أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

باب الإجارة

    ج/ 30 ص -151-باب الإجارة
    سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
    عن رجل أجر رجلا أرضا فيها شجر مثمر بأجرة معلومة مدة معلومة وبياضا لا تساوي الأجرة وإنما الأجرة بعضها يوازي البياض وبعضها في مقابلة الثمرة وكتبا كتاب الإجارة بعقد الإجارة على الأرض مساقاة على الشجر المثمر‏.‏ فهل يصح ذلك‏؟‏ أم لا‏؟‏ وإذا صح‏:‏ فهل يدخل أشجار الجوز المثمر مع كونه مثمرا جميع ما له ثمرة‏؟‏ فهل للمؤجر أن يخصص البعض دون البعض مع كونه مثمرا‏؟‏ أم لا‏؟‏ وهل إذا كان عقد المساقاة بجزء من الثمرة مما تعم به البلوى ورأى بعض الحكام جوازه فهل لغيره من الحكام إبطاله‏؟‏ أم لا‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏ ضمان البساتين التي فيها أرض وشجر عدة سنين هو الصحيح الذي اختاره ابن عقيل وغيره‏.‏ وثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه ضمن حديقة لأسيد بن الحضير بعد موته ثلاث سنين ووفى بالضمان دينه‏.‏ وهذه كثيرة لا تحتمل الفتيا تقريرها‏.‏

    ج/ 30 ص -152-فهذه الضمانات التي لبساتين دمشق الشتوية التي فيها أرض وشجر ضمانات صحيحة وإن كان قد كتب في المكتوب إجارة الأرض والمساقاة على الشجر فالمقصود الذي اتفقا عليه هو الضمان المذكور والعبرة في العقود بالشروط التي اتفق عليها المتعاقدان والمقاصد معتبرة‏.‏ فإذا العقد الذي نهى عنه النبي ﷺ من بيع الثمرة قبل بدو صلاحها هو بيع الثمر المجرد كما تباع الكروم في دمشق بحيث يكون السعي والعمل على البائع والضمانات شبيهة بالمؤاجرات‏.‏
    وسئل عمن أجر بياضا مبلغها أربعة أسهم من مزرعة البستان والمقصبة المستديرة‏:‏ فهل يجوز إيجاره المقصبة في إيجار بياض الأرض لحصته المذكورة‏؟‏ فأجاب‏:‏ يجوز إجارة منبت القصب ليزرع فيها المستأجر قصبا وكذلك إجارة المقصبة ليقوم عليها المستأجر ويسقيها فمنبت العروق التي فيها بمنزلة من يسقي الأرض لينبت له فيها الكلأ بلا بذر‏.‏

    ج/ 30 ص -153-وسئل عن رجل سجل أرضا ليزرعها أول سنة كتانا وثاني سنة فولا فقصد المؤجر أن يأخذ زائدا‏:‏ كونه زرعها كتانا فما يجب عليه‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏ إن استأجرها على أن يزرع فيها نوعا من الحبوب لم يكن له أن يزرع ما هو أشد ضررا وإذا زرع ما هو أشد ضررا كان للمؤجر مطالبته بالقيمة وإن استأجرها ليزرع فيها ما شاء فله ذلك ولا شيء على المستأجر إذا زرع فيها ما شاء‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل عن رجل استأجر أرض بستان وساقاه على الشجر ثم إن الآخر قطع بعض الشجر الذي يثمر‏.‏ فهل يجوز له أن يقطعها قبل فراغ الإجارة‏؟‏ وهل يلزم قيمة ثمرتها للمستأجر‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏ الحمد لله‏.‏ إذا قطعها نقص من العوض المستحق بقدر ما نقص من المنفعة التي يستحقها المستأجر‏.‏ وهذا وإن كان في اللفظ إجارة

    ج/ 30 ص -154-الأرض ومساقاة الشجر فهو في المعنى المقصود عوض عن الجميع؛ فإن المستأجر لم يبذل العوض إلا ليحصل له مع زرع الأرض ثمر الشجر‏.‏ وقد تنازع العلماء في صحة هذا العقد‏.‏ وسواء قيل بصحته أو فساده فما ذهب من الشجر ذهب ما يقابله من العوض سواء كان بقطع المالك أو بغير قطعه‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عمن استأجر أرض بستان من مشارف الأجناس مدة ثم توفي المستأجر وخلف أولادا والأجرة مقسطة‏:‏ في كل سنة عشرون درهما وقد طلب من أولاد المستأجر المتوفى تعجيل الأجرة بكمالها‏.‏ فهل يلزم الأولاد جميع الإجارة‏؟‏ أو يأخذ منهم على أقساطها في كل سنة‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏ لا يجب على أولاده تعجيل جميع الأجرة - والحال هذه - لكن إذا لم يثق أهل الأرض بذمتهم فلهم أن يطالبوهم بمن يضمن لهم الأجرة في أقساطها‏.‏ وهذا على قول من يقول‏:‏ إن الدين المؤجل لا يحل بموت من هو عليه ظاهر‏.‏ وأما على قول من يقول‏:‏ إنه يحل عليه وكذلك هنا على

    ج/ 30 ص -155-الصحيح من قولي العلماء؛ لأن الوارث الذي ورث المنفعة عليه أجرة تلك المنفعة التي استوفاها؛ بحيث لو كان على الميت ديون لم يكن للوارث أن يختص بمنفعة ويزاحم أهل الديون بالأجرة؛ بناء على أنها من الديون التي على الميت كما لو كان الدين ثمن مبيع نافذ؛ بمنزلة أن تنتقل المنفعة إلى مشتر أو متهب مثل أن يبيع الأرض أو يهبها أو يورث فإن الأرض من حين الانتقال تلزم المشتري والمتهب والولد‏:‏ في أصح قولي العلماء كما عليه عمل المسلمين؛ فإنهم يطالبون المشتري والوارث بالحكر قسطا لا يطالبون الحكر جميعه من البائع‏.‏ أو تركة الميت؛ وذلك لأن المنافع لا تستقر الأجرة إلا باستيفائها فلو تلفت المنافع قبل الاستيفاء سقطت الأجرة بالاتفاق‏.‏ ولهذا كان مذهب أبي حنيفة وغيره أن الأجرة لا تملك بالعقد؛ بل بالاستيفاء ولا تملك المطالبة إلا شيئا فشيئا ولهذا قال‏:‏ إن الإجارة تنفسخ بالموت‏.‏ والشافعي وأحمد وإن قالا‏:‏ تملك بالعقد وتملك المطالبة إذا سلم العين فلا نزاع أنها لا تجب إلا باستيفاء المنفعة ولا نزاع في سقوطها بتلف المنافع قبل الاستيفاء‏.‏ ولا نزاع أنها إذا كانت مؤجلة لم تطلب إلا عند محل الأجل‏.‏ فإذا خلف الوارث ضامنا وتعجل الأجل الذي لم يجب إلا مؤخرا مع تأخير استيفاء حقه من المنفعة كان هذا ظلما له مخالفا للعدل الذي هو

    ج/ 30 ص -156-مبنى المعاوضة وإذا لم يرض الوارث بأن تجب عليه الأجرة وقال المؤجر أنا ما أسلم إليك المنفعة لتستوفي حقه منها فأوجبنا عليه أداء الأجرة حالة من التركة مع تأخر المنفعة‏:‏ تبين ما في ذلك من الحيف عليه‏.‏ وأما إذا كان المؤجر وقفا ونحوه‏.‏ فهنا ليس للناظر تعجيل الأجرة كلها بل لو شرط ذلك لم تجز؛ لأن المنافع المستقبلة إذا لم يملكها وإنما يملك أجرتها ما يحدث في المستقبل فإذا تعجلت من غير حاجة إلى عمارة كان ذلك أخذا لما لم يستحقه الموقوف عليه الآن‏.‏ وأجاب‏:‏ لا يلزم تعجيل الأجرة في أصح قولي العلماء؛ لا سيما إذا كان المستأجر حبسا فإن تعجيل الأجرة في الحبس لا يجوز إلا لعمارة ونحوها؛ لأن منافع الحبس يستحقها الموقوف عليه طبقة بعد طبقة‏.‏ وكل قوم يستحقون أجرة المنافع الحادثة في زمانهم فإن تسلفوا منفعة المستقبل كانوا قد أخذوا عوض ما لم يستحقوه من الوقف وهذا لا يجوز؛ لكن إذا طلب أهل المال من ورثة المستأجر ضمينا بالأجرة فلهم ذلك‏.‏ ويبقى المال في ذمة الورثة مع ضامن خبير لأهل الوقف من يسكنه مع أنه لو لم يكن وقفا لم يحل بموت المدين‏.‏ وكذلك على قول من يقول بحلوله في أظهر قوليهم؛ إذ يفرقون بين الإجارة وغيرها كما يفرقون في الأرض المحتكرة إذا بيعت أو

    ج/ 30 ص -157-ورثت فإن الحكر يكون على المشتري والوارث وليس لهم أخذه من البائع وتركة الميت‏:‏ في أظهر قوليهم‏.‏
    وسئل عن رجل استأجر بستانا مدة عشر سنين وقام بقبض مبلغ الأجرة ثم توفي لانقضاء خمس سنين من المدة وبقي في الإجارة خمس سنين وله ورثة وأقاموا ورثة المتوفى بعد مدة سنة من وفاته‏.‏ فهل يجوز للمالك فسخ الإجارة على الأيتام‏؟‏ أم لا‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏ ليس للمؤجر فسخ الإجارة بمجرد موت المستأجر عند جماهير العلماء؛ لكن منهم من قال‏:‏ إن الأجرة على المستأجر تحل بموته وتستوفى من تركته فإن لم يكن له تركة فله فسخ الإجارة‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ لا تحل الأجرة إذا وثق الورثة برهن أو ضمين يحفظ الأجرة؛ بل يوفونه كما كان يوفيها الميت وهذا أظهر القولين‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 30 ص -158-وسئل رحمه الله عن أقوام ساكنين بقرية من قرى الفيوم والقرية قريبة من الجبل يرى فيها بعض السنين النصف فلما كان في هذه السنة كتب على المشايخ إجارة البلدي مدة ثلاث سنين قبل خلو الأرض من الإجارة الماضية وقبل فراغ الأرض من الزرع‏.‏ فهل تصح هذه الإجارة‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏ أما إذا كانوا مكرهين على الإجارة بغير حق لم تصح الإجارة ولم تلزم بلا نزاع بين الأئمة‏.‏ وأما لو كانوا استأجروها مختارين أو مكرهين بحق وكانت حين الإجارة في إجارة آخرين فهذه تسمى الإجارة المضافة‏.‏ كما عليه المسلمون في غالب الأعصار والأمصار إذ لا محذور فيها يبطل الإجارة كعقد البيع فلا فرق بين أن تكون المنفعة على العقد أو لا تكون‏.‏ وكون المستأجر لا يقبض عقيب العقد لا يضر فإن القبض يتبع موجب العقد ومقتضاه فإن اقتضى القبض عقيبه وجب قبضه عقيبه وإن اقتضى تأخر القبض وجب القبض حين أوجبه العقد؛ إذ المقبوض

