ج/ 30 ص -317-باب الغصب
سُئل شيخ الإسلام رحمه الله عمن غصب زرع رجل، وحصده. هل يباح للفقراء اللقاط المتساقط؟
فأجاب:
نعم يباح اللقاط، كما كان يباح لو حصدها المالك، كما يباح رعي الكلأ في الأرض المغصوبة، نص الإمام أحمد على هذه المسألة الثانية؛ وذلك لأن ما يباح من الكلأ واللقاط لا يختلف بالغصب وعدمه، ولا يمنعه حق المالك.
وسئل عن رجل له أرض ملك، وهي بيده ثلاثون سنة، فجاء رجل جذ زرعه منها، ثم زرعها في ثاني سنة. فما يجب عليه؟
فأجاب:
ليس لأحد أن يستولي عليه بغير حق، بل له أن يطالب
ج/ 30 ص -318-من زرع في ملكه بأجرة المثل، وله أن يأخذ الزرع إذا كان قائما، ويعطيه نفقته. والله أعلم.
وسئل عمن سرق كيل غلة. وبذره، ولم يعرف مالكه. فهل يحل له الزرع كله؟
فأجاب:
أما مقدار البذر فيتصدق به بلا ريب، وأما الزيادة ففيها نزاع. وأعدل الأقوال أن يجعل ذلك مزارعة، فيأخذ نصيبه، ونصيب صاحب البذر يتصدق به عنه. والله أعلم.
وسئل عن رجل غصب عينًا، فباعها من رجل عالم بالغصب، فجاء صاحب العين فأخذها من يد المشتري. فهل للمشتري أن يرجع على الغاصب الذي اشتراها منه مع علمه بالغصب بالثمن الذي بذله له؟ أم المشتري لا يرجع على الغاصب بشيء، والذي نقده للغاصب يروح مجانًا؟ فكيف الحكم في ذلك؟
ج/ 30 ص -319-فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، بل للمشتري أن يرجع على الغاصب بالثمن الذي قبضه منه، سواء كان عالمًا بالغصب أو لم يكن عالمًا؛ فإن الثمن قبضه بغير حق، ولو كان برضاه.
فإنهما لو تبايعا ما لا يحل بيعه؛ من خمر أو خنزير برضاهما لوجب أن يرد المبيع، فيتلف الخمر والخنزير، ويرد على المشتري الثمن فكيف إذا باعه مال الغير؟ وبأي وجه بقي الثمن في يد الغاصب فلا حق له فيه، وإنما هو ملك المشتري. والله أعلم.
وسئل رضي الله عنه عن رجل غرس نوي في أرض الغير؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا غرس نخلة تملكها في أرض الغير ابنه، لم يكن لورثة ابنه فيها حق، بل الحق فيها له، ولأهل الأرض، فالنخلة له وعليه أجرة الأرض لأهلها إذا أبقوها في أرضهم. والله أعلم.
ج/ 30 ص -320-وسئل عن رجل كسب بعيرًا، وجاب البعير بعيرًا. فهل في نتاجها رخصة في الأربع مذاهب؟
فأجاب:
نتاج الدابة لمالكها، ولا يحل للغاصب، لكن إذا كان النتاج مستولدا من عمل المستولي. فمن الناس من يجعل النماء بين المالك والعامل كالمضاربة، ونحوها. والله أعلم.
وسئل عن رجل له بهائم حلال، وأنزي عليها فحل حرام. فهل في نتاجهم شبهة؟
فأجاب:
إذا أنزي على بهائمه فحل غيره فالنتاج له، ولكن إذا كان ظالما في الإنزاء؛ بحيث يضر بالفحل المنزي فعليه ضمان ما نقص لصاحبه، فإن لم يعرف صاحبه تصدق بقيمة نقصه. وأما إن كان لا يضره فلا قيمة له، فإن النبي ﷺ نهي عن عَسْب الفَحْل. والله أعلم.
ج/ 30 ص -321-وسئل رحمه الله عن رجل اشتري بهيمة بثمن بعضه حلال وبعضه حرام، فأي شيء يحكم به الشرع؟
فأجاب:
إذا كان اشتراها بثمن بعضه له، وبعضه مغصوب، فنصفها ملكه، والنصف الآخر لا يستحقه، بل يدفعه إلى صاحبه إن أمكن، وإلا تصدق به عنه، فإن حصل من ذلك نماء كان حكمه حكم الأصل؛ نصفه له ونصفه للجهة الأخري. والله أعلم.
