أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

المظالم المشتركة

    ج/ 30 ص -337-وقال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أبو العباس أحمد ابن تيمية الحراني قدس الله روحه ونور ضريحه بمنه وكرمه‏:‏
    الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليمًا‏.‏
    فصل
    في ‏[‏المظالم المشتركة‏]‏ التي تطلب من الشركاء، مثل المشتركين في قرية، أو مدينة، إذا طلب منهم شيء يؤخذ على أموالهم أو رؤوسهم‏:‏ مثل الكلف السلطانية التي توضع عليهم كلهم؛ إما على عدد رؤوسهم، أو عدد دوابهم، أو عدد أشجارهم، أو على قدر أموالهم، كما يؤخذ منهم أكثر من الزكوات الواجبة بالشرع، أو أكثر من الخراج الواجب بالشرع، أو تؤخذ منهم الكلف التي أحدثت في غير الأجناس الشرعية،

    ج/ 30 ص -338-كما يوضع على المتبايعين للطعام والثياب والدواب والفاكهة، وغير ذلك، يؤخذ منهم إذا باعوا‏.‏ ويؤخذ ذلك تارة من البائعين‏.‏ وتارة من المشترين، وإن كان قد قيل‏:‏ إن بعض ذلك وضع بتأويل وجوب الجهاد عليهم بأموالهم، واحتياج الجهاد إلى تلك الأموال، كما ذكره صاحب ‏[‏غياث الأمم‏]‏ وغيره، مع ما دخل في ذلك من الظلم الذي لا مساغ له عند العلماء‏.‏
    ومثل الجبايات التي يجبيها بعض الملوك من أهل بلده، كل مدة‏.‏ ويقول‏:‏ إنها مساعدة له على ما يريد، ومثل ما يطلبه الولاة أحيانًا من غير أن يكون راتبًا؛ إما لكونهم جيشًا قادمين يجمعون ما يجمعونه لجيشهم، وإما لكونهم يجمعون لبعض العوارض‏.‏ كقدوم السلطان، أو حدوث ولد له، ونحو ذلك، وإما أن ترمي عليهم سلع تباع منهم بأكثر من أثمانها، وتسمي ‏[‏الحطائط‏]‏ ‏.‏ ومثل القافلة الذين يسيرون حجاجًا، أو تجارًا، أو غير ذلك‏.‏ فيطلب منهم على عدد رؤوسهم أو دوابهم أو قدر أموالهم، أو يطلب مطلقًا منهم كلهم، سواء كان الطالب ذا السلطان في بعض المدائن والقري، كالذين يقعدون على الجسور وأبواب المدائن، فيأخذون ما يأخذونه‏.‏ أو كان الآخذون قطاع طريق؛ كالأعراب، والأكراد والترك الذين يأخذون مكوسًا من أبناء السبيل، ولا يمكنونهم من العبور حتي يعطوهم ما يطلبون‏.‏
    فهؤلاء المكرهون على أداء هذه الأموال عليهم لزوم العدل فيما

    ج/ 30 ص -339-يطلب منهم، وليس لبعضهم أن يظلم بعضًا فيما يطلب منهم، بل عليهم التزام العدل فيما يؤخذ منهم بغير حق، كما عليهم التزام العدل فيما يؤخذ منهم بحق، فإن هذه الكلف التي أخذت منهم بسبب نفوسهم، وأموالهم، هي بمنزلة غيرها بالنسبة اليهم‏.‏ وإنما يختلف حالها بالنسبة إلى الأخذ، فقد يكون أخذًا بحق، وقد يكون أخذًا بباطل‏.‏
    وأما المطالبون بها فهذه كلف تؤخذ منهم بسبب نفوسهم وأموالهم، فليس لبعضهم أن يظلم بعضًا في ذلك،بل العدل واجب لكل أحد على كل أحد في جميع الأحوال، والظلم لا يباح شيء منه بحال، حتي إن الله تعالى قد أوجب على المؤمنين أن يعدلوا على الكفار في قوله تعالى‏:‏ ‏
    "كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى‏"[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏ ‏.‏ والمؤمنون كانوا يعادون الكفار بأمر الله فقال تعالى‏:‏ لا يحملكم بغضكم للكفار على ألا تعدلوا عليهم، بل اعدلوا عليهم فإنه أقرب للتقوي‏.‏
    وحينئذ، فهؤلاء المشتركون ليس لبعضهم أن يفعل ما به ظلم غيره، بل إما أن يؤدي قسطه فيكون عادلًا، وإما أن يؤدي زائدًا على قسطه، فيعين شركاءه بما أخذ منهم فيكون محسنًا‏.‏ وليس له أن يمتنع عن أداء قسطه من ذلك المال امتناعًا يؤخذ به قسطه من سائر الشركاء، فيتضاعف الظلم عليهم؛فإن المال إذا كان يؤخذ لا محالة، وامتنع بجاه

    ج/ 30 ص -340-أو رشوة أو غيرهما، كان قد ظلم من يؤخذ منه القسط الذي يخصه، وليس هذا بمنزلة أن يدفع عن نفسه الظلم من غير ظلم لغيره؛ فإن هذا جائز؛ مثل أن يمتنع عن أداء ما يخصه فلا يؤخذ ذلك منه، ولا من غيره‏.‏
    وهذا كالوظائف السلطانية التي توضع على القري مثل أن يوضع عليهم عشرة آلاف درهم، فيطلب من له جاه بإمرة أو مشيخة أو رشوة أو غير ذلك ألا يؤخذ منه شيء، وهم لابد لهم من أخذ جميع المال، وإذا فعل ذلك أخذ ما يخصه من سائر الشركاء، فيمتنع من أداء ما ينوبه، ويؤخذ من سائر الشركاء، فإن هذا ظلم منه لشركائه؛ لأن هذا لم يدفع الظلم عن نفسه إلا بظلم شركائه، وهذا لا يجوز‏.‏ وليس له أن يقول‏:‏ أنا لم أظلمهم، بل ظلمهم من أخذ منهم الحصتين؛ لأنه يقال‏:‏
    أولًا‏:‏ هذا الطالب قد يكون مأمورًا ممن فوقه أن يأخذ ذلك المال، فلا يسقط عن بعضهم نصيبه إلا أخذه من نصيب ذلك الآخر، فيكون أمره بألا يأخذ أمرًا بالظلم‏.‏
    الثاني‏:‏ أنه لو فرض أنه الآمر الأعلى، فعليه أن يعدل بينهم فيما يطلبه منهم، وإن كان أصل الطلب ظلمًا فعليه أن يعدل في هذا الظلم، ولا يظلم فيه ظلمًا ثانيًا فيبقي ظلمًا مكررًا، فإن الواحد منهم إذا كان قسطه مائة فطولب بمائتين، كان قد ظلم ظلمًا مكررًا، بخلاف ما إذا

    ج/ 30 ص -341-أخذ من كل قسطه؛ ولأن النفوس ترضي بالعدل بينها في الحرمان، وفيما يؤخذ منها ظلمًا، ولا ترضي بأن يخص بعضها بالعطاء أو الإعفاء‏.‏
    ولهذا جاءت الشريعة بأن المريض له أن يوصي بثلث ماله لغير وارث، ولا يخص الوارث بزيادة على حقه من ذلك الثلث، وإن كان له أن يعطيه كله للأجنبي‏.‏ وكذلك في عطية الأولاد‏:‏ هو مأمور أن يسوي بينهم في العطاء، أو الحرمان، ولا يخص بعضهم بالإعطاء من غير سبب يوجب ذلك؛ لحديث النعمان بن بشير وغيره‏.‏
    الثالث‏:‏ أنه إذا طلب من القاهر ألا يأخذ منه، وهو يعلم أنه يضع قسطه على غيره فقد أمره بما يعلم أنه يظلم فيه غيره، وليس للإنسان أن يطلب من غيره ما يظلم فيه غيره، وإن كان هو لم يأمره بالظلم، كمن يولي شخصًا، ويأمره ألا يظلم، وهو يعلم أنه يظلم فليس له أن يوليه، وكذلك من وكل وكيلًا، وأمره ألا يظلم، وهو يعلم أنه يظلم، وكذلك من طلب من غيره أن يوفيه دينه من ماله الحلال، وهو يعلم أنه لا يوفيه إلا مما ظلمه من الناس‏.‏ وكذلك هذا طلب منه أن يعفيه من الظلم، وهو يعلم أنه لا يعفيه إلا بظلم غيره، فليس له أن يطلب منه ذلك‏.‏
    الرابع‏:‏ أن هذا يفضي إلى أن الضعفاء الذين لا ناصر لهم يؤخذ منهم جميع ذلك المال، والأقوياء لا يؤخذ منهم شيء من وظائف الأملاك، مع أن أملاكهم أكثر، وهذا يستلزم من الفساد والشر