    ج/ 30 ص -159-في العقد ليس مما أوجبه الشارع على صفة معينة؛ بل المرجع في ذلك إلى ما أوجبا في العقد‏.‏ ولهذا لو باع نخلا لم تؤبر كان الثمر للبائع عند مالك والشافعي والإمام أحمد كما دلت عليه السنة وكان للبائع أن يدخل لأجل ثمره‏.‏ وإن كان ذلك ينافي القبض التام‏:‏ فلو باع أمة مزوجة كانت منفعة البضع على ملك الزوج لم تدخل فيما يقبضه المشتري لنفسه باتفاق الأئمة الأربعة وكذلك العين المؤجرة عند أكثر العلماء؛ فلهذا صح عند طوائف منهم استيفاء منفعة العين في البيع والهبة والوقف والعتق وغير ذلك‏.‏ كما اقتضى حديث كما هو مذهب مالك وأحمد‏.‏ ولهذا لو أقبض العين المؤجرة كانت في المنفعة مع خراج تصرف المستأجر فيها باقية على ضمان المؤجر فلو تلفت بآفة سماوية كانت من ضمانه باتفاق المسلمين‏.‏ وكذلك يقول مالك وأحمد وغيرهما في بيع الثمار إذا أصابتها جائحة‏.‏ وبالجملة فلا يحرم من العقود إلا ما حرمه نص أو إجماع أو قياس في معنى ما دل على النص أو الإجماع فكل ذلك منتف في الإجارة المضافة وإذا استأجر الأرض وفيها زرع للغير فإنه يبقى لصاحبه بأجرة المثل كما تبقى لو لم يؤجر الأرض‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 30 ص -160-وسئل عن رجل استأجر حانوتا وقد جاء إنسان زاد عليه في الحوانيت فقدمه‏.‏ فهل تفسخ إجارة المستأجر الحانوت الواحد‏؟‏ أم لا‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏ الحمد لله‏.‏ إذا استأجرها من المالك أو وكيله أو وليه لم يكن لأحد أن يقبل عليه زيادة ولا يخرجه قبل انقضاء مدته وإن لم يكن بينهما كتاب ولا شهود بل من قال‏:‏ اذهب اكتب عليك إجارة فأشهد عليه المستأجر بالإجارة ومكنه المؤجر من السكنى فهذه إجارة لازمة‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل عن رجل زاد على قوم في بيت ليسكن فيه‏.‏ فهل يأثم بذلك‏؟‏ وهل يجب تعزيره على ذلك‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏ قد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏لا يحل لمسلم أن يسوم على سوم أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه‏"‏ فإذا

    ج/ 30 ص -161-كان المؤجر قد ركن إلى شخص ليؤجره لم يجز لغيره الزيادة عليه‏.‏ فكيف إذا كان ساكنا في المكان مستمرا فمن فعل ذلك استحق التعزير والله أعلم‏.‏
    وسئل عن رجل استأجر دارا بجواره رجل سوء فراح المستأجر إلى المؤجر وقال له‏:‏ ما أرتضي به أن يكون جواري إما أن تنقله أو تعطيني أجرتي‏.‏ فقال له‏:‏ أنا أنقله في هذا النهار فحلف المستأجر بالطلاق الثلاث متى لم ينتقل الجار في هذا النهار وإلا ما أسكن الدار فلم ينقل المستأجر من الدار فطلب الإجارة فلم يعطه الإجارة‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏ إذا كان الأمر على ما ذكر فمثل هذا عيب في العقار وإذا لم يعلم به المستأجر حال العقد فله أن يفسخ الإجارة ولا أجرة عليه من حين الفسخ‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 30 ص -162-وسئل رحمه الله عن رجل له ملك يستحق كراه خمسة دراهم يعطي المكترين دراهم تقوية ويزيدون في الكري‏.‏ هل يجوز ذلك‏؟‏ أم لا‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏ إذا أقرضه عشرة على أن يكتري منه حانوته بأجرة أكثر من المثل‏.‏ لم يجز هذا باتفاق المسلمين؛ بل لو قرر بينهما من غير شرط كان ذلك باطلا منهيا عنه عند أكثر العلماء‏.‏ كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏ فنهى ﷺ أن يبيعه ويقرضه؛ لأنه يحابيه في البيع لأجل القرض فكيف إذا شارطه مع القرض أن يستأجر ويحابيه وليس عنده وإن كان الغريم معسرا أنظر إلى ميسرة‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏"‏‏[‏البقرة‏:‏278‏:‏ 281‏]‏ ‏.‏

    ج/ 30 ص -163-وسئل عن جندي له قطاع فألزمه إنسان أن يؤجره فآجره على سبيل الغصب بمائتي درهم ثم أظهر أنه يساوي أربعة آلاف درهم فهل يصح هذا الإيجار‏؟‏ أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏ الحمد لله‏.‏ إن كان قد أكرهه بغير حق على الإجارة لم يصح وإن كان قد دلس عليه فله فسخ الإجارة والله أعلم‏.‏
    وسئل عمن جبى لإنسان دراهم كل ألف بستة دراهم وعرف الناس وعادتهم اثنا عشر درهما وقد غرم فيها بجبايتها‏.‏ وهو مغرور بالشرط‏؟‏
    فأجاب‏:‏ إذا كان المستأجر قد دلس على المؤجر وغره حتى استأجر بدون قيمة المثل مما لا يتغابن الناس بمثله فله أن يطالبه بأجرة المثل‏.‏

    ج/ 30 ص -164-وسئل عن رجل أجر رجلا عقارا مدة وفي أواخر المدة زاد رجل في أجرتها فأجره فعارضه المستأجر الأول‏.‏ وقال‏:‏ هذه في إجارتي‏.‏ هل له ذلك‏؟‏
    فأجاب‏:‏ إذا كان قد أجر المدة التي تكون بعد إجارة الأول لم يكن للأول اعتراض عليه في ذلك والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عن رجل له حوانيت وبها أقوام ساكنون من غير إجارة من المالك وفي هذا الوقت زاد أقوام على الساكنين بالحوانيت زيادة متضاعفة فهل يجوز للمالك إجارتهم؛ وقبول الزيادة‏؟‏
    فأجاب‏:‏ إن كانوا غاصبين ظالمين قد سكنوا المكان بغير إذن المالك فإخراج مثل هؤلاء لا يحتاج إلى زيادة؛ بل يجب عليهم أن يخرجوا قبل حصول الزيادة وللمالك أن يخرجهم قبل الزيادة‏.‏ ولا

    ج/ 30 ص -165-يحل للمالك أن يطالبهم بأجرة مسماة؛ بل إنما عليهم أجرة المثل‏.‏ وإن كان المؤجر ناظر وقف أو يتيم‏:‏ كان بإقراره لهم مع إمكان إخراجهم ظالما معتديا‏.‏ وذلك يقدح في عدالته وولايته‏.‏ وأما إن سكنوا على الوجه الذي جرت به العادة في سكنى المستأجرين مثل أن يجيء إلى المالك فيقول‏:‏ أجرني المكان الفلاني بكذا‏.‏ فيقول‏:‏ اذهب فأشهد عليك ويشهد على نفسه المستأجر دون المؤجر ويسلم إليه المكان‏.‏ وإذا أراد الساكن أن يخرج لم يمكنه صاحب المكان فهذه إجارة شرعية‏.‏ ومن قال‏:‏ إن هذه ليست إجارة شرعية وليس للساكن أن يخرج إلا بإذن المالك والمالك يخرجه متى شاء فقد خالف إجماع المسلمين؛ فإن الإجارة إن كانت شرعية فهي لازمة من الطرفين وإن كانت باطلة فهي باطلة من الطرفين ومن جعلها لازمة من جانب المستأجر جائزة من جانب المؤجر فقد خالف إجماع المسلمين‏.‏ ومتى كان المؤجر ناظر وقف أو مال يتيم يسلمه إلى الساكن وأمره أن يكتب عليه إجارة وطالبه بمكتوب الإجارة والأجرة المسماة وقال مع هذا‏:‏ إني لم أؤجره إجارة شرعية‏:‏ كان ذلك قادحا في عدالته وولايته فإن الفقهاء لهم في الإجارة الشرعية قولان

    ج/ 30 ص -166-أحدهما‏:‏ أنها تنعقد بما يعده الناس إجارة حتى لو دفع طعامه إلى طباخ يطبخ بالأجرة أو ثيابه إلى غسال يغسل بالأجرة أو نساج أو خياط أو نحوهم من الصناع الذين جرت عادتهم أنهم يصنعون بالأجرة يستحقون أجرة المثل‏.‏ وكذلك لو دخل حماما أو ركب سفينة أو دابة‏.‏ كما جرت العادة بالركوب على الدواب والمراكب المعدة للكري فإنه يستحق أجرة المثل‏.‏ فكيف إذا قال‏:‏ أجرني بكذا‏؟‏ فقال‏:‏ اذهب فاكتب إجارة فكتبها وسلم إليه المكان‏:‏ فهذه إجارة شرعية عند هؤلاء‏.‏ وهذا قول أكثر الفقهاء كمالك وأبي حنيفة والإمام أحمد وغيرهم‏.‏
    والقول الثاني‏:‏ أنه لا بد من الصفة في ذلك‏.‏ كما قيل مثل ذلك في البيع‏.‏ كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب الشافعي فمن كان يعتقد هذا فعليه ألا يوجب أجرا إلا على هذا الوجه فمن اعتقد أن الأجرة لا تصح إلا على هذا الوجه وأجره على الوجه المعتاد وسلم المكان وطالب بالأجرة المسماة ثم عند الزيادة يدعي عدم الإجارة لم يقبل منه فإن هذا ظلم فإنه إذا التزم مذهبا كان عليه أن يلتزمه له وعليه‏.‏ وأما أن يكون عند الذي له يعتقد صحة الإجارة وعند الذي عليه يعتقد فسادها فهذا غير مقبول ولا سائغ بإجماع المسلمين‏.‏ ومن أصر على مثل ذلك فهو ظالم باتفاق المسلمين؛ بل هو فاسق مردود الشهادة والولاية‏.‏

    ج/ 30 ص -167-وسئل رحمه الله عن رجل مستأجر أرضا بجواره فلما سافر اشترى إنسان الدار التي بجوار الأرض الذي هو مستأجرها فبناها وأدخلها في داره‏.‏ فما يجب‏؟‏
    فأجاب‏:‏ ‏[‏ليس‏]‏ له أن يستولي على الأرض المستأجرة مع غيرها ولا يدخلها في داره؛ بل هو بذلك غاصب ظالم‏.‏ والمستأجر بالخيار بين أن يفسخ الإجارة بهذا السبب؛ وتسقط عنه الأجرة‏.‏ وبين أن يمضي في الإجارة ويطالب الغاصب بأجرة ما انتفع به من الأرض وهو مخير بين أن يبقى بناؤه فيها وبين أن ينزله إن كان مما دخل في عقد إجارته فإن لم يدخل في عقد إجارته لم يتصرف فيها إلا بإذن المالك‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 30 ص -168-وسئل عن رجل وكل رجلا على أنه يستأجر له ويؤجر عنه ويبيع عنه ويبتاع له‏.‏ فاستأجر لموكله حصة بقرية مدة معلومة إجارة صحيحة لازمة فقايله مدة الإيجار من غير أن يكون الموكل وكله في المقايلة‏.‏ فهل هذه المقايلة صحيحة‏؟‏ وهل الإيجار باق على أصله الصحيح يستحقه للموكل‏؟‏ ويستحق المؤجر الإجارة والحال هذه‏؟‏
    فأجاب‏:‏ الحمد لله‏.‏ إذا تعذر استيفاء المستأجر الأجرة التي يستحقها فله فسخ الإجارة كما إذا تعذر استيفاء المشتري الثمن إذا طلب الفسخ والحال هذه وإجارة المستأجر للوكيل قد كان فعل ما وجب عليه وليس هذا من المقايلة الجائزة التي تفتقر إلى إذن الموكل‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 30 ص -169-وسئل عن جماعة بيدهم إقطاع وفي الإقطاع أرض عاطلة وأذنوا لشخص أن يؤجرها؛ فأجرها مدة ثلاثين سنة ولم يشاور الوكيل المقطعين على الثلاثين سنة فهل تجوز هذه الإجارة‏؟‏ أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏ لا تصح هذه الإجارة إلا إذا كانت بإذن المقطعين أو ما يقتضي الإذن فيها‏.‏ فأما مجرد الإذن في الإجارة مطلقا الذي يقتضي في العرف سنة أو سنتين أو نحو ذلك فلا يفهم منه الإذن في هذه المدة الطويلة فلا تصح الإجارة بمجرده‏.‏
    وسئل عن رجل بيده إقطاع يشهد به منشوره وأنه ضمن بعض نواحي الإقطاع لمن يزرعها وينتفع بها مدة معينة ثم انتقل الإقطاع الذي بيده إلى غيره‏.‏ فهل يصح الإيجار الأول‏؟‏ وهل إذا صح يصح الإيجار على المقطع الثاني أو يفسخ‏؟‏ وهل للمقطع أن يمنع المؤجرين الانتفاع‏؟‏