وسئل عن جارية لسيدة تطلب لنفسها زركشًا على لسان سيدتها، ثم إن الجارية طلبت على لسان سيدتها خاتما، وأنكرت السيدة والجارية معترفة؟ فأجاب:
إذا كانت طلبت على لسان سيدتها ولم تكن أذنت لها كانت الجارية غاصبة، قابضة لذلك بغير حق، فإذا تلف في يدها فضمانه في رقبة الجارية، وسيدتها بالخيار بين أن تفتديها فتؤدي قيمة ما أخذته وبين أن تسلمها لتباع، ويؤخذ من ثمنها ذلك. والله أعلم.
ج/ 30 ص -322-وسئل قدس الله روحه عن الأموال التي تقبض بطريق المناهب التي تجري بين الأعراب، إذا كان فيها حيوان تناسل، وعين حصل فيها ربح، أو شجر أثمر. هل النسل والربح للغاصب؛ لكونه هو الذي يرعي الحيوان، ويتجر في العين، ويسقي الشجر؟ أم للمالك المغصوب منه؟ والأموال التي بأيدي هؤلاء الأعراب. هل تزكي؟ أم لا؟ وإذا تاب الغاصب وقد جهل المالك؟ ما حكمه؟ هل يتصدق بالجميع أو البعض؟ وهل تصح التوبة من الزنا والسرقة. ونحو ذلك؟ وفي أقوام من الأحمدية وغيرهم ممن يحضر سماع الغناء والملاهي، ويمسكون الحيات، ويدخلون النار ولا يحترقون. وإذا لم يعطوا من الزكاة غضبوا وتوجهوا على المانع لهم، ويقولون: هذه في إبلك، هذه في غنمك، في كذا... ويموت بعض الإبل والغنم، فيقولون: هذه بخواطرنا. فهل يجوز إعطاء هؤلاء من الزكاة خوفًا منهم؟ أو لغير ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، أما المال المغصوب إذا عمل فيه الغاصب حتي حصل منه نماء؛ ففيه أقوال للعلماء: هل النماء للمالك
ج/ 30 ص -323-وحده؟ أو يتصدقان به؟ أو يكون بينهما كما يكون بينهما إذا عمل فيه بطريق المضاربة، والمساقاة، والمزارعة، وكما يدفع الحيوان إلى من يعمل عليه بجزء من دره، ونسله، أو يكون للعامل أجرة مثله إن كانت عادتهم جارية بمثل ذلك، كما فعل عمر بن الخطاب لما أقرض أبو موسي الأشعري ابنيه من مال الفيء مائتي ألف درهم، وخصهما بها دون سائر المسلمين، ورأي عمر بن الخطاب أن ذلك محاباة لهما لا تجوز، وكان المال قد ربح ربحًا كثيرا، بلغ به المال ثمانمائة ألف درهم، فأمرهما أن يدفعا المال وربحه إلى بيت المال، وأنه لا شيء لهما من الربح، لكونهما قبضا المال بغير حق. فقال له ابنه عبد الله: إن هذا لا يحل لك؛ فإن المال لو خسر وتلف كان ذلك من ضماننا، فلماذا تجعل علينا الضمان، ولا تجعل لنا الربح؟ فتوقف عمر. فقال له بعض الصحابة: نجعله مضاربة بينهم وبين المسلمين: لهما نصف الربح، وللمسلمين نصف الربح، فعمل عمر بذلك.
وهذا مما اعتمد عليه الفقهاء في المضاربة وهو الذي استقر عليه قضاء عمر بن الخطاب، ووافقه عليه أصحاب رسول الله ﷺ، وهو العدل؛ فإن النماء حصل بمال هذا، وعمل هذا، فلا يختص أحدهما بالربح، ولا تجب عليهم الصدقة بالنماء؛ فإن الحق لهما لا يعدوهما، بل يجعل الربح بينهما، كما لو كانا مشتركين شركة مضاربة.
ج/ 30 ص -324-وهكذا الذي يعمل على ماشية غيره أو بستانه أو أرضه، حتي يحصل بمزروع أو در، أو نسل، لكن من العلماء من لا يجوز العمل هنا بجزء من النماء، وإنما تجوز عنده الإجارة. وأصح قولي العلماء: أنها تجوز المساقاة، وتجوز المزارعة، سواء كان البذر من المالك، أو من العامل، أو منهما، كما عامل النبي ﷺ أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع، على أن يعمروها من أموالهم. رواه البخاري في صحيحه.
