ج/ 4 ص -194-قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهته قاعدة عظيمة
الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهيته قاعدة عظيمة عامة، وتمامها بالجواب عما يعارضها.
فإن من الناس من يقول: البدع تنقسم إلى قسمين؛ لقول عمر: نعمت البدعة، وبأشياء أحدثت بعده ﷺ، وليست مكروهة؛ للأدلة من الإجماع والقياس.
وربما ضم إلى ذلك من لم يحكم أصول العلم ما عليه كثير من الناس من العادة، بمنزلة من إذا قيل لهم: "تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا" [المائدة:104]
وما أكثر من يحتج به من المنتسبين إلى علم أو عبادة، بحجج ليست من أصول العلم، وقد يبدي ذوو العلم له مستندًا من الأدلة الشرعية، والله يعلم أن قوله لها وعمله بها ليس مستندًا إلى ذلك؛ وإنما يذكرها دفعًا لمن يناظره.
والمجادلة المحمودة إنما هي إبداء المدارك التي هي مستند الأقوال والأعمال،
ج/ 4 ص -195-وأما إظهار غير ذلك فنوع من النفاق في العلم والعمل، وهذه قاعدة دلت عليها السنة والإجماع مع الكتاب، قال الله تعالى: "أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ" [الشورى:21].
فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو فعله، من غير أن يشرعه الله، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتبعه في ذلك، فقد اتخذ شريكًا لله شرع في الدين ما لم يأذن به الله، وقد يغفر له لأجل تأويل إذا كان مجتهدًا، الاجتهاد الذي يعفى معه عن المخطئ، لكن لا يجوز اتباعه في ذلك كما قال تعالى: "اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ" [التوبة:31].
فمن أطاع أحدًا في دين لم يأذن الله به من تحليل، أو تحريم، أو استحباب، أو إيجاب فقد لحقه من هذا الذم نصيب، كما يلحق الآمر الناهي. ثم قد يكون كل منهما معفوًا عنه. فيتخلف الذم لفوات شرطه، أو وجود مانعه، وإن كان المقتضى له قائمًا، ويلحق الذم من تبين له الحق، فتركه أو قصر في طلبه فلم يتبين له، أو أعرض عن طلبه، لهوى أو كسل ونحو ذلك.
وأيضًا، فإن الله عاب على المشركينشيئين:
أحدهما: أنهم أشركوا به ما لم ينزل به سلطانًا.
الثاني: تحريمهم ما لم يحرمه الله، كما بينه ﷺ في حديث
ج/ 4 ص -196-عياض عن مسلم، وقال: "سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ" [الأنعام:148] فجمعوا بين الشرك والتحريم، والشرك يدخل فيه كل عبادة لم يأذن الله بها، فإن المشركين يزعمون أن عبادتهم إما واجبة، وإما مستحبة. ثم منهم من عبد غير الله؛ ليتقرب به إلى الله، ومنهم من ابتدع دينا عبد به الله، كما أحدثت النصارى من العبادات.
وأصل الضلال في أهل الأرض إنما نشأ من هذين، إما اتخاذ دين لم يشرعه الله، أو تحريم ما لم يحرمه.
ولهذا كان الأصل الذي بنى عليه أحمد وغيره مذاهبهم، أن الأعمال عبادات وعادات، فالأصل في العبادات لا يشرع منها إلا ما شرعه الله، والأصل في العادات لا يحظر منها إلا ما حظره الله، وهذه المواسم المحدثة إنما نهي عنها لما أحدث فيها من الدين الذي يتقرب به.