    ج/ 30 ص -170-فأجاب‏:‏ الحمد لله‏.‏ نعم يصح الإيجار الأول؛ لكن ‏[‏إن شاء‏]‏ المقطع الثاني أمضاه؛ بل من حين أقطعها صارت له فإن شاء أجرها لذلك المستأجر وإن شاء لم يؤجره‏.‏ فإن كان للمستأجر فيها زرع أبقاه بأجرة المثل إلى حين كماله وإن لم يكن فيها لا عين ولا منفعة فلا شيء له‏.‏
    وسئل رحمه الله عن رجل له إقطاع فحضر إليه شخص وطلب إيجار الطين منه فأجره طينه للشخص المذكور من غير أن يكشف طينه وسأل عنه وكان المستأجر ذكر للآخر إن لم تؤجر طينك وإلا يبور فخشي الجندي من بوران الطين فأجره من غير أن يكشف ثم حضر شخص آخر من أهل الناحية وعرف الجندي أن المستأجر استأجر طينك بدون القيمة فإن الشركة طينهم مسجل بأكثر من هذه القيمة‏.‏ فهل يجوز للجندي أن يفسخ الإجارة المكتبية‏؟‏ ويؤجر لغيره بقيمته سنة‏؟‏ أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏ الحمد لله‏.‏ إذا كان المستأجر قد دلس على المؤجر‏:‏ مثل أن يكون قد أخبره عنه بما ينقص قيمته ولم يكن الأمر كذلك فللمؤجر فسخ الإجارة‏.‏

    ج/ 30 ص -171-وكذلك إن أخبره بأنه ليس هناك من يستأجره وكان له هناك طلاب وأمثال ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عن جندي استأجر طينا من أمير وانتقل عن الإقطاع واختار المستأجر الفسخ عن الإجارة وجاء الأمير المستجد وطلب منه التحضير‏.‏ فهل يلزمه ذلك‏؟‏
    فأجاب‏:‏ إذا انتقل الإقطاع إلى آخر انفسخت الإجارة من حين انتقاله؛ فإن المنفعة الحادثة بعد ذلك لم تكن ملكا للأول ولا للثاني‏.‏ والمقطع إن شاء يؤجر وإن شاء لا يؤجر والمستأجر إن شاء استأجر منه وإن شاء لا يستأجر منه‏.‏ ليس لواحد منهما إلزام الآخر لا بإجارة ولا له إلزامه بتحضير‏.‏

    ج/ 30 ص -172-وسئل عن رجل استأجر أرضا ثم حدثت مظلمة على البلد وطلبوا منه أن يغرم في المظلمة‏.‏ فهل يلزم المستأجر شيء‏؟‏ أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏ المظالم لا تلزم هذا ولا هذا‏.‏ لكن إذا وضعت على الزرع أخذت من رب الزرع وإن وضعت على العقار أخذت من العقار إذا لم يشترط على المستأجر فإذا كان ما اشترط لم يدخل فيما اشترط على المستأجر وقد وضع على العقار دون الزرع أخذت من رب الأرض وإن وضع على الزرع أخذ من المستأجر؛ وإن وضع مطلقا رجع في ذلك إلى العادة في مثله‏.‏
    وسئل رضي الله عنه عن أمير دخل على بلد وهي مستأجرة لشيخها وبعض الأرض مشغولة بزراعة أقصاب والأقصاب مستمرة في عقد إيجار المستأجر من قبل دخول الأمير على الإقطاع وإلى حين انفصاله‏.‏ فهل إذا

    ج/ 30 ص -173-كانت أرض الأقصاب مستمرة في عقد إيجار المستأجر قبل الدخول وإلى حين الخروج يبطل حكم الإيجار‏؟‏ أو يستمر حكمه‏؟‏
    فأجاب‏:‏ إيجار المقطع للأرض يصح وله أن يؤجرها لمن يزدرعها قصبا وغير قصب‏.‏ وكذلك للمستأجر منه أن يؤجرها لغيره بحكم ما استأجرها‏.‏ وإذا مات ذلك المقطع أو أقطع إقطاعه فالمقطع الثاني لا يلزمه إجارة الأول وليس له أن يقلع ما للمستأجر فيها من الزرع والقصب مجانا؛ بل هو مخير إن شاء أن يبقى زرعه وقصبه بأجرة مستأنفة بمثل الأجرة الأولى أو أقل أو أكثر كما يتراضيان به؛ لكن ليس له أن يلزم المستأجر بأكثر من أجرة المثل‏.‏ وإذا استأجرها صاحب القصب والزرع صحت الإجارة؛ فإنه يتمكن من الانتفاع بها؛ ولو استأجرها غيره جاز على الصحيح وقام غيره فيها مقام المؤجر إن شاء أن يبقى زرعه وقصبه بأجرة المثل وإن شاء أن يؤجره إياها برضاه‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 30 ص -174-وسئل رحمه الله عمن له قيراط في بلد فأجره لشخص بمائة إردب وستين إردبا؛ بناقص عن الغير بثمانين إردبا وذلك قبل أن يشمله الري‏.‏ فهل تصح الإجارة قبل شمول الري‏؟‏ وهل له أن يطلب القيمة‏؟‏
    فأجاب‏:‏ إذا كانت هذه البلاد مما تروى غالبا صحت إجارتها عند عامة الفقهاء قبل أن يروى؛ وإنما النزاع في مذهب الشافعي‏.‏ فظاهر مذهبه جواز إجارة ذلك‏.‏ كمذهب سائر الأئمة‏.‏ وما يوجد في بعض كتبه من إطلاق العقد قد فسره أئمة مذهبه رضي الله عنهم‏.‏ وما زالت أرض مصر تؤجر قبل شمول الري في أعصار السلف والأئمة وليس فيهم من أنكر بسبب تأخره‏.‏ وإذا طلب الزيادة فليس له إلا الأجرة المسماة وإن كان غره فذاك شيء آخر ليبينه السائل حتى يجاب عنه‏.‏

    ج/ 30 ص -175-وسئل عن شخص أجر أرضا جارية في إقطاعه مدة ثم إن المستأجر تسلم الأرض وتسلم المؤجر بعض الأجرة وأخذ ما دفعه من الأجرة إلى المؤجر وقطع الإجارة ثم إنه ذكر بأنه حرث بعض الأرض فألزم المؤجر بأجرة الحراثة‏.‏ فهل يستحق المؤجر مثل أجرة الحرث بمجرد قول المستأجر‏؟‏ أم لا‏؟‏ وهل يفسخ المؤجر بغير مستند شرعي‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏ أما إذا كان المستأجر فسخ الإجارة بعد استيلائه على الأرض فإن كانا قد تقايلا الإجارة أو فسخها بحق‏:‏ فعليه من الأجرة بقدر ما استولى على الأرض وله قيمة حرثه بالمعروف‏.‏
    وسئل رحمه الله عن ناظر وقف أو مال يتيم‏:‏ هل يجوز له أن يسلم المكان من الوقف أو مال اليتيم لمن يسكنه بغير إجارة شرعية‏؟‏ وإذا أشهد أحد على نفسه أنه استأجر من مباشر الوقف مكانا معينا مدة معينة

    ج/ 30 ص -176-بأجرة مسماة وسلم الإجارة للمباشر وتسلم منهم المكان وسكنه مدة وطالبوه بالأجرة المسلمة‏.‏ فهل للناظر أن يجعل هذه الإجارة لازمة من جهة المستأجر غير لازمة من جهة نفسه ونوابه‏؟‏ يمنع بها المستأجر من الخروج إذا أراد الخروج ويطالبه بالأجرة المسماة فيها وتقبل عليه الزيادة متى حصلت ممن زاد عليه وإذا لم يكن ذلك جائزا وأصر الناظر على ذلك‏:‏ هل يكون ذلك قادحا في عدالته وولايته‏؟‏ وهل يجب عليه أن يؤجر الوقف أو مال اليتيم إجارة صحيحة‏؟‏ أم لا‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏ ليس له تسليم الوقف ولا مال اليتيم ولا غيرهما مما يتصرف ‏[‏فيه‏]‏ بحكم الولاية إلا بإجارة شرعية لا يجوز تسليمه إليه بإجارة فاسدة؛ بل وكذلك الوكيل مع موكله ليس له أن يسلم ما وكل في إجارته إلا بإجارة شرعية وليس للناظر أن يجعل الإجارة لازمة من جهة المستأجر جائزة من جهة المؤجر فإن هذا خلاف إجماع المسلمين بل إن كان ممن يعتقد صحة الإجارة والبيع ونحوهما بما جرت به العادة - كما هو قول الجمهور - جاز له أن يسلمه بما هو إجارة في العرف وإن كان لا يرى صحة البيع والإجارة ونحوهما إلا باللفظ كان عليه ألا يسلمها إلا إذا أجرها كذلك كان عليه ألا يسلم ما باعه من مال اليتيم وغيره إلا إذا باعه بيعا شرعيا‏.‏ فمن اعتقد جواز بيع المعاطاة سلمه بهذا البيع‏.‏ وهذا هو القول

    ج/ 30 ص -177-الذي عليه جمهور الأئمة وعليه عمل المسلمين من عهد نبيهم وإلى اليوم‏.‏ ومن كان يعتقد أنه لا يصح بيع وأنه لا بد من الصيغة من الجانبين‏:‏ لم يكن له مع وجود هذا الاعتقاد أن يسلم مال اليتيم إلا بعقد صحيح كالإجارة والبيع ونحوهما من العقود التي يجوزها الجمهور بدون اللفظ وبعض العلماء لا يجوزها إلا باللفظ‏:‏ يجب فيها على كل من اعتقد أن يعمل بموجب اعتقاده له وعليه؛ ليس لأحد أن يعتقد أحد القولين فيها له والقول الآخر فيها عليه كمن يعتقد أنه إذا كان جارا استحق شفعة الجوار وإذا كان مشتريا لم يجب عليه شفعة الجار‏.‏ أو إذا كان من الإخوة للأم - في المسألة المشركة الحمارية - يسقط ولد الأبوين وإذا كان هو من الإخوة للأبوين استحق مشاركة ولد الأم وإذا كان هو المدعي قضي له برد اليمين وإذا كان هو الطالب حكم له بشاهد ويمين وأمثال ذلك كثير‏.‏ فليس لأحد أن يعتقد في مسألة نزاع مثل هذا باتفاق المسلمين‏.‏ فإن مضمون هذا أن يحلل لنفسه ما يحرمه على مثله ويحرم على مثله ما يحلله لنفسه ويوجب على غيره - الذي هو مثله - ما لا يوجبه على نفسه ويوجب لنفسه على غيره ما لا يوجبه لمثله‏.‏ ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام؛ بل ومن كل دين؛ أن هذا لا يجوز ومن اعتقد جواز هذا فهو كافر؛ بل من اعتقد صحة