    ج/ 30 ص -342-ما لا يعلمه إلا الله تعالى، كما هو الواقع‏.‏
    الخامس‏:‏ أن المسلمين إذا احتاجوا إلى مال يجمعونه لدفع عدوهم وجب على القادرين الاشتراك في ذلك، وإن كان الكفار يأخذونه بغير حق، فلأن يشتركوا فيما يأخذه الظلمة من المسلمين أولى وأحرى‏.‏
    فصل
    وعلى هذا، فإذا تغيب بعض الشركاء، أو امتنع من الأداء فلم يؤخذ منه وأخذ من غيره حصته، كان عليه أن يؤدي قدر نصيبه إلى من أدي عنه في أظهر قولي العلماء، كما يؤدي ما عليه من الحقوق الواجبة ويلزم بذلك ويعاقب على أدائه، كما يعاقب على أداء سائر الحقوق الواجبة عليه؛ كالعامل في الزكاة إذا طلب من أحد الشريكين أكثر من الواجب وأخذه بتأويل، فللمأخوذ منه أن يرجع إلى الآخر بقسطه‏.‏ وإن كان بغير تأويل فعلى قولين‏:‏
    أظهرهما أن له أن يرجع أيضًا؛ كناظر الوقف، وولي اليتيم، والمضارب، والشريك، والوكيل، وسائر من تصرف لغيره بولاية أو وكالة إذا طلب منه ما ينوب ذلك المال من الكلف، مثل ما إذا أخذت منه الكلف السلطانية عن الأملاك، أو أخذ من التجار في الطرق والقري ما ينوب الأموال التي معهم؛ فإن لهم أن يؤدوا ذلك من نفس المال، بل يجب عليهم إذا خافوا إن لم يؤدوه أن يؤخذ أكثر منه‏.‏ وإذا قدر

    ج/ 30 ص -343-أن المال صار غائبًا، فاقترضوا عليه وأدوا عنه أو أدوا من مال لهم عن مال الموكل، والمولي عليه، كان لهم الرجوع بقدر ذلك من ماله‏.‏ وعلى هذا عمل المسلمين في جميع الأعصار والأمصار‏.‏
    ومن لم يقل بذلك فإنه يلزم قوله من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد؛ فإن الكلف التي تؤخذ من الأموال على وجه الظلم كثيرة جدًا‏.‏ فلو كان ما يؤديه المؤتمن على مال غيره عنه من تلك الكلف التي تؤخذ منه قهرًا بغير حق تحسب عليه، إذا لم يؤدها من غير مال المؤتمن لزم من ذلك ذهاب كثير من أموال الأمناء، ولزم ألا يدخل الأمناء في مثل ذلك لئلا تذهب أموالهم‏.‏
    وحينئذ، يدخل في ذلك الخونة الفجار الذين لا يتقون الله، بل يأخذون من الأموال ما قدروا عليه، ويدعون نقص المقبوض المستخرج أو زيادة المصروف المؤدي، كما هو المعروف من حال كثير من المؤتمنين على الأموال السلطانية، لكن هؤلاء قد يدخل في بعض ما يفعلونه تأويل، بخلاف الوكيل والشريك والمضارب وولي اليتيم وناظر الوقف، ونحوهم‏.‏
    وإذا كان كذلك، فالمؤتمن على المال المشترك بينه وبين شريكه إذا كان يعتد له بما أخذ منه، من هذه الكلف، فما قبضه عمال الزكاة باسم الزكاة أولي أن يعتد له به، وإن قبضوا فوق الواجب بلا تأويل،لا سيما وهذا

    ج/ 30 ص -344-هو الواقع كثيرا أو غالبًا في هذه الأزمان،فإن عمال الزكاة يأخذون من زكوات الماشية أكثر من الواجب بكثير، وكذلك من زكوات التجارات، ويأخذون من كل من كان المال بيده، سواء كان مالكًا أو وكيلًا أو شريكًا أو مضاربًا، أو غيرهم‏.‏ فلو لم يعتد للأمناء بما أخذ منهم ظلمًا لزم من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد‏.‏
    وأيضًا، فذلك الإعطاء قد يكون واجبًا للمصلحة؛ فإنه لو لم يؤده لأخذ الظلمة أكثر منه، ومعلوم أن المؤتمن على مال غيره إذا لم يمكنه دفع الظلم الكثير إلا بأداء بعض المطلوب وجب ذلك عليه؛ فإن حفظ المال واجب‏.‏ فإذا لم يمكن إلا بذلك وجب، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب‏.‏
    وأيضًا، فالمنازع يسلم أنهم لو أكرهوا المؤتمن على أخذ غير المال لم يكن ضامنًا، وأن العامل الظالم إذا أخذ من المال المشترك أكثر من الواجب لم يكن ضامنًا، وإنما وقعت لهم الشبهة إذا أكره المؤدي على الأداء عنه، كيف كان، فأدي عنه مما اقترض عليه، أو من مال إنسان ليرجع عليه‏.‏ فيقال لهم‏:‏ أي فرق بين أن يكرهه على الأداء عنه من مال نفسه،أو من مال الغائب‏.‏ ومعلوم أن إلزامه بالأداء عن الغائب والممتنع أعظم ضررًا عليه من الأداء من عين مال الغائب والممتنع؛ فإن أداء ما يطلب من الغائب أهون عليه من أداء ذلك من مال نفسه، فإذا عذر فيما

    ج/ 30 ص -345-يؤديه من مال الغائب لكونه مكرهًا على الأداء، فلأن يعذر إذا أكره على الأداء عنه أولى وأحرى‏.‏
    فإن قال المنازع‏:‏ لأن المؤدي هناك عين مال المكره المؤدي فهو المظلوم‏.‏ فيقال لهم‏:‏ بل كلاهما مظلوم؛ هذا مظلوم بالأداء عن ذاك، وذاك مظلوم بطلب ماله‏.‏ فكيف يحمل كله على المؤدي، والمقصود بالقصد الأول هو طلب المال من المؤدي عنه‏؟‏ وإنما الأعمال بالنيات، والطالب الظالم إنما قصده أخذ مال ذلك لا مال هذا، وإنما طلب من هذا الأداء عن ذاك‏.‏
    وأيضًا، فهذا المكره على الأداء عن الغائب مظلوم محض، بسبب نفسه وماله، وذاك مظلوم بسبب ماله فكيف يجعل مال هذا وقاية لمال ذاك لظلم هذا الظالم الذي أكرهه، أو يكون صاحب المال القليل قد أخذ منه أضعاف ما يخصه، وصاحب المال الكثير لم يؤخذ منه شيء‏؟‏
    وغاية هذا أن يشبه بغصب المشاع؛ فإن الغاصب إذا قبض من العين المشتركة نصيب أحد الشريكين كان ذلك من مال ذلك الشريك في أظهر قولي العلماء، وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما؛ لأنه إنما قصد أخذ مال أحد الشريكين‏.‏

    ج/ 30 ص -346-ولو أقر أحد الابنين بأخ ثالث وكذبه أخوه، لزم المقر أن يدفع إلى المقر به ما فضل عن حقه، وهو السدس في مذهب مالك وأحمد بن حنبل‏.‏ وكذلك ظاهر مذهب الشافعي، وهو قول جمهور السلف‏.‏ جعلوا ما غصبه الأخ المنكر من مال المقر به خاصة؛ لأنه لم يقصد أن يأخذ شيئًا من حق المقر‏.‏
    ولكن أبو حنيفة قال في غصب المشاع‏:‏ إن ما قبضه الغاصب يكون من الشريكين جميعًا، باعتبار صورة القبض من غير اعتبار نية‏.‏ وكذلك قال في الأخ المنكر‏:‏ إن ما غصبه يكون منهما جميعًا فيدفع المقر إلى المقر به نصف ما في يده وهو الربع، ويكون النصف الذي غصبه المنكر منهما جميعًا‏.‏ وهذا قول في مذهب أحمد والشافعي‏.‏ وقول الجمهور هو الصواب لأجل النية‏.‏ وكذلك هنا إنما قبض الظالم عن ذلك المطلوب، لم يقصد أخذ مال الدافع‏.‏
    فإن قيل‏:‏ فلو غلط الظالم،مثل أن يقصد القطاع أخذ مال شخص فيأخذون غيره، ظنًا أنه الأول‏.‏ فهل يضمن الأول مال هذا الذي ظنوه الأول‏؟‏ قيل‏:‏ باب الغلط فيه تفصيل ليس هذا موضعه، ولكن الفرق بينهما معلوم، وليس هذا مثل هذا؛ فإن الظالم الغالط الذي أخذ مال هذا لم يأخذه عن غيره، ولكنه ظنه مال زيد فظهر أنه مال عمرو، فقد قصد أن يأخذ مال زيد،فأخذ مال عمرو،كمن طلب قتل معصوم

