لم يكن في أصل دينهم شرك ولكن النصاري ابتدعوا الشرك، كما قال: "سُبْحَانَهُ وَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ" [يونس: 18]، فحيث وصفهم بأنهم أشركوا فلأجل ما ابتدعوه من الشرك الذي لم يأمر اللّه به وجب تميزهم عن المشركين؛ لأن أصل دينهم اتباع الكتب المنزلة التي جاءت بالتوحيد، لا بالشرك. فإذا قيل: أهل الكتاب لم يكونوا من هذه الجهة مشركين؛ فإن الكتاب الذي أضيفوا إليه لا شرك فيه، كما إذا قيل: المسلمون، وأمة محمد. لم يكن فيهم من هذه الجهة، لا اتحاد، ولا رفض، ولا تكذيب بالقدر، ولا غير ذلك من البدع. وإن كان بعض الداخلين في الأمة قد ابتدع هذه البدع، لكن أمة محمد ﷺ لا تجتمع على ضلالة، فلا يزال فيها من هو متبع لشريعة التوحيد، بخلاف أهل الكتاب. ولم يخبر اللّه عز وجل عن أهل الكتاب أنهم مشركون بالاسم، بل قال: "عَمَّا يُشْرِكُونَ" بالفعل، وآية البقرة قال فيها: "الْمُشِرِكِينَ" و"الْمُشْرِكَاتِ" بالاسم. والاسم أوكد من الفعل .
ج/ 32 ص -180-الوجه الثاني: أن يقال: إن شملهم لفظ: "الْمُشِرِكِينَ" من سورة البقرة كما وصفهم بالشرك، فهذا متوجه بأن يفرق بين دلالة اللفظ مفرداً ومقرونا؛ فإذا أفردوا دخل فيهم أهل الكتاب، وإذا أقرنوا مع أهل الكتاب لم يدخلوا فيهم، كما قيل مثل هذا في اسم [الفقير] و[المسكين] ونحو ذلك. فعلى هذا يقال: آية البقرة عامة، وتلك خاصة. والخاص يقدم على العام.
الوجه الثالث: أن يقال: آية المائدة ناسخة لآية البقرة؛ لأن المائدة نزلت بعد البقرة باتفاق العلماء، وقد جاء في الحديث: "المائدة من آخر القرآن نزولا، فأحلوا حلالها، وحرموا حرامها"، والآية المتأخرة تنسخ الآية المتقدمة إذا تعارضتا.
وأما قوله: "وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ" [الممتحنة: 10]، فإنها نزلت بعد صلح الحديبية لما هاجر من مكة إلى المدينة، وأنزل اللّه [سورة الممتحنة] وأمر بامتحان المهاجرين. وهو خطاب لمن كان في عصمته كافرة. و [اللام] لتعريف العهد، والكوافر المعهودات هن المشركات، مع أن الكفار قد يميزوا من أهل الكتاب أيضاً في بعض المواضع كقوله: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً" [النساء: 51]، فإن أصل دينهم هو الإيمان، ولكنهم
ج/ 32 ص -181-كفروا مبتدعين الكفر كما قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا" [النساء: 150، 151].
وسئل رَحمه اللّه تعالى عن الإماء الكتابيات: ما الدليل على وطئهن بملك اليمين من الكتاب والسنة والإجماع، والاعتبار؟وعلى تحريم الإماء المجوسيات؟أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد للّه رب العالمين، وطء [الإماء الكتابيات] بملك اليمين أقوي من وطئهن بملك النكاح عند عوام أهل العلم من الأئمة الأربعة وغيرهم، ولم يذكر عن أحد من السلف تحريم ذلك كما نقل عن بعضهم المنع من نكاح الكتابيات، وإن كان ابن المنذر قد قال: لم يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم نكاحهن. ولكن التحريم هو قول الشيعة، ولكن في كراهة نكاحهن مع عدم الحاجة نزاع، والكراهة معروفة في مذهب مالك والشافعي وأحمد، وكذلك كراهة وطء الإماء فيه نزاع. روي عن الحسن: أنه كرهه. والكراهة في ذلك مبنية
ج/ 32 ص -182-على كراهة التزوج. وأما التحريم فلا يعرف عن أحد، بل قد تنازع العلماء في جواز تزويج الأمة الكتابية: جوزه أبو حنيفة وأصحابه، وحرمه مالك والشافعي والليث والأوزاعي، وعن أحمد روايتان: أشهرهما كالثاني؛ فإن اللّه سبحانه إنما أباح نكاح المحصنات بقوله تعالى: "وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ" الآية [المائدة: 5]. فأباح المحصنات منهم، وقال في آية الإماء: "وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ" [النساء: 25]؛ فإنما أباح النساء المؤمنات، وليس هذا موضع بسط هذه المسألة.