    ج/ 30 ص -178-بيع المعاطاة ونحوه من الإجارات التي يعدها أهل العرف بيعا وإجارة‏:‏ اعتقد أن هذا العقد صحيح منه ومن غيره‏.‏ ومن اعتقده باطلا‏:‏ اعتقده منه ومن غيره‏.‏ فالمؤجر الناظر إن اعتقد أحد القولين التزمه له وعليه‏.‏ فإن اعتقد بطلان هذا العقد لم يجز له أن يسلم المؤجر ولا يطالب بالأجرة المسماة ولا ‏[‏يمنع‏]‏ المستأجرين من الخروج‏.‏ وكان بمنزلة من سلم العين إلى الغاصب فما تلف تحت يد المستولي كان عليه ضمانه كما لو سلم ماله بعقد فاسد يعتقد هو فساده وإن اعتقد صحة هذا العقد كان له تسليم العين والمطالبة بالأجرة المسماة ولم يكن له أن يقبل زيادة على المستأجر ولا يخرجه قبل انقضاء الأجرة من غير سبب شرعي يوجب الفسخ‏.‏ ومتى أصر الناظر على أن يجعله فاسدا بالنسبة إلى المستأجر صحيحا بالنسبة إليه غير لازم بالنسبة إلى المستأجر؛ فإنه ظالم جائر وذلك قادح في ولايته وعدالته‏.‏ وعليه أن يؤجر ما يؤجره إجارة صحيحة وليس له باتفاق المسلمين أن يؤجر إجارة يعلم أنها غير صحيحة‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 30 ص -179-وسئل رحمه الله عن رجل عليه حصة وقف وعليه دين لشخص فأجره الضيعة وقاصه بدينه المذكور عليه ثلاث سنين وهو شرط مذهب الواقف وعليه دين آخر لرجل آخر فاعتقله في حبس السياسة مدة إلى أن هلك من السجن وحلف أنه ما يخرجه حتى يضمنه الحصة فما وجد من الحبس والتهديد ضمنه الحصة المذكورة وهو ضامن حصة أخرى فاستولى عليها من أول المدة ومدة الإيجار خمس سنين ومبلغ الدين واحد‏.‏ فهل يعمل بالإيجارة الأولى التي هي شرط الواقف وأغلى قيمة‏؟‏ أم بالثانية التي هي كره وإجبار ودون القيمة وغير شرط الواقف‏؟‏ وإذا كان قد أخذ منها مغلات يرجع على المستأجر الأول أم لا‏؟‏ وإذا كان قد فرغ مدة الأول لمن يكون ولاية الإيجار‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏ الحمد لله‏.‏ إذا كان قد أجره إجارة صحيحة كانت إجارته تلك المدة أو بعضها قبل انقضاء مدة هذه الإجارة إجارة باطلة سواء كانت باختيار المؤجر أو كان قد أكره عليها وكان هذا المستأجر ظالما بوضع يده عليها واستغلالها وكان للمستأجر الأول الخيار بين أن يفسخ

    ج/ 30 ص -180-الإجارة وتسقط عنه الأجرة من حين الفسخ وبين أن يضمنها فيؤدي الأجرة ويطالب هذا الظالم بعوض المنفعة‏.‏
    وسئل عن دار وقف على صغير ورجل بالغ وقد أجرها أبو الواقف بالإكراه والإجبار من رجل له جاه منذ أربعين سنة‏.‏ فهل تصح إجارة الأب على ابنه البالغ‏؟‏ وقد رآه مكرها وعليه الترسيم فأراد الابن خلاصه من يد الظالم الذي أكره على الإيجار فأشهد على نفسه بإمضاء الإجارة فهل يصح هذا الإشهاد‏؟‏ وهل تصح إجارة أربعين سنة‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏ إذا أكره على الإيجار بغير حق أو أكره بغير حق على تنفيذها‏:‏ لم يصح؛ فإن المكره بغير حق لا يلزم بيعه ولا إجارته ولا إنفاذه باتفاق المسلمين‏.‏ وأما إجارة الوقف هذه المدة ففيها نزاع بين العلماء كما في مذهب أبي حنيفة والشافعي‏.‏

    ج/ 30 ص -181-وسئل رحمه الله عن أيتام لهم نصيب في ملك فأجره الوصي للشركة مدة ثلاث سنين بدون قيمة المثل‏.‏ فما الحكم‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏ الحمد لله‏.‏ متى أجره الوصي بدون أجرة المثل كان ضامنا لما فوته على اليتيم ولم تكن الإجارة لازمة لليتيم بعد رشده؛ بل هي باطلة منفسخة في أحد قولي العلماء‏.‏ وفي الآخر له أن يفسخها‏.‏ ثم إن كان المستأجر لم يعلم تحريم ما فعله الوصي كان له أن يضمنه ما لم يلتزم ضمانه وإن علم استقر الضمان عليه؛ بل لو أجره بأجرة المثل‏.‏ مثل هذه المدة التي يعلم الوصي أنه يبلغ في أثنائها؛ فأكثر العلماء يجوزون لليتيم الفسخ‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 30 ص -182-وسئل عن رجل استأجر ثم أحدث بعد حماما بجانب الدار يحصل من الماء الناموس وزوجته أسقطت من رائحة الدخان‏.‏ فهل يفسخ الإجارة‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏ إذا لم يكن المستأجر يعلم بأن هذه الحمام إذا أدير يحصل من إدارته الضرر الذي ينقص قيمة المنفعة في العادة فله فسخ الإجارة‏.‏ والقول قوله في عدم العلم مع يمينه‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل عن إقطاع مسجل تقاوي على المقطع كل فدان بثلاثة أرادب وثلاثة دراهم‏.‏ والبقر من المستأجرين‏.‏ هل يجوز ذلك‏؟‏ أم لا‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏ إذا كانت الضريبة ومؤجرها يؤجرها بها سواء كان الفلاح يقترض أو لم يكن‏.‏ ولم يرد الضريبة لأجل القوة فهذا جائز؛ فإن القرض لم يجر به منفعة وإن كان بعض العلماء كره ذلك وجعله من القرض الذي يجر منفعة؛ إذ بالقوة يستأجرها الفلاح لكن هذه منفعة

    ج/ 30 ص -183-للاثنين وإذا لم يزد الأجرة لأجل القوة فقد أحسن‏.‏ ولا فرق بين أن يسمى إجارة أو مسجلا فالجميع سواء‏.‏
    وسئل عمن استأجر أجيرا يعمل في بستان فترك العمل حتى فسد بعض البستان‏.‏ فهل يستحق الأجرة‏؟‏ أو يضمن‏؟‏ أم لا‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏ لا ريب أنه إذا ترك العمل المشروط عليه لم يستحق الأجرة وإن عمل بعضه أعطي من الأجرة بقدر ما عمل وإذا تلف شيء من المال بسبب تفريطه كان عليه ضمان ما تلف بتفريطه‏.‏ والتفريط هو ترك ما يجب عليه من غير عذر‏.‏
    وسئل عن دابة‏:‏ أيما أفضل ينقل الناس بلا أجرة أو يأخذ الأجرة ويتصدق بها‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏ إن كانوا فقراء فتركه لهم أفضل وإن كانوا أغنياء وهنالك محتاج فأخذه لأجل المحتاج أفضل‏.‏

    ج/ 30 ص -184-وسئل رحمه الله عمن أجر أراضي بيت المال لأقوام معينين في إيجار كل واحد في إجارة قدر معلوم بدرهم معلوم وزرعت الأراضي أنشابا، وأن الأراضي المستأجرة فيها زائد مع المستأجر بخارج عما يشهد به الإيجار؛ فهل يجوز اعتبار الأراضي وإخراج الزائد لبيت المال‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏ ما زرعوه زائدا عما يستحقونه بالإجارة فزرعهم بأجرة المثل فمتى استعملوا الزائد كان عليهم أجرة المثل باتفاق المسلمين‏.‏ وإن لم يستعملوه‏:‏ فهل لرب الأرض قلعه بما أنفقوه‏؟‏ على قولين مشهورين للعلماء‏.‏ وإن اختار إبقاءه والمطالبة بأجرة المثل‏:‏ فله ذلك بالاتفاق‏.

    ج/ 30 ص -185-وسئل رحمه الله عمن استأجر مكانا من مباشريه مدة معينة، بأجرة معينة، ولو أراد الإقالة ما أقالوه إلا بانقضاء المدة‏.‏ فهل لهم أن يقبلوا عليه زيادة قبل أن تنقضي مدة الإجارة‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إن كانت صحيحة فهي لازمة من الطرفين باتفاق المسلمين، وليس للمؤجر أن يخرج المستأجر؛ لأجل زيادة حصلت عليه، والحال هذه، ولا يقبل عليه زيادة والحال هذه، باتفاق الأئمة‏.‏
    وإن كانت الإجارة فاسدة لم يجز لناظر الوقف أن يمكن المستأجر من تسلم المكان بمثل هذه الإجارة، ولا له أن يمنعه من الخروج إذا أراد، ولا يملك أن يطالبه بالأجرة المسماة في العقد، وكان دخول الناظر في مثل ذلك قادحا في عدالته وولايته؛ فإنه يجب عليه باتفاق الأئمة ألا يؤجر المكان إلا إجارة صحيحة في الشرع، ويجب عليه باتفاق الأئمة إذا أجره كذلك ألا يقبل عليه الزيادة على المستأجر، ولا يخرجه لأجلها‏.‏
    وأما الذي زاد على المستأجر، فلو زاد عليه بعد ركون المؤجر

    ج/ 30 ص -186-إلى إجارته، لكان قد سام على سوم أخيه، ولو زاد عليه بعد العقد وإمكان الفسخ، فهو مثل الذي يبيع على بيع أخيه‏.‏ وكلاهما حرام بنص رسول الله ﷺ، وهو مذهب الأئمة الأربعة‏.‏ فكيف إذا زاد عليه مع وجود الإجارة الشرعية‏؟‏‏!‏ فإن هذا الزائد عاص آثم ظالم، مستحق للتعزير والعقوبة، ومن أعانه على ذلك فقد أعانه على الإثم والعدوان، وإشهاد المستأجر على نفسه دون إشهاد المؤجر لا أثر له في ذلك، فإن العقد لا يفتقر إلى إشهاد، بل يصح بدون الشهادة‏.‏
    وقول الناظر له‏:‏ أشهد على نفسك مع إشهاد المستأجر، هو إجارة شرعية، بل بعد قول الناظر له‏:‏ أشهد على نفسك، ليس لأحد أن يزيد عليه، وعلى الناظر ألا يؤجرها حتي يغلب على ظنه أنه ليس هناك من يزيد عليه، وعليه أن يشهر المكان عند أهل الرغبات الذين جرت العادة باستئجارهم مثل ذلك المكان‏.‏ فإذا فعل ذلك فقد آجره المثل، وهي الإجارة الشرعية‏.‏
    فإن حاباه بعض أصدقائه، أو بعض من له عنده يد، أو غيرهم، فأجره بدون أجرة المثل، كان ظالما ضامنا لما نقص أهل الوقف من أجرة المثل‏.‏ ولو تغيرت أسعار العقار بعد الإجارة الشرعية لم يملك الفسخ بذلك، فإن هذا لا ينضبط، ولا يدخل في التكليف‏.‏ والمنفعة بالنسبة إلى الزمان قد تكون مختلفة، لا مماثلة؛ فتكون قيمتها في الشتاء