وكذلك أصحاب رسول الله ﷺ كسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما كانوا يدفعون إلى من يزرعها ليبذر من عنده، والزرع بينهما، وكان عامة بيوت المهاجرين، والأنصار مزارعون.
والنبي ﷺ نهي عن المخابرة التي كانوا يفعلونها، وهو أنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها، كما ثبت ذلك في الصحيحين، وهذا الذي نهي عنه النبي ﷺ محرم باتفاق العلماء، كما لو شرط في المضاربة أن يكون لأحدهما دراهم مقدرة. وإنما العدل أن يشتركا فيما يرزقه الله من النماء؛ لهذا جزء شائع ولهذا جزء شائع، فيشتركان في المغنم، ويشتركان في المغرم، فإن لم يحصل شيء ذهب نفع مال هذا ونفع بدن هذا.
ج/ 30 ص -325-فصل
والأموال التي بأيدي هؤلاء الأعراب المتناهبين إذا لم يعرف لها مالك معين، فإنه يخرج زكاتها، فإنها إن كانت ملكا لمن هي في يده كانت زكاتها عليه، وإن لم تكن ملكا له، ومالكها مجهول لا يعرف، فإنه يتصدق بها كلها، فإذا تصدق بقدر زكاتها كان خيرًا من ألا يتصدق بشيء منها. فإخراج قدر الزكاة منها أحسن من ترك ذلك على كل تقدير.
وإذا كان ينهب بعضهم بعضًا فإن كان النهب بين طائفتين معروفتين، فإنه ينظر قدر ما أخذته كل طائفة من الأخري، فإن كانوا سواء تقاضيا، وأقر كل قوم على ما بأيديهم، وإن لم يعرف عين المنهوب منه. كما لو تقاتلوا قتال جاهلية وقتل هؤلاء بعض هؤلاء، وهؤلاء بعض هؤلاء، وأتلف هؤلاء بعض أموال هؤلاء، فإن الواجب القصاص بين الطائفتين، فتقابل النفوس بالنفوس، والأموال بالأموال، فإن فضل لإحدي الطائفتين على الأخرى شيء طالبتها بذلك.
ج/ 30 ص -326-وعلى ذلك يدل قوله تعالى: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى" [البقرة: 178] ، قال غير واحد من السلف: نزلت هذه الآية في قبيلتين من العرب كان بينهما قتال، فأمر الله تعالى أن يقاص من القتلي؛ الحر من هؤلاء بالحر من هؤلاء، والعبد بالعبد، والأنثي بالأنثي. ثم قال: "فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ" [البقرة:178] . يقول: إن فضل لأحدهما على الآخر شيء فليؤده اليهم بمعروف، والتتبعة الأخري أن يطالبهم به بإحسان والإتباع هو المطالبة، كما قال النبي ﷺ: "مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع".
وهذا لأن الطوائف الممتنعة التي يعين بعضها بعضًا في القتال، ثم يكون الضمان فيها على الذي يباشر القتال والأخذ والإتلاف، وعلى الردء الذي يعينه عند جمهور العلماء.
ولهذا كان في مذهب الجمهور: أن قطاع الطريق يقتل منهم الردء، والمباشر. وعمر ابن الخطاب رضي الله عنه قتل ربيئة المحاربين، وهو الناظر الذي ينظر لهم الطريق. فالمتعاونون على الظلم والعدوان تجب عليهم العقوبة بالضمان وغيره؛ ولهذا قال عامة الفقهاء: إن الطائفتين المقتتلتين على عصبية ورياسة تضمن كل طائفة ما أتلفت للأخري؛ من
ج/ 30 ص -327-نفس ومال. فأوجبوا الضمان على مجموع الطائفة، وإن لم يعرف عين المتلف.
وإن كان قدر المنهوب مجهولًا لا يعرف ما نهب هؤلاء من هؤلاء، ولا قدر ما نهب هؤلاء من هؤلاء، فإنه يحمل الأمر على التساوي؛ كمن اختلط في ماله حلال وحرام، ولم يعرف أيهما أكثر، فإنه يخرج نصف ماله، والنصف الباقي له حلال كما فعل عمر ابن الخطاب بالعمال على الأموال؛ فإنه شاطرهم. فأخذ نصف أموال عماله على الشام ومصر والعراق. فإنه رأي أنه اختلط بأموالهم شيء من أموال المسلمين، ولم يعرف لا أعيان المملوك، ولا مقدار ما أخذه هؤلاء من هؤلاء، ولا هؤلاء من هؤلاء، بل يجوز أن يكون مع الواحد أقل من حقه، وأكثر، ففي مثل هذا يقر كل واحد على ما في يده إذا تاب من التعاون على الإثم والعدوان، فإن المجهول كالمعدوم يسقط التكليف به، ويزكي ذلك المال كما يزكيه المالك.
وإن عرف أن في ماله حلالًا مملوكًا، وحرامًا لا يعرف مالكه، وعرف قدره، فإنه يقسم المال على قدر الحلال والحرام، فيأخذ قدر الحلال، وأما الحرام فيتصدق به عن أصحابه، كما يفعل من عنده أموال مجهولة الملاك: من غصوب وعواري وودائع؛ فإن جمهور العلماء، كمالك،
ج/ 30 ص -328-وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وغيرهم يقولون: إنه يتصدق بها. وهذا هو المأثور في مثل ذلك عن أصحاب رسول الله ﷺ.
وإن لم يعرف مقدار الحلال والحرام فإنه يجعل المال نصفين، يأخذ لنفسه نصفه، والنصف الثاني يوصله إلى أصحابه إن عرفهم، وإلا تصدق به.
وما تصدق به فإنه يصرف في مصالح المسلمين؛ فيعطي منه من يستحق الزكاة، ويقري منه الضيف، ويعان فيه الحاج، وينفق في الجهاد، وفي أبواب البر التي يحبها الله ورسوله، كما يفعل بسائر الأموال المجهولة، وهكذا يفعل من تاب من الحرام وبيده الحرام لا يعرف مالكه.
وسئل رحمه الله عن وال وضع يده على عشرين ألف درهم لإنسان، وثبت عليه عند حاكم، وهم يعلمون أن جميع موجوده حرامًا، نهب أموال الناس. فهل يجوز لهم أن يأخذوا من هذا المال عوض ما أخذه لهم لأنهم يعلمون أن جميع ماله حرام؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إن كان جميع ما بيده أخذه من
ج/ 30 ص -329-الناس بغير حق. مثل أن يأخذ من اللصوص، وقطاع الطريق بعض ما يأخذونه من أموال الناس، ومثل أن يطلب ظلم أقوام فيعطوه ما ينكف به عن ظلمهم، ومثل أن يحمي بعض الناس عن مساواة نظرائهم فيما يطلب منهم ليعطوه رشوة، ومثل أن يظلم في حكمه، أو يعدل برشوة يأخذها، ومثل أن يغصب مال قوم بافتراء عليهم، ومثل أن يهدر دماء المقتولين برشوة من القاتلين. فهذه الأموال ونحوها هي مستحقة لأصحابها كاللص الذي يسرق أموالًا، ويخلط بعضها ببعض، فإن ذلك لا يحرمها على أصحابها، بل يقتسمون الأموال بينهم على قدر حقوقهم، وإن جهل عين مال الرجل لكونه باعه، ونحو ذلك فعوضه يقوم مقامه. ومن اكتسب بهذه الأموال بتجارة ونحوها فقيل: الربح لأرباب الأموال. وقيل له: إذا اشتري في ذمته. وقيل: بل يتصدقان به؛ لأنه ربح خبيث. وقيل: بل يقسم الربح بينه وبين أرباب الأموال كالمضاربة. كما فعل عمر بن الخطاب في المال الذي أقرضه أبو موسي الأشعري لابنيه دون العسكر. وهذا أعدل الأقوال.
وإذا كان كذلك، فأهل الأموال يقتسمون ما وجدوه على قدر حقوقهم؛ فإن ذلك إما عين أموالهم، وإما وفاء ديونهم الثابتة في ذمته، بل الحق أن حقوقهم متعلقة بالأمرين جميعًا بذمته، وبالأموال. فأما إذا لم يعرف مقدار ما غصبه، ولا أعيان الغرماء كلهم، فمن أخذ منهم من هذه
ج/ 30 ص -330-الأموال قدر حقه، لم يحكم بأن ذلك حرام، لاسيما إذا كان قد اتجر في الأموال التي بيده، فإنه يستحق حينئذ أكثر من قدر حقه، لكن يخاف أن تكون الأموال التي بيده تضيق عن حقوق جميع المستحقين، لكن المجهول منهم الذي لا يعلم صار كالمعدوم، فإن كان الذي يأخذ قدر حقه له، ولم يظلم سائر الغرماء المعروفين، لم نحكم بتحريم ما أخذه، لكن إن ظهر فيما بعد غرماء، ولهم قسط من ماله كان لهم المطالبة بقدر حقوقهم، فمن استولي على المال يؤخذ من كل واحد بقدر ما استولي. والله أعلم.
وقال رحمه الله:
سئلت عن قوم أخذت لهم غنم أو غيرها من المال، ثم ردت عليهم أو بعضها، وقد اشتبه ملك بعضهم ببعض؟
فأجبتهم:
إنه إن عرف قدر المال تحقيقًا قسم الموجود بينهم على قدره، وإن لم يعرف إلا عدده قسم على العدد؛ لأن المالين إذا اختلطا قسما بينهما، وإن كان يدفع لكل منهم عن ماله ما كان للآخر؛ لأن الاختلاط جعلهم شركاء، لاسيما على أصلنا أن الشركة تصح بالعقد، مع امتياز المالين، لكن الاشتباه في الغنم ونحوها يقوم مقام الاختلاط في المائعات.
ج/ 30 ص -331-وعلى هذا فينبغي أنه إذا اشتركا فيما يتشابه من الحيوان والثياب أنه يصح، كما لو كان رأس المال دراهم، إذا صححناها بالعروض، وإذا كانوا شركاء بالاختلاط والاشتباه فعند القسمة يقسم على قدر المالين، فإن كان المردود جميع ما لهم فظاهر، وإن كان بعضه فذلك البعض هو بعض المشترك، كما لو رد بعض الدراهم المختلطة.
يبقي إن كان حيوانًا، فهل يجب قسمته أعيانًا عند طلب بعضهم قولًا واحدًا، أو يخرج على القولين في الحيوان المشترك؟ فالأشبه خروجه على الخلاف؛ لأنه إذا كان لأحدهما عشرة رؤوس، وللآخر عشرون، فما وجد فلأحدهما ثلثله، وللآخر ثلثلاه كذلك،، لكن المحذور في هذه المسألة أن مال كل منهما إن عرف قيمته فظاهر، وإن لم يعرف إلا عدده مع أن غنم أحدهما قد تكون خيرًا من غنم الآخر فالواجب عند تعذر معرفة رجحان أحدهما على الآخر التسوية؛ لأن الضرورة تلجئ إلى التسوية. وعلى هذا فسواء اختلط غنم أحدهما بالآخر عمدًا أو خطأ، يقسم المالان على العدد إن لم يعرف الرجحان. وإن عرف وجهل قدره أثبت منه القدر المتيقن وأسقط الزائد المشكوك فيه؛ لأن الأصل عدمه.
ج/ 30 ص -332-وسئل رحمه الله: هل يجوز له أن يخرق ثوبه كما يخرق ثوبه؟
فأجاب:
وأما القصاص في إتلاف الأموال مثل أن يخرق ثوبه، فيخرق ثوبه المماثل له، أو يهدم داره فيهدم داره، ونحو ذلك. فهذا فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد:
أحدهما: أن ذلك غير مشروع؛ لأنه إفساد، ولأن العقار والثياب غير مماثلة.
والثاني: أن ذلك مشروع؛ لأن الأنفس والأطراف أعظم قدرًا من الأموال، وإذا جاز إتلافها على سبيل القصاص؛ لأجل استيفاء المظلوم، فالأموال أولي. ولهذا يجوز لنا أن نفسد أموال أهل الحرب، إذا أفسدوا أموالنا، كقطع الشجر المثمر.
وإن قيل بالمنع من ذلك لغير حاجة، فهذا فيه نزاع؛ فإنه إذا أتلف له ثيابًا أو حيوانًا أو عقارًا ونحو ذلك: فهل يضمنه بالقيمة؟ أو يضمنه بجنسه مع القيمة؟ على قولين معروفين للعلماء. وهما قولان في
ج/ 30 ص -333-مذهب الشافعي،وأحمد. فإن الشافعي قد نص على أنه إذا هدم داره بناها كما كانت، فضمنه بالمثل. وقد روي عنه في الحيوان نحو ذلك، وكذلك أحمد يضمن أولاد المغرور بجنسهم في المشهور عنه، وإذا اقترض حيوانًا رد مثله في المنصوص عنه.
وقصة داود وسليمان هي من هذا الباب؛فإن داود عليه السلام قد ضمن أهل الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم بالقيمة،وأعطاهم الماشية مكان القيمة. وسليمان عليه السلام أمرهم أن يعمروا الحرث حتي يعود كما كان، وينتفعوا بالماشية بدل ما فاتهم من منفعة الحرث. وبهذا أفتي الزهري لعمر بن عبد العزيز لما كان قد اعتدي بعض بني أمية على بستان له فقلعوه، وسألوه ما يجب في ذلك؟ فقال: يغرسه كما كان. فقيل له: إن ربيعة وأبا الزناد قالا: تجب القيمة، فتكلم الزهري فيهما بكلام مضمونه: أنهما خالفا السنة.
ولا ريب أن ضمان المال بجنسه مع اعتبار القيمة أقرب إلى العدل من ضمانه بغير جنسه، وهو الدراهم والدنانير مع اعتبار القيمة؛ فإن القيمة معتبرة في الموضعين، والجنس مختص بأحدهما، ولا ريب أن الأغراض متعلقة بالجنس، وإلا فمن له غرض في كتاب أو فرس أو بستان ما يصنع بالدراهم؟ فإن قيل: يشتري بها مثله، قيل: الظالم الذي فوته ماله هو أحق بأن يضمن له مثل ما فوته إياه، أو نظير ما أفسده من ماله.
ج/ 30 ص -334-وسئل عن تجار أخذهم حرامية، ثم ردوا عليهم من المال شيئًا. فهل من عرف شيئًا من ماله يأخذه؟ أو يقسم على رؤوس الأموال المأخوذة بالسوية... إلخ؟
فأجاب:
الحمد لله أما من وجد ماله بعينه، فهو أحق به، وأما الذين عدمت أموالهم فيتقاسمون ما غرمه الحرامية لهم على قدر أموالهم، لا على عدد الرؤوس. والله أعلم.
وسئل عن عسكر نزلوا مكانًا باتوا فيه، فجاء أناس سرقوا لهم قماشًا، فلحقوا السارق، فضربه أحدهم بالسيف، ثم حمل إلى مقدم العسكر، ثم مات بعد ذلك؟
فأجاب:
إذا كان هذا هو الطريق في استرجاع ما مع السارق لم يلزم الضارب شيء. وقد روي ابن عمر: أن لصًا دخل داره، فقام
ج/ 30 ص -335-اليه بالسيف، فلولا أنهم ردوه عنه لضربه بالسيف. وفي الصحيحين: "من قتل دون ماله فهو شهيد".
وسئل عما قدمه للسلطان من المغصوب... إلخ؟
فأجاب:
أما ما قدمه للسلطان من المغصوب، وأعطاه ما أعطاه، فليتصدق بقدر ذلك المغصوب عن صاحبه، إن لم يعرفه، وكذلك ما أهداه للأمير وعوضه عنه.
وسئل رحمه الله عن رجل يطحن في طواحين السلطان يستأجرها، وهو يعلم أن بعضها ما هو غصب، وفي رجل يعمل في زرع السلطان هل نصيبه منه حلال وما يكسبه الأول من الطاحون؟
فأجاب:
أما الأراضي السلطانية، والطواحين السلطانية التي لم يعلم أنها مغصوبة، فيجوز للإنسان أن يعمل فيها مزارعة، بنصيب من الزرع. ويجوز أن يستأجرها، ويجوز أن يعمل فيها بأجرته
ج/ 30 ص -336-مع الضمان.
وأما إذا علم أنها مغصوبة، ولم يعرف لها مالك معين، فهذه فيها نزاع. والأظهر أنه يجوز العمل فيها إذا كان العامل لا يأخذ إلا أجرة عمله، فإنه حينئذ لا يكون قد ظلم أحدًا شيئًا، فالعمل فيها خير من تعطيلها على كل تقدير. وهذا إن أمكن أن ترد إلى أصحابها، وإلا صرفت في مصالح المسلمين، والمجهول كالمعدوم.
وأما إذا عرف أن للأرض مالكًا معينًا، وقد أخذت منه بغير حق، فلا يعمل فيها بغير إذنه، أو إذن وليه، أو وكيله. والله أعلم.
وسئل عمن يطلب منهم كلف يجمعونها من أهل البلد، فإذا كانوا سووا بين الناس فيما طلب منهم، وهم مغصوبون في ذلك. فهل عليهم إثم؟
فأجاب:
بل هذه الكلف التي تطلب من الناس بحق، أو بغير حق، يجب العدل فيها، ويحرم أن يوفر فيها بعض الناس، ويجعل قسطه على غيره، ومن قام فيها بنية العدل، وتخفيف الظلم مهما أمكن، وإعانة الضعيف لئلا يتكرر الظلم عليه بلا نية إعانة الظالم، كان كالمجاهد في سبيل الله، إذا تحري العدل، وابتغي وجه الله.