    ج/ 30 ص -347-فقتل معصومًا آخر ظنًا منه أنه الأول‏.‏
    وهذا بخلاف من قصد مال زيد بعينه، وأن يأخذ من الشركاء ما يقسم بينهم بالعدل، وأخذ من بعضهم عن بعض؛ فإن هذا لم يغلط، بل فعل ما أراده قصد أخذ مال شخص، وطلب المال من المستولي على ماله من شريك أو وكيل، ونحو ذلك، ليؤديه عنه‏.‏ أو طلبوا من أحد الشركاء مالًا عن الأمور المشتركة تؤخذ من الشركاء كلهم، لم يغلطوا في ظنهم‏.‏ فإذا كانوا إنما قصدوا الأخذ من واحد، بل قصدوا العدل بينه وبين شركائه، ولكن إنما قدروا على الأخذ من شريكه، فكيف يظلم هذا الشريك مرتين‏؟‏
    ونظير هذا أن يحتاج ولي بيت المال إلى إعطاء ظالم لدفع شره عن المسلمين؛ كإعطاء المؤلفة قلوبهم لدفع شرهم، أو إعطاء الكفار إذا احتاج والعياذ بالله إلى ذلك ولم يكن في بيت المال شيء، واستسلف من الناس أموالًا أداها، فهل يقول عاقل‏:‏ إن تلك الأموال تذهب من ضمان من أخذت منه، ولا يرجع على بيت المال بشيء؛ لأن المقبوض كان عين أموالهم، لا عين أموال بيت المال‏؟‏‏!‏ وقد كان النبي ﷺ وأصحابه يعطون ما يعطونه؛ تارة من عين المال‏.‏ وتارة مما يستسلفونه‏.‏ فكان النبي ﷺ يستسلف على الصدقة، وعلى الفيء، فيصرفه في المصارف الشرعية؛ من إعطاء المؤلفة

    ج/ 30 ص -348-قلوبهم، وغيرهم‏.‏ وكان في الآخذين من لا يحل له الأخذ، بل كان النبي ﷺ يقول‏:‏ ‏"‏إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارًا‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، فلم تعطيهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏يأبون إلا أن يسألوني، ويأبي الله لي البخل‏"‏‏.‏
    ولا يقول عاقل‏:‏ إن ذلك المال يذهب من عين من اقترض منه، بل هو بمنزلة ما إذا كان عين مال الصدقة والفيء؛ لأن المعطي جاز له الإعطاء، وإن لم يجز للآخذ الأخذ‏.‏ هذا وهو يعطيه باختياره، فكيف بمن أكره على الإعطاء وجاز له الإعطاء، أو وجب عليه‏؟‏ ولا يقال‏:‏ ولي الأمر هنا اقترض أموال الناس منهم؛ لأنه يقال‏:‏ إنما اقترضها ليدفعها إلى ذلك الظالم الذي طلب أخذ أموال المسلمين، فأدي عنهم ما اقترضه ليدفع به عنهم الضرر، وعليه أن يوفي ذلك من أموالهم المشتركة مال الصدقات والفيء ولا يقال‏:‏ لا يحل له صرف أموالهم؛ فإن الذي أخذه ذلك الظالم كان مال بعضهم، بل إعطاء هذا القليل لحفظ نفوسهم وأموالهم واجب‏.‏
    وإذا كان الإعطاء واجبًا لدفع ضرر هو ضرر أعظم منه، فمذهب مالك وأحمد بن حنبل المشهور عنه وغيرهما‏:‏ أن كل من أدي عن غيره واجبًا فله أن يرجع به عليه إذا لم يكن متبرعًا بذلك، وإن أداه بغير إذنه؛ مثل من قضي دين غيره بغير إذنه‏.‏ سواء كان قد ضمنه بغير إذنه، وأداه بغير إذنه، أو أداه عنه بلا ضمان‏.‏

    ج/ 30 ص -349-وكذلك من أفتك أسيرًا من الأسر بغير إذنه يرجع عليه بما أفتكه به‏.‏ وكذلك من أدي عن غيره نفقة واجبة عليه؛ مثل أن ينفق على ابنه أو زوجته أو بهائمه، لا سيما إذا كان للمنفق فيها حق؛ مثل أن يكون مرتهنًا أو مستأجرًا‏.‏ أو كان مؤتمنًا عليها؛ مثل المودع، ومثل راد العبد الآبق، ومثل إنفاق أحد الشريكين على البهائم المشتركة‏.‏ وقد دل على هذا الأصل قوله تعالى‏:‏ ‏"فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏"‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏ ، فأمر بإيتاء الأجر بمجرد إرضاعهن، ولم يشترط عقد استئجار، ولا إذن الأب لها في أن ترضع بالأجر، بل لما كان إرضاع الطفل واجبًا على أبيه، فإن أرضعته المرأة استحقت الأجر بمجرد إرضاعها‏.‏ وهذا في الأم المطلقة قول أكثر الفقهاء، يقولون‏:‏ إنها تستحق الأجر بمجرد الإرضاع‏.‏ وأبو حنيفة يقول بذلك في الأم، وإن كان لا يقول برجوع المؤدي للدين، وخالفه صاحباه‏.‏
    والمفرق يقول‏:‏ الأم أحق برضاع ابنها من غيرها، حتي لو طلبت الإرضاع بالأجر لقدمت على المتبرعة‏.‏ قيل‏:‏ فكذلك من له حق في بهائم الغير؛ كالمستأجر، والمرتهن، يستحق مطالبة المالك بالنفقة على بهائمه، فذلك أحق من الأم بالإرضاع‏.‏
    وأيضًا، فلا يلزم من كونه يستحق ذلك بعقد المعاوضة أن يستحقه بدون عقد، إلا أن يكون الإرضاع واجبًا على الأب، وإذا كان إنما

    ج/ 30 ص -350-أداه لكونه واجبًا عليه، فهكذا جميع الواجبات عليه أن يؤديها إلى من أدي عنه وأحسن اليه بالأداء عنه‏.‏ وهذا إذا كان المعطي مختارًا، فكيف إذا أكره على أداء ما يجب عليه‏؟‏ فإن الظالم القادر إذا لم يعطه المطلوب الذي طلبه منه ضره ضررًا عظيمًا؛ إما بعقوبة بدنية، وإما بأخذ أكثر منه‏.‏ وحينئذ يجب عليه دفع ما يندفع به أعظم الضررين بالتزام أدناهما، فلو أدي الغير عنه بغير إكراه لكان له أن يرجع عليه بما أداه عنه، فكيف إذا أكره على الأداء عنه‏؟‏‏!‏
    وأيضًا، فإذا كان الطلب من الشركاء كلهم فقد تقدم أنه ليس لبعضهم أن يمتنع مما عليه امتناعًا يستلزم تكثير الظلم على غيره‏.‏ وحينئذ فيكون الأداء واجبًا على جميع الشركاء؛ كل يؤدي قسطه الذي ينوبه إذا قسم المطلوب بينهم بالعدل‏.‏ ومن أدي عن غيره قسطه بغير إكراه كان له أن يرجع به عليه، وكان محسنًا اليه في الأداء عنه، ومباشرة الظالمين دونه؛ فإن المباشر يحصل له ضرر في نفسه وماله، والغالب إنما يحصل له الضرر في ماله فقط، فإذا أدي عنه لئلا يحضر كان محسنا اليه في ذلك، فيلزمه أن يعطيه ما أداه عنه، كما يوفي المقرض المحسن؛ فإن جزاء القرض الوفاء والحمد، ومن غاب ولم يؤد حتي أدي عنه الحاضرون لزمه أن يعطيهم قدر ما أدوه عنه، ويلزم بذلك، ويعاقب إن امتنع عن أدائه، ويطيب لمن أدي عنه أن يأخذ نظير ذلك من ماله، كما يأخذ

    ج/ 30 ص -351-المقرض من المقترض نظير ما أقرضه‏.‏ ومن قبض ذلك من ذلك المؤدي عنه، وأداه إلى هذا المؤدي جاز له أخذه، سواء كان الملزم له بالأداء هو الظالم الأول أو غيره‏.‏
    ولهذا له أن يدعي بما أداه عنه عند حكام العدل، وعليهم أن يحكموا على هذا بأن يعطيه ما أداه عنه، كما يحكم عليه بأداء بدل القرض ولا شبهة على الآخذ في أخذ بدل ماله‏.‏ ولا يقال‏:‏ إنه أخذ أموال الناس؛ فإنه إنما أخذ منهم ما أداه عنهم، وبدل ما أقرضهم إياه من مال، وبدل ما وجب عليهم أداؤه، فإنه ليس لأحد الشركاء أن يمتنع عن أداء ما ينوبه إذا علم أن ذلك يؤخذ من سائر الشركاء، كما تقدم‏.‏ وإذا لم يكن له هذا الامتناع كان الأداء واجبًا عليه، فمن أدي عنه ناويًا للرجوع فله الرجوع إذا أداه طوعًا؛ لإحسانه اليه بالأداء عنه‏.‏ فكيف إذا أكره على الأداء عنه‏؟‏‏!‏ ولو لم يكن الأداء واجبًا عليه، بل قد أكره ذلك الرجل على الأداء عنه رجع عليه، فإنه بسببه أكره ذاك، وأخذ ماله‏.‏وهذا كمن صودر على مال فأكره أقاربه أو جيرانه أو أصدقاؤه أو شركاؤه على أن يؤدوا عنه، ويرجعوا عليه، فلهم الرجوع؛ فإن أموالهم إنما أخذت بسببه، وبسبب الدفع عنه‏.‏
    فإن الآخذ منه إما أن يأخذ لاعتقاده أنه ظالم، كما يصادر ولاة الأمور بعض نوابهم، ويقولون‏:‏إنهم أخذوا من الأموال أكثر مما