    ج/ 30 ص -187-أكثر من قيمتها في الصيف، وبالعكس‏.‏
    ومن استأجره حولا فإنه يحتمل الزيادة في زمان بعض الكري لأجل ما يحصل من ارتفاعه في الزمان الآخر، فليس لأحد أن يزيد عليه من ارتفاع سعر ذلك المكان، ولو قدر أن الإجارة انفسخت في بعض الأزمنة لبسطت القيمة في مثل ذلك بالقيمة، لا بأجزاء الزمان‏.‏ فيقال‏:‏ كم قيمته في وقت الصيف‏؟‏ ويقسم الأجرة على وقت القيمة، ويحسب لكل زمان من الأجرة بقدر قيمته‏.‏
    والواجب على الناظر أن يفعل مصلحة الوقف في إجارة المكان مسانهة، أو مشاهرة، أو موايمة‏.‏ فإن كانت المصلحة أن يؤجره يوما فيوما، وكلما مضي يوم تمكن المستأجر من الإخلاء، والمؤجر من أمره به فعل ذلك‏.‏ وإن كانت المصلحة أن يؤجره مشاهرة وعند رأس الشهر يتمكن المستأجر من الإخلاء، والمؤجر من أمره به فعل ذلك‏.‏ وأما إن كانت المصلحة مسانهة، فقد فعل ما عليه، وليس له أن يخرجه قبل انقضاء مدة الإجارة؛ لأجل الزيادة‏.‏ وما ذكره بعض متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي والإمام أحمد من التفريق بين أن تكون الزيادة بقدر الثلث، أو أقل، فهو قول مبتدع لا أصل له عن أحد من الأئمة؛ لا الشافعي، ولا أحمد، ولا غيرهما، لا في الوقف ولا في غيره‏.‏

    ج/ 30 ص -188-وسئل رحمه الله عمن استأجر حانوتا من مباشري الأوقاف مدة معينة، بأجرة معينة، وتسلم الحانوت، وانتفع به، وقبضوا منه ما استحق لهم من الأجرة، ولو أراد الإقالة ما أقالوه إلا بانقضاء المدة‏.‏ فهل لهم أن يقبلوا عليه زيادة ممن زاد عليه قبل أن تنقضي مدة إجارته‏؟‏ أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    ليس لهم أن يقبلوا الزيادة عليه والحال هذه سواء كان هذا وقفا، أو ملك يتيم، أو غير ذلك‏.‏
    ومن استجاز أن يقبل الزيادة، ولا يمكن المستأجر الخروج إذا أراد، فقد خالف إجماع المسلمين؛ فإن الإجارة إن كانت فاسدة، أو غير جائزة، كان لكل من المؤجر والمستأجر تركها‏.‏ وإن كانت صحيحة لازمة، لم يكن لواحد منهما فسخها بغير سبب يوجب ذلك؛ لأجل الزيادة ونحوها‏.‏ فأما أن تجعل جائزة من جانب المؤجر، لازمة من جانب المستأجر، فهذا خلاف إجماع المسلمين‏.‏
    وأيضا، فإن زعم الناظر أنه لم يؤجر هذا المكان، أو أجره إجارة فاسدة، كان ذلك قادحا في نظره، وعدالته؛ لأنه إقرار منه بأنه يسلم

    ج/ 30 ص -189-العين الموقوفة إلى من لا يجوز تسليمها اليه، وتمكينه بغير أجرة مسماة؛ ولا نزاع أن الناظر ليس له ذلك‏.‏
    وأيضا، فإن هذا إقرار منه بأن المستأجر لا تجب عليه الأجرة المسماة؛ وإنما يجب عليه أجرة المثل‏.‏ وأجرة المثل كثيرا ما تكون دون المسماة، فيكون ذلك إقرارا على نفسه بأنه ضامن لما فوته على أهل الوقف‏.‏ ولو ادعي الناظر أن الإجارة كانت فاسدة، وادعي المستأجر أنها صحيحة لكان القول قول من يدعي الصحة؛ إذ الأصل في عقود المسلمين الصحة‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رضي الله عنه عن رجل وزان بالقبان، ويأخذ أجرته ممن يزن له‏.‏ فهل يجوز له ذلك‏؟‏ وهل الأجرة حلال أم حرام‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، الوزن بالقبان الصحيح كالوزن بسائر الموازين، إذا وزن الوازن بهذه الآلات الصحيحة بالقسط جاز وزنه، وإن كانت الآلة فاسدة، والوازن باخسا كان من الظالمين المعتدين، وإذا وزن بالعدل، وأخذ أجرته ممن عليه الوزن، جاز ذلك‏.‏

    ج/ 30 ص -190-وسئل عن رجل يختم القماش، وهو ساكن عنده رجل، فإذا ادعي الرجل أن الأجرة من غير كسبه‏.‏ هل يجوز أن يأخذها‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما إذا كان له جهة أخرى حلال، وذكر أنه يعطي الأجرة منها، وغلب على الظن صدقه أن يأخذ، وإن لم يغلب على الظن كذبه، جاز تصديقه في ذلك، إذا لم يعرف كذبه‏.‏
    وسئل رحمه الله عن أجرة الحجام‏.‏ هل هي حرام‏؟‏ وهل ينجس ما يصنعه بيده للمأكل‏؟‏ وهل النبي ﷺ أعطي الحجام أجره‏؟‏ وما جاء فيه من التحريم‏؟‏ وهل ورد في الحديث عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏
    "‏شفاء أمتي في ثلاث‏:‏ آية من كتاب الله، أو لعقة من عسل، أو كأس من حجام‏"‏، فكيف حرم هذا، ووصف بالتداوي هنا، وجعله شفاء‏؟‏‏!‏

    ج/ 30 ص -191-فأجاب‏:‏
    الحمد لله، أما يده إذا لم يكن فيها نجاسة، فهي كسائر أيدي المسلمين، ولا يضرها تلويثها بالدم إذا غسلها، كما لا يضرها تلوثها بالخبث حال الاستنجاء إذا غسلها بعد ذلك‏.‏
    وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال‏:‏ احتجم رسول الله ﷺ، وأعطي الحجام أجره‏.‏ولو كان سحتا لم يعطه إياه‏.‏وفي الصحيحين عن أنس
    وسئل عن كسب الحجام قال‏:‏ احتجم رسول الله ﷺ ، حجمه أبو طيبة، فأمر له بصاعين من طعام، وكلم أهله فخففوا عنه‏.‏ ولا ريب أن الحجام إذا حجم يستحق أجرة حجمه، عند جماهير العلماء، وإن كان فيه قول ضعيف بخلاف ذلك‏.‏
    وقد أرخص النبي ﷺ له أن يعلفه ناضحه، ويطعمه رقيقه، كما في حديث محصن أن أباه استأذن رسول الله ﷺ في خراج الحجام، فأبي أن يأذن له، فلم يزل به حتي قال‏:‏ ‏"‏أطعمه رقيقك، واعلفه ناضحك‏"‏ رواه أبو حاتم، وابن حبان في صحيحه، وغيره‏.‏
    واحتج بهذا أكثر العلماء أنه لا يحرم، وإنما يكره للحر تنزيها‏.‏ قالوا‏:‏ لو كان حراما لما أمره أن يطعمه رقيقه ؛ لأنهم متعبدون،

    ج/ 30 ص -192-ومن المحال أن يأذن النبي ﷺ أن يطعم رقيقه حراما‏.‏
    ومنهم من قال‏:‏ بل يحرم؛ لما روي مسلم في صحيحه عن رافع بن خديج رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال‏:‏ ‏
    "‏كسب الحجام خبيث، وثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث‏"‏ وفي الصحيحين عن ابن أبي جحيفة قال‏:‏ رأيت أبي اشتري حجاما فأمر بمحاجمه فكسرت، فسألته عن ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ إن رسول الله ﷺ نهى عن ثمن الدم‏.‏ قال هؤلاء‏:‏ فتسميته خبيثا يقتضي تحريمه، كتحريم مهر البغي، وحلوان الكاهن‏.‏
    قال الأولون‏:‏ قد ثبت عنه أنه قال‏:‏
    ‏"‏من أكل من هذين الشجرتين الخبيثتين، فلا يقربن مسجدنا‏"‏ فسماهما خبيثتين، بخبث ريحهما، وليستا حرامًا‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏لا يصلين أحدكم، وهو يدافع الأخبثين‏"‏ أي‏:‏ البول، والغائط‏.‏ فيكون تسميته خبيثًا لملاقاة صاحبه النجاسة؛ لا لتحريمه؛ بدليل أنه أعطي الحجَّام أجره، وأذن له أن يطعمه الرقيق، والبهائم‏.‏ ومهر البغي، وحلوان الكاهن، لا يستحقه، ولا يطعم منه رقيق، ولا بهيمة‏.‏ وبكل حال فحال المحتاج اليه ليست كحال المستغني عنه، كما قال السلف‏:‏ كسب فيه بعض الدناءة خير من مسألة الناس‏.‏
    ولهذا لما تنازع العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن، ونحوه،

    ج/ 30 ص -193-كان فيه ثلاثة أقوال في مذهب الإمام أحمد، وغيره‏:‏ أعدلها أنه يباح للمحتاج‏.‏ قال أحمد‏:‏ أجرة التعليم خير من جوائز السلطان، وجوائز السلطان خير من صلة الإخوان‏.‏
    وأصول الشريعة كلها مبنية على هذا الأصل‏:‏ أنه يفرق في المنهيات بين المحتاج وغيره، كما في المأمورات؛ ولهذا أبيحت المحرمات عند الضرورة، لاسيما إذا قدر أنه يعدل عن ذلك إلى سؤال الناس‏.‏ فالمسألة أشد تحريما؛ ولهذا قال العلماء‏:‏ يجب أداء الواجبات، وإن لم تحصل إلا بالشبهات، كما ذكر أبو طالب، وأبو حامد‏:‏ أن الإمام أحمد سأله رجل، قال‏:‏ إن ابنا لي مات، وعليه دين، وله ديون أكره تقاضيها‏.‏ فقال له الإمام أحمد‏:‏ أتدع ذمة ابنك مرتهنة‏؟‏ يقول‏:‏ قضاء الدين واجب، وترك الشبهة لأداء الواجب هو المأمور‏.‏
    ولهذا اتفق العلماء على أنه يرزق الحاكم وأمثاله عند الحاجة، وتنازعوا في الرزق عند عدم الحاجة، وأصل ذلك في كتاب الله في قوله في ولي اليتيم‏:‏ ‏
    "وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏ فهكذا يقال في نظائر هذا؛ إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها‏.‏ والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما، ودفع شر الشرين، وإن حصل أدناهما‏.‏ وقد جاء في الحجامة أحاديث كثيرة‏.‏ وفي الصحيحين عن النبي ﷺ

