ج/ 30 ص -389-باب الوديعة
سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن دلال أعطاه إنسان قماشا ليختمه ويبيعه، فما وجد الختام، فأودعه عند رجل خياط أمين عادتهم يودعون عنده، فحضر صاحب القماش هو ودلال آخر، وأخذوا القماش من عنده، ولم يكن الذي أودعه حاضرا، فادعي صاحب القماش أنه عدم له منهم ثوب، وأنكر ذلك الدلال فهل يلزم الدلال الذي كانت عنده الوديعة شيء؟ أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا ادعوا عدم قبض الوديعة، وأنكر ذلك الدلال، فالقول قوله مع يمينه، ما لم تقم حجة شرعية على تصديق دعواهم. وإما إذا عدم منها شيء، فإن كان الدلال فرط بحيث فعل ما لم يؤذن فيه لفظًا ولا عرفا ضمن، فإذا كان من عادتهم الإيداع عند هذا الأمين، وأصحاب القماش يعلمون ذلك، ويقرونه عليه فلا ضمان على الدلالين. والله أعلم.
ج/ 30 ص -390-وسئل رضي الله عنه عن رجل مات وترك بنتين وزوجة، وإحدي البنتين غائبة. فهل يجوز لمن له النظر على هذه التركة أن يودع مال الغائبة، بحيث لا يعلم هل يحفظه المودع عنده أم يتصرف فيه لنفسه؟ وإذا حدث مظلمة على جملة التركة، هل يختص باستدفاعها عن التركة مال الغائبة، أو يعم جميع المال المتروك؟ وإذا استودع عنده قد يحفظه وقد يتصرف لمصلحة نفسه، فهل للمستحق له مطالبة من وضع يده عليه، أو من أودعه حيث لا يؤمن عليه، وقد مات الناظر والمودع، وطلب من تركة المودع فلم يوجد ولم يعلم هل غصب أم لا؟ وهل الإبراء لذمة المستودع عنده أن يترك مع احتمال أن يكون قد وضع عين يده عليه، أو يدفع عنه وليه من ورثته ذلك القدر عنه من صدقاته التي هي غير معينة بجهة مخصوصة؟
فأجاب:
الحمد لله، هذا المال صار تحت يده أمانة، فعليه أن يحفظه حفظ الأمانات، ولا يودعه إلا لحاجة. فإن أودعه عند من يغلب على الظن حفظه له؛ كالحاكم العادل إن وجد، أو غيره بحيث لا يكون في إيداعه تفريطًا، فلا ضمان عليه. وإن فرط في إيداعه فأودعه لخائن
ج/ 30 ص -391-أو عاجز مع إمكان ألا يفعل ذلك فهو مفرط ضامن.
وأما المودع إذا لم يعلم أنه وديعة عنده، ففي تضمينه قولان لأهل العلم في مذهب أحمد، وغيره.
أظهرهما أنه لا ضمان عليه، وما حصل بسبب المال المشترك من المغارم التي تؤخذ ظلما، أو غير ظلم، فهي على المال جميعه لا يختص بها بعضه، وإذا غصب الوديعة غاصب فلناظر المودع أن يطالبه. وللمودع أيضا أن يطالبه في غيبة المودع.
وأما المستحق المالك فله أن يطالب الغاصب، وله أن يطالب الناظر أو المودع، إن حصل منه تفريط. فأما بدون التفريط والعدوان فليس له المطالبة.
وإذا مات هذا المودع ولم يعلم حال الوديعة: هل أخذت منه، أو أخذها، أو تلفت، فإنها تكون دينا على تركته عند جماهير العلماء؛ كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وهو ظاهر نص الشافعي، وأحد القولين في مذهبه.
وإذا كانت دينًا عليه وجب وفاؤها من ماله، فإن كان له مال غير الوقف وفيت منه، وإن لم يكن له مال غير الوقف ففي الوقف على المدين الذي أحاط الدين بماله نزاع مشهور بين أهل العلم.
ج/ 30 ص -392-وكذلك الوقف الذي لم يخرج عن يده حتي مات، فإنه يبطل في أحد قولي العلماء. كمالك، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، وأحمد. وأما إن كان الوقف قد صح ولزم، وله مستحقون، ولم يكن صاحب الدين ممن تناوله الوقف، لم يكن وفاء الدين من ذلك،لكن إن كان ممن تناوله الوقف مثل أن يكون على الفقراء، وصاحب الدين فقير، فلا ريب أن الصرف إلى هذا الفقير الذي له دين على الواقف أولي من الصرف إلى غيره. والله أعلم.