    ج/ 30 ص -352-صودروا عليه؛وإما أن يكون صاحب مال كثير، فيطلب منه الطالب ما يقول‏:‏ أنه ينوب ماله‏.‏ فأقاربه وجيرانه وأصدقاؤه وغيرهم ممن أخذ ماله بسبب مال هذا أو بسبب أعماله إنما ظلموا لأجله، وأخذت أموالهم لأجل ماله وصيانة لماله، والطالب إنما مقصوده ماله لا أموال أولئك، وشبهته وإرادته إنما هي متعلقة بماله دون أموالهم‏.‏ فكيف تذهب أموالهم هدرًا من غير سبب منهم، ويبقي مال هذا محفوظًا، وهو الذي طولبوا لأجله‏؟‏‏!‏ ولو لم يستحق هؤلاء المؤدون عن غيرهم الرجوع لحصل فساد كثير في النفوس والأموال؛ فإن النفوس والأموال قد يعتريها من الضرر والفساد ما لا يندفع إلا بأداء مال عنهم، فلو علم المؤدون أنهم لا يستحقون الرجوع بما أدوه إلا إذا أذن ذلك الشخص لم يؤدوا، وهو قد لا يأذن، إما لتغيبه، أو لحبسه، أو غير ذلك، وإما لظلمه نفسه وتماديه على ما يضر نفسه وماله سفها منه، وظلمًا حرمه الشارع عليه‏.‏
    ومعلوم أن الناس تحت أمر الله ورسوله، فليس لأحد أن يضر نفسه وماله ضررًا نهاه الله عنه، ومن دفع ذلك الضرر العظيم عنه بما هو أخف منه، فقد أحسن اليه، وفي فطر الناس جميعهم أن من لم يقابل الإحسان بالإحسان فهو ظالم معتد، وما عده المسلمون ظلمًا فهو ظلم‏.‏كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند

    ج/ 30 ص -353-الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح‏.‏
    وأصل هذا‏:‏ اعتبار المقاصد والنيات في التصرفات، وهذا الأصل قد قرر وبسط في كتاب‏:‏ ‏[‏بيان الدليل على بطلان التحليل‏]‏ ، وقد قال النبي ﷺ في ابن اللتبية العامل الذي قبل الهدايا لما استعمله على الصدقات، فأهدي اليه هدايا فلما رجع حاسبه النبي ﷺ على ما أخذ وأعطي، وهو الذي يسميه أهل الديوان الاستيفاء، كما يحاسب الإنسان وكيله وشريكه على مقبوضه ومصروفه، وهو الذي يسميه أهل الديوان المستخرج والمصروف، فقال ابن اللتبية‏:‏ هذا لكم، وهذا أهدي لي، فقال النبي ﷺ ‏:‏ ‏"‏ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله، فيقول‏:‏ هذا لكم، وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه، فينظر أيهدي اليه‏؟‏ أم لا‏؟‏ والذي نفسي بيده، ما من رجل نستعمله على العمل فيغل منه شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رُغَاء، أو بقرة لها خُوَار، أو شاة تَيْعَر‏"‏‏.‏ ثم رفع يديه إلى السماء ثم قال‏:‏ ‏"‏ألا هل بلغت‏؟‏‏"‏ أو كما قال ﷺ، والحديث متفق على صحته‏.‏
    فلما كان المعطون المهدون إنما أعطوه وأهدوا اليه لأجل ولايته، جعل ذلك من جملة المال المستحق لأهل الصدقات؛ لأنه بسبب

    ج/ 30 ص -354-أموالهم قبض، ولم يخص به العامل الذي قبضه، فكذلك ما قبض بسبب أموال بعض الناس فعنها يحسب، وهو من توابعها، فكما أنه أعطي لأجلها، فهو مغنم ونماء لها، لا لمن أخذه، فما أخذ لأجلها فهو مغرم ونقص منها لا على من أعطاه‏.‏
    وكذلك من خلص مال غيره من التلف بما أداه عنه يرجع به عليه؛ مثل من خلص مالًا من قطاع أو عسكر ظالم أو متول ظالم، ولم يخلصه إلا بما أدي عنه، فإنه يرجع بذلك، وهو محسن اليه بذلك، وإن لم يكن مؤتمنًا على ذلك المال، ولا مكرهًا على الأداء عنه، فإنه محسن اليه بذلك، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان‏.‏ فإذا خلص عشرة آلاف درهم بألف أداها عنه كان من المحسنين، فإذا أعطاه الألف كان قد أعطاه بدل قرضه، وبقي عمله وسعيه في تخليص المال إحسانًا اليه لم يجزه به‏.‏ هذا أصوب قولي العلماء‏.‏
    ومن جعله في مثل هذا متبرعًا ولم يعطه شيئًا، فقد قال منكرًا من القول وزورًا، وقد قابل الإحسان بالإساءة‏.‏
    ومن قال‏:‏ هذا هو الشرع الذي بعث الله به رسوله، فقد قال على الله غير الحق؛ لكنه قول بعض العلماء، وقد خالفهم آخرون‏.‏ ونسبة مثل هذه الأقوال إلى الشرع توجب سوء ظن كثير من الناس في الشرع وفرارهم منه، والقدح في أصحابه‏.‏ فإن من العلماء من قال قولًا برأيه،

    ج/ 30 ص -355-وخالفه فيه آخرون، وليس معه شرع منزل من عند الله، بل الأدلة الشرعية قد تدل على نقيض قوله، وقد يتفق أن من يحكم بذلك يزيد ذلك ظلمًا بجهله وظلمه، ويتفق أن كل أهل ظلم وشر يزيدون الشر شرًا، وينسبون هذا الظلم كله إلى شرع من نزهه الله عن الظلم وبعثه بالعدل والحكمة والرحمة، وجعل العدل المحض الذي لا ظلم فيه هو شرعه‏.‏
    ولهذا كان العدل وشرعه متلازمين‏.‏ قال الله تعالى‏:‏
    ‏"إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ‏"‏[‏النساء‏:‏58‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏"فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏42‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏"فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏ ‏.‏
    فما أنزل عليه والقسط متلازمان، فليس فيما أنزل الله عليه ظلم قط، بل قد قال تعالى‏:‏ ‏
    "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ‏"‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏ ، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلي الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏

    ج/ 30 ص -356-وسئل الشيخ قدس الله روحه عن رجل مُتَولٍّ ولايات، ومقطع إقطاعات، وعليها من الكلف السلطانية ما جرت به العادة، وهو يختار أن يسقط الظلم كله، ويجتهد في ذلك بحسب ما قدر عليه، وهو يعلم أنه إن ترك ذلك وأقطعها غيره وولي غيره فإن الظلم لا يترك منه شيء، بل ربما يزداد، وهو يمكنه أن يخفف تلك المكوس التي في إقطاعه، فيسقط النصف، والنصف الآخر جهة مصارف لا يمكنه إسقاطه، فإنه يطلب منه لتلك المصارف عوضها، وهو عاجز عن ذلك، لا يمكنه ردها‏.‏ فهل يجوز لمثل هذا بقاؤه على ولايته وإقطاعه‏؟‏ وقد عرفت نيته، واجتهاده، وما رفعه من الظلم بحسب إمكانه، أم عليه أن يرفع يده عن هذه الولاية والإقطاع، وهو إذا رفع يده لا يزول الظلم، بل يبقي ويزداد‏.‏ فهل يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع كما ذكر‏؟‏ وهل عليه إثم في هذا الفعل‏؟‏ أم لا‏؟‏ وإذا لم يكن عليه إثم‏.‏ فهل يطالب على ذلك‏؟‏ أم لا‏؟‏ وأي الأمرين خير له‏:‏ أن يستمر مع اجتهاده في رفع الظلم وتقليله، أم رفع يده مع بقاء الظلم وزيادة‏.‏ وإذا كانت الرعية تختار بقاء يده لما لها في ذلك من المنفعة به، ورفع ما رفعه من الظلم‏.‏ فهل الأولى