    ج/ 30 ص -194-أنه قال‏:‏ ‏"‏شفاء أمتي في ثلاث‏:‏ شربة عسل، أو شرطة محجم، أو كية نار، وما أحب أن أكتوي‏" والتداوي بالحجامة جائز بالسنة المتواترة وباتفاق العلماء‏.‏
    وسئل عن امرأة منقطعة أرملة، ولها مصاغ قليل تكريه، وتأكل كراه‏.‏ فهل هو حلال‏؟‏ أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله رب العالمين، هذا جائز عند أبي حنيفة، والشافعي، وغيرهما من أهل العلم‏.‏ وقد كرهه مالك وأحمد، وأصحاب مالك، وكثير من أصحاب أحمد‏.‏ وهذه كراهة تنزيه، لا كراهة تحريم‏.‏
    وهذا إذا كانت بجنسه، وأما بغير جنسه فلا بأس‏.‏ فهذه المرأة إذا أكرته وأكلت كراه لحاجتها لم تنه عن ذلك، لكن عليها الزكاة عند أكثر العلماء؛ كأبي حنيفة، ومالك، والإمام أحمد‏.‏
    وهذا إن أكرته لمن تزين لزوجها، أو سيدها، أو لمن يحضر به حضورا مباحا، مثل أن يحضر عرسا يجوز حضوره‏.‏
    فأما إن أكرته لمن تزين به للرجال الأجانب، فهذا لا يجوز‏.‏

    ج/ 30 ص -195-وأما إن أكرته لمن تزين به لفعل الفاحشة، فهذا أعظم من أن تسأل عنه‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏"وَتَعَاوَنُواْ على الْبرِّ وَالتَّقْوَي وَلاَ تَعَاوَنُواْ على الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏ ‏.‏
    ولا يجوز أن يعان أحد على الفاحشة، ولا غيرها من المعاصي؛ لا بحلية، ولا لباس، ولا مسكن، ولا دابة، ولا غير ذلك؛ لا بكري، ولا بغيره‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عن الشماعين الذين يكرون الشمع، ثم إنهم يزنونه أولا، فإذا رجع وزنوه ثانيا، وأخذوا نقصه‏.‏ فهل يكره ذلك‏؟‏ وإذا كسر الشمع، فهل يلزم الذي اكتراه‏؟‏ أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما الشمع إذا أعطاه لمن يوقده، وقال‏:‏ كلما نقص منه أوقية بكذا، فإن هذا جائز‏.‏ وليس هذا من
    باب الإجارات، ولا
    باب البيع اللازم؛ فإن البيع اللازم لابد أن يكون المبيع فيه معلوما؛ بل هذا معاوضة جائزة، لا لازمة، كما لو قال‏:‏ اسكن في هذه الدار كل يوم بدرهم، ولم يوقف أجلا، فإن هذا جائز في أظهر قولي العلماء‏.‏
    فمسألة الأعيان نظير هذه المسألة في المنافع، وهو إذن في الإتلاف

    ج/ 30 ص -196-على وجه الانتفاع بعوض، كما لو قال‏:‏ ألق متاعك في البحر وعلى ثمنه؛ فإن هذا جائز بلا ريب؛ لأن ذلك مما ينتفع به ملتزم الثمن للتخفيف، كما ينتفع بلزوم الثمن هنا، فإيقاد الشمع بالكراء جائز إذا علم توقيده؛ لكن لابد أن يكون الإيقاد في أمر مباح، لا محظور‏.‏
    وسئل رحمه الله عن زركشي استعمل عنده منديل، فلما فرغ أذنوا له في غسله، فعدت عليه أمة الصانع في صقل الذهب، فتقرض المنديل‏.‏ فهل يجب عليه غرامة المنديل‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، إذا كانت الأمة قد جنت على المنديل، فالجناية تتعلق برقبتها، فعلى مالكها إما أرش الجناية، وإما تسليمها لتستوفي الجناية من رقبتها، وسواء كانت الجناية منها، أو من سيدها، أو غيرهما، فليس على الجاني ما أنفقوا على المنديل، وليس به هذا القرض، ويقوم به بعد حصوله، فيضمنون ما نقصت القيمة، وإن تراضوا بأن يأخذ الصانع المنديل، ويعطيهم قيمته التي تساوي في السوق قبل القرض جاز ذلك، وليس عليه أن يعطيهم جديدا خيرا منه‏.‏

    ج/ 30 ص -197-وسئل رحمه الله عن إجارة الجواميس، يستأجرها عاما واحدا مطلقا، وغرضه لبنها، ويستعملها لذلك‏.‏ وإنما جعلوه مطلقا أنه يستعملها والقصد اللبن‏.‏ والغنم أيضا هل تجوز إجارتها للبن‏؟‏ وهل يجوز أن تعطي لمن يرعاها بصوفها ولبنها‏؟‏ أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، هذه المسألة فيها نزاع معروف بين السلف والعلماء، وكذلك في اشتراء اللبن مدة، مقدارا معينا من ذلك اللبن، يأخذه أقساطا من هذه الماشية‏.‏ والمنع من ذلك هو المعروف في مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد‏.‏
    قال هؤلاء‏:‏ هذا بيع ما لم ير، ولم يوصف، بل بيع معدوم لم يوجد‏.‏ والإجارة إنما تكون على المنافع دون الأعيان، وهذه أعيان‏.‏
    وقال هؤلاء‏:‏ إجارة الظئر للرضاع على خلاف القياس، جازت للحاجة‏.‏ وتنازع هؤلاء في هذه الإجارة‏.‏ فقيل‏:‏ إن المعقود عليه هو الخدمة، والرضاع تابع، وهذا قول ابن عقيل وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ بل

    ج/ 30 ص -198-المعقود عليه هو المقصود بالعقد، وهو اللبن‏.‏ وهو قول القاضي أبي يعلى، وغيره‏.‏
    وأما الرخصة في ذلك في الجملة، فهو مذهب مالك، وغيره‏.‏ وهؤلاء قد يسمون إجارة الظئر للرضاع تبعا للبن؛ لأن الظئر تبع اللبن الذي لم يخلق بعد؛ بناء على أنه عقد على الأعيان، والعقد على العين هو من باب البيوع‏.‏ والنزاع في ذلك لفظي؛ فإنها داخلة في مسمي البيع العام، المتناول للأعيان والمنافع، والموجود والمعدوم، وليست داخلة في مسمي البيع الخاص، الذي يختص بالموجود من الأعيان‏.‏
    وكذلك السلف تنازعوا‏:‏ هل هو من البيع‏؟‏ على القولين‏.‏ وهل يكون بلفظ البيع سلفا‏؟‏ على وجهين في مذهب أحمد وغيره‏.‏ حتي قال من لم يجعله بيعا‏:‏ إن السلف الحال يجوز بلفظ البيع، دون لفظ السلم‏.‏ والصحيح أن العقود إنما يعتبر فيها معانيها لا بمجرد اللفظ‏.‏
    والصواب‏:‏ أن الإجارة المسؤول عنها جائزة؛ فإن الأدلة الشرعية الدالة على الجواز بعوضها ومقايستها تتناول هذه الإجارة، وليس من الأدلة ما ينفي ذلك؛ فإن قول القائل‏:‏ إن إجارة الظئر على خلاف القياس؛ كلام فاسد‏.‏ فإنه ليس في كتاب الله إجارة منصوص عليها في شريعتنا إلا هذه الإجارة، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏"‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏،

    ج/ 30 ص -199-وقال‏:‏ ‏"وَعلى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ ، والسنة وإجماع الأمة دلا على جوازها وإنما تكون مخالفة للقياس لو عارضها قياس نص آخر، وليس في سائر النصوص وأقيستها ما يناقض هذه‏.‏
    وقول القائل‏:‏ الإجارة إنما تكون على المنافع دون الأعيان، ليس هو قول لله، ولا لرسوله، ولا الصحابة، ولا الأئمة؛ وإنما هو قول قالته طائفة من الناس‏.‏
    فيقال لهؤلاء‏:‏ لا نسلم أن الإجارة لا تكون إلا على المنافع فقط؛ بل الإجارة تكون على ما يتجدد ويحدث ويستخلف بدله، مع بقاء العين، كمياه البئر، وغير ذلك، سواء كان عينا أو منفعة، كما أن الموقوف يكون ما يتجدد، وما تحدث فائدته شيئا بعد شيء، سواء كانت الفائدة منفعة، أو عينا؛ كالتمر واللبن، والماء النابع‏.‏
    وكذلك العارية‏.‏ وهو عما يكون الانتفاع بما يحدث، ويستخلف بدله‏.‏ يقال‏:‏ أفقر الظهر، وأعري النخلة، ومنح الناقة، فإذا منحه الناقة يشرب لبنها ثم يردها، أو أعراه نخلة يأكل ثمرها، ثم يردها، وهو مثل أن يفقره ظهرا يركبه، ثم يرده‏.‏
    وكذلك إكراء المرأة أو طير، أو ناقة، أو بقرة، أو شاة يشرب

    ج/ 30 ص -200-لبنها مدة معلومة، فهو مثل أن يكون دابة يركب ظهرها مدة معلومة‏.‏
    وإذا تغيرت العادة في ذلك، كان تغير العادة في المنفعة يملك المستأجر؛ إما الفسخ، وإما الأرش‏.‏ وكذلك إذا أكراه حديقة يستعملها حولا، أو حولين، كما فعل عمر بن الخطاب لما قبل حديقة أسيد بن الحضير ثلاث سنين، وأخذ المال وقضي به دينا كان عليه‏.‏
    وإذا كان المستأجر هو الذي يقوم على هذه الدواب، فهو إجارة، وهو أولي بالجواز من إجارة الظئر‏.‏
    وأما إذا كان صاحب الماشية هو الذي يعلفها ويسقيها ويؤويها، وطالب اللبن لا يعرف إلا لبنها، وقد استأجرها ترضع سخالا له، فهو مثل إجارة الظئر‏.‏ وإذا كان ليأخذ اللبن هو فهو يشبه إجارة الظئر، للرضاع المطلق، لا لإرضاع طفل معين‏.‏ وهذا قد يسمي بيعا، ويسمي إجارة‏.‏ وهو نزاع لفظي‏.‏
    وإذا قيل‏:‏ هو بيع معدوم‏.‏ قيل‏:‏ نعم، وليس في أصول الشرع ما ينهي عن بيع كل معدوم، بل المعدوم الذي يحتاج إلى بيعه، وهو معروف في العادة، يجوز بيعه، كما يجوز بيع الثمرة بعد بدو صلاحها؛ فإن ذلك يصح عند جمهور العلماء، كما دلت عليه السنة، مع أن الأجزاء التي تخلق بعد معدومة، وقد دخلت في العقد‏.‏ وكذلك

    ج/ 30 ص -201-يجوز بيع المقاثي وغيرها على هذا القول‏.‏ والله أعلم‏.‏ والحمد لله‏.‏
    وسئل عن مريض طلب من رجل أن يطببه، وينفق عليه ففعل‏.‏ فهل للمنفق أن يطالب المريض بالنفقة‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إن كان ينفق طالبا للعوض لفظا، أو عرفا، فله المطالبة بالعوض‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل عن رجل ضرير كتبت عليه إجارة‏.‏ فهل تصح إجارته‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    يصح استئجار الأعمي، واشتراؤه عند جمهور العلماء؛ كمالك، وأبي حنيفة، والإمام أحمد في المشهور عنه‏.‏ ولابد أن يوصف له المبيع، والمستأجر‏.‏ فإن وجده بخلاف الصفة، فله الفسخ‏.‏