وأما الأمة المجوسية فالكلام فيها ينبني على أصلين:
أحدهما: أن نكاح المجوسيات لا يجوز، كما لا يجوز نكاح الوثنيات. وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وذكره الإمام أحمد عن خمسة من الصحابة في ذبائحهم ونسائهم، وجعل الخلاف في ذلك من جنس خلاف أهل البدع.
والأصل الثاني: أن من لا يجوز نكاحهن لا يجوز وطئهن بملك اليمن كالوثنيات، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وحكي عن أبي ثور: أنه قال: يباح وطء الإماء بملك اليمين على أي دين كن.
ج/ 32 ص -183-وأظن هذا يذكر عن بعض المتقدمين. فقد تبين أن في وطء الأمة الوثنية نزاعا. وأما الأمة الكتابية فليس في وطئها مع إباحة التزوج بهن نزاع، بل في التزوج بها خلاف مشهور. وهذا كله مما يبين أن القول بجواز التزوج بهن مع المنع من التسري بهن لم يقله أحد ولا يقوله فقيه. وحينئذ فنقول: الدليل على أنه لا يحرم التسري بهن وجوه:
أحدها: أن الأصل: الحل، ولم يقم على تحريمهن دليل من نص ولا إجماع ولا قياس، فبقي حل وطئهن على الأصل؛ وذلك أن ما يستدل به من ينازع في حل نكاحهن كقوله: "وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ" [البقرة: 221]، وقوله: "وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ" [الممتحنة: 10]، إنما يتناول النكاح، لا يتناول الوطء بملك اليمين. ومعلوم أنه ليس في السنة ولا في القياس ما يوجب تحريمهن، فيبقي الحل على الأصل.
الثاني: أن قوله تعالى: "وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ" [المؤمنون: 5، 6] يقتضي عموم جواز الوطء بملك اليمين مطلقا، إلا ما استثناه الدليل؛ حتى إن عثمان وغيره من الصحابة جعلوا مثل هذا النص متناولا للجمع بين الأختين حين قالوا: أحلتهما آية، وحرمتهما آية. فإذا كانوا قد جعلوه عاما في صورة حرم فيها النكاح، فلأن يكون عاما في صورة لا يحرم فيها النكاح أولى وأحرى.
ج/ 32 ص -184-الثالث: أن يقال: قد أجمع العلماء على حل ذلك كما ذكرناه، ولم يقل أحد من المسلمين: إنه يجوز نكاحهن، ويحرم التسري بهن، بل قد قيل: يحرم الوطء في ملك اليمين حيث يحرم الوطء في النكاح. وقيل: يجوز التزوج بهن. فعلم أن الأمة مجمع على التسري بها، ولم يكن أرجح من حل النكاح، ولم يكن دونه. فلو حرم التسري دون النكاح كان خلاف الإجماع.
الرابع: أن يقال: إن حل نكاحهن يقتضي حل التسري بهن من طريق الأولى والأحرى؛ وذلك أن كل من جاز وطؤها بالنكاح جاز وطؤها بملك اليمين بلا نزاع. وأما العكس فقد تنازع فيه؛ وذلك لأن ملك اليمين أوسع، لا يقتصر فيه على عدد، والنكاح يقتصر فيه على عدد. وما حرم فيه الجمع بالنكاح قد نوزع في تحريم الجمع فيه بملك اليمين، وله أن يستمتع بملك اليمين مطلقا من غير اعتبار قسم ولا استئذان في عزل، ونحو ذلك مما حجر عليه فيه لحق الزوجة. وملك النكاح نوع رق، وملك اليمين رق تام.
وأباح اللّه للمسلمين أن يتزوجوا أهل الكتاب، ولا يتزوج أهل الكتاب نساءهم؛ لأن النكاح نوع رق، كما قال عمر: النكاح رق؛ فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته. وقال زيد ابن ثابت: الزوج سيد في كتاب اللّه، وقرأ قوله تعالى: "وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْباب" [يوسف: 25]. وقد قال النبي ﷺ: "اتقوا اللّه في النساء، فإنهن عوان عندكم" فجوز
ج/ 32 ص -185-للمسلم أن يسترق هذه الكافرة، ولم يجز للكافر أن يسترق هذه المسلمة؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، كما جوز للمسلم أن يملك الكافر، ولم يجوز للكافر أن يملك المسلم. فإذاً جواز وطئهن من ملك تام أولى وأحرى.
يوضح ذلك: أن المانع: إما الكفر، وإما الرق. وهذا الكفر ليس بمانع، والرق ليس مانعا من الوطء بالملك؛ وإنما يصلح أن يكون مانعا من التزوج. فإذا كان المقتضي للوطء قائما، والمانع منتفيا، جاز الوطء. فهذا الوجه مشتمل على قياس التمثيل وعلى قياس الأولى ويخرج منه وجه رابع يجعل قياس التعليل. فيقال: الرق مقتض لجواز وطء المملوكة، كما نبه النص على هذه العلة كقوله: "أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ً" [النساء: 3]، وإنما يمتنع الوطء بسبب يوجب التحريم؛ بأن تكون محرمة بالرضاع، أو بالصهر، أو بالشرك، ونحو ذلك. وهذه ليس فيها ما يصلح للمنع إلا كونها كتابية، وهذا ليس بمانع. فإذا كان المقتضي للحل قائماً، والمانع المذكور لا يصلح أن يكون معارضا، وجب العمل بالمقتضي السالم عن المعارض المقاوم، وهذه الوجوه بعد تمام تصورها توجب القطع بالحل.
الوجه الخامس: أن من تدبر سير الصحابة والسلف على عهد النبي ﷺ والصحابة وجد آثاراً كثيرة تبين أنهم لم يكونوا يجعلون ذلك مانعا، بل هذه كانت سنة النبي ﷺ وسنة خلفائه: مثل الذي كانت له أم ولد، وكانت تسب النبي ﷺ، فقام يقتلها،
ج/ 32 ص -186-وسئل رَحمَه اللّه عن امرأة أبرأت زوجها من جميع صداقها، ثم بعد ذلك أشهد الزوج على نفسه أنه طلق زوجته المذكورة على البراءة، وكانت البراءة تقدمت على ذلك: فهل يصح الطلاق؟ وإذا وقع يقع رجعيا أم لا؟
فأجاب:
إن كانا قد تواطئا على أن توهبه الصداق وتبريه على أن يطلقها فأبرأته، ثم طلقها، كان ذلك طلاقا بائنا. وكذلك لو قال لها: أبرئيني وأنا أطلقك. أو: إن أبرأتني طلقتك. ونحو ذلك من عبارات الخاصة والعامة التي يفهم منها أنه سأل الإبراء على أن يطلقها. وأما إن كانت أبرأته براءة لا تتعلق بالطلاق، ثم طلقها بعد ذلك، فالطلاق رجعي، ولكن هل لها أن ترجع في الإبراء إذا كان يمكن لكون مثل هذا الإبراء لا يصدر في العادة إلا لأن يمسكها أو خوفا من أن يطلقها أو يتزوج عليها أو نحو ذلك؟ فيه قولان هما روايتان عن أحمد. وأما إذا كانت قد طابت نفسها بالإبراء مطلقا وهو أن يكون ابتداء منها لا بسبب منة ولا عوض، فهنا لا ترجع فيه بلا ريب. والله أعلم.
ج/ 32 ص -187-فصل
وأما المجوسية، فقد ذكرنا أن الكلام فيها مبني على أصلين:
أحدهما: أن المجوس لا تحل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم والدليل على هذا وجوه:
أحدها: أن يقال: ليسوا من أهل الكتاب، ومن لم يكن من أهل الكتاب لم يحل طعامه ولا نساؤه. أما المقدمة الأولي، ففيها نزاع شاذ فالدليل عليها أنه سبحانه قال: "وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ" [الأنعام: 155، ، 156]، فتبين أنه أنزل القرآن كراهة أن يقولوا ذلك ومنعاً لأن يقولوا ذلك ودفعا لأن يقولوا ذلك، فلو كان قد أنزل على أكثر من طائفتين لكان هذا القول كذبا فلا يحتاج إلى مانع من قوله.
وأيضا، فإنه قال: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفصل بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [الحج: 17]، فذكر الملل الست، وذكر أنه يفصل بينهم يوم القيامة، ولما ذكر الملل التي [من] فيها سعيد في الآخرة قال: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليوم الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً" [البقرة: 62]،
ج/ 32 ص -188-في موضعين، فلم يذكر المجوس ولا المشركين: فلو كان في هاتين الملتين سعيد في الآخرة كما في الصابئين واليهود والنصاري، لذكرهم، فلو كان لهم كتاب لكانوا قبل النسخ والتبديل على هدي، وكانوا يدخلون الجنة إذا عملوا بشريعتهم، كما كان اليهود والنصاري قبل النسخ والتبديل، فلما لم يذكر المجوس في هؤلاء علم أنه ليس لهم كتاب، بل ذكر الصابئين دونهم، مع أن الصابئين ليس لهم كتاب، إلا أن يدخلوا في دين أحد من أهل الكتابين. وهو دليل على أن المجوس أبعد عن الكتاب منهم.
وأيضا، ففي المسند والترمذي وغيرهما من كتب الحديث والتفسير والمغازي الحديث المشهور: لما اقتتلت فارس والروم، وانتصرت الفرس، ففرح بذلك المشركون؛ لأنهم من جنسهم ليس لهم كتاب، واستبشر بذلك أصحاب النبي ﷺ؛ لكون النصاري أقرب إليهم؛ لأن لهم كتابا، وأنزل اللّه تعالى: "الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ" الآية [الروم: 14]. وهذا يبين أن المجوس لم يكونوا عند النبي ﷺ وأصحابه لهم كتاب.
وأيضا، ففي حديث الحسن بن محمد بن الحنفية وغيره من التابعين: أن النبي ﷺ أخذ الجزية من المجوس، وقال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم"، وهذا مرسل.
ج/ 32 ص -189-وعن خمسة من الصحابة توافقه، ولم يعرف عنهم خلاف. وأما حذيفة، فذكر أحمد: أنه تزوج بيهودية. وقد عمل بهذا المرسل عوام أهل العلم. والمرسل في أحد قولي العلماء حجة، كمذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه. وفي الآخر هو حجة إذا عضده قول جمهور أهل العلم وظاهر القرآن، أو أرسل من وجه آخر. وهذا قول الشافعي. فمثل هذا المرسل حجة باتفاق العلماء. وهذا المرسل نص في خصوص المسألة، غير محتاج إلى أن يبني على المتقدمين.
فإن قيل: روي عن على: أنه كان لهم كتاب فرفع. قيل: هذا الحديث قد ضعفه أحمد وغيره، وإن صح فإنه إنما يدل على أنه كان لهم كتاب فرفع، لا أنه الآن بأيديهم كتاب، وحينئذ فلا يصح أن يدخلوا في لفظ أهل الكتاب؛ إذ ليس بأيديهم كتاب، لا مبدل، ولا غير مبدل، ولا منسوخ، ولا غير منسوخ، ولكن إذا كان لهم كتاب ثم رفع، بقي لهم شبهة كتاب، وهذا القدر يؤثر في حقن دمائهم بالجزية إذا قيدت بأهل الكتاب. وأما الفروج والذبائح، فحلها مخصوص بأهل الكتاب. وقول النبي ﷺ: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"، دليل على أنهم ليسوا من أهل الكتاب، وإنما أمر أن يسن بهم سنتهم في أخذ الجزية خاصة، كما فعل ذلك الصحابة، فإنهم لم يفهموا من هذا اللفظ إلا هذا الحكم. وقد روي مقيدا: "غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم" فمن جوز أخذ الجزية من أهل الأوثان قاس
ج/ 32 ص -190-عليهم غيرهم في الجزية، ومن خصمهم بذلك قال: إن لهم شبهة كتاب بخلاف غيرهم. والدماء تعصم بالشبهات ولا تحل الفروج والذبائح بالشبهات، ولهذا لما تنازع على وابن عباس في ذبائح بني تغلب قال على: إنهم لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب الخمر. وقرأ ابن عباس قوله تعالى: "وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ" [المائدة: 51]، فعلى رضي الله عنه منع من ذبائحهم مع عصمة دمائهم، وهو الذي روي حديث كتاب المجوس، فعلم أن التشبه بأهل الكتاب في بعض الأمور يقتضي حقن الدماء، دون الذبائح والنساء.
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل تكلم بكلمة الكفر، وحكم بكفره، ثم بعد ذلك حلف بالطلاق من امرأته ثلاثًا: فإذا رجع إلى الإسلام هل يجوز له أن يجدد النكاح من غير تحليل، أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا ارتد ولم يعد إلى الإسلام حتى انقضت عدة امرأته، فإنها تبين منه عند الأئمة الأربعة. وإذا طلقها بعد ذلك، فقد طلق أجنبية فلا يقع بها الطلاق. فإذا عاد إلى الإسلام فله أن يتزوجها. وإن طلقها في زمن العدة قبل أن يعود إلى الإسلام، فهذا فيه قولان
ج/ 32 ص -191-للعلماء:
أحدهما: أن البينونة تحصل بنفس الردة، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك في المشهور عنه، وأحمد في إحدى الروايتين عنه. فعلى هذا يكون الطلاق بعد هذا طلاق الأجنبية فلا يقع.
والثاني: أن النكاح لا يزول حتى تنقضي العدة، فإن أسلم قبل انقضاء العدة، فهما على نكاحهما. وهذا مذهب الشافعي، وأحمد في الرواية الأخرى عنه. فعلى هذا إذا كان الطلاق في العدة، وعاد إلى الإسلام قبل انقضاء العدة، تبين أنه طلق زوجته، فيقع الطلاق. وإن كان لم يعد إلى الإسلام حتى انقضت العدة، تبين أنه طلق أجنبية، فلا يقع به الطلاق. والله أعلم.