    ج/ 30 ص -357-له أن يوافق الرعية‏؟‏ أم يرفع يده‏.‏ والرعية تكره ذلك لعلمها أن الظلم يبقي ويزداد برفع يده‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، نعم إذا كان مجتهدًا في العدل ورفع الظلم بحسب إمكانه، وولايته خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره، واستيلاؤه على الإقطاع خير من استيلاء غيره، كما قد ذكر؛ فإنه يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع، ولا إثم عليه في ذلك، بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه إذا لم يشتغل إذا تركه بما هو أفضل منه‏.‏
    وقد يكون ذلك عليه واجبًا إذا لم يقم به غيره قادرًا عليه‏.‏ فنشر العدل بحسب الإمكان ورفع الظلم بحسب الإمكان فرض على الكفاية، يقوم كل إنسان بما يقدر عليه من ذلك إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه، ولا يطالب والحالة هذه بما يعجز عنه من رفع الظلم‏.‏
    وما يقرره الملوك من الوظائف التي لا يمكنه رفعها لا يطلب بها، وإذا كانوا هم ونوابهم يطلبون أموالًا لا يمكن دفعها إلا بإقرار بعض تلك الوظائف، وإذا لم يدفع اليهم أعطوا تلك الإقطاعات، والولاية لمن يقرر الظلم أو يزيده، ولا يخففه، كان أخذ تلك الوظائف ودفعها اليهم خيرًا للمسلمين من إقرارها كلها، ومن صرف من هذه إلى العدل والإحسان فهو أقرب من غيره،ومن تناوله من هذا شيء أبعد عن العدل والإحسان

    ج/ 30 ص -358-من غيره، والمقطع الذي يفعل هذا الخير يرفع عن المسلمين ما أمكنه من الظلم، ويدفع شر الشرير بأخذ بعض ما يطلب منهم، فما لا يمكنه رفعه هو محسن إلى المسلمين غير ظالم لهم، يثاب، ولا إثم عليه فيما يأخذه على ما ذكره، ولا ضمان عليه فيما أخذه، ولا إثم عليه في الدنيا والآخرة إذا كان مجتهدًا في العدل والإحسان بحسب الإمكان‏.‏
    وهذا كوصي اليتيم وناظر الوقف والعامل في المضاربة والشريك، وغير هؤلاء ممن يتصرف لغيره بحكم الولاية أو الوكالة إذا كان لا يمكنه فعل مصلحتهم إلا بأداء بعضه من أموالهم للقادر الظالم؛ فإنه محسن في ذلك غير مسيء، وذلك مثل ما يعطي هؤلاء المكاسين وغيرهم في الطرقات، والأشوال، والأموال التي ائتمنوا؛ كما يعطونه من الوظائف المرتبة على العقار، والوظائف المرتبة على ما يباع ويشتري؛ فإن كل من تصرف لغيره أو لنفسه في هذه الأوقات من هذه البلاد ونحوها فلابد أن يؤدي هذه الوظائف، فلو كان ذلك لا يجوز لأحد أن يتصرف لغيره لزم من ذلك فساد العباد وفوات مصالحهم‏.‏
    والذي ينهي عن ذلك لئلا يقع ظلم قليل لو قبل الناس منه تضاعف الظلم والفساد عليم، فهو بمنزلة من كانوا في طريق وخرج عليهم قطاع الطريق، فإن لم يرضوهم ببعض المال أخذوا أموالهم وقتلوهم‏.‏ فمن قال لتلك القافلة‏:‏ لا يحل لكم أن تعطوا لهؤلاء شيئًا من الأموال

    ج/ 30 ص -359-التي معكم للناس، فإنه يقصد بهذا حفظ ذلك القليل الذي ينهي عن دفعه، ولكن لو عملوا بما قال لهم ذهب القليل والكثير، وسلبوا مع ذلك، فهذا مما لا يشير به عاقل، فضلًا أن تأتي به الشرائع، فإن الله تعالى بعث الرسل لتحصيل المصالح، وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان‏.‏
    فهذا المتولي المقطع الذي يدفع بما يوجد من الوظائف، ويصرف إلى من نسبه مستقرًا على ولايته وإقطاعه ظلمًا وشرًا كثيرًا عن المسلمين أعظم من ذلك، ولا يمكنه دفعه إلا بذلك، إذا رفع يده تولي من يقره ولا ينقص منه شيئًا، هو مثاب على ذلك، ولا إثم عليه في ذلك ولا ضمان في الدنيا والآخرة‏.‏
    وهذا بمنزلة وصى اليتيم، وناظر الوقف الذي لا يمكنه إقامة مصلحتهم إلا بدفع ما يوصل من المظالم السلطانية، إذا رفع يده تولي من يجور ويريد الظلم، فولايته جائزة، ولا إثم عليه فيما يدفعه، بل قد تجب عليه هذه الولاية‏.‏
    وكذلك الجندي المقطع الذي يخفف الوظائف عن بلاده، ولا يمكنه دفعها كلها؛ لأنه يطلب منه خيل وسلاح ونفقة لا يمكنه إقامتها إلا بأن يأخذ بعض تلك الوظائف، وهذا مع هذا ينفع المسلمين في

    ج/ 30 ص -360-الجهاد، فإذا قيل له‏:‏ لا يحل لك أن تأخذ شيئًا من هذا، بل ارفع يدك عن هذا الإقطاع، فتركه وأخذه من يريد الظلم، ولا ينفع المسلمين‏:‏ كان هذا القائل مخطئًا جاهلًا بحقائق الدين، بل بقاء الجند من الترك والعرب الذين هم خير من غيرهم، وأنفع للمسلمين، وأقرب للعدل على إقطاعهم، مع تخفيف الظلم بحسب الإمكان، خير للمسلمين من أن يأخذ تلك الإقطاعات من هو أقل نفعًا وأكثر ظلمًا‏.‏
    والمجتهد من هؤلاء المقطعين كلهم في العدل والإحسان بحسب الإمكان، يجزيه الله على ما فعل من الخير، ولا يعاقبه على ما عجز عنه، ولا يؤاخذه بما يأخذ ويصرف إذا لم يكن إلا ذلك -كان ترك ذلك يوجب شرًا أعظم منه‏.‏ والله أعلم‏.

    ج/ 30 ص -361-وسئل شيخُ الإسلام عن رجل أخذ ماله ظلما بغير حق، وانتهك عرضه، أو نيل منه في بدنه، فلم يقتص في الدنيا، وعلم أن ما عند اللّه خير وأبقي‏.‏ فهل يكون عفوه عن ظالمه مسقطا عند اللّه‏؟‏ أم نقصا له‏؟‏ أم لا يكون‏؟‏ أو يكون أجره باقيا كاملا موفرًا‏؟‏ وأيما أولي مطالبة هذا الظالم والانتقام منه يوم القيامة وتعذيب اللّه له‏.‏ أو العفو عنه وقبول الحوالة على اللّه تعالى‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    لا يكون العفو عن الظالم، ولا قليله مسقطا لأجر المظلوم عند اللّه، ولا منقصا له، بل العفو عن الظالم يصير أجره على اللّه تعالى؛ فإنه إذا لم يعف كان حقه على الظالم، فله أن يقتص منه بقدر مظلمته، وإذا عفا وأصلح فأجره على اللّه‏.‏ وأجره الذي هو على اللّه خير وأبقي‏.‏ قال تعالى‏:‏
    ‏"وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ‏"[‏الشوري‏:‏ 40‏]
    فقد أخبر أن جزاء السيئة سيئة مثلها بلا عدوان، وهذا هو القصاص في الدماء، والأموال، والأعراض،ونحو ذلك‏.‏ثم قال‏:‏

    ج/ 30 ص -362-‏"فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ‏"‏، وقد ذكر عن الإمام أحمد لما ظلم في محنته المشهورة أنه لم يخرج حتي حلل من ظلمه‏.‏ وقال‏:‏ ذكرت حديثا ذكر عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال‏:‏إذا كان يوم القيامة نادي مناد‏:‏ ألا ليقم من وجب أجره على فلا يقوم إلا من عفا وأصلح‏.‏
    وقد قال تعالى‏:‏
    ‏"وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ‏"‏ ‏[‏النحل‏:‏ 126‏]‏ ، وأباح لهم سبحانه وتعالى إذا عاقبوا الظالم أن يعاقبوه بمثل ما عاقب به، ثم قال‏:‏‏"وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ‏"‏، فعلم أن الصبر عن عقوبته بالمثل خير من عقوبته‏.‏ فكيف يكون مسقطا للأجر أو منقصًا له‏؟‏‏!‏
    وقد قال تعالى‏:‏
    ‏"وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ ‏.‏ فجعل الصدقة بالقصاص الواجب على الظالم وهو العفو عن القصاص كفارة للعافي، والاقتصاص ليس بكفارة له، فعلم أن العفو خير له من الاقتصاص‏.‏ وهذا لأن ما أصابه من المصائب مكفر للذنوب، ويؤجر العبد على صبره عليها، ويرفع درجته برضاه بما يقضيه اللّه عليه منها‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏"مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ‏"‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 11‏]‏ ، قال بعض السلف‏:‏ هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند اللّه، فيرضي ويسلم، وفي الصحيحين عن النبي