    ج/ 30 ص -202-وسئل رحمه الله عن رجل ليس له ما يكفيه، وهو يصلي بالأجرة‏.‏ فهل يجوز ذلك‏؟‏ أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الاستئجار على الإمامة لا يجوز في المشهور من مذهب أبي حنيفة، ومالك، والإمام أحمد‏.‏
    وقيل‏:‏ يجوز، وهو مذهب الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، وقول في مذهب مالك‏.‏ والخلاف في الأذان أيضا، لكن المشهور من مذهب مالك أن الاستئجار يجوز على الأذان وعلى الإمامة معه، لا منفردة‏.‏ وفي الاستئجار على هذا ونحوه كالتعليم، قول ثالث في مذهب أحمد، وغيره‏:‏ أنه يجوز مع الحاجة، ولا يجوز بدون الحاجة‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 30 ص -203-وسئل رحمه الله عن رجل توفي وأوصى أن يصلى عنه بدراهم‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    صلاة الفرض لا يفعلها أحد عن أحد لا بأجرة، ولا بغير أجرة، باتفاق الأئمة، بل لا يجوز أن يستأجر أحدا ليصلي عنه نافلة باتفاق الأئمة؛ لا في حياته، ولا في مماته‏.‏ فكيف من يستأجر ليصلي عنه فريضة‏.‏
    وإنما تنازع العلماء فيما إذا صلى نافلة بلا أجرة، وأهدي ثوابها إلى الميت‏.‏ هل ينفعه ذلك‏؟‏ فيه قولان للعلماء‏.‏
    ولو نذر الميت أن يصلي فمات‏.‏ فهل تفعل عنه الصلاة المنذورة‏؟‏ على قولين، هما روايتان عن الإمام أحمد‏.‏
    لكن هذه الدراهم التي أوصى بها يتصدق بها عنه، ويخص بالصدقة أهل الصلاة، فيكون للميت أجر‏.‏ وكل صلاة يصلونها، ويستعينون عليها بصدقته، يكون له منها نصيب من غير أن ينقص من أجر المصلي شيء، كما قال النبي ﷺ ‏:‏ ‏
    "‏من فطر صائما فله مثل أجره‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏من جهز غازيا فقد غزا‏"‏‏.‏

    ج/ 30 ص -204-وسئل رحمه الله عن رجل من أهل العلم، قصد لأن يقرأ عليه شيء من أحاديث رسول الله ﷺ ، وغيرها من العلوم الشرعية، فامتنع من إقرائها إلا بأجرة‏.‏ فقيل له‏:‏ قد روي من هدي السلف وأئمة الهدي تعليم العلم ابتغاء لوجه الله الكريم ما لا خفاء به على عاقل، وهذا مما لا ينبغي‏.‏ فقال‏:‏ أقرئ العلم بغير أجرة‏؟‏‏!‏ يحرم على ذلك، فكلامه صحيح‏؟‏ أم باطل‏؟‏ وهل هو جاهل بقوله‏:‏ إنه معذور‏.‏ وهل يجوز له أخذ الأجرة على تعليم العلم النافع‏؟‏ أم يكره له ذلك‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، أما تعليم القرآن والعلم بغير أجرة فهو أفضل الأعمال، وأحبها إلى الله، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، ليس هذا مما يخفي على أحد ممن نشأ بديار الإسلام‏.‏ والصحابة والتابعون وتابعو التابعين، وغيرهم من العلماء المشهورين عند الأمة بالقرآن والحديث والفقه،إنما كانوا يعلمون بغير أجرة،ولم يكن فيهم من يعلم بأجرة أصلا‏.‏
    ‏"‏فإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما،

    ج/ 30 ص -205-وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر‏"‏‏.‏ والأنبياء صلوات الله عليهم إنما كانوا يعلمون العلم بغير أجرة، كما قال نوح عليه السلام‏:‏ ‏"وَمَا أَسْأَلُكُمْ عليه مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا على رَبِّ الْعَالَمِينَ‏"‏[‏الشعراء‏:‏ 109‏]‏ ، وكذلك قال هود وصالح وشعيب ولوط وغيرهم‏.‏ وكذلك قال خاتم الرسل‏:‏ ‏"قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عليه مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ‏"[‏ص‏:‏ 86‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏"قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عليه مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا‏"‏ ‏[‏الفرقان‏:‏57‏]‏ ‏.‏
    وتعليم القرآن والحديث والفقه وغير ذلك بغير أجرة لم يتنازع العلماء في أنه عمل صالح، فضلا عن أن يكون جائزا، بل هو من فروض الكفاية؛ فإن تعليم العلم الذي بينه فرض على الكفاية، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح‏:‏ ‏
    "‏بلغوا عني ولو آية‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ليبلغ الشاهد الغائب‏"‏‏.‏
    وإنما تنازع العلماء في جواز الاستئجار على تعليم القرآن، والحديث والفقه‏.‏ على قولين مشهورين، هما روايتان عن أحمد‏.‏
    إحداهما وهو مذهب أبي حنيفة وغيره ‏:‏ أنه لا يجوز الاستئجار على ذلك‏.‏
    والثانية وهو قول الشافعي ‏:‏ أنه يجوز الاستئجار‏.‏
    وفيها قول ثالث في مذهب أحمد‏:‏ أنه يجوز مع الحاجة؛ دون الغني، كما قال تعالى في ولي اليتيم‏:‏
    ‏"وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ‏"‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏ ‏.‏

    ج/ 30 ص -206-يجوز أن يعطي هؤلاء من مال المسلمين على التعليم، كما يعطي الأئمة والمؤذنون والقضاة، وذلك جائز مع الحاجة‏.‏
    وهل يجوز الارتزاق مع الغنى‏؟‏ على قولين للعلماء‏.‏ فلم يقل أحد من المسلمين‏:‏ إن عمل هذه الأعمال بغير أجر لا يجوز‏.‏
    ومن قال‏:‏ إن ذلك لا يجوز؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ لكن إن أراد أنه فقير متي عَلَّم بغير أجر عجز عن الكسب لعياله، والكسب لعياله واجب عليه، متعين، فلا يجوز له ترك الواجب المتعين، لغير متعين، واعتقد مع ذلك جواز التعليم بالأجرة مع الحاجة، أو مطلقا؛ فهذا متأول في قوله، لا يكفر بذلك، ولا يفسق باتفاق الأئمة؛ بل إما أن يكون مصيبا أو مخطئا‏.‏
    ومأخذ العلماء في عدم جواز الاستئجار على هذا النفع‏:‏ أن هذه الأعمال يختص أن يكون فاعلها من أهل القرب بتعليم القرآن، والحديث، والفقه، والإمامة، والأذان؛ لا يجوز أن يفعله كافر، ولا يفعله إلا مسلم،بخلاف النفع الذي يفعله المسلم والكافر؛ كالبناء، والخياط، والنسج، ونحو ذلك‏.‏ وإذا فعل العمل بالأجرة لم يبق عبادة لله، فإنه يبقي مستحقا بالعوض، معمولا لأجله‏.‏ والعمل إذا عمل للعوض لم

    ج/ 30 ص -207-يبق عبادة؛ كالصناعات التي تعمل بالأجرة‏.‏
    فمن قال‏:‏ لا يجوز الاستئجار على هذه الأعمال، قال‏:‏ إنه لا يجوز إيقاعها على غير وجه العبادة لله، كما لا يجوز إيقاع الصلاة والصوم والقراءة على غير وجه العبادة لله، والاستئجار يخرجها عن ذلك‏.‏
    ومن جوز ذلك قال‏:‏ إنه نفع يصل إلى المستأجر، فجاز أخذ الأجرة عليه؛ كسائر المنافع‏.‏ قال‏:‏ وإذا كانت العبادة في هذه الحال، لا تقع على وجه العبادة، فيجوز إيقاعها على وجه العبادة، وغير وجه العبادة؛ لما فيها من النفع‏.‏
    ومن فرق بين المحتاج وغيره وهو أقرب قال‏:‏ المحتاج إذا اكتسب بها أمكنه أن ينوي عملها لله، ويأخذ الأجرة ليستعين بها على العبادة؛ فإن الكسب على العيال واجب أيضا، فيؤدي الواجبات بهذا؛ بخلاف الغني؛ لأنه لا يحتاج إلى الكسب، فلا حاجة تدعوه أن يعملها لغير الله؛ بل إذا كان الله قد أغناه، وهذا فرض على الكفاية، كان هو مخاطبا به، وإذا لم يقم إلا به كان ذلك واجبا عليه عينا‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 30 ص -208-وسئل رحمه الله عمن اكترى دارا لمرضاة نفسه‏.‏ هل يجوز له أن يكري‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إن اكترى منفعة لفعل محرم؛ مثل الغناء والزنا وشهادة الزور، وقتل المعصوم، كان كراه محرما‏.‏ وكذلك إن أكراها لفعل ما وجب عليه، مثل أن يتعين عليه شهادة بحق، أو فتيا في مسألة، أو قضاء في حكومة، أو جهاد متعين، فإن هذا الكري لا يجوز‏.‏ وإن كان لفعل يختص بأهل القربات؛ كالكري لإقراء القرآن، والعلم، والإمامة، والأذان، والحج عن غيره والجهاد الذي لم يتعين، فهذا فيه خلاف بين العلماء‏.‏ وإن كان الكري لعمل؛ كالخياطة، والنجارة، والبناء، جاز بالاتفاق‏.‏

    ج/ 30 ص -209-وقال رحمه الله‏:‏
    فصل

    الاستئجار على منفعة محرمة؛ كالزنا، واللواط، والغناء، وحمل الخمر، وغير ذلك، باطل، لكن إذا استوفي تلك المنفعة ومنع العامل أجرته كان غدرا وظلما أيضا‏.‏
    وقد استوفيت مسألة الاستئجار لحمل الخمر في كتاب ‏"‏الصراط المستقيم‏"‏ وبينت أن الصواب منصوص أحمد‏:‏ أنه يقضي له بالأجرة، وأنها لا تطيب له؛ إما كراهة تنزيه، أو تحريم، لكن هذه المسألة فيما كان جنسه مباحا؛ كالحمل، بخلاف الزنا‏.‏ ولا ريب أن مهر البغي خبيث، وحلوان الكاهن خبيث، والحاكم يقضي بعقوبة المستأجر المستوفي للمنفعة المحرمة فتكون عقوبته له عوضا عن الأجر‏.‏
    فأما فيما بينه وبين الله، فهل ينبغي له أن يعطيه ذلك‏؟‏ وإن كان لا يحل الأخذ لحق الله‏.‏ فهذا متقوم‏.‏ وإن لم يجب عليه ذلك كان في ذلك درك لحاجته؛ أنه يفعل المحرم، ويعذر، ولا يعاقبه في الآخرة إلا

    ج/ 30 ص -210-على فعل المحرم، لا على الغدر والظلم‏.‏
    وهذا البحث يتصل بالبحث في أحكام سائر العقود الفاسدة، وقبوضها‏.‏
    وسئل رحمه الله عمن استعمل كتابا مذهبا مكتوبا، وأعطي أجرته، وتسلمه الذي استعمله وجلده، وغاب به أربعين يوما، ثم أتي به إلى الصانع الذي تولي كتابته وتذهيبه، وقال له‏:‏ أعطني ما تسلمته مني من الأجرة، فإني واسطة‏.‏ فهل يجوز له أن يكرهه على رده‏؟‏ وإعادة ما أعطاه من الأجرة‏؟‏ فأجاب‏:‏
    إذا استأجره لعمل من الأعمال التي تجوز الإجارة عليها، وأعطاه أجرته، مع توفية المستأجر عمله، لم يجب عليه أن يرد عليه الأجرة، بل إن لم يسم موكله في عقد الإجارة كان ضامنا للأجرة بلا ريب‏.‏ وإن سماه، فهل يكون ضامنا للأجرة‏؟‏ على قولين، هما روايتان عن الإمام أحمد‏.‏
    فلو لم يعطه الأجرة كان للأجير أن يطالبه بها، فكيف إذا أعطاه إياها‏؟‏ بل إن كان أعطي الأجرة من مال موكله، وإلا فللوكيل مطالبة الموكل بالأجرة التي أداها عنه‏.‏ والله أعلم‏.

