أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

باب أركان النكاح وشروطه

    ج/ 32 ص -15-باب أركان النكاح وشروطه
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى‏:‏
    فصل

    عمدة من قال‏:‏ لا يصح النكاح إلا بلفظ ‏[‏الإنكاح‏]‏ و‏[‏التزويج‏]‏ وهم أصحاب الشافعي، وابن حامد، ومن وافقهم من أصحابنا كأبي الخطاب والقاضي، وأصحابه، ومن بعده إلا في لفظ‏:‏ ‏[‏أعتقتك، وجعل عتقك صداقك‏]‏، أنهم قالوا‏:‏ ما سوي هذين اللفظين ‏[‏كناية‏]‏، والكناية لا تقتضي الحكم إلا بالنية، والنية في القلب لا تعلم، فلا يصح عقد النكاح بالكناية؛ لأن صحته مفتقرة إلى الشهادة عليه، والنية لا يشهد عليها، بخلاف ما يصح بالكناية؛ من طلاق وعتق وبيع؛ فإن الشهادة لا تشترط في صحة ذلك‏.‏ ومنهم من يجعل ذلك تعبداً؛ لما فيه من ثبوت العبادات‏.‏ وهذا قول من لا يصححه إلا بالعربية من أصحابنا وغيرهم‏.‏ وهذا ضعيف لوجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ لا نسلم أن ما سوي هذين كناية، بل ثم ألفاظ هي حقائق عرفية في العقد أبلغ من لفظ ‏[‏أنكحت‏]‏، فإن هذا اللفظ مشترك بين الوطء والعقد، ولفظ ‏[‏الإملاك‏]‏ خاص بالعقد، لا يفهم إذا قال القائل‏:‏ أملك فلان على فلانة، إلا العقد، كما في الصحيحين‏:‏
    ‏"‏أملكتكها على ما معك من القرآن‏"‏، سواء كانت الرواية باللفظ أو بالمعنى‏.‏

    ج/ 32 ص -16-الثاني‏:‏ أنا لا نسلم أن الكناية تفتقر إلى النية مطلقاً، بل إذا قرن بها لفظ من ألفاظ الصريح، أو حكم من أحكام العقد كانت صريحة، كما قالوا في ‏[‏الوقف‏]‏‏:‏ إنه ينعقد بالكناية؛ كتصدقت، وحرمت، وأبدت‏.‏ إذا قرن بها لفظ أو حكم‏.‏ فإذا قال‏:‏ أملكتكها فقال‏:‏ قبلت هذا التزويج‏.‏ أو أعطيتكها زوجة فقال‏:‏ قبلت‏.‏ أو أملكتكها على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ونحو ذلك؛ فقد قرن بها من الألفاظ والأحكام ما يجعله صريحاً‏.‏
    الثالث‏:‏ أن إضافة ذلك إلى الحرة يبين المعنى؛ فإنه إذا قال في ابنته‏:‏ ملكتكها، أو أعطيتكها، أو زوجتكها، ونحو ذلك؛ فالمحل ينفي الإجمال والاشتراك‏.‏
    الرابع‏:‏ أن هذا منقوض عليهم بالشهادة في الرجعة؛ فإنها مشروعة إما واجبة، وإما مستحبة‏.‏ وهي شرط في صحة الرجعة على قول، وبالشهادة على البيع وسائر العقود؛ فإن ذلك مشروع مطلقاً، سواء كان العقد بصريح أو كناية مفسرة‏.‏
    الخامس‏:‏ أن الشهادة تصح على العقد‏.‏ ويثبت بها عند الحاكم على أي صورة انعقدت‏.‏ فعلم أن اعتبار الشهادة فيه لا يمنع ذلك‏.‏
    السادس‏:‏ أن العاقدين يمكنهما تفسير مرادهما‏.‏ ويشهد الشهود على ما فسروه‏.‏

    ج/ 32 ص -17-السابع‏:‏ أن الكناية عندنا إذا اقترن بها دلالة الحال كانت صريحة في الظاهر بلا نزاع‏.‏ ومعلوم أن اجتماع الناس، وتقديم الخطبة، وذكر المهر، والمفاوضة فيه، والتحدث بأمر النكاح، قاطع في إرادة النكاح‏.‏ وأما التعبد فيحتاج إلى دليل شرعي‏.‏ ثم العقد جنس لا يشرع فيه التعبد بالألفاظ؛ لأنها لا يشترط فيها الإيمان، بل تصح من الكافر، وما يصح من الكافر لا تعبد فيه‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله تعالى عن رجل وكل ذميا في قبول نكاح امرأة مسلمة‏:‏ هل يصح النكاح‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة فيها نزاع؛ فإن الوكيل في قبول النكاح لابد أن يكون ممن يصح منه قبوله النكاح لنفسه في الجملة‏.‏ فلو وكل امرأة أو مجنوناً أو صبياً غير مميز لم يجز، ولكن إذا كان الوكيل ممن يصح منه قبول النكاح بإذن وليه، ولا يصح منه القبول بدون إذن وليه، فوكل في ذلك؛ مثل أن يوكل عبداً في قبول النكاح بلا إذن سيده، أو يوكل سفيهاً محجوراً عليه بدون إذن وليه، أو يوكل صبياً مميزاً بدون إذن وليه فهذا فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد، وغيره‏.‏ وإن كان يصح منه النكاح بغير إذن، لكن في الصورة المعينة لا يجوز لمانع فيه؛ مثل أن يوكل في نكاح الأمة من لا يجوز له تزوجها صحت الوكالة‏.‏

    ج/ 32 ص -18-وأما توكل الذمي في قبول النكاح له فهو يشبه تزويج الذمي ابنته الذمية من مسلم، ولو زوجها من ذمي جاز، ولكن إذا زوجها من مسلم ففيها قولان في مذهب أحمد وغيره‏.‏ قيل‏:‏ يجوز‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجوز، بل يوكل مسلماً‏.‏ وقيل‏:‏ لا يزوجها إلا الحاكم بإذنه‏.‏ وكونه ولياً في تزويج المسلم مثل كونه وكيلا في تزويج المسلمة‏.‏ ومن قال‏:‏ إن ذلك كله جائز، قال‏:‏ إن الملك في النكاح يحصل للزوج؛ لا للوكيل باتفاق العلماء، بخلاف الملك في غيره؛ فإن الفقهاء تنازعوا في ذلك‏:‏ فمذهب الشافعي وأحمد وغيرهما أن حقوق العقد تتعلق بالموكل، والملك يحصل له‏:‏ فلو وكل مسلم ذمياً في شراء خمر لم يجز‏.‏ وأبو حنيفة يخالف في ذلك‏.‏ وإذا كان الملك يحصل للزوج، وهو الموكل للمسلم، فتوكيل الذمي بمنزلة توكله في تزويج المرأة بعض محارمها‏.‏ كخالها؛ فإنه يجوز توكله في قبول نكاحها للموكل‏.‏ وإن كان لا يجوز له تزوجها، كذلك الذمي إذا توكل في نكاح مسلم‏.‏ وإن كان لا يجوز له تزوج المسلمة، لكن الأحوط ألا يفعل ذلك؛ لما فيه من النزاع؛ ولأن النكاح فيه شوب العبادات‏.‏
    ويستحب عقده في المساجد، وقد جاء في الآثار‏:‏ ‏
    "‏من شهد إملاك مسلم فكأنما شهد فتحًا في سبيل الله‏"‏‏.‏ ولهذا وجب في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره أن يعقد بالعربية، كالأذكار المشروعة‏.‏
    وإذا كان كذلك لم ينبغ أن يكون الكافر متولياً لنكاح مسلم، ولكن لا يظهر مع ذلك أن العقد باطل؛ فإنه ليس على بطلانه دليل شرعي، والكافر يصح منه النكاح، وليس هو من أهل العبادات‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 32 ص -19-وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن مريض تزوج في مرضه‏:‏ فهل يصح العقد‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    نكاح المريض صحيح، ترث المرأة في قول جماهير علماء المسلمين من الصحابة والتابعين، ولا تستحق إلا مهر المثل، لا تستحق الزيادة على ذلك بالاتفاق‏.‏
    وسئل رحمه الله عن رجل له بنت، وهي دون البلوغ، فزوجوها في غيبة أبيها، ولم يكن لها ولي، وجعلوا أن أباها توفي وهو حي، وشهدوا أن خالها أخوها فهل يصح العقد أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا شهدوا أن خالها أخوها فهذه شهادة زور، ولا يصير الخال ولياً بذلك، بل هذه قد تزوجت بغير ولي، فيكون نكاحها باطلا عند أكثر العلماء والفقهاء، كالشافعي وأحمد وغيرهما‏.‏ وللأب أن يجدده‏.‏ ومن شهد أن خالها أخوها وأن أباها مات فهو شاهد زور، يجب تعزيره، ويعزر الخال‏.‏ وإن كان دخل بها فلها المهر، ويجوز أن يزوجها الأب في عدة النكاح الفاسد عند أكثر العلماء، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 32 ص -20-وسئل رحمه الله تعالى عن امرأة لها أب وأخ، ووكيل أبيها في النكاح وغيره حاضر، فذهبت إلى الشهود وغيرت اسمها واسم أبيها، وادعت أن لها مطلقاً يريد تجديد النكاح وأحضرت رجلاً أجنبياً، وذكرت أنه أخوها، فكتبت الشهود كتابها على ذلك ثم ظهر ما فعلته، وثبت ذلك بمجلس الحكم‏:‏ فهل تعزر على ذلك‏؟‏ وهل يجب تعزير المعرفين، والذي ادعي أنه أخوها، والذي عرف الشهود بما ذكر‏؟‏ وهل يختص التعزير بالحاكم‏؟‏ أو يعزرهم ولي الأمر من محتسب وغيره‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، تعزر تعزيرا بليغاً؛ ولو عزرها ولي الأمر مرات كان ذلك حسناً‏.‏ كما كان عمر بن الخطاب يكرر التعزير في الفعل إذا اشتمل على أنواع من المحرمات، فكان يعزر في اليوم الأول مائة، وفي الثاني مائة، وفي الثالث مائة‏:‏ يفرق التعزير؛ لئلا يفضي إلى فساد بعض الأعضاء‏.‏ وذلك أن هذه قد ادعت إلى غير أبيها، واستخلفت أخاها، وهذا من الكبائر، فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏من ادعي إلى غير أبيه أو تولي غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً‏"‏، بل قد ثبت في الصحيح عن سعد وأبي بكرة أنهما سمعا النبي ﷺ يقول‏:‏ ‏"‏من ادعي إلى غير أبيه

    ج/ 32 ص -21-فالجنة عليه حرام‏"‏‏.‏ وثبت ما هو أبلغ من ذلك في الصحيح عن أبي ذر، عن النبي ﷺ أنه يقول‏:‏ ‏"‏ليس منا من ادعي إلى غير أبيه وهو يعلم إلا كَفَر، ومن ادعي ما ليس له فليس منا، وليتبوأ مقعده من النار، ومن رمى رجلا بالكفر أو قال‏:‏ عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه‏"‏، وهذا تغليظ عظيم يقتضى أن يعاقب على ذلك عقوبة عظيمة، يستحق فيها مائة سوط، ونحو ذلك‏.‏
    وأيضاً، فإنها لَبَّست على الشهود، وأوقعتهم في العقود الباطلة، ونكحت نكاحاً باطلاً؛ فإن جمهور العلماء يقولون‏:‏ النكاح بغير ولي باطل، يعزرون من يفعل ذلك اقتداء بعمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏ وهذا مذهب الشافعي وغيره، بل طائفة منهم يقيمون الحد في ذلك بالرجم وغيره‏.‏ ومن جوز النكاح بلا ولي مطلقاً، أو في المدينة، فلم يجوز على هذا الوجه من دعوى النسب الكاذب، وإقامة الولي الباطل، فكان عقوبة هذه متفقاً عليها بين المسلمين‏.‏
    وتعاقب أيضاً على كذبها، وكذلك الدعوي أنه كان زوجها وطلقها، ويعاقب الزوج أيضاً‏.‏ وكذلك الذي ادعي أنه أخوها‏.‏ يعاقب على هذين الريبتين‏.‏ وأما المعرفون بهم يعاقبون على شهادة الزور؛ بالنسب لها، والتزويج والتطليق، وعدم ولي حاضر‏.‏ وينبغي أن يبالغ في عقوبة هؤلاء؛ فإن الفقهاء قد نصوا على أن شاهد الزور يسود وجهه؛ بما نقل عن عمر بن الخطاب

    ج/ 32 ص -22-رضي الله عنه أنه كان يسود وجهه‏.‏ إشارة إلى سواد وجهه بالكذب‏.‏ وأنه كان يركبه دابة مقلوباً إلى خلف‏.‏ إشارة إلى أنه قلب الحديث، ويطاف به حتى يشهره بين الناس أنه شاهد زور‏.‏
    وتعزير هؤلاء ليس يختص بالحاكم، بل يعزره الحاكم والمحتسب وغيرهما من ولاة الأمور القادرين على ذلك، ويتعين ذلك في مثل هذه الحال التي ظهر فيها فساد كثير في النساء، وشهادة الزور كثيرة؛ فإن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏
    "‏إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه‏"‏‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله تعالى عن إجبار الأب لابنته البكر البالغ على النكاح‏:‏ هل يجوز أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    وأما إجبار الأب لابنته البكر البالغة على النكاح، ففيه قولان مشهوران؛ هما روايتان عن أحمد‏.‏
    إحداهما‏:‏ أنه يجبر البكر البالغ؛ كما هو مذهب مالك والشافعي، وهو اختيار الخرقي والقاضي وأصحابه‏.‏
    والثانية‏:‏ لا يجبرها؛ كمذهب أبي حنيفة وغيره، وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز بن جعفر‏.‏ وهذا القول هو الصواب‏.‏ والناس متنازعون في ‏[‏مناط الإجبار‏]‏، هل

    ج/ 32 ص -23-هو البكارة‏؟‏ أو الصغر‏؟‏ أو مجموعها‏؟‏ أو كل منهما‏؟‏ على أربعة أقوال في مذهب أحمد وغيره‏.‏ والصحيح أن مناط الإجبار هو الصغر، وأن البكر البالغ لا يجبرها أحد على النكاح؛ فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر‏"‏ فقيل له‏:‏ إن البكر تستحي‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏إذنها صماتها‏"‏‏.‏ وفي لفظ في الصحيح‏:‏ ‏"‏البكر يستأذنها أبوها‏"‏‏.‏ فهذا نهي النبي ﷺ‏:‏ لا تنكح حتى تستأذن‏.‏ وهذا يتناول الأب وغيره، وقد صرح بذلك في الرواية الأخرى الصحيحة، وأن الأب نفسه يستأذنها‏.‏
    وأيضاً، فإن الأب ليس له أن يتصرف في مالها إذا كانت رشيدة إلا بإذنها وبضعها أعظم من مالها، فكيف يجوز أن يتصرف في بضعها مع كراهتها ورشدها‏؟‏
    وأيضاً، فإن الصغر سبب الحجر بالنص والإجماع‏.‏ وأما جعل البكارة موجبة للحجر فهذا مخالف لأصول الإسلام؛ فإن الشارع لم يجعل البكارة سببا للحجر في موضع من المواضع المجمع عليها، فتعليل الحجر بذلك تعليل بوصف لا تأثير له في الشرع‏.‏
    وأيضاً، فإن الذين قالوا بالإجبار اضطربوا فيما إذا عينت كفؤاً، وعين الأب كفؤاً آخر‏:‏ هل يؤخذ بتعيينها‏؟‏ أو بتعيين الأب‏؟‏ على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد‏.‏ فمن جعل العبرة بتعيينها نقض أصله، ومن جعل

    ج/ 32 ص -24-العبرة بتعيين الأب كان في قوله من الفساد والضرر والشر مالا يخفي؛ فإنه قد قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏الأيم أحق بنفسها من وليها؛ والبكر تستأذن، وإذنها صماتها‏"‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏الثيب أحق بنفسها من وليها‏"‏‏.‏ فلما جعل الثيب أحق بنفسها دل على أن البكر ليست أحق بنفسها، بل الولي أحق، وليس ذلك إلا للأب والجد‏.‏ هذه عمدة المجبرين وهم تركوا العمل بنص الحديث، وظاهره، وتمسكوا بدليل خطابه، ولم يعلموا مراد الرسول ﷺ‏.‏ وذلك أن قوله‏:‏ ‏"‏الأيم أحق بنفسها من وليها‏"‏ يعم كل ولي، وهم يخصونه بالأب والجد‏.‏ والثاني قوله‏:‏ ‏"‏والبكر تستأذن‏"‏ وهم لا يوجبون استئذانها، بل قالوا‏:‏ هو مستحب، حتى طرد بعضهم قياسه، وقالوا‏:‏ لما كان مستحباً اكتفي فيه بالسكوت، وادعي أنه حيث يجب استئذان البكر فلابد من النطق‏.‏ وهذا قاله بعض أصحاب الشافعي وأحمد‏.‏
    وهذا مخالف لإجماع المسلمين قبلهم، ولنصوص رسول الله ﷺ؛ فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة المستفيضة؛ واتفاق الأئمة قبل هؤلاء أنه إذا زوج البكر أخوها أو عمها فإنه يستأذنها، وإذنها صماتها‏.‏ وأما المفهوم، فالنبي ﷺ فرق بين البكر والثيب؛ كما قال في الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر‏"‏، فذكر في هذه لفظ‏:‏ ‏[‏الإذن‏]‏، وفي هذه لفظ‏:‏ ‏[‏الأمر‏]‏، وجعل إذن هذه الصمات؛ كما أن إذن تلك النطق‏.‏ فهذان هما الفرقان اللذان فرق بهما النبي ﷺ بين البكر

    ج/ 32 ص -25-والثيب، لم يفرق بينهما في الإجبار وعدم الإجبار؛ وذلك لأن ‏[‏البكر‏]‏ لما كانت تستحي أن تتكلم في أمر نكاحها لم تخطب إلى نفسها، بل تخطب إلى وليها، ووليها يستأذنها، فتأذن له، لا تأمره ابتداء، بل تأذن له إذا استأذنها، وإذنها صماتها‏.‏ وأما الثيب فقد زال عنها حياء البكر فتتكلم بالنكاح، فتخطب إلى نفسها، وتأمر الولي أن يزوجها‏.‏ فهي آمرة له، وعليه أن يعطيها فيزوجها من الكفؤ إذا أمرته بذلك‏.‏ فالولي مأمور من جهة الثيب، ومستأذن للبكر‏.‏ فهذا هو الذي دل عليه كلام النبي ﷺ‏.‏
    وأما تزويجها مع كراهتها للنكاح، فهذا مخالف للأصول والعقول، والله لم يسوغ لوليها أن يكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها، ولا على طعام أو شراب أو لباس لا تريده، فكيف يكرهها على مباضعة ومعاشرة من تكره مباضعته، ومعاشرة من تكره معاشرته‏؟‏ ‏!‏ والله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فإذا كان لا يحصل إلا مع بغضها له، ونفورها عنه‏.‏ فأي مودة ورحمة في ذلك‏؟‏
    ثم إنه إذا وقع الشقاق بين الزوجين فقد أمر الله ببعث حكم من أهله وحكم من أهلها‏.‏ و‏[‏الحكمان‏]‏ كما سماهما الله عز وجل ‏:‏ هما حكمان عند أهل المدينة، وهو أحد القولين للشافعي وأحمد، وعند أبي حنيفة‏.‏ والقول الآخر‏:‏ هما ‏[‏وكيلان‏]‏‏.‏ والأول أصح؛ لأن الوكيل

    ج/ 32 ص -26-ليس بحكم، ولا يحتاج فيه إلى أمر الأئمة، ولا يشترط أن يكون من الأهل، ولا يختص بحال الشقاق، ولا يحتاج في ذلك إلى نص خاص، ولكن إذا وقع الشقاق فلابد من ولي لهما، يتولي أمرهما؛ لتعذر اختصاص أحدهما بالحكم على الآخر‏.‏ فأمر الله أن يجعل أمرهما إلى اثنين من أهلهما، فيفعلان ما هو الأصلح من جمع بينهما، وتفريق بعوض أو بغيره‏.‏ وهنا يملك الحكم الواحد مع الآخر الطلاق بدون إذن الرجل، ويملك الحكم الآخر مع الأول بذل العوض من مالها بدون إذنها؛ لكونهما صارا وليين لهما‏.‏
    وطرد هذا القول‏:‏ أن الأب يُطَلِّق على ابنه الصغير، والمجنون؛ إذا رأي المصلحة؛ كما هو إحدى الروايتين عن أحمد، وكذلك يخالع عن ابنته إذا رأى المصلحة لها‏.‏
    وأبلغ من ذلك أنه إذا طلقها قبل الدخول فللأب أن يعفو عن نصف الصداق إذا قيل‏:‏ هو الذي بيده عقدة النكاح‏.‏ كما هو قول مالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه‏.‏ والقرآن يدل على صحة هذا القول، وليس الصداق كسائر مالها؛ فإنه وجب في الأصل نحلة، وبضعها عاد إليها من غير نقص، وكان إلحاق الطلاق بالفسوخ، فوجب ألا يتنصف، لكن الشارع جبرها بتنصيف الصداق؛ لما حصل لها من الانكسار به‏.‏
    ولهذا جعل ذلك عوضا عن المتعة عند ابن عمر والشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه، فأوجبوا المتعة لكل مطلقة؛ إلا لمن طلقت بعد الفرض وقبل

    ج/ 32 ص -27-الدخول والمسيس، فحسبها ما فرض لها‏.‏ وأحمد في الرواية الأخرى مع أبي حنيفة وغيره لا يوجبون المتعة إلا لمن طلقت قبل الفرض والدخول، ويجعلون المتعة عوضا عن نصف الصداق، ويقولون‏:‏ كل مطلقة فإنها تأخذ صداقاً، إلا هذه‏.‏ وأولئك يقولون‏:‏ الصداق استقر قبل الطلاق بالعقد والدخول، والمتعة سببها الطلاق، فتجب لكل مطلقة، لكن المطلقة بعد الفرض وقبل المسيس متعت بنصف الصداق، فلا تستحق الزيادة‏.‏ وهذا القول أقوي من ذلك القول‏:‏ فإن الله جعل الطلاق سبب المتعة، فلا يجعل عوضا عما سببه العقد والدخول، لكن يقال على هذا‏:‏ فالقول الثالث أصح، وهو الرواية الأخرى عن أحمد‏:‏ أن كل مطلقة لها متعة؛ كما دل عليه ظاهر القرآن وعمومه، حيث قال‏:‏ ‏"‏وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 241‏]‏‏.‏
    وأيضاً، فإنه قد قال‏:‏ ‏
    "‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا‏"‏[‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏‏.‏ فأمر بتمتيع المطلقات قبل المسيس، ولم يخص ذلك بمن لم يفرض لها، مع أن غالب النساء يطلقهن بعد الفرض‏.‏
    وأيضا، فإذا كان سبب المتعة هو الطلاق، فسبب المهر هو العقد‏.‏ فالمفوضة التي لم يسم لها مهراً يجب لها مهر المثل بالعقد، ويستقر بالموت، على القول الصحيح الذي دل عليه حديث بروع بنت واشق، التي تزوجت ومات عنها زوجها قبل أن يفرض لها مهر، وقضي لها النبي ﷺ بأن لها مهر امرأة من نسائها، لا وَكْسَ ولا شَطَط، لكن هذه لو طلقت قبل

    ج/ 32 ص -28-المسيس لم يجب لها نصف المهر بنص القرآن؛ لكونها لم تشترط مهراً مسمي، والكسر الذي حصل لها بالطلاق انجبر بالمتعة، وليس هذا موضع بسط هذه المسائل‏.‏
    ولكن المقصود أن الشارع لا يكره المرأة على النكاح إذا لم ترده، بل إذا كرهت الزوج وحصل بينهما شقاق، فإنه يجعل أمرها إلى غير الزوج لمن ينظر في المصلحة من أهلها، مع من ينظر في المصلحة من أهله، فيخلصها من الزوج بدون أمره، فكيف تؤسر معه أبداً بدون أمرها‏.‏ والمرأة أسيرة مع الزوج؛ كما قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله‏"‏‏.‏
    وسئل رحمه الله تعالى عن بنت بالغ، وقد خطبت لقرابة لها فأبت، وقال أهلها للعاقد‏:‏ اعقد وأبوها حاضر‏:‏ فهل يجوز تزويجها‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما إن كان الزوج ليس كفؤاً لها فلا تجبر على نكاحه بلا ريب، وأما إن كان كفؤاً فللعلماء فيه قولان مشهوران، لكن الأظهر في الكتاب والسنة والاعتبار أنها لا تجبر؛ كما قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏لا تنكح البكر حتى يستأذنها أبوها، وإذنها صماتها‏"‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 32 ص -29-وسئل رحمه الله تعالى عن رجل تزوج بكرا بولاية أبيها، ولم يستأذن حين العقد، وكان قدم العقد عليها لزوج قبله، وطلقت قبل الدخول بغير إصابة، ثم دخل بها الزوج الثاني فوجدها بنتاً، فكتم ذلك، وحملت الزوجة منه، واستقر الحال بينهما، فلما علم الزوج أنها لم تستأذن حين العقد عليها سأل عن ذلك، قيل له‏:‏ إن العقد مفسوخ؛ لكونها بنتاً ولم تستأذن‏:‏ فهل يكون العقد مفسوخاً‏؟‏ والوطء شبهة‏؟‏ ويلزم تجديد العقد أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما إذا كانت ثيباً من زوج، وهي بالغ فهذه لا تنكح إلا بإذنها باتفاق الأئمة؛ ولكن إذا زوجت بغير إذنها، ثم أجازت العقد جاز ذلك في مذهب أبي حنيفة ومالك، والإمام أحمد في إحدى الروايتين، ولم يجز في مذهب الشافعي وأحمد في رواية أخري‏.‏ وإن كانت ثيباً من زنا فهي كالثيب من النكاح في مذهب الشافعي وأحمد وصاحبي أبي حنيفة‏.‏ وفيه قول آخر‏:‏ أنها كالبكر، وهو مذهب أبي حنيفة نفسه ومالك‏.‏ وإن كانت البكارة زالت بوثبة، أو بأصبع، أو نحو ذلك فهي كالبكر عند الأئمة الأربعة‏.‏
    وإذا كانت بكراً فالبكر يجبرها أبوها على النكاح، وإن كانت بالغة، في مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين‏.‏ وفي الأخرى وهي

    ج/ 32 ص -30-مذهب أبي حنيفة وغيره أن الأب لا يجبرها إذا كانت بالغاً‏.‏ وهذا أصح ما دل عليه سنة رسول الله ﷺ وشواهد الأصول‏.‏ فقد تبين في هذه المسألة أن أكثر العلماء يقولون‏:‏ إذا اختارت هي العقد جاز، وإلا يحتاج إلى استئناف‏.‏ وقد يقال‏:‏ هو الأقوي هنا؛ لا سيما والأب إنما عقد معتقدًا أنها بكر، وأنه لا يحتاج إلى استئذانها؛ فإذا كانت في الباطن بخلاف ذلك كان معذوراً‏.‏ فإذا اختارت هي النكاح لم يكن هذا بمنزلة تصرف الفضولي‏.‏ ووقف العقد على الإجازة فيه نزاع مشهور بين العلماء، والأظهر فيه التفصيل بين بعضها وبعض‏.‏ كما هو مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏
    وقال الشيخ رحمه الله‏:‏
    ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد، وأنه إذا امتنع لا يكون عاقاً، وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر عنه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه كان النكاح كذلك، وأولى؛ فإن أكل المكروه مرارة ساعة، وعشرة المكروه من الزوجين على طول يؤذي صاحبه كذلك، ولا يمكن فراقه‏.‏
    وسئل رحمه الله عن رجل تحت حجر والده، وقد تزوج بغير إذن والده، وشهد المعروفون أن والده مات وهو حي‏:‏ فهل يصح العقد أم لا‏؟‏ وهل يجب على الولد إذا تزوج بغير إذن والده حق أم لا‏؟‏

