ج/ 32 ص -5-"الفقه"
شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
كِتَابُ النكَاح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
سئل الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه عمن أصابه سهم من سهام إبليس المسمومة؟
فأجاب:
من أصابه جرح مسموم فعليه بما يخرج السم ويبرئ الجرح بالترياق والمرهم. وذلك بأمور:
منها: أن يتزوج أو يتسري؛ فإن النبي ﷺ قال: "إذا نظر أحدكم إلى محاسن امرأة فليأت أهله؛ فإنما معها مثل ما معها"، وهذا مما ينقص الشهوة، ويضعف العشق.
الثاني: أن يداوم على الصلوات الخمس، والدعاء، والتضرع وقت السحر. وتكون صلاته بحضور قلب وخشوع، وليكثر من الدعاء بقوله: "يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك. يا مصرف القلوب، صرف قلبي إلى طاعتك وطاعة رسولك"، فإنه متى أدمن الدعاء والتضرع للهصرف قلبه عن ذلك، كما قال تعالى: "كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ" [يوسف: 24].
ج/ 32 ص -6- الثالث: أن يبعد عن مسكن هذا الشخص، والاجتماع بمن يجتمع به؛ بحيث لا يسمع له خبر، ولا يقع له على عين ولا أثر؛ فإن البعد جفا، ومتى قل الذكر ضعف الأثر في القلب. فليفعل هذه الأمور، وليطالع بما تجدد له من الأحوال. والله أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل عازب، ونفسه تتوق إلى الزواج؛ غير أنه يخاف أن يتكلف من المرأة ما لا يقدر عليه، وقد عاهد الله ألا يسأل أحداً شيئا فيه منة لنفسه وهو كثير التطلع إلى الزواج: فهل يأثم بترك الزواج؟ أم لا؟
فأجاب:
قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء". و[استطاعة النكاح]: هو القدرة على المؤنة؛ ليس هو القدرة على الوطء؛ فإن الحديث إنما هو خطاب للقادر على فعل الوطء؛ ولهذا أمر من لم يستطع أن يصوم؛ فإنه له وجاء. ومن لا مال له: هل يستحب أن يقترض ويتزوج؟ فيه نزاع في مذهب الإمام أحمد وغيره. وقد قال تعالى: "وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حتى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ" [النور: 33]. وأما [الرجل الصالح] فهو القائم بما يجب عليه من حقوق الله وحقوق عباده.
ج/ 32 ص -7-وسئل رحمه الله تعالى عن رجل خطب على خطبته رجل آخر: فهل يجوز ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله، ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "لا يحل للرجل أن يخطب على خطبة أخيه، ولا يستام على سوم أخيه"؛ ولهذا اتفق الأئمة الأربعة في المنصوص عنهم وغيرهم من الأئمة على تحريم ذلك، وإنما تنازعوا في صحة نكاح الثاني؟ على قولين:
أحدهما: أنه باطل؛ كقول مالك وأحمد في إحدى الروايتين.
والآخر: أنه صحيح؛ كقول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد في الرواية الأخري؛ بناء على أن المحرم هو ما تقدم على العقد، وهو الخطبة. ومن أبطله قال: إن ذلك تحريم للعقد بطريق الأولى. ولا نزاع بينهم في أن فاعل ذلك عاص للهورسوله؛ وإن نازع في ذلك بعض أصحابهم. والإصرار على المعصية مع العلم بها يقدح في دين الرجل وعدالته وولايته على المسلمين.
ج/ 32 ص -8-وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن امرأة فارقت زوجها، وخطبها رجل في عدتها، وهو ينفق عليها: فهل يجوز ذلك؟ أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، لا يجوز التصريح بخطبة المعتدة، ولو كانت في عدة وفاة باتفاق المسلمين. فكيف إذا كانت في عدة الطلاق؟ ! ومن فعل ذلك يستحق العقوبة التي تردعه وأمثاله عن ذلك، فيعاقب الخاطب والمخطوبة جميعاً، ويزجر عن التزويج بها؛ معاقبة له بنقيض قصده. والله أعلم.
وسئل عن رجل طلق زوجته ثلاثا، وأوفت العدة عنده، وخرجت، وبعد وفاء العدة تزوجت، وطلقت في يومها، ولم يعلم مطلقها إلا ثاني يوم: فهل يجوز له أن يتفق معها إذا أوفت عدتها أن يراجعها؟
فأجاب:
ليس له في زمن العدة من غيره أن يخطبها، ولا ينفق عليها ليتزوجها، وإذا كان الطلاق رجعيا لم يجز له التعريض أيضا، وإن كان بائنا ففي جواز التعريض نزاع. هذا إذا كانت قد تزوجت بنكاح رغبة. وأما إن كانت قد تزوجت بنكاح محلل فقد لعن رسول الله ﷺ المحلل والمحلل له.
ج/ 32 ص -9-وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل خطب ابنة رجل من العدول، واتفق معه على المهر؛ منه عاجل ومنه آجل. وأوصل إلى والدها المعجل من مدة أربع سنين، وهو يواصلهم بالنفقة، ولم يكن بينهم مكاتبة. ثم بعد هذا جاء رجل فخطبها، وزاد عليه في المهر، ومنع الزوج الأول؟
فأجاب:
لا يحل للرجل أن يخطب على خطبة أخيه إذا أجيب إلى النكاح وركنوا إليه باتفاق الأئمة، كما ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: "لا يحل للرجل أن يخطب على خطبة أخيه". وتجب عقوبة من فعل ذلك وأعان عليه؛ عقوبة تمنعهم وأمثالهم عن ذلك. وهل يكون نكاح الثاني صحيحاً، أو فاسداً؟ فيه قولان للعلماء؛ في مذهب مالك، وأحمد، وغيرهما.
وسئل رحمه الله عن رجل يدخل على امرأة أخيه، وبنات عمه، وبنات خاله: هل يحل له ذلك؟ أم لا؟
فأجاب:
لا يجوز له أن يخلو بها، ولكن إذا دخل مع غيره من غير خلوة ولا ريبة جاز له ذلك. والله أعلم.
ج/ 32 ص -10-وسئل رحمه الله تعالى عن رجل أملك على بنت، وله مدة سنين ينفق عليها، ودفع لها، وعزم على الدخول: فوجد والدها قد زوجها غيره؟
فأجاب:
قد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: "المسلم أخو المسلم، لا يحل للمسلم أن يخطب على خطبة أخيه؛ ولا يستام على سوم أخيه؛ ولا يبيع على بيع أخيه". فالرجل إذا خطب امرأة، وركن إليه من إليه نكاحها كالأب المجبر فإنه لا يحل لغيره أن يخطبها. فكيف إذا كانوا قد ركنوا إليه، وأشهدوا بالإملاك المتقدم للعقد، وقبضوا منه الهدايا، وطالت المدة؟ ! فإن هؤلاء فعلوا محرما يستحقون العقوبة عليه بلا ريب، ولكن العقد الثاني هل يقع صحيحاً أو باطلا؟ فيه قولان للعلماء:
أحدهما وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد : أن عقد الثاني باطل؛ فتنزع منه وترد إلى الأول.
والثاني: أن النكاح صحيح؛ وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، فيعاقب من فعل المحرم، ويرد إلى الأول جميع ما أخذ منه. والقول الأول أشبه بما في الكتاب والسنة.
ج/ 32 ص -11-وسئل رحمه الله تعالى عن رجل طلق زوجته ثلاثا، ولهما ولدان، وهي مقيمة عند الزوج في بيته مدة سنين، ويبصرها وتبصره: فهل يحل لها الأكل الذي تأكل من عنده؟ أم لا؟ وهل له عليها حكم؟ أم لا؟
فأجاب:
المطلقة ثلاثًا هي أجنبية من الرجل، بمنزلة سائر الأجنبيات، فليس للرجل أن يخلو بها، كما ليس له أن يخلو بالأجنبية. وليس له أن ينظر إليها إلى مالا ينظر إليه من الأجنبية؛ وليس له عليها حكم أصلا.
ولا يجوز له أن يواطئها على أن تزوج غيره ثم تطلقه وترجع إليه، ولا يجوز أن يعطيها ما تنفقه في ذلك؛ فإنها لو تزوجت رجلا غيره بالنكاح المعروف الذي جرت به عادة المسلمين ثم مات زوجها أو طلقها ثلاثا لم يجز لهذا الأول أن يخطبها في العدة صريحاً باتفاق المسلمين، كما قال تعالى: "وَلاَ جُنَاحَ عليكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا" [البقرة: 235]، ونهاه أن يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله، أي حتى تنقضي العدة. فإذا كان قد نهاه عن هذه المواعدة والعزم في العدة فكيف إذا كانت في عصمة زوجها؟ ! فكيف إذا كان الرجل لم يتزوجها بعد؛ تواعد
ج/ 32 ص -12-على أن تتزوجه، ثم تطلقه، وتزوج بها المواعد. فهذا حرام باتفاق المسلمين، سواء قيل: إنه يصح نكاح المحلل، أو قيل: لا. فلم يتنازعوا في أن التصريح بخطبة معتدة من غيره أو متزوجة بغيره أو بخطبة مطلقة ثلاثا أنه لا يجوز. ومن فعل ذلك يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة باتفاق الأئمة.
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل يتكلم شبه كلام النساء، وهو [طنجير] هل يحل دخوله على النساء؟ وما الحكم فيه؟
فأجاب:
بل مثل هذا يجب نفيه، وإخراجه؛ فلا يسكن بين الرجال، ولا بين النساء؛ فإن النبي ﷺ نفي المخنث، وأمر بنفي المخنثين، وقال: "أخرجوهم من بيوتكم"، ومع هذا فلم يكن طنجيراً، فكيف الطنجير؟ ! وقد نص على ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
فصل
في الأسباب التي بين الله وعباده، وبين العباد: الخلقية والكسبية، الشرعية والشرطية، قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عليكُمْ رَقِيبًا" [النساء: 1]، افتتح السورة بذكر خلق الجنس الإنساني من نفس واحدة؛ وأن زوجها مخلوق منها، وأنه بث منهما الرجال والنساء؛ أكمل الأسباب وأجلها، ثم
ج/ 32 ص -13-ذكر ما بين الآدميين من الأسباب المخلوقة الشرعية: كالولادة، ومن الكسبية الشرطية: كالنكاح. ثم قال: "وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ". قال طائفة من المفسرين من السلف: "تَسَاءلُونَ بِهِ": تتعاهدون به، وتتعاقدون. وهو كما قالوا؛ لأن كل واحد من المتعاقدين عقد البيع أو النكاح أو الهدنة أو غير ذلك يسأل الآخر مطلوبه؛ هذا يطلب تسليم المبيع، وهذا تسليم الثمن. وكل منهما قد أوجب على نفسه مطلوب الآخر، فكل منهما طالب من الآخر موجب لمطلوب الآخر.
ثم قال: "وَالأَرْحَامَ". و[العهود] و[الأرحام]: هما جماع الأسباب التي بين بني آدم؛ فإن الأسباب التي بينهم: إما أن تكون بفعل الله أو بفعلهم. فالأول [الأرحام]، والثاني [العهود]؛ ولهذا جمع الله بينهما في مواضع، في مثل قوله: "لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً" [التوبة: 10]، فالإل: القرابة، والرحم، والذمة: العهد، والميثاق. وقال تعالى في أول البقرة: "الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ" [البقرة: 27]، وقال: "الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ" إلى قوله: "وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ"[الرعد: 20 25]. واعلم أن حق الله داخل في الحقين، ومقدم عليهما؛ ولهذا قدمه في قوله: "اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم" [النساء: 1]، فإن الله خلق العبد وخلق أبويه، وخلقه من أبويه. فالسبب الذي بينه وبين الله هو الخلقي التام؛ بخلاف سبب الأبوين؛ فإن أصل مادته منهما، وله مادة من غيرهما؛ ثم إنهما لم يصوراه في الأرحام. والعبد ليس له مادة إلا
ج/ 32 ص -14-من أبويه، والله هو خالقه وبارئه ومصوره ورازقه وناصره وهاديه، وإنما حق الأبوين فيه بعض المناسبة لذلك؛ فلذلك قرن حق الأبوين بحقه في قوله: "أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ" [لقمان: 14]، وفي قوله: "وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شيئا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" [النساء: 36]، وفي قوله: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" [الإسراء: 23]
وجعل النبي ﷺ التبرؤ من الأبوين كفراً؛ لمناسبته للتبرؤ من الرب. وفي الحديث الصحيح: "من ادعي إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر" أخرجاه في الصحيحين، وقوله: "كفر بالله من تبرأ من نسب وإن دق"، وقوله: "لا ترغبوا عن آبائكم، فإن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم. فحق النسب والقرابة والرحم تقدمه حق الربوبية، وحق القريب المجيب الرحمن؛ فإن غاية تلك أن تتصل بهذا، كما قال الله: "أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته"، وقال: "الرحم شُجْنَة من الرحمن"، وقال: "لما خلق الله الرحم تعلقت بحقو الرحمن، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة". وقد قيل في قوله: "لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ" [التوبة: 10]، إن [الإل]: الرب، كقول الصديق لما سمع قرآن مسيلمة : إن هذا كلام لم يخرج من إلّ. وأما دخول حق الرب في العهود والعقود. فكدخول العبد في الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله؛ فإن هذا عهد الإسلام، وهو أشرف العهود وأوكدها وأعمها وأكملها.