    ج/ 30 ص -211-وسئل رحمه الله عن إنسان جاءه سائل في صورة مشبب، فشبب، فأعطاه شيئا، فكان إنسان حاضرا فقال للمعطي‏:‏ تحرم عليه هذه العطية على هذه الصورة؛ لكون الشبابة وسيلة‏.‏ فقال‏:‏ ما أعطيته إلا لكونه فقيرا‏.‏ وبعد هذا لو أعطيته لأجل تشبيبه لكان جائزا؛ فإنه قد أباح بعضهم سماع الشبابة، واستدل على ذلك بأن النبي ﷺ عبر على راع، ومعه ابن عباس، أو غيره، وكان الراعي يشبب، فسد النبي ﷺ أذنيه بأصبعيه، وصار يسأل الذي كان معه‏:‏ ‏"‏هل تسمع صوت الشبابة‏؟‏‏"‏ فما زال كذلك، حتي أخبره أنه لم يسمعها، ففتح أذنيه‏.‏ وقال‏:‏ لو كان سماع الشبابة حراما ؛ لأمر النبي ﷺ لمن كان معه بسد أذنيه، كما فعل، أو نهي الراعي عن التشبيب، وهذا دليل الإباحة في حق غير الأنبياء‏.‏ فهل هذا الخبر صحيح‏؟‏ وهل هذا الدليل موافق للسنة أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما نقل هذا الخبر عن ابن عباس فباطل، لكن قد رواه أبو داود في السنن أنه كان مع ابن عمر، فمر براع معه زمارة،

    ج/ 30 ص -212-فجعل يقول‏:‏ أتسمع يا نافع‏؟‏ فلما أخبره أنه لا يسمع رفع أصبعيه من أذنيه، وأخبره أنه كان مع النبي ﷺ ، ففعل مثل ذلك، وقال أبو داود لما روي هذا الحديث‏:‏ هذا حديث منكر‏.‏ وقد رواه أبو بكر الخلال من وجوه متعددة، يصدق بعضها بعضا‏.‏
    فإن كان ثابتا فلا حجة فيه لمن أباح الشبابة، لاسيما ومذهب الأئمة الأربعة أن الشبابة حرام‏.‏ ولم يتنازع فيها من أهل المذاهب الأربعة إلا متأخري الخراسانيين من أصحاب الشافعي؛ فإنهم ذكروا فيها وجهين‏.‏ وأما العراقيون وهم أعلم بمذهبه فقطعوا بالتحريم، كما قطع به سائر المذاهب‏.‏ وبكل حال فهذا وجه ضعيف في مذهبه‏.‏ وقد قال الشافعي‏:‏ الغناء مكروه، يشبه الباطل، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته‏.‏ وقال أيضا‏:‏ خلفت في بغداد شيئا أحدثه الزنادقة يسمونه ‏[‏التغبير‏]‏ يصدون به الناس عن القرآن‏.‏ وآلات الملاهي لا يجوز اتخاذها، ولا الاستئجار عليها عند الأئمة الأربعة‏.‏
    فهذا الحديث إن كان ثابتا فلا حجة فيه على إباحة الشبابة، بل هو على النهي عنها أولي من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن المحرم هو الاستماع لا السماع، فالرجل لو يسمع الكفر والكذب والغيبة والغناء والشبابة من غير قصد منه، بل كان مجتازا

    ج/ 30 ص -213-بطريق، فسمع ذلك لم يأثم بذلك، باتفاق المسلمين‏.‏ ولو جلس واستمع إلى ذلك، ولم ينكره لا بقلبه، ولا بلسانه، ولا يده، كان آثما باتفاق المسلمين، كما قال تعالي ‏"وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏68، 69‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏"وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 140‏]‏، فجعل القاعد المستمع من غير إنكار بمنزلة الفاعل‏.‏
    ولهذا يقال‏:‏ المستمع شريك المغتاب‏.‏ وفي الأثر‏:‏ من شهد المعصية وكرهها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها ورضيها كان كمن شهدها‏.‏ فإذا شهدها لحاجة أو لإكراه أنكرها بقلبه؛ لقول النبي ﷺ ‏:‏
    ‏"‏من رأي منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان‏"‏‏.‏
    فلو كان الرجل مارًا فسمع القرآن من غير أن يستمع إليه لم يؤجر على ذلك؛ وإنما يؤجر على الاستماع الذي يقصد، كما قال تعالي‏:‏ ‏
    "وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏"‏[‏الأعراف‏:‏204‏]‏، وقال لموسي‏:‏ ‏"وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى‏"‏ ‏[‏طه‏:‏13‏]‏‏.‏

    ج/ 30 ص -214-فإذا عرف أن الأمر والنهى والوعد والوعيد يتعلق بالاستماع، لا بالسماع، فالنبي ﷺ وابن عمر كان مارًا مجتازًا لم يكن مستمعًا، وكذلك كان ابن عمر مع النبي ﷺ ، ونافع مع ابن عمر، كان سامعا لا مستمعا، فلم يكن عليه سد أذنه‏.‏
    الوجه الثاني‏:‏ أنه إنما سد النبي ﷺ أذنيه مبالغة في التحفظ، حتى لا يسمع أصلا‏.‏ فتبين بذلك أن الامتناع من أن يسمع ذلك خير من السماع، وإن لم يكن في السماع إثم، ولو كان الصوت مباحا لما كان يسد أذنيه عن سماع المباح؛ بل سد أذنيه لئلا يسمعه، وإن لم يكن السماع محرمًا دل على أن الامتناع من الاستماع أولى‏.‏ فيكون على المنع من الاستماع أدل منه على الإذن فيه‏.‏
    الوجه الثالث‏:‏ أنه لو قدر أن الاستماع لا يجوز، فلو سد هو ورفيقه آذانهما لم يعرفا متي ينقطع الصوت، فيترك المتبوع سد أذنيه‏.‏
    الرابع‏:‏ أنه لم يعلم أن الرفيق كان بالغا، أو كان صغيرا دون البلوغ‏.‏ والصبيان يرخص لهم في اللعب، ما لا يرخص فيه للبالغ‏.‏
    الخامس‏:‏ أن زمارة الراعي ليست مطربة؛ كالشبابة التي يصنع غير الراعي، فلو قدر الإذن فيها لم يلزم الإذن في الموصوف، وما يتبعه من الأصوات التي تفعل في النفوس فعل حميا الكؤوس

    ج/ 30 ص -215-السادس‏:‏ أنه قد ذكر ابن المنذر اتفاق العلماء على المنع من إجارة الغناء، والنوح، فقال‏:‏ أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال النائحة، والمغنية، كره ذلك الشعبي، والنخعي، ومالك‏.‏ وقال أبو ثور والنعمان ويعقوب ومحمد‏:‏ لا تجوز الإجارة على شيء من الغناء والنوح، وبه نقول‏.‏
    فإذا كان قد ذكر إجماع من يحفظ عنه من أهل العلم على إبطال إجارة النائحة، والمغنية‏.‏ والغناء للنساء في العرس والفرح جائز‏.‏ وهو للرجل؛ إما محرم، وإما مكروه‏.‏ وقد رخص فيه بعضهم، فكيف بالشبابة التي لم يبحها أحد من العلماء؛ لا للرجال، ولا للنساء؛ لا في العرس ولا في غيره‏؟‏‏!‏ وإنما يبيحها من ليس من الأئمة المتبوعين المشهورين بالإمامة في الدين‏.‏
    فقول القائل ‏:‏ لو أعطيته لأجل تشبيبه لكان جائزا‏.‏ قول باطل، مخالف لمذاهب أئمة المسلمين، لو كان التشبيب من الباطل المباح، فكيف وهو من الباطل المنهى عنه، وهذا يظهر ‏[‏بالوجه السابع‏]‏‏:‏
    وهو أنه ليس كل ما جاز فعله جاز إعطاء العوض عليه‏.‏ ألا تري أن في الحديث المشهور عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏لا سبق إلا في خف، أو حافر، أو نصل‏"‏ فقد نهى عن السبق في غير هذه

    ج/ 30 ص -216-الثلاثة‏.‏ ومع هذا فالمصارعة قد تجوز، كما صارع النبي ﷺ ركانة بن عبد يزيد‏.‏ وتجوز المسابقة بالأقدام، كما سابق النبي ﷺ عائشة، وكما أذن لسلمة بن الأكوع في المسابقة في غزوة الغابة، وذي قرد‏.‏ وقد قال النبي ﷺ ‏:‏ ‏"‏كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبة امرأته، فإنهن من الحق‏"‏ وهذا اللهو الباطل من أكل المال به كان أكلا بالباطل، ومع هذا فيرخص فيه كما يرخص للصغار في اللعب ، وكما كان صغيرتان من الأنصار تغنيان أيام العيد في بيت عائشة، والنبي ﷺ‏؟‏ لا يستمع إليهن، ولا ينهاهن‏.‏ولما قال أبو بكر‏:‏ أمزمار الشيطان في بيت رسول الله ﷺ قال النبي ﷺ ‏:‏ ‏"‏دعهما يا أبا بكر، فإن لكل قوم عيدًا، وإن هذا عيدنا‏"‏ فدل بذلك على أنه يرخص لمن يصلح له اللعب أن يلعب في الأعياد، وإن كان الرجال لا يفعلون ذلك‏.‏ ولا يبذل المال في الباطل‏.‏
    فقد تبين أن المستدل بهذا الحديث على جواز ذلك، وجواز إعطاء الأجرة عليه مخطئ من هذه الوجوه، لو كان الحديث صحيحا، فكيف وفيه ما فيه‏؟‏‏!‏

    ج/ 30 ص -217-وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه‏:‏
    فصل

    وإذا آجر الأرض أو الرباع؛ كالدور، والحوانيت، والفنادق، وغيرها‏.‏ كانت إيجارة لازمة من الطرفين، لا تكون لازمة من أحد الطرفين، جائزة من الطرف الآخر، بل إما أن تكون لازمة منهما، أو تكون جائزة غير لازمة منهما، عند كثير من العلماء‏.‏
    كما لو استكراه كل يوم بدرهم، ولم يوقت أجلا، فهذه الإجارة جائزة غير لازمة، في أحد قولي العلماء‏.‏ فكلما سكن يومًا لزمته أجرته، وله