وسئل رحمه الله عن رجل استودع مالا على أنه يوصله إن مات المودع لأولاده، فمات وترك ورثة غير أولاده وهم زوجتان، ومن إحداهما ابنان وبنتان من غيرها، وادعي ذو السلطان أن أم الابنين جارية له تحت رقه، وأخذها وأولادها، ثم مات أحد الولدين، ثم ماتت أمه. فهل يكون الأولاد مختصين بجميع المال؟ أو هو لجميع الورثة؟ وإذا لم تصح دعوي من ادعي أن أم الولدين مملوكة، هل له أن يوصل اليه جميع ما يخص الولدين وأمهم؟ أو له أن يبقي نصيبهم للولد رجاء في رفع الملك عنه، أو يفديه من الرق. وهل له أن يتجر في المال إن أبقاه لئلا تفنيه الزكاة؟
ج/ 30 ص -393-فأجاب:
إذا كان هذا المال للمودع وجب أن يوصل إلى كل وارث حقه منه،سواء خص به المالك أولاده، أو لم يخصهم. وليس لهذا المستودع أن يخص بعض الورثة إلا بإجازة الباقين؛ فإن النبي ﷺ قال: "إن الله قد أعطي كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث".
ولو صرح الوصي بتخصيص بعض الورثة بالمال لم يجز ذلك بدون إجازة الباقين باتفاق الأئمة.
وأما المدعي المستولدة فلا يحكم له بمجرد دعواه باتفاق المسلمين، لا سيما إن اعترف أنه أعطاه الجارية؛ فإن هذا إقرار منه بالتمليك، بل الأمة أم الولد، وأولاده منها أحرار. ولو فرض أنها أمة المدعي في نفس الأمر، وكان الواطئ يعتقد أنها أمته، فأولاده أحرار باتفاق الأئمة. وهذا المودع يحفظ نصيب هؤلاء الصغار. فإن كان في البلد حاكم عالم عادل قادر يحفظ هذا المال لهم سلمه اليه، وإن لم يجد من يحفظ المال لهم أبقاه بيده، وليتجر فيه بالمعروف، والربح لليتيم، وأجره على الله. وأم الولد لا ترث من سيدها شيئًا، لكن إذا مات أحد بنيها. والله أعلم.
ج/ 30 ص -394-وسئل عن رجل تحت يده بعير وديعة، فسرق من جملة إبله، ثم لحق السارق وأخذ منه الإبل، وامتنع من دفع ذلك البعير المودع، حتي يحلف أنه كان البعير على ملكه. فحلف باللّه العظيم أنه على ملكه، وقصد بذلك ملك الحفظ؟
فأجاب:
أما إذا ملك قبضه، والاستيلاء عليه، فلا حنث عليه في ذلك، ولا إثم، وإن قصد أنه ملكه الملك المعروف، فهذا كذب، لكنه إذا اعتقد جواز هذا لدفع الظلم، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب، وليستغفر اللّه من ذلك، ويتوب اليه، ولا كفارة عليه. واللّه أعلم.
وسئل عن الاقتراض من الوديعة بلا إذنه.
فأجاب:
وأما الاقتراض من مال المودع، فإن علم المودع علما اطمأن اليه قلبه أن صاحب المال راض بذلك فلا بأس بذلك.وهذا
ج/ 30 ص -395-إنما يعرف من رجل اختبرته خبرة تامة، وعلمت منزلتك عنده، كما نقل مثل ذلك عن غير واحد، وكما كان النبي ﷺ يفعل في بيوت بعض أصحابه، وكما بايع عن عثمان رضي اللّه عنه وهو غائب، ومتي وقع في ذلك شك لم يجز الاقتراض.
وَقَالَ:
إذا اشتري إنسان سلعة؛ جملا، أو غيره، وهو مودع، فأودعه المشتري عند المودع، ثم باعه الآخر، كان البيع الثاني باطلا. وإذا سلمه المودع إلى المشتري الثاني كان لمالكه وهو المشتري الأول أن يطالب به المودع الذي سلمه، ويطالب به المشتري الذي تسلمه.
وسئل رَحمه اللّه عن قوم لهم عند راهب في دير وديعة، وادعي عدمها مع ما كان في الدير، ثم ظهر الذي ادعي أن ما عدم من الدير قد باعه. فهل يلزم بالمال؟ أم لا؟ وهل القول قوله؟ ودير هذا الراهب على ساحل البحر المالح، وله أخ حرامي في البحر يأوي اليه، والحرامية أيضا.
ج/ 30 ص -396-فما يجب على ولاة الأمور فيه؟ وهل يجوز قتله وخراب ديره؟ وكان أهل المال طلبوا مالهم منه فلم يسلمه لهم، ولهم شهود نصاري يشهدون بذلك؟
فأجاب:
الحمد للّه، إذا ظهر أن المال الذي للمودع لم يذهب، فادعي أن الوديعة ذهبت دون ماله، فهنا يكون ضامنا للوديعة في أحد قولي العلماء؛ كقول مالك، وأحمد، في إحدى الروايتين؛ فإن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ضمن أنس بن مالك وديعة ادعي أنها ذهبت دون ماله.
وأما إذا ادعي أنه ذهب جميع المال ثم ظهر كذبه، فهنا وجوب الضمان عليه أوكد. فإذا ادعي المودع صاحب الوديعة أنه طلب الوديعة منه فلم يسلمها اليه، أو أنه خان في الوديعة ولم تتلف، كان قبول قوله مع يمينه أقوي وأوكد، بل يستحق في مثل هذه الصورة التعزير البليغ الذي يردعه وأمثاله عن الكذب. وهذا مع كونه من أهل الذمة.
وإذا شهد عليه من أهل دينه المقبولين عندهم قبلت شهادتهم في أحد قولي العلماء، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين. وقبول شهادتهم عليه هنا أوكد. ومن لم يقبل شهادتهم فإنه يحكم بيمين المدعي عليه في مثل هذه الصورة؛ لظهور رجحان قول المدعي
ج/ 30 ص -397-في أحد قوليه أيضا.
وأما من كان من أهل الذمة يؤوي أهل الحرب، أو يعاونهم على المسلمين، فإنه قد انتقض عهده، وحل دمه وماله، والواجب على ولاة الأمور ألا يتركوا مثل هؤلاء الذين لا يؤمنون على المسلمين في موضع يخاف ضررهم على المسلمين، أو ينقل اليهم أولاد المسلمين؛ فإنه قد انتقض عهده، وحل دمه وماله.
وسئل عن وديعة في كيس مختوم، ولم يعلم ما فيه، ولا عاينه. وذكر المودع أنها ألف وخمسمائة وثلاث تفاصيل، وعدمت الوديعة في جملة قماش. ولما عدمت قال صاحب الوديعة: إن ما فيها شيء يساوي سبعة آلاف. فهل يلزم المودع غرامة ما ذكره في الأول؟ أم يلزمه ما ذكر في الآخر؟
فأجاب:
إن تلفت بغير تفريط منه ولا عدوان لم يلزمه ضمان. وإذا ذهبت مع ماله كان أبلغ، وإذا ادعي ذلك بسبب ظاهر معلوم، كلف البينة وقبل قوله.
ج/ 30 ص -398-مَا تَقُول السَّادة الفقهَاء في إنسان يضع في بيت إنسان وديعة بيده من مدة تزيد على عشر سنين، تزيد وتنقص في صندوق غير مقفول بقفل، وهو يعلم ذلك، فمرض المودع مرضا بلغ فيه الموت، وصاحبها حاضر عنده يبيت ويصبح، فسأله مرارًا كثيرة أن يأخذ وديعته، أو يقفل عليها بقفل، فلم يفعل، فعدمت الوديعة من حرزه بغير تفريط وحدها، ولم يعلم هل عدمت في المرض، أو في الصحة. فهل يجب على المودع والحالة هذه ضمانها؟ أم لا؟ وهل يجوز لصاحبها إلزام المودع بها وعسفه بالولاية؟ أم محرم عليه طلب ذلك بالولاية؟ وهل إذا أصر على ذلك يجب على ولي الأمر وفقه اللّه ردعه وزجره عن ذلك؟ أم لا؟ أفتونا مأجورين، إن شاء اللّه تعالى.
فأجاب:
الحمد للّه، إذا كان الأمر على ما وصف، وعدمت بغير تفريط ولا عدوان من المودع، وعدمت مع ماله، لم يضمنها باتفاق الأئمة. وكذلك إذا عدمت بتفريط صاحبها كما ذكر، فإنه لا ضمان على المودع سواء ضاعت وحدها، أو ضاعت مع ماله.