    ج/ 32 ص -31-فأجاب‏:‏
    إن كان سفيها محجوراً عليه، لا يصح نكاحه بدون إذن أبيه ويفرق بينهما‏.‏ وإذا فرق بينهما قبل الدخول فلا شيء عليه‏.‏ وإن كان رشيداً صح نكاحه، وإن لم يأذن له أبوه‏.‏ وإذا تنازع الزوجان، هل نكح وهو رشيد أو وهو سفيه، فالقول قول مدعي صحة النكاح‏.‏
    وسئل رحمه الله عن رجل خطب امرأة، ولها ولد، والعاقد مالكي، فطلب العاقد الولد فتعذر حضوره، وجيء بغيره، وأجاب العاقد في تزويجها‏:‏ فهل يصح العقد‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    لا يصح هذا العقد؛ وذلك لأن الولد وليها، وإذا كان حاضرا غير ممتنع لم تزوج إلا بإذنه‏.‏ فأما إن غاب غيبة بعيدة انتقلت الولاية إلى الأبعد أو الحاكم‏.‏ ولو زوجها شافعي معتقداً أن الولد لا ولاية له كان من مسائل الاجتهاد، لكن الذي زوجها مالكي يعتقد ألا يزوجها إلا ولدها، فإذا لبس عليه وزوجها من يعتقده ولدها ولم يكن هذا الحاكم قد زوجها بولايته، ولا زوجت بولاية ولي من نسب أو ولاء، فتكون منكوحة بدون إذن ولي أصلا‏.‏ وهذا النكاح باطل عند الجمهور، كما وردت به النصوص‏.‏
    وسئل رحمه الله عن امرأة خلاها أخوها في مكان لتوفي عدة زوجها، فلما انقضت العدة هربت إلى بلد مسيرة يوم‏.‏ وتزوجت بغير إذن أخيها، ولم يكن لها ولي غيره‏:‏ فهل يصح العقد، أم لا‏؟‏

    ج/ 32 ص -32-فأجاب‏:‏
    إذا لم يكن أخوها عاضلا لها، وكان أهلا للولاية، لم يصح نكاحها بدون إذنه، والحال هذه‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله تعالى عن رجل تزوج بالغة من جدها أبي أبيها، وما رشدها، ولا معه وصية من أبيها، فلما دنت وفاة جدها أوصى على البنت رجلا أجنبياً‏:‏ فهل للجد المذكور على الزوجة ولاية بعد أن أصابها الزوج، وهل له أن يوصى عليها‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما إذا كانت رشيدة فلا ولاية عليها، لا للجد ولا غيره باتفاق الأئمة، وإن كانت ممن يستحق الحجر عليها ففيه للعلماء قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الجد له ولاية، وهذا مذهب أبي حنيفة‏.‏ والثاني‏:‏ لا ولاية له، وهو مذهب مالك، وأحمد في المشهور عنه‏.‏ وإذا تزوجت الجارية ومضت عليها سنة وأولدها أمكن أن تكون رشيدة باتفاق العلماء‏.
    وسئل عمن برطل ولي امرأة ليزوجها إياه، فزوجها ثم صالح صاحب المال عنه‏:‏ فهل على المرأة من ذلك درك‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    آثم فيما فعل‏.‏ وأما النكاح فصحيح، ولا شيء على المرأة من ذلك‏؟‏

    ج/ 32 ص -33-وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل له جارية، وقد أعتقها، وتزوج بها، ومات‏.‏ ثم خطبها من يصلح‏:‏ فهل لأولاد سيدها أن يزوجوها‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، إذا خطبها من يصلح لها فعلى أولاد سيدها أن يزوجوها، فإن امتنعوا من ذلك زوجها الحاكم، أو عصبة المعتق إن كان له عصبة غير أولاده؛ لكن من العلماء من يقدم الحاكم إذا عضل الولي الأقرب وهو مذهب الشافعي وأحمد في رواية‏.‏ ومنهم من يقدم العصبة كأبي حنيفة في المشهور عنه، فإذا لم يكن له عصبة زوج الحاكم باتفاق العلماء، ولو امتنع العصبة كلهم زوج الحاكم بالاتفاق‏.‏ وإذا أذن العصبة للحاكم جاز باتفاق العلماء‏.‏
    وسئل رحمه الله عن رجل تزوج معتقة رجل، وطلقها، وتزوجت بآخر وطلقها، ثم حضرت إلى البلد الذي فيه الزوج الأول، فأراد ردها، ولم يكن معها براءة، فخاف أن يطلب منه براءة‏:‏ فحضرا عند قاضي البلد، وادعي أنها جاريته وأولدها، وأنه يريد عتقها ويكتب لها كتاباً‏:‏ فهل يصح هذا العقد أم لا‏؟‏

    ج/ 32 ص -34-فأجاب‏:‏
    إذا زوجها القاضي بحكم أنه وليها، وكانت خلية من الموانع الشرعية، ولم يكن لها ولي أولى من الحاكم، صح النكاح‏.‏ وإن ظن القاضي أنها عتيقة وكانت حرة الأصل، فهذا الظن لا يقدح في صحة النكاح‏.‏ وهذا ظاهر على أصل الشافعي؛ فإن الزوج عنده لا يكون ولياً‏.‏ وأما من يقول‏:‏ إن المعتقة يكون زوجها المعتق وليها، والقاضي نائبه، فهنا إذا زوج الحاكم بهذه النيابة، ولم يكن قبولها من جهتها، ولكن من كونها حرة الأصل، فهذا فيه نظر‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عن أعراب نازلين على البحر وأهل بادية، وليس عندهم ولا قريبا منهم حاكم، ولا لهم عادة أن يعقدوا نكاحا إلا في القري التي حولهم عند أئمتها‏:‏ فهل يصح عقد أئمة القري لهم مطلقاً لمن لها ولي، ولمن ليس لها ولي، وربما كان أئمة ليس لهم إذن من متول‏:‏ فهل يصح عقدهم في الشرع مع إشهاد من اتفق من المسلمين على العقود، أم لا‏؟‏ وهل على الأئمة إثم إذا لم يكن في العقد مانع غير هذا الحال الذي هو عدم إذن الحاكم للإمام بذلك أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، أما من كان لها ولي من النسب، وهو العصبة من النسب أو الولاء‏:‏ مثل أبيها، وجدها، وأخيها، وعمها، وابن أخيها، وابن عمها، وعم أبيها، وابن عم أبيها، وإن كانت معتقة فمعتقها، أو عصبة معتقها، فهذه يزوجها الولي بإذنها، والابن ولي عند الجمهور، ولا يفتقر ذلك إلى حاكم باتفاق العلماء‏.‏

    ج/ 32 ص -35-وإذا كان النكاح بحضرة شاهدين من المسلمين صح النكاح‏.‏ وإن لم يكن هناك أحد من الأئمة‏.‏ ولو لم يكن الشاهدان معدلين عند القاضي بأن كانا مستورين صح النكاح إذا أعلنوه ولم يكتموه في ظاهر مذهب الأئمة الأربعة‏.‏ ولو كان بحضرة فاسقين صح النكاح أيضاً عند أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين‏.‏ ولو لم يكن بحضرة شهود، بل زوجها وليها وشاع ذلك بين الناس صح النكاح في مذهب مالك، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه‏.‏ وهذا أظهر قولي العلماء، فإن المسلمين مازالوا يزوجون النساء على عهد النبي ﷺ، ولم يكن النبي ﷺ يأمرهم بالإشهاد، وليس في اشتراط الشهادة في النكاح حديث ثابت، لا في الصحاح، ولا في السنن، ولا في المساند‏.‏ وأما من لا ولي لها، فإن كان في القرية أو الحلة نائب حاكم زوجها هو، وأمير الأعراب ورئيس القرية‏.‏ وإذا كان فيهم إمام مطاع زوجها أيضاً بإذنها‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل قدس الله روحه عن رجل أسلم‏:‏ هل يبقى له ولاية على أولاده الكتابيين‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    لا ولاية له عليهم في النكاح، كما لا ولاية له عليهم في الميراث، فلا يزوج المسلم الكافرة، سواء كانت بنته أو غيرها، ولا يرث كافر مسلما، ولا مسلم كافرا‏.‏ وهذا مذهب الأئمة الأربعة وأصحابهم من السلف والخلف،

    ج/ 32 ص -36-لكن المسلم إذا كان مالكاً للأمة زوجها بحكم الملك، وكذلك إذا كان ولي أمر زواجها بحكم الولاية‏.‏ وأما بالقرابة والعتاقة فلا يزوجها؛ إذ ليس في ذلك إلا خلاف شاذ عن بعض أصحاب مالك في النصراني يزوج ابنته، كما نقل عن بعض السلف أنه يرثها؛ وهما قولان شاذان‏.‏ وقد اتفق المسلمون على أن الكافر لا يرث المسلم، ولا يتزوج الكافر المسلمة‏.‏
    والله سبحانه قد قطع الولاية في كتابه بين المؤمنين والكافرين، وأوجب البراءة بينهم من الطرفين، وأثبت الولاية بين المؤمنين، فقد قال تعالى‏:‏ ‏
    "‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ٍ‏"‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ‏"‏‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5156‏]‏، والله تعالى إنما أثبت الولاية بين أولى الأرحام بشرط الإيمان، كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ‏"‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ‏"

    ج/ 32 ص -37-إلى قوله‏:‏ ‏"‏وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ‏"‏[‏الأنفال‏:‏ 7275‏]‏‏.‏
    وسئل رحمه الله تعالى عن رجل له جارية معتوقة، وقد طلبها منه رجل ليتزوجها، فحلف بالطلاق ما أعطيك إياها‏:‏ فهل يلزمه الطلاق إذا وكل رجلا في زواجها لذلك الرجل‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    متى فعل المحلوف عليه بنفسه أو وكيله حنث؛ لكن إذا كان الخاطب كفؤاً فله أن يزوجها الولي الأبعد، مثل ابنه، أو أبيه، أو أخيه، أو يزوجها الحاكم بإذنها ودون إذن المعتق؛ فإنه عاضل، ولا يحتاج إلى إذنه، ولا حنث عليه إذا زوجت على هذا الوجه‏.‏
    وسئل رحمه الله عمن يعقد عقود الأنكحة بولي وشاهدي عدل‏:‏ هل للحاكم منعه‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    ليس للحاكم أن يمنع المذكور أن يتوكل للولي فيعقد العقد على الوجه الشرعي، لكن من لا ولي لها لا تزوج إلا بإذن السلطان، وهو الحاكم‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 32 ص -38-وسئل رحمه الله تعالى عن رجل خطب امرأة حرة لها ولي غير الحاكم، فجاء بشهود وهو يعلم فسق الشهود، لكن لو شهدوا عند الحاكم قبلهم‏:‏ فهل يصح نكاح المرأة بشهادتهم‏؟‏ وإذا صح هل يكره‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    نعم يصح النكاح والحال هذه‏.‏ و‏[‏العدالة‏]‏ المشترطة في شاهدي النكاح إنما هي أن يكونا مستورين غير ظاهري الفسق، وإذا كانا في الباطن فاسقين، وذلك غير ظاهر، بل ظاهرهما الستر انعقد النكاح بهما في أصح قولي العلماء؛ في مذهب أحمد، والشافعي، وغيرهما؛ إذ لو اعتبر في شاهدي النكاح أن يكونا معدلين عند الحاكم، لما صح نكاح أكثر الناس إلا بذلك‏!‏ وقد علم أن الناس على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان وعلى كانوا يعقدون الأنكحة بمحضر من بعضهم، وإن لم يكن الحاضرون معدلين عند أولى الأمر‏.‏ ومن الفقهاء من قال‏:‏ يشترط أن يكونا مبرزي العدالة؛ فهؤلاء شهود الحكام معدلون عندهم، وإن كان فيهم من هو فاسق في نفس الأمر‏.‏ فعلى التقديرين ينعقد النكاح بشهادتهم وإن كانوا في الباطن فساقا‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 32 ص -39-وسئل رحمه الله تعالى عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏لا تنكح الأيِّم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، كيف إذنها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أن تسكت‏"‏ متفق عليه، وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال‏:‏ ‏"‏الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها‏"‏، وفي رواية‏:‏ ‏"‏البكر يستأذنها أبوها في نفسها، وصمتها إقرارها‏"‏ رواه مسلم في صحيحه‏.‏ وعن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ سألت رسول الله ﷺ عن الجارية ينكحها أهلها أتستأمر أم لا‏؟‏ فقال لها رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏نعم، تستأمر‏"‏ قالت عائشة‏:‏ فقلت له‏:‏ فإنها تستحي، فقال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏فذلك إذنها إذا هي سكتت‏"‏‏.‏ وعن خنساء ابنة خدام‏:‏ أن أباها زوجها وهي بنت فكرهت ذلك، فأتت رسول الله ﷺ فرد نكاحه‏.‏ رواه البخاري‏.‏
    فأجاب‏:‏
    المرأة لا ينبغي لأحد أن يزوجها إلا بإذنها، كما أمر النبي ﷺ، فإن كرهت ذلك لم تجبر على النكاح، إلا الصغيرة البكر، فإن أباها يزوجها ولا إذن لها‏.‏ وأما البالغ الثيب فلا يجوز تزويجها بغير إذنها،

    ج/ 32 ص -40-لا للأب ولا لغيره بإجماع المسلمين، وكذلك البكر البالغ ليس لغير الأب والجد تزويجها بدون إذنها بإجماع المسلمين‏.‏ فأما الأب والجد فينبغي لهما استئذانها‏.‏ واختلف العلماء في استئذانها‏:‏ هل هو واجب‏؟‏ أو مستحب‏؟‏ والصحيح أنه واجب‏.‏ ويجب على ولي المرأة أن يتقي الله فيمن يزوجها به، وينظر في الزوج‏:‏ هل هو كفؤ، أو غير كفؤ‏؟‏ فإنه إنما يزوجها لمصلحتها، لا لمصلحته، وليس له أن يزوجها بزوج ناقص؛ لغرض له؛ مثل أن يتزوج مولية ذلك الزوج بدلها، فيكون من جنس الشغار الذي نهي عنه النبي ﷺ، أو يزوجها بأقوام يحالفهم على أغراض له فاسدة، أو يزوجها لرجل لمال يبذله له وقد خطبها من هو أصلح لها من ذلك الزوج، فيقدم الخاطب الذي بَرْطَلَه على الخاطب الكفؤ الذي لم يبرطله‏.‏
    وأصل ذلك‏:‏ أن تصرف الولي في بضع وليته كتصرفه في مالها، فكما لا يتصرف في مالها إلا بما هو أصلح، كذلك لا يتصرف في بعضها إلا بما هو أصلح لها، إلا أن الأب له من التبسط في مال ولده ما ليس لغيره، كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏
    "‏أنت ومالك لأبيك‏"‏ بخلاف غير الأب‏.‏
    وسئل رحمه الله عن المرأة التي يعتبر إذنها في الزواج شرعا هل يشترط الإشهاد عليها بإذنها لوليها‏؟‏ أم لا‏؟‏ وإذا قال الولي‏:‏ إنها أذنت لي في تزويجها من هذا

    ج/ 32 ص -41-الشخص‏:‏ فهل للعاقد أن يعقد بمجرد قول الولي‏؟‏ أم قولها‏؟‏ وكيفية الحكم في هذه المسألة بين العلماء‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، الإشهاد على إذنها ليس شرطا في صحة العقد عند جماهير العلماء، وإنما فيه خلاف شاذ في مذهب الشافعي وأحمد، فإن ذلك شرط‏.‏ والمشهور في المذهبين كقول الجمهور أن ذلك لا يشترط‏.‏ فلو قال الولي‏:‏ أذنت لي في العقد، فعقد العقد، وشهد الشهود على العقد، ثم صدقته الزوجة على الإذن كان النكاح ثابتا صحيحا باطنا وظاهرا، وإن أنكرت الإذن كان القول قولها مع يمينها، ولم يثبت النكاح‏.‏ وداعوه الإذن عليها كما لو ادعي النكاح بعد موت الشهود ونحو ذلك‏.‏ والذي ينبغي لشهود النكاح أن يشهدوا على إذن الزوجة قبل العقد، لوجوه ثلاثة‏:‏
    أحدها‏:‏ أن ذلك عقد متفق على صحته، ومهما أمكن أن يكون العقد متفقا على صحته، فلا ينبغي أن يعدل عنه إلى ما فيه خلاف، وإن كان مرجوحا، إلا لمعارض راجح‏.‏
    الوجه الثاني‏:‏ أن ذلك معونة على تحصيل مقصود العقد، وأمان من جحوده، لاسيما في مثل المكان والزمان الذي يكثر فيه جحد النساء وكذبهن، فإن ترك الإشهاد عليها كثيرا ما يفضي إلى خلاف ذلك‏.‏ ثم إنه يفضي إلى أن تكون زوجة في الباطن، دون الظاهر‏.‏ وفي ذلك مفاسد متعددة‏.‏

    ج/ 32 ص -42-والوجه الثالث‏:‏ أن الولي قد يكون كاذبا في دعوى الاستئذان، وأن يحتال بذلك على أن يشهد أنه قد زوجها، وأن يظن الجهال أن النكاح يصح بدون ذلك، إذا كان عند العامة أنها إذا زوجت عند الحاكم صارت زوجة‏.‏ فيفضي إلى قهرها وجعلها زوجة بدون رضاها‏.‏
    وأما العاقد الذي هو نائب الحاكم إذا كان هو المزوج لها بطريق الولاية عليها، لا بطريق الوكالة للولي، فلا يزوجها حتى يعلم أنها قد أذنت‏.‏ وذلك بخلاف ما إذا كان شاهداً على العقد‏.‏ وإن زوجها الولي بدون إذنها فهو نكاح الفضولي‏.‏ وهو موقوف على إذنها عند أبي حنيفة ومالك، وهو باطل مردود عند الشافعي، وأحمد في المشهور عنه‏.‏ وسئل رحمه الله عن بنت زالت بكارتها بمكروه، ولم يعقد عليها عقد قط، وطلبها من يتزوجها، فذكر له ذلك فرضي‏:‏ فهل يصح العقد بما ذكر إذا شهد المعروفون أنها بنت؛ لتسهيل الأمر في ذلك‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا شهدوا أنها ما زوجت كانوا صادقين، ولم يكن في ذلك تلبيس على الزوج؛ لعلمه بالحال‏.‏ وينبغي استنطاقها بالأدب؛ فإن العلماء متنازعون‏:‏ هل إذنها إذا زالت بكارتها بالزنا‏:‏ الصمت، أو‏:‏ النطق‏.‏ والأول مذهب الشافعي، وأحمد، كصاحبي أبي حنيفة‏.‏ وعند أبي حنيفة ومالك‏:‏ إذنها الصمات، كالتي لم تزل عذرتها‏.‏

    ج/ 32 ص -43-وسئل رحمه الله عن بنت يتيمة، ولها من العمر عشر سنين، ولم يكن لها أحد، وهي مضطرة إلى من يكفلها‏:‏ فهل يجوز لأحد أن يتزوجها بإذنها، أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    هذه يجوز تزويجها بكفءٍ لها عند أكثر السلف والفقهاء، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه، وغيرهما‏.‏ وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، كقوله تعالى‏:‏
    ‏"‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء‏"‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏‏.‏ وقد أخرجا تفسير هذه الآية في الصحيحين عن عائشة، وهو دليل في اليتيمة؛ وزوجها من يعدل عليها في المهر، لكن تنازع هؤلاء‏:‏ هل تزوج بإذنها أم لا‏؟‏ فذهب أبو حنيفة أنها تزوج بغير إذنها، ولها الخيار إذا بلغت، وهي رواية عن أحمد‏.‏ وظاهر مذهب أحمد أنها تزوج بغير إذنها إذا بلغت تسع سنين، ولا خيار لها إذا بلغت؛ لما في السنن عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏اليتيمة تستأذن في نفسها، فإن سكتت فقد أذنت، وإن أبت فلا جواز عليها‏"‏، وفي لفظ‏:‏ ‏"‏لا تنكح اليتيمة حتى تستأذن، فإن سكتت فقد أذنت، وإن أبت فلا جواز عليها‏"‏‏.‏

    ج/ 32 ص -44-وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن صغيرة دون البلوغ مات أبوها‏:‏ هل يجوز للحاكم أو نائبه أن يزوجها أم لا‏؟‏ وهل يثبت لها الخيار إذا بلغت أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا بلغت تسع سنين فإنه يزوجها الأولياء من العصبات والحاكم ونائبه في ظاهر مذهب أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة وغيرهما، كما دل على ذلك الكتاب والسنة في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏
    "‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عليكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏‏.‏ وأخرجا في الصحيحين عن عروة بن الزبير، أنه سأل عائشة عن قول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ‏"‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏‏.‏ قالت‏:‏ يا ابن أختي، هذه اليتيمة في حجر وليها تشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها؛ فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها؛ فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن على سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن‏.‏ قال عروة‏:‏ قالت عائشة‏:‏ ثم إن الناس استفتوا رسول الله ﷺ بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله عز وجل‏:‏

    ج/ 32 ص -45-"‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ‏"‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏‏.‏ قالت عائشة‏:‏ والذي ذكر الله أنه ‏"‏وَمَا يُتْلَى عليكُمْ فِي الْكِتَابِ‏"‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏، الأولى التي قالها الله عز وجل‏:‏ ‏"‏وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ‏"‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏، قالت عائشة‏:‏ وقول الله عز وجل في الآية الأخري‏:‏ ‏"‏وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ‏"‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏، رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حيث تكون قليلة المال والحال‏.‏ وفي لفظ آخر‏:‏ إذا كانت ذات مال وجمال رغبوا في نكاحها في إكمال الصداق، وإذا كانت مرغوبا عنها في قلة المال والجمال رغبوا عنها، وأخذوا غيرها من النساء‏.‏ قال‏:‏ فكما يتركونها حتى يرغبوا عنها، فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها، إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها من الصداق‏.‏ فهذا يبين أن الله أذن لهم أن يزوجوا اليتامي من النساء إذا فرضوا لهن صداق مثلهن، ولم يأذن لهم في تزويجهن بدون صداق المثل؛ لأنها ليست من أهل التبرع؛ ودلائل ذلك متعددة‏.‏
    ثم الجمهور الذين جوزوا إنكاحها لهم قولان‏:‏
    أحدهما‏:‏ وهو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين‏:‏ أنها تزوج بدون إذنها؛ ولها الخيار إذا بلغت‏.‏
    والثاني‏:‏ وهو المشهور في مذهب أحمد وغيره‏:‏ أنها لا تزوج إلا بإذنها؛ ولا خيار لها إذا بلغت‏.‏ وهذا هو الصحيح الذي دلت عليه السنة، كما روي أبو هريرة، قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏تستأذن

    ج/ 32 ص -46-اليتيمة في نفسها؛ فإن سكتت فهو إذنها؛ وإن أبت فلا جواز عليها‏"‏ رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، وعن أبي موسي الأشعري‏:‏ أن رسول الله ﷺ قال‏:‏ ‏"‏تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فقد أذنت؛ وإن أبت فلا جواز عليها‏"‏‏.‏ فهذه السنة نص في القول الثالث الذي هو أعدل الأقوال أنها تزوج؛ خلافا لمن قال‏:‏ إنها لا تزوج حتى تبلغ فلا تصير ‏[‏يتيمة‏]‏‏.‏ والكتاب والسنة صريح في دخول اليتيمة قبل البلوغ في ذلك؛ إذ البالغة التي لها أمر في مالها يجوز لها أن ترضي بدون صداق المثل؛ ولأن ذلك مدلول اللفظ وحقيقته؛ ولأن ما بعد البلوغ وإن سمي صاحبه يتيما مجازًا فغايته أن يكون داخلا في العموم‏.‏ وإما أن يكون المراد باليتيمة البالغة دون التي لم تبلغ؛ فهذا لا يسوغ حمل اللفظ عليه بحال‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله تعالى عن بنت يتيمة ليس لها أب، ولا لها ولي إلا أخوها، وسنها اثنا عشر سنة، ولم تبلغ الحلم؛ وقد عقد عليها أخوها بإذنها‏:‏ فهل يجوز ذلك أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    هذا العقد صحيح في مذهب أحمد المنصوص عنه في أكثر أجوبته، الذي عليه عامة أصحابه، ومذهب أبي حنيفة أيضا، لكن أحمد في المشهور عنه يقول‏:‏ إذا زوجت بإذنها وإذن أخيها لم يكن لها الخيار إذا

    ج/ 32 ص -47-بلغت‏.‏ وأبو حنيفة وأحمد في رواية يقول‏:‏ تزوج بلا إذنها، ولها الخيار إذا بلغت‏.‏ وهذا أحد القولين في مذهب مالك أيضا‏.‏ ثم عنه رواية‏:‏ إن دعت حاجة إلى نكاحها، ومثلها يوطأ جاز‏.‏ وقيل‏:‏ تزوج ولها الخيار إذا بلغت‏.‏ وقال ابن بشير‏:‏ اتفق المتأخرون أنه يجوز نكاحها إذا خيف عليها الفساد‏.‏ والقول الثالث‏:‏ وهو قول الشافعي وأحمد في الرواية الأخري‏:‏ أنها لا تزوج حتى تبلغ، إذا لم يكن لها أب وجد‏.‏ قالوا‏:‏ لأنه ليس لها ولي يجبر، وهي في نفسها لا إذن لها قبل البلوغ؛ فتعذر تزويجها بإذنها وإذن وليها‏.‏
    والقول الأول أصح بدلالة الكتاب والسنة والاعتبار؛فإن الله تعالى يقول‏:‏
    ‏"‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عليكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عليمًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏، وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن هذه الآية نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها، فإن كان لها مال وجمال تزوجها ولم يقسط في صداقها؛ فإن لم يكن لها مال لم يتزوجها، فنهي أن يتزوجها حتى يقسط في صداقها؛ من أجل رغبته عن نكاحها إذا لم يكن لها مال‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عليكُمْ فِي الْكِتَابِ‏"‏ يفتيكم، ونفتيكم في المستضعفين‏.‏ فقد أخبرت

    ج/ 32 ص -48-عائشة في هذا الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم‏:‏ أن هذه الآية نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها، وأن الله أذن له في تزويجها إذا أقسط في صداقها، وقد أخبر أنها في حجره‏.‏ فدل على أنها محجور عليها‏.‏
    وأيضا، فقد ثبت في السنن من حديث أبي موسي، وأبي هريرة، عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏لا تنكح اليتيمة حتى تستأذن، فإن سكتت فقد أذنت، وإن أبت فلاجواز عليها‏"‏، فيجوز تزويجها بإذنها، ومنعه بدون إذنها‏.‏ وقد قال ﷺ‏:‏ ‏"‏لا يتم بعد احتلام‏"‏، ولو أريد ‏[‏باليتيم‏]‏ ما بعد البلوغ، فبطريق المجاز، فلابد أن يعم ما قبل البلوغ وما بعده‏.‏ أما تخصيص لفظ ‏[‏اليتيم‏]‏ بما بعد البلوغ فلا يحتمله اللفظ بحال؛ ولأن الصغير المميز يصح لفظه مع إذن وليه، كما يصح إحرامه بالحج بإذن الولي، وكما يصح تصرفه في البيع وغيره بإذن وليه عند أكثر العلماء، كما دل على ذلك القرآن بقوله‏:‏ ‏"‏وَابْتَلُواْ اليتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ‏"‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏‏.‏ فأمر بالابتلاء قبل البلوغ؛ وذلك قد لا يأتي إلا بالبيع ولا تصح وصيته وتدبيره عند الجمهور وكذلك إسلامه؛ كما يصح صومه وصلاته وغير ذلك لما له في ذلك من المنفعة‏.‏ فإذا زوجها الولي بإذنها من كفؤ جاز، وكان هذا تصرفا بإذنها، وهو مصلحة لها، وكل واحد من هذين مصحح لتصرف المميز‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 32 ص -49-وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن بنت دون البلوغ، وحضر من يرغب في تزويجها‏:‏ فهل يجوز للحاكم أن يزوجها أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، إذا كان الخاطب لها كفؤًا جاز تزويجها في أصح قولي العلماء، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه‏.‏ ثم منهم من يقول‏:‏ تزوج بلا أمرها، ولها الخيار، كمذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ إذا بلغت تسع سنين زوجت بإذنها، ولا خيار لها إذا بلغت‏.‏ وهو ظاهر مذهب أحمد؛ لقول النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏لا تنكح اليتيمة حتى تستأذن فإن سكتت فقد أذنت، وإن أبت فلا جواز عليها‏"‏ رواه أبو داود والنسائي وغيرهما‏.‏
    وتزويج ‏[‏اليتيمة‏]‏ ثابت بالكتاب والسنة، قال تعالى‏:‏
    ‏"‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عليكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ‏"‏، وقد ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في اليتيمة التي يرغب وليها أن ينكحها إذا كان لها مال، ولا ينكحها إذا لم يكن لها مال، فنهوا عن نكاحهن حتى يقسطوا لهن في الصداق‏.‏ فقد أذن الله للولي أن ينكح اليتيمة؛ إذا أصدقها صداق المثل‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 32 ص -50-وسئل رحمه الله تعالى عن رجل تزوج يتيمة صغيرة، وعقد عقدها الشافعي المذهب، ولم تدرك إلا بعد العقد بشهرين‏:‏ فهل هذا العقد جائز أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما ‏[‏اليتيمة‏]‏ التي لم تبلغ قَبْل لا يجْبرها على تزويجها غير الأب، والجد، والأخ، والعم، والسلطان الذي هو الحاكم أو نواب الحاكم في العقود‏.‏ للفقهاء في ذلك ثلاثة أقوال‏:‏
    أحدها‏:‏ لا يجوز، وهو قول الشافعي، ومالك، والإمام أحمد في رواية‏.‏
    والثاني‏:‏ يجوز النكاح بلا إذنها، ولها الخيار إذا بلغت، وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد‏.‏
    والثالث‏:‏ أنها تزوج بإذنها، ولا خيار لها إذا بلغت‏.‏ وهذا هو المشهور من مذهب أحمد‏.‏ فهذه التي لم تبلغ يجوز نكاحها في مذهب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما‏.‏ ولو زوجها حاكم يري ذلك‏:‏ فهل يكون تزويجه

    ج/ 32 ص -51-حكما لا يمكن نقضه‏؟‏أو يفتقر إلى حاكم غيره يحكم بصحة ذلك‏؟‏على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، أصحهما الأول‏.‏ لكن الحاكم المزوج هنا شافعي، فإن كان قد قلد قول من يصحح هذا النكاح، وراعي سائر شروطه وكان ممن له ذلك، جاز‏.‏ وإن كان قد أقدم على ما يعتقد تحريمه، كان فعله غير جائز‏.‏ وإن كان قد ظنها بالغا فزوجها فكانت غير بالغ، لم يكن في الحقيقة قد زوجها، ولا يكون النكاح صحيحا‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عن رجل وجد صغيرة فرباها، فلما بلغت زوجها الحاكم له، ورزق منها أولادًا، ثم وجد لها أخ بعد ذلك‏:‏ فهل هذا النكاح صحيح‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا كان لها أخ غائب غيبة منقطعة، ولم يكن يعرف حينئذ لها أخ، لكونها ضاعت من أهلها حين صغرها إلى ما بعد النكاح، لم يبطل النكاح المذكور‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 32 ص -52-وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن بنت يتيمة، وقد طلبها رجل وكيل على جهات المدينة، وزوج أمها كاره في الوكيل‏.‏ فهل يجوز أن يزوجها عمها وأخوها بلا إذن منها أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد الله، المرأة البالغ لا يزوجها غير الأب والجد بغير إذنها باتفاق الأئمة، بل وكذلك لا يزوجها الأب إلا بإذنها في أحد قولي العلماء، بل في أصحهما وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، كما قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، فإن البكر تستحي‏؟‏قال‏:‏ ‏"‏إذنها صماتها‏"‏، وفي لفظ‏:‏ ‏"‏يستأذنها أبوها وإذنها صماتها‏"‏‏.‏ وأما العم والأخ فلا يزوجانها بغير إذنها باتفاق العلماء‏.‏
    وإذا رضيت رجلاً وكان كفؤًا لها وجب على وليها - كالأخ ثم العم - أن يزوجها به، فإن عضلها وامتنع من تزويجها زوجها الولي الأبعد منه أو الحاكم بغير إذنه باتفاق العلماء، فليس للولي أن يجبرها على نكاح من لا ترضاه، ولا يعضلها عن نكاح من ترضاه إذا كان كفؤًا باتفاق الأئمة؛ وإنما يجبرها ويعضلها أهل الجاهلية والظلمة الذين يزوجون نساءهم لمن يختارونه لغرض؛ لا لمصلحة المرأة، ويكرهونها على ذلك أو يخجلونها حتى تفعل‏.‏ ويعضلونها عن نكاح من يكون كفؤًا لها لعداوة

    ج/ 32 ص -53-أو غرض‏.‏ وهذا كله من عمل الجاهلية والظلم والعدوان، وهو مما حرمه الله ورسوله، واتفق المسلمون على تحريمه، وأوجب الله على أولياء النساء أن ينظروا في مصلحة المرأة، لا في أهوائهم كسائر الأولياء والوكلاء ممن تصرف لغيره، فإنه يقصد مصلحة من تصرف له، لا يقصد هواه، فإن هذا من الأمانة التي أمر الله أن تؤدي إلى أهلها، فقال‏:‏ ‏"‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ‏"‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏، وهذا من النصيحة الواجبة، وقد قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ لمن يا رسول الله‏؟‏قال‏:‏ ‏"‏لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم‏"‏‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عن رجل تزوج امرأة، وقعدت معه أياما، وجاء أناس ادعوا أنها في المملكة، وأخذوها من بيته، ونهبوه؛ ولم يكن حاضرًا‏:‏ فهل يجوز أخذها وهي حامل‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، إذا لم يبين للزوج أنها أمة، بل تزوجها نكاحا مطلقًا كما جرت به العادة، وظن أنها حرة، وقيل له‏:‏ إنها حرة فهو مغرور، وولده منها حر؛ لا رقيق‏.‏ وأما ‏[‏النكاح‏]‏ فباطل إذا لم يجزه السيد باتفاق المسلمين‏.‏ وإن أجازه السيد صح في مذهب أبي حنيفة ومالك في إحدى الروايتين، ولم يصح في مذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخري، بل يحتاج

    ج/ 32 ص -54-إلى نكاح جديد‏.‏ وأما إن ظهرت حاملا من غير الزوج، فالنكاح باطل بلا ريب، ولا صداق عليه إذا لم يدخل بها، وليس لهم أن يأخذوا شيئا من ماله، بل كل ما أخذ من ماله رد إليه‏.‏
    وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن تزويج المماليك بالجوار من غير عتق إذا كانوا لمالك واحد‏؟‏ومن يعقد طرفي النكاح في الطرفين لهما‏؟‏ولأولادهم‏؟‏وهل للسيد أن يتسري بهن‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    تزويج المماليك بالإماء جائز، سواء كانوا لمالك واحد، أو لمالكين، مع بقائهم على الرق‏.‏ وهذا مما اتفق عليه أئمة المسلمين‏.‏ والذي يزوج الأمة سيدها أو وكيله‏.‏ وأما المملوك فهو يقبل النكاح لنفسه إذا كان كبيرًا، أو يقبل له وكيله‏.‏ وإن كان صغيرًا فسيده يقبل له‏.‏ فإذا كان الزوجان له قال بحضرة شاهدين‏:‏ زوجت مملوكي فلان بأمتى فلانة، وينعقد النكاح بذلك‏.‏ وأما العبد البالغ‏:‏ فهل لسيده أن يزوجه بغير إذنه، ويكرهه على ذلك‏؟‏فيه قولان للعلماء‏:‏ أحدهما‏:‏ لا يجوز، وهو مذهب الشافعي وأحمد‏.‏ والثاني‏:‏ يجبره، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك‏.‏ والأمة والمملوك الصغير يزوجهما بغير إذنهما بالاتفاق‏.‏

    ج/ 32 ص -55-وأما ‏[‏الأولاد‏]‏ فهم تبع لأمهم في ‏[‏الحرية والرق‏]‏، وهم تبع لأبيهم في النسب والولاء باتفاق المسلمين‏.‏ فمن كان سيد الأم كان أولادها له، سواء ولدوا من زوج، أو من زنا‏.‏ كما أن البهائم من الخيل والإبل والحمير إذا نزي ذكرها على أنثاها كان الأولاد لمالك الأم‏.‏ ولو كانت الأم معتقة أو حرة الأصل والأب مملوكا كان الأولاد أحرارًا‏.‏ وأما ‏[‏النسب‏]‏ فإنهم ينتسبون إلى أبيهم‏.‏ وإذا كان الأب عتيقًا والأم عتيقة كانوا منتسبين إلى موإلى الأب، وإن كان الأب مملوكا انتسبوا إلى موإلى الأم، فإن عتق الأب بعد ذلك انجر الولاء من موإلى الأم إلى موإلى الأب‏.‏ وهذا مذهب الأئمة الأربعة‏.‏ ومن كان مالكا للأم ملك أولادها، وكان له أن يتسري بالبنات من أولاد إمائه، إذا لم يكن يستمتع بالأم فإنه يستمتع ببناتها؛ فإن استمتع بالأم فلا يجوز أن يستمتع ببناتها‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله تعالى عن رجل شريف، زوج ابنته وهي بكر بالغ لرجل غير شريف مغربي، معروف بين الناس بالصلاح، برضا ابنته، وإذنها، ولم يشهد عليها الأب بالرضا‏:‏ فهل يكون ذلك قادحا في العقد أم لا‏؟‏مع استمرار الزوجة بالرضا، وذلك قبل الدخول وبعده، وقدح قادح فأشهدت الزوجة أن الرضا والإذن صدرا منها‏:‏ فهل يحتاج في ذلك تجديد العقد‏؟‏

    ج/ 32 ص -56-فأجاب‏:‏
    لا يفتقر صحة النكاح إلى الإشهاد على إذن المرأة قبل النكاح في المذاهب الأربعة، إلا وجهًا ضعيفًا في مذهب الشافعي وأحمد، بل قال‏:‏ إذا قال الولي‏:‏ أذنت لي جاز عقد النكاح‏.‏ والشهادة على الولي والزوج‏.‏ ثم المرأة بعد ذلك إن أنكرت‏:‏ فالنكاح ثابت‏.‏ هذا مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه‏.‏ وأما مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية عنه إذا لم تأذن حتى عقد النكاح جاز، وتسمي‏:‏ ‏[‏مسألة وقف العقود‏]‏، كذلك العبد إذا تزوج بدون إذن مواليه، فهو على هذا النزاع‏.‏
    أما ‏[‏الكفاءة في النسب‏]‏‏:‏ فالنسب معتبر عند مالك‏.‏ أما عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه، فهي حق للزوجة والأبوين، فإذا رضوا بدون كفءٍ جاز، وعند أحمد هي حق لله فلا يصح النكاح مع فراقها‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عن رجل زوج ابنة أخيه من ابنه، والزوج فاسق لا يصلي، وخوفوها حتى أذنت في النكاح‏.‏ وقالوا‏:‏ إن لم تأذني وإلا زوجك الشرع بغير اختيارك، وهو الآن يأخذ مالها، ويمنع من يدخل عليها لكشف حالها، كأمها، وغيرها‏؟‏

    ج/ 32 ص -57-فأجاب‏:‏
    الحمد لله، ليس للعم ولا غيره من الأولياء أن يزوج موليته بغير كفء إذا لم تكن راضية بذلك باتفاق الأئمة؛ وإذا فعل ذلك استحق العقوبة الشرعية التي تردعه وأمثاله عن مثل ذلك، بل لو رضيت هي بغير كفء كان لولي آخر غير المزوج أن يفسخ النكاح؛ وليس للعم أن يكره المرأة البالغة على النكاح بكفء؛ فكيف إذا أكرهها على التزويج بغير كفء‏؟‏ ‏!‏ بل لا يزوجها إلا بمن ترضاه باتفاق المسلمين‏.‏
    وإذا قال لها‏:‏ إن لم تأذني وإلا زوجك الشرع بغير اختيارك‏.‏ فأذنت بذلك لم يصح هذا الإذن، ولا النكاح المترتب عليه؛ فإن الشرع لا يمَكِّن غير الأب والجد من إجبار الصغيرة باتفاق الأئمة، وإنما تنازع العلماء في ‏[‏الأب والجد‏]‏ في الكبيرة، وفي الصغيرة مطلقًا‏.‏ وإذا تزوجها بنكاح صحيح كان عليه أن يقوم بما يجب لها، ولا يتعدي عليها في نفسها، ولا مالها‏.‏ وما أخذه من ذلك ضمنه، وليس له أن يمنع من يكشف حالها إذا اشتكت، بل إما أن يمكن من يدخل عليها ويكشف حالها، كالأم، وغيرها‏.‏ وإما أن تسكن بجنب جيران من أهل الصدق والدين يكشفون حالها‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 32 ص -58-وسئل رحمه الله عن رجل له عبد، وقد حبس نفسه، وقصد الزواج‏:‏ فهل له أن يتزوج أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    نعم له التزوج على أصل من يجبر السيد على تزويجه، كمذهب أحمد والشافعي على أحد قوليه؛ فإن تزويجه كالإنفاق عليه إذا كان محتاجًا إلى ذلك، وقد قال تعالى‏:‏ ‏
    "‏وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ‏"‏ ‏[‏النور‏:‏ 32‏]‏، فأمر بتزويج العبيد والإماء، كما أمر بتزويج الأيامي‏.‏ وتزويج الأمة إذا طلبت النكاح من كفء واجب باتفاق العلماء، والذي يأذن له في النكاح مالك نصفه، أو وكيله، وناظر النصيب المحبس‏.‏
    وسئل عن رجل تزوج عتيقة بعض بنات الملوك، الذين يشترون الرقيق من مالهم ومال المسلمين بغير إذن معتقها‏:‏ فهل يكون العقد صحيحًا، أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما إذا أعتقها من مالها عتقًا شرعيا فالولاية لها باتفاق العلماء، وهي التي ترثها، ثم أقرب عصباتها من بعدها‏.‏

    ج/ 32 ص -59-وأما تزويج هذه ‏[‏العتيقة‏]‏ بدون إذن المعتقة‏؟‏ فهذا فيه قولان مشهوران للعلماء، فإن من لا يشترط إذن الولي؛ كأبي حنيفة ومالك في إحدى الروايتين يقول بأن هذا النكاح يصح عنده، لكن من يشترط إذن الولي كالشافعي وأحمد لهم قولان في هذه المسألة، وهما روايتان عن أحمد‏:‏ إحداهما‏:‏ أنها لا تزوج إلا بإذن المعتقة، فإنها عصبتها‏.‏ وعلى هذا، فهل للمرأة نفسها أن تزوجها‏؟‏على قولين‏:‏ هما روايتان عن أحمد‏.‏ والثاني‏:‏ أن تزوجيها لا يفتقر إلى إذن المعتقة؛ لأنها لا تكون ولية لنفسها، فلا تكون ولية لغيرها؛ ولأنه لا يجوز تزوجها عندهم، فلا يفتقر إلى إذنها، فعلى هذا يزوج هذه المعتقة من يزوج معتقها بإذن العتيقة، مثل أخ المعتقة، ونحوه إن كان من أهل ولاية النكاح؛ وإن لم يكن أهلا وزوجها الحاكم جاز، وإلا فلا‏.‏ وإن كانوا أهلا عند أبي حنيفة فالولاء لهم، والحاكم يزوجها‏.‏
    وسئل عن رجل خطب امرأة، فسأل عن نفقته‏؟‏فقيل له‏:‏ من الجهات السلطانية شيء، فأبي الولي تزويجها، فذكر الخاطب أن فقهاء الحنفية جوزوا تناول ذلك‏:‏ فهل ذكر ذلك أحد في جواز تناوله من الجهات‏؟‏وهل للولي المذكور دفع الخاطب بهذا السبب مع رضاء المخطوبة‏؟‏

    ج/ 32 ص -60-فأجاب‏:‏
    أما الفقهاء الأئمة الذين يفتي بقولهم فلم يذكر أحد منهم جواز ذلك؛ ولكن في أوائل الدولة ‏[‏السلجوقية‏]‏ أفتى طائفة من الحنفية والشافعية بجواز ذلك‏.‏ وحكي أبو محمد بن حزم في ‏[‏كتابه‏]‏ إجماع العلماء على تحريم ذلك‏.‏ وقد كان ‏[‏نور الدين محمود الشهيد التركي‏]‏ قد أبطل جميع الوظائف المحدثة بالشام، والجزيرة ومصر، والحجاز، وكان أعرف الناس بالجهاد‏.‏ وهو الذي أقام الإسلام بعد استيلاء ‏[‏الإفرنج، والقرامطة‏]‏ على أكثر من ذلك‏.‏ ومن فعل ما يعتقد حكمه متأولا تأويلا سائغًا - لا سيما مع حاجته - لم يجعل فاسقا بمجرد ذلك، لكن بكل حال فالولي له أن يمنع موليته ممن يتناول مثل هذا الرزق الذي يعتقده حراما، لا سيما وإن رزقها منه، فإذا كان الزوج يطعمها من غيره، أو تأكل هي من غيره، فله أن يزوجها إذا كان الزوج متأولا فيما يأكله‏.‏
    وسئل رحمه الله عن رجل زوج ابنته لشخص، ولم يعلم ما هو عليه، فأقام في صحبة الزوجة سنين، فعلم الولي والزوجة ما الزوج عليه، من النجس والفساد وشرب الخمر والكذب والأيمان الخائنة، فبانت الزوجة منه بالثلاث‏:‏ فهل يجوز للولي الإقدام على تزويجه أم لا‏؟‏ثم إن الولي استتوب الزوج مرارًا عديدة، ونكث ولم يرجع‏:‏ فهل يحل تزويجها‏؟‏

    ج/ 32 ص -61-فأجاب‏:‏
    إذا كان مُصِرًّا على الفسق فإنه لا ينبغي للولي تزويجها له، كما قال بعض السلف‏:‏ من زوج كريمته من فاجر فقد قطع رحمها‏.‏ لكن إن علم أنه تاب فتزوج به إذا كان كفؤًا لها وهي راضية به‏.‏ وأما ‏[‏نكاح التحليل‏]‏‏:‏ فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏
    "‏لعن الله المحلِّل والمحلَّل له‏"‏‏.‏ ولا تجبر المرأة على نكاح التحليل باتفاق العلماء‏.‏
    وسئل عن ‏[‏الرافضة‏]‏ هل تزوج‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الرافضة المحضة هم أهل أهواء وبدع وضلال، ولا ينبغي للمسلم أن يزوج موليته من رافضي، وإن تزوج هو رافضية صح النكاح، إن كان يرجو أن تتوب وإلا فترك نكاحها أفضل لئلا تفسد عليه ولده‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عن الرافضي، ومن يقول‏:‏ لا تلزمه الصلوات الخمس‏:‏ هل يصح نكاحه من الرجال والنساء‏؟‏فإن تاب من الرفض ولزم الصلاة حينا ثم عاد لما كان عليه‏:‏ هل يقر على ما كان عليه من النكاح‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    لا يجوز لأحد أن ينكح موليته رافضيًا، ولا من يترك الصلاة‏.‏ ومتى زوجوه على أنه سني فصلى الخمس ثم ظهر أنه رافضي لا يصلي، أو عاد إلى الرفض وترك الصلاة، فإنهم يفسخون النكاح‏.


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML