ج/ 30 ص -381-باب الشفعة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللّه :
فصل
اتفق الأئمة على ثبوت الشفعة في العقار الذي يقبل القسمة قسمة الإجبار كالقرية، والبستان، ونحو ذلك. وتنازعوا فيما لا يقبل قسمة الإجبار؛ وإنما يقسم بضرر أو رد عوض فيحتاج إلى التراضي. هل تثبت فيه الشفعة؟ على قولين:
أحدهما: تثبت، وهو مذهب أبي حنيفة، واختاره بعض أصحاب الشافعي؛ كابن سريج. وطائفة من أصحاب أحمد؛ كأبي الوفاء بن عقيل. وهي رواية المهذب عن مالك. وهذا القول هو الصواب، كما سنبينه إن شاء اللّه.
والثاني: لا تثبت فيه الشفعة، وهو قول الشافعي نفسه، واختيار
ج/ 30 ص -382-كثير من أصحاب أحمد. وهذا القول له حجتان:
أحدهما: قولهم: إن الشفعة إنما شرعت لرفع ضرر مؤنة القسمة، وما لا تجب قسمته ليس فيه هذا الضرر.
والثاني: أنه لو وجبت فيه الشفعة لتضرر الشريك؛ فإنه إن باعه لم يرغب الناس في الشراء؛ لخوفهم من انتزاعه بالشفعة. وإن طلب القسمة لم تجب إجابته، فلا يمكنه البيع ولا القسمة، فلا يقدر أن يتخلص من ضرر شريكه. فلو أثبتنا فيه الشفعة لرفع ضرر الشريك الذي لم يبع لزم إضرار الشريك البائع. والضرر لا يزال بالضرر.
والقول الأول أصح؛ فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "من كان له شريك في أرض، أو ربعة، أو حائط. فلا يحل له أن يبيع حتي يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك. فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به". ولم يشترط النبي ﷺ في الأرض، والربعة، والحائط، أن يكون مما يقبل القسمة. فلا يجوز تقييد كلام الرسول بغير دلالة من كلامه، لا سيما وقد ذكر هذا في باب تأسيس إثبات الشفعة.
وليس عنه لفظ صحيح صريح في الشفعة أثبت من هذا. ففي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قضي بالشفعة في كل ما لم يقسم،
ج/ 30 ص -383-فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة. فلم يمنع الشفعة إلا مع إقامة الحدود، وصرف الطرق، وهذا الحديث في الصحيح عن جابر. وفي السنن عنه عن النبي ﷺ أنه قال: "الجار أحق بشفعة جاره ينتظره بها، وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدا"، فإذا قضي بها للاشتراك في الطريق؛ فلأن يقضي بها للاشتراك في رقبة الملك أولى وأحرى.
وقد تنازع الناس في شفعة الجار على ثلاثة أقوال. أعدلها هذا القول: أنه إن كان شريكا في حقوق الملك ثبتت له الشفعة وإلا فلا.
وأيضا، فمن المعلوم أنه إذا أثبت النبي ﷺ الشفعة فيما يقبل القسمة، فما لا يقبل القسمة أولي بثبوت الشفعة فيه؛ فإن الضرر فيما يقبل القسمة يمكن رفعه بالمقاسمة، وما لا يمكن فيه القسمة يكون ضرر المشاركة فيه أشد.
وظن من ظن أنها تثبت لرفع المقاسمة، لا لضرر المشاركة، كلام ظاهر البطلان؛ فإنه قد ثبت بالنص والإجماع أنه إذا طلب أحد الشريكين القسمة فيما يقبلها، وجبت إجابته إلى المقاسمة، ولو كان ضرر المشاركة أقوي لم يرفع أدني الضررين بالتزام أعلاهما، ولم يوجب الله ورسوله الدخول في الشيء الكثير لرفع الشيء القليل؛ فإن شريعة
ج/ 30 ص -384-الله منزهة عن مثل هذا.
وأما قولهم: هذا يستلزم ضرر الشريك البائع. فجوابه: أنه إذا طلب المقاسمة ولم يمكن قسمة العين؛ فإن العين تباع، ويجبر الممتنع على البيع، ويقسم الثمن بينهما. وهذا مذهب جمهور العلماء؛ كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل.
وذكر بعض المالكية أن هذا إجماع. وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "من أعتق شركا له في غلام، وكان له من المال ما يبلغ ثمن الغلام، قوم عليه قيمة عدل، لا وَكْس، ولا شَطَط، فأعطي شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق"، فدل هذا الحديث على أن حق الشريك في نصف قيمة الجميع، لا في قيمة نصف الجميع؛ فإنه إذا بيع العبد كله ساوي ألف درهم مثلا، وإذا بيع نصفه ساوي أقل من خمسمائة درهم، وحق الشريك نصف الألف.
فهكذا في العقار الذي لا يقسم يستحق نصف قيمته جميعه، فيباع جميع العقار، ويعطي حصته من الثمن إذا طلب ذلك، وبهذا يرتفع عنه الضرر، وبهذا يتبين كمال محاسن الشريعة وما فيها من مصالح العباد في المعاش، والمعاد. والحمد لله وحده.
ج/ 30 ص -385-وسئل عن رجل له ملك، وله شركة فيه فاحتاج إلى بيعه، فأعطاه إنسان فيه شيئا معلوما، فباعه. فقال: زن لي ما قلت، فنقصه عن المثل. فهل يجب عليه أداؤه؟ أم لا؟ وهل يصح للشريك شفعة؟ أم لا؟
فأجاب:
إذا باعه بثمن معلوم، كان على المشتري أداء ذلك الثمن. وإن كان البيع فاسدًا، وقد فات، كان عليه قيمة مثله. وإذا كان الشقص مشفوعا فللشريك فيه الشفعة. والله أعلم.
وسئل رحمه الله عن رجل اشتري شقصًا مشفوعًا، وكلما طلبه الشفيع أظهر صورة أن البيع كان بدون الرؤية المعتبرة، ففسخه الحاكم، وأقر المشتري ببراءة البائع مما كان قبضه، ووقف الشقص على المشتري، كل ذلك دفعًا للشفعة. فهل يكون ذلك مسقطًا للشفعة؟ وهل تكون هذه
ج/ 30 ص -386-التصرفات صحيحة؟
فأجاب:
الاحتيال على إسقاط الشفعة بعد وجوبها لا يجوز بالاتفاق، وإنما اختلف الناس في الاحتيال عليها قبل وجوبها، وبعد انعقاد السبب وهو ما إذا أراد المالك بيع الشقص المشفوع، مع أن الصواب أنه لا يجوز الاحتيال على إسقاط حق مسلم، وما وجد من التصرفات لأجل الاحتيال المحرم فهو باطل. وما ذكر من إظهار صورة انفساخ المبيع، وعود الشقص إلى البائع، ثم إظهار براءة البائع ووقفه، فكل ذلك باطل، والشقص باق على ملك المشتري، وحق الشفيع ثابت فيه، إلا أن يترك تركا يسقط الشفعة. والله أعلم.
وسئل عن شقص مشفوع ثبت وقفه، وثبت أن حاكما حكم بالشفعة فيه للشريك، ولم يثبت الشريك أخذها؟
فأجاب:
لا يبطل الوقف إلا إذا أثبت أن الشريك يملك الشقص المشفوع الموقوف، على ما في تملكه من اختلاف العلماء.
وأما مجرد حكم الحاكم باستحقاق الشفعة فلا ينقض الوقف المتقدم
ج/ 30 ص -387-قبل ذلك، كما لا يزيل ملك المشتري، بل يبقي الأمر موقوفًا، فإن أخذ الشريك الشقص بالشفعة بطل التصرف الموجود فيه قبل ذلك عند من يقول به، وإلا فلا.
وسئل رحمه الله عن رجل اشتري نصف حوش، والنصف الآخر اشتراه رجل آخر، وأوقف حصته قبل طلب الشريك الأول، وأن الشريك الأول قال: أنا آخذه بالشفعة. فهل له ذلك؟
فأجاب:
إذا كان الأمر كذلك فلا شفعة له؛ فإن المشتري الثاني وقفه فلا شفعة فيه، وشفعة الأول بطلت؛ لكونه أخر الطلب بعد علمه حتي خرجت عن ملك المشتري بوقف أو غيره، فلا شفعة.
وإن كان قد أخرجه من ملكه بالبيع قبل علمه بالبيع فله الشفعة. وأما الوقف والهبة ففيه نزاع. والله أعلم.
ج/ 30 ص -388-وسئل رحمه الله عن رجل له حصة مع شاهد، ثم باع الشريك حصته لشاهد آخر بزيادة كثيرة على ثمن المثل في الظاهر، وتواطآ بينهما في الباطن على ثمن المثل، دفعًا للشفعة. فهل تسقط الشفعة؟ أم لا؟
فأجاب:
لا يحل الكذب والاحتيال على إسقاط حق المسلم، ويجب على المشتري أن يسلم الشقص المشفوع بالثمن الذي تراضيا عليه في الباطن، إذا طلب الشريك ذلك، وأن منعه ذلك قدح في دينه. وعلى الحاكم أن يحكم بالشفعة إذا تبين حقيقة الأمر.