    ج/ 30 ص -363-ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏ما يصيب المؤمن من وَصَب ولا نَصَب ولا هَمّ ولا حَزَن ولا غَمّ ولا أذي حتي الشوكة يشاكها، إلا كفر اللّه بها من خطاياه‏"‏‏.‏
    وفي المسند‏:‏ أنه لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏"مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏"‏[‏النساء‏:‏ 123‏]‏ ، قال أبو بكر‏:‏ يارسول اللّه، نزلت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءًا ‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ ‏"‏يا أبا بكر، ألست تنصب‏؟‏ ألست تحزن‏؟‏ ألست تصيبك اللأواء‏.‏ فذلك ما تجزون به‏"‏ وفيه أيضا‏:‏ ‏"‏المصائب حطة تحط الخطايا عن صاحبها، كما تحط الشجرة القائمة ورقها‏"‏‏.‏
    والدلائل على أن المصائب كفارات كثيرة، إذا صبر عليها أثيب على صبره، فالثواب والجزاء إنما يكون على العمل وهو الصبر وأما نفس المصيبة فهي من فعل اللّه، لا من فعل العبد، وهي من جزاء اللّه للعبد على ذنبه، وتكفيره ذنبه بها‏.‏ وفي المسند‏:‏ أنهم دخلوا على أبي عبيدة بن الجراح وهو مريض، فذكروا أنه يؤجر على مرضه، فقال‏:‏ مالى من الأجر ولا مثل هذه‏.‏ ولكن المصائب حطة‏.‏ فبين لهم أبو عبيدة رضي اللّه عنه أن نفس المرض لا يؤجر عليه، بل يكفر به عن خطاياه‏.‏
    وكثيرا ما يفهم من الأجر غفران الذنوب،فيكون فيه أجر بهذا

    ج/ 30 ص -364-الاعتبار‏.‏ومن الناس من يقول‏:‏ لابد فيه من التعويض والأجر والامتنان، وقد يحصل له ثواب بغير عمل، كما يفعل عنه من أعمال البر‏.‏
    وأما الصبر على المصائب ففيها أجر عظيم، قال تعالى‏:‏
    ‏"وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏155157‏]‏ فالرجل إذا ظلم بجرح ونحوه فتصدق به، كان الجرح مصيبة يكفر بها عنه، ويؤجر على صبره، وعلى إحسانه إلى الظالم بالعفو عنه؛ فإن الإحسان يكون بجلب منفعة، وبدفع مضرة؛ ولهذا سماه اللّه صدقة‏.‏
    وقد قال تعالى‏:‏
    ‏"وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 133، 134‏]‏ فذكر‏:‏ أنه يحب المحسنين، والعافين عن الناس‏.‏ وتبين بهذا أن هذا من الإحسان‏.‏ والإحسان ضد الإساءة، وهو فعل الحسن، سواء كان لازمًا لصاحبه، أو متعديا إلى الغير، ومنه قوله‏:‏ ‏"مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏ ‏.‏ فالكاظم للغيظ، والعافي عن الناس، قد أحسن إلى نفسه، وإلى الناس؛ فإن ذلك عمل حسنة مع نفسه، ومع الناس، ومن أحسن إلى الناس فإلى نفسه‏.‏ كما يروي عن بعض السلف أنه قال‏:‏ ما أحسنت إلى أحد، وما أسأت إلى أحد،

    ج/ 30 ص -365-وإنما أحسنت إلى نفسي، وأسأت إلى نفسي، قال تعالى‏:‏ ‏"إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا‏"‏[‏الإسراء‏:‏7‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏"مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا‏"‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏ ‏.‏
    ولو لم يكن الإحسان إلى الخلق إحسانًا إلى المحسن، يعود نفعه عليه، لكان فاعلا إثمًا أو ضررًا؛ فإن العمل الذي لا يعود نفعه على فاعله، إما حيث لم يكن فيه فائدة، وإما شر من العبث؛ إذا ضر فاعله‏.‏ والعفو عن الظالم أحد نوعي الصدقة؛ المعروف، والإحسان إلى الناس‏.‏ وجماع ذلك الزكاة‏.‏
    واللّه سبحانه دائمًا يأمر بالصلاة، والزكاة، وهي الصدقة‏.‏ وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ من غير وجه أنه قال‏:‏ ‏"‏كل معروف صدقة‏"‏، وذلك نوعان‏:‏
    أحدهما‏:‏ اتصال نفع اليه‏.‏
    الثاني‏:‏ دفع ضرر عنه‏.‏ فإذا كان المظلوم يستحق عقوبة الظلم، ونفسه تدعوه اليه، فكف نفسه عن ذلك، ودفع عنه ما يدعوه اليه من إضراره، فهذا إحسان منه اليه، وصدقة عليه، واللّه تعالى يجزي المتصدقين، ولا يضيع أجر المحسنين‏.‏ فكيف يسقط أجر العافي‏؟‏‏!‏
    وهذا عام في سائر ما للعبد من الحقوق على الناس؛ولهذا إذا

    ج/ 30 ص -366-ذكر اللّه في كتابه حقوق العباد، وذكر فيها العدل ندب فيها إلى الإحسان، فإنه سبحانه يأمر بالعدل والإحسان، كما قال تعالى‏:‏ ‏"وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 280‏]‏ ‏.‏ فجعل الصدقة على المدين المعسر بإسقاط الدين عنه خيرا للمتصدق من مجرد إنظاره‏.‏
    وقال تعالى‏:‏
    ‏"وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏ ، فسمي إسقاط الدية صدقة‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى‏"‏[‏البقرة‏:‏ 237‏]‏ ، فجعل العفو عن نصف الصداق الواجب على الزوج بالطلاق قبل الدخول أقرب للتقوي من استيفائه‏.‏ وعفو المرأة إسقاط نصف الصداق باتفاق الأمة‏.‏
    وأما عفو الذي بيده عقدة النكاح، فقيل‏:‏ هو عفو الزوج، وأنه تكميل للصداق للمرأة، وعلى هذا يكون هذا العفو من جنس ذلك العفو، فهذا العفو إعطاء الجميع، وذلك العفو إسقاط الجميع‏.‏ والذي حمل من قال هذا القول عليه؛ أنهم رأوا أن غير المرأة لا تملك إسقاط حقها الواجب، كما لا تملك إسقاط سائر ديونها‏.‏ وقيل‏:‏ الذي بيده عقدة النكاح هو ولي المرأة المستقل بالعقد بدون استئذانها؛

    ج/ 30 ص -367-كالأب للبكر الصغيرة، وكالسيد للأمة، وعلى هذا يكون العفوان من جنس واحد‏.‏ ولهذا لم يقل‏:‏ إلا أن يعفون، أو يعفوهم، والخطاب في الآية للأزواج‏.‏
    وقال تعالى حكاية عن لقمان أنه قال لابنه‏:‏ ‏
    "وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏"‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 17‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏"‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 4143‏]‏ ‏.‏
    فهناك في قول لقمان ذكر الصبر على المصيبة فقال‏:‏
    ‏"إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏"‏[‏لقمان‏:‏ 17‏]‏ ، وهنا ذكر الصبر والعفو، فقال‏:‏ ‏"إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏"‏ وذكر ذلك بعد قوله‏:‏ ‏"وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ‏"‏، فذكر سبحانه الأصناف الثلاثة، في باب الظلم الذي يكون بغير اختيار المظلوم؛ وهم‏:‏ العادل، والظالم، والمحسن‏.‏
    فالعادل من انتصر بعد ظلمه وهذا جزاؤه أنه ما عليه من سبيل،فلم يكن بذلك ممدوحا، ولكن لم يكن بذلك مذمومًا‏.‏ وذكر الظالم بقوله‏:‏ ‏
    "إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ‏"‏، فهؤلاء عليهم السبيل للعقوبة، والاقتصاص‏.‏ وذكر المحسنين

    ج/ 30 ص -368-فقال‏:‏ ‏"وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏"‏‏.‏ والقرآن فيه جوامع الكلم‏.‏
    وهذا كما ذكر في آخر البقرة أصناف الناس في المعاملات، التي تكون باختيار المتعاملين، وهم ثلاثة‏:‏ محسن، وظالم، وعادل‏.‏ فالمحسن‏:‏ هو المتصدق‏.‏ والظالم‏:‏ هو المربي‏.‏ والعادل‏:‏ هو البائع‏.‏ فذكر هنا حكم الصدقات، وحكم الربا، وحكم المبايعات، والمداينات‏.‏
    وكما أن من توهم أنه بالعفو يسقط حقه أو ينقص، غالط جاهل ضال، بل بالعفو يكون أجره أعظم؛ فكذلك من توهم أنه بالعفو يحصل له ذل، ويحصل للظالم عز واستطالة عليه، فهو غالط في ذلك‏.‏ كما ثبت في الصحيح وغيره عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏ثلاث إن كنتُ لحالفا عليهن‏:‏ ما زاد اللّه عبدًا بعفو إلا عزًا، وما نقصت صدقة من مال، وما تواضع أحد للّه إلا رفعه اللّه‏"‏‏.‏ فبين الصادق المصدوق‏:‏ أن اللّه لا يزيد العبد بالعفو إلا عزًا، وأنه لا تنقص صدقة من مال، وأنه ما تواضع أحد للّه إلا رفعه اللّه‏.‏ وهذا رد لما يظنه من يتبع الظن، وما تهوي الأنفس، من أن العفو يذله، والصدقة تنقص ماله، والتواضع يخفضه‏.‏
    وفي الصحيحين عن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ ماضرب

    ج/ 30 ص -369-رسول اللّه ﷺ خادمًا له، ولا امرأة، ولا دابة، ولا شيئا قط، إلا أن يجاهد في سبيل اللّه، ولا نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه؛ إلا أن تنتهك محارم اللّه، فإذا انتهكت محارم اللّه لم يقم لغضبه شيء‏.‏ حتي ينتقم للّه‏.‏ وخُلُق رسول اللّه ﷺ القرآن أكمل الأخلاق، وقد كان من خلقه أنه لا ينتقم لنفسه، وإذا انتهكت محارم اللّه لم يقم لغضبه شيء حتي ينتقم للّه، فيعفو عن حقه، ويستوفي حق ربه‏.‏
    والناس في الباب أربعة أقسام‏:‏
    منهم‏:‏ من ينتصر لنفسه ولربه، وهو الذي يكون فيه دين وغضب‏.‏
    ومنهم‏:‏ من لا ينتصر لا لنفسه ولا لربه، وهو الذي فيه جهل وضعف دين‏.‏
    ومنهم‏:‏ من ينتقم لنفسه لا لربه، وهم شر الأقسام‏.‏
    وأما الكامل فهو الذي ينتصر لحق اللّه، ويعفو عن حقه‏.‏ كما قال أنس بن مالك‏:‏ خدمت رسول اللّه ﷺ عشر سنين، فما قال لي‏:‏ أف قط‏.‏ وما قال لي لشيء فعلته‏:‏ لم فعلته‏؟‏ ولا لشيء لم أفعله‏:‏لم لا فعلته‏؟‏وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول‏:‏ ‏"‏دعوه لو قضي شيء لكان‏"‏‏.‏فهذا في العفو عما يتعلق بحقوقه

    ج/ 30 ص -370-وأما في حدود اللّه،فلما شفع عنده أسامة بن زيد وهو الحب ابن الحب، وكان هو أحب اليه من أنس، وأعز عنده في امرأة سرقت شريفة أن يعفو عن قطع يدها‏.‏ غضب، وقال‏:‏ ‏"‏يا أسامة، أتشفع في حد من حدود اللّه‏؟‏‏!‏ إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده، لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها‏"‏‏.‏ فغضب على أسامة لما شفع في حد للّه، وعفا عن أنس في حقه‏.‏ وكذلك لما أخبره أسامة أنه قتل رجلا بعد أن قال‏:‏ لا إله إلا اللّه‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أقتلته بعدما قال‏:‏ لا إله إلا اللّه‏"‏، فما زال يكررها حتي قلت‏:‏ ليته سكت‏.‏
    والأحاديث والآثار في استحباب العفو عن الظالم، وأن أجره بذلك أعظم كثيرة جدًا‏.‏ وهذا من العلم المستقر في فطر الآدميين‏.‏ وقد قال تعالى لنبيه‏:‏ ‏
    "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 199‏]‏ ، فأمره أن يأخذ العفو في أخلاق الناس، وهو ما يقر من ذلك‏.‏ قال ابن الزبير‏:‏ أمر اللّه نبيه أن يأخذ بالعفو من أخلاق الناس، وهذا كقوله‏:‏ ‏"وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏ ، من أموالهم‏.‏ هذا من العفو، ويأمر بالمعروف ويعرض عن الجاهلين‏.‏ وهذه الآية فيها جماع الأخلاق الكريمة؛ فإن الإنسان مع الناس إما أن يفعلوا معه غير

    ج/ 30 ص -371-ما يحب، أو ما يكره‏.‏ فأمر أن يأخذ منهم ما يحب ما سمحوا به، ولا يطالبهم بزيادة‏.‏ وإذا فعلوا معه ما يكره أعرض عنهم، وأما هو فيأمرهم بالمعروف‏.‏ وهذا باب واسع‏.‏
    وسئل رَحمه اللّه عن الرجل يكون له على الرجل دين فيجحده، أو يغصبه شيئًا‏.‏ ثم يصيب له مالًا من جنس ماله‏.‏ فهل له أن يأخذ منه مقدار حقه‏؟‏ فأجاب‏:‏
    وأما إذا كان لرجل عند غيره حق من عين أو دين‏.‏ فهل يأخذه أو نظيره، بغير إذنه‏؟‏ فهذا نوعان‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن يكون سبب الاستحقاق ظاهرا لا يحتاج إلى إثبات، مثل استحقاق المرأة النفقة على زوجها، واستحقاق الولد أن ينفق عليه والده، واستحقاق الضيف الضيافة على من نزل به، فهنا له أن يأخذ بدون إذن من عليه الحق بلا ريب؛ كما ثبت في الصحيحين أن هند بنت عتبة بن ربيعة قالت‏:‏ يارسول اللّه إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني من النفقة ما يكفيني، وبَنِي‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف‏"‏، فأذن لها أن تأخذ نفقتها بالمعروف بدون إذن وليه‏.

    ج/ 30 ص -372-وهكذا من علم أنه غصب منه ماله غصبا ظاهرا يعرفه الناس،فأخذ المغصوب،أو نظيره من مال الغاصب‏.‏ وكذلك لو كان له دين عند الحاكم وهو يمطله، فأخذ من ماله بقدره، ونحو ذلك‏.‏
    والثاني‏:‏ ألا يكون سبب الاستحقاق ظاهرا، مثل أن يكون قد جحد دينه، أو جحد الغصب، ولا بينة للمدعي‏.‏ فهذا فيه قولان‏:‏
    أحدهما‏:‏ ليس له أن يأخذ وهو مذهب مالك، وأحمد‏.‏
    والثاني‏:‏ له أن يأخذ، وهو مذهب الشافعي‏.‏ وأما أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى فيسوغ الأخذ من جنس الحق؛ لأنه استيفاء، ولا يسوغ الأخذ من غير الجنس؛ لأنه معاوضة فلا يجوز إلا برضا الغريم‏.‏
    والمجوزون يقولون‏:‏ إذا امتنع من أداء الواجب عليه ثبتت المعاوضة بدون إذنه للحاجة، لكن من منع الأخذ مع عدم ظهور الحق استدل بما في السنن عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏
    "‏أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك‏"‏، وفي المسند عن بشير بن الخصاصية أنه قال‏:‏ يارسول اللّه، إن لنا جيرانًا لا يدعون لنا شاذة، ولا فاذة، إلا أخذوها، فإذا قدرنا لهم على شيء أنأخذه‏؟‏

    ج/ 30 ص -373-قال‏:‏ ‏"‏لا، أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك‏"‏‏.‏ وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قيل له‏:‏ إن أهل الصدقة يعتدون علينا، أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا‏"‏‏.‏ رواه أبو داود وغيره‏.‏
    فهذه الأحاديث تبين أن حق المظلوم في نفس الأمر إذا كان سببه ليس ظاهرا، أخذه خيانة، لم يكن له ذلك، وإن كان هو يقصد أخذ نظير حقه، لكنه خان الذي ائتمنه، فإنه لما سلم اليه ماله فأخذ بعضه بغير إذنه، والاستحقاق ليس ظاهرا كان خائنا‏.‏ وإذا قال‏:‏ أنا مستحق لما أخذته في نفس الأمر، لم يكن ما ادعاه ظاهرا معلوما‏.‏ وصار كما لو تزوج امرأة فأنكرت نكاحه، ولا بينة له، فإذا قهرها على الوطء من غير حجة ظاهرة، فإنه ليس له ذلك‏.‏ ولو قدر أن الحاكم حكم على رجل بطلاق امرأته ببينة اعتقد صدقها، وكانت كاذبة في الباطن، لم يكن له أن يطأها لما هو الأمر عليه في الباطن‏.‏
    فإن قيل‏:‏ لا ريب أن هذا يمنع منه ظاهرًا، وليس له أن يظهر ذلك قدام الناس؛ لأنهم مأمورون بإنكار ذلك؛ لأنه حرام في الظاهر، لكن الشأن إذا كان يعلم سرا فيما بينه وبين اللّه‏؟‏
    قيل‏:‏ فعل ذلك سرا يقتضي مفاسد كثيرة منهي عنها، فإن فعل

    ج/ 30 ص -374-ذلك في مظنة الظهور والشهرة، وفيه ألا يتشبه به من ليس حاله كحاله في الباطن، فقد يظن الإنسان خفاء ذلك، فيظهر مفاسد كثيرة، ويفتح أيضا باب التأويل‏.‏ وصار هذا كالمظلوم الذي لا يمكنه الانتصار إلا بالظلم؛ كالمقتص الذي لا يمكنه الاقتصاص إلا بعدوان، فإنه لا يجوز له الاقتصاص‏.‏ وذلك أن نفس الخيانة محرمة الجنس‏.‏ فلا يجوز استيفاء الحق بها، كما لو جرعه خمرا، أو تلوط به، أو شهد عليه بالزور، لم يكن له أن يفعل ذلك؛ فإن هذا محرم الجنس‏.‏ والخيانة من جنس الكذب‏.‏
    فإن قيل‏:‏ هذا ليس بخيانة، بل هو استيفاء حق‏.‏ والنبي ﷺ نهي عن خيانة من خان، وهو أن يأخذ من ماله مالا يستحق نظيره‏.‏ قيل هذا ضعيف لوجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن الحديث فيه أن قوما لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها‏.‏ أفنأخذ من أموالهم بقدر ما يأخذون‏؟‏ فقال‏:
    ‏ ‏"‏لا، أد الأمانة إلى من ائتمنك‏.‏ ولا تخن من خانك‏"‏‏.‏ وكذلك قوله في حديث الزكاة‏:‏ أفنكتم من أموالنا بقدر ما يأخذون منا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏لا‏"‏‏.‏
    الثاني‏:‏ أنه قال‏:‏
    ‏"‏ولا تخن من خانك‏"‏‏.‏ ولو أراد بالخيانة الأخذ على طريق المقابلة لم يكن فرق بين من خانه ومن لم يخنه، وتحريم مثل

    ج/ 30 ص -375-هذا ظاهر، لا يحتاج إلى بيان وسؤال‏.‏ وقد قال‏:‏ ‏"‏ولا تخن من خانك‏"‏ فعلم أنه أراد أنك لا تقابله على خيانته، فتفعل به مثل ما فعل بك‏.‏ فإذا أودع الرجل مالًا فخانه في بعضه، ثم أودع الأول نظيره ففعل به مثل ما فعل، فهذا هو المراد بقوله‏:‏ ‏"‏ولا تخن من خانك‏"‏‏.‏
    الثالث‏:‏ أن كون هذا خيانة لا ريب فيه، وإنما الشأن في جوازه على وجه القصاص؛ فإن الأمور منها ما يباح فيه القصاص كالقتل، وقطع الطريق، وأخذ المال‏.‏ ومنها مالا يباح فيه القصاص؛كالفواحش،والكذب،ونحو ذلك‏.‏قال تعالى في الأول‏:
    ‏‏"وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا‏"‏[‏الشوري‏:‏40‏]‏ ،وقال‏:‏‏"وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ‏"‏[‏النحل‏:‏126‏]‏ ،وقال‏:‏ ‏"فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏ ‏.‏ فأباح العقوبة والاعتداء بالمثل‏.‏ فلما قال ههنا‏:‏ ‏"‏ولا تخن من خانك‏"‏ علم أن هذا مما لا يباح فيه العقوبة بالمثل‏.‏
    وسئل رَحمه اللّه عن رجل مديون وله عند صاحب الدين بضاعة، والثمن سبعون درهما، ومقدار البضاعة تسعون درهما، وقد توفي المديون، واحتاط على موجوده، فأراد صاحب الدين أن يطلع الورثة على البضاعة،

    ج/ 30 ص -376-فاختشي أن يأخذوها، ولم يوصوله إلى حقه، وإن أخفاها فيبقي إثم فرطها عليه، ويخاف أن يطالبه بغير البضاعة‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    يبيعها ويستوفي من الثمن ما له في ذمة الميت من الأجرة والثمن، وما بقي يوصله إلى مستحق تركته‏.‏ وإذا حلفوه فله أن يحلف أنه ليس له عندي غير هذا، وإن أحب أن يشتري بضاعة مثل تلك البضاعة، ويحلف أنه لا يستحق عنده إلا هذا‏.‏ بشرط أن تكون البضاعة مثل تلك، أو خيرًا منها‏.‏
    وسئل عن رجل له مال غصب، أو مطل في دين، ثم مات، فهل تكون المطالبة له في الآخرة‏؟‏ أم للورثة‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏
    فأجاب‏:‏
    أما من غصب له مال، أو مطل به، فالمطالبة في الآخرة له‏.‏ كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏
    "‏من كانت لأخيه عنده مظلمة في دم أو مال أو عرض، فليستحلل من قبل أن يأتي يوم لا دينار فيه، ولا درهم، فإن كانت له حسنات أخذ من حسناته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فألقيت عليه‏"‏‏.‏

    ج/ 30 ص -377-فبين النبي ﷺ أن الظلامة إذا كانت في المال طالب المظلوم بها ظالمه، ولم يجعل المطالبة لورثته، وذلك أن الورثة يخلفونه في الدنيا، فما أمكن استيفاؤه في الدنيا كان للورثة،وما لم يمكن استيفاؤه في الدنيا، فالطالب به في الآخرة المظلوم نفسه‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وسئل عن قوم دخل في زرعهم جاموسان، فعرقبوهما فماتا، وقد يمكن دفعهما بدون ذلك، فما يجب عليهم‏؟‏ وما يجب على أرباب المواشي من حفظها‏؟‏ وعلى أرباب الزرع من حفظه‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    ليس لهم دفع البهائم الداخلة إلى زرعهم إلا بالأسهل، فالأسهل‏.‏ فإذا أمكن إخراجهما بدون العرقبة فعرقبوهما عزروا على تعذيب الحيوان بغير حق‏.‏ وعلى العدوان على أموال الناس بما يردعهم عن ذلك، وضمنوا للمالك بدلهما‏.‏
    وعلى أهل الزرع حفظ زرعهم بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظ مواشيهم بالليل، كما قال بذلك النبي ﷺ‏.‏

    ج/ 30 ص -378-وسئل عن المال المغصوب من الإبل وغيرها إذا نمت عند الغاصب ثم تاب، كيف يتخلص من المال‏.‏ وهل هو حرام أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أعدل الأقوال في ذلك‏:‏ أن يجعل نماء المال بين المالك والعامل، كما لو دفعه إلى من يقوم عليه بجزء من نمائه، ثم إن الأصل‏:‏ ونصيب المالك إذا تعذر دفعه إلى مالكه، صرفه في مصالح المسلمين‏.‏
    وسئل عمن غصب شاة، ثم تراضي هو ومالكها‏.‏ هل يجوز أكلها‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    نعم إذا تراضي هو ومالكها جاز أكلها‏.‏

    ج/ 30 ص -379-وسئل رَحمه اللّه عن غلام في يده فرس فطلعت نعامة من إصطبل، وهجمت على الخيل، والغلام ماسك الفرس، واثنان قعود، فرفس أحدهما وتوفي، فما يجب على الغلام‏؟‏ وما يجب على صاحب الفرس‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا رفسته برجلها فلا ضمان على الغلام، ولا على صاحب الفرس، بل الفرس باق على ملك صاحبه، وهذا مذهب جمهور الأئمة؛ كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد وغيرهم‏.‏
    وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏الرِّجْل جُبَار‏"‏، وقال الشافعي‏:‏ يضمن ما ضربه برجله إذا كان على الفرس راكب، أو قائد، أو سائق، كما وافقه أحمد وغيره على ذلك في اليد‏.‏ وأما إذا لم يفرط الغلام الذي هو ممسك للفرس، فلا ضمان عليه باتفاق العلماء، مثل أن تجفل الفرس، ويحذر القريب منها‏.‏ فيقول‏:‏ حاذروا‏.‏ فإذا قال ذلك فمن رفست منهما كان هو المفرط، ولم يكن على أحد ضمان باتفاق الأئمة، واللّه أعلم‏.‏

    ج/ 30 ص -380-وسئل رَحمه اللّه عن جمل كبير مربوط على الربيع، وإلى جانبه قعود صغير لآخر غير صاحب الجمل الكبير، ثم غابوا أصحاب الجملين، فانقلب الكبير على الصغير فقتله‏.‏ فما حكمه‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا كان صاحب الجمل الكبير لم يفرط في منعه فلا ضمان عليه، مثل أن يكون قيده القيد الذي يمنعه‏.‏ وأما إذا كان قد فرط بأن قيده قيدًا خفيفًا،لا يمنعه، فعليه ضمان ما أتلفه‏.‏ واللّه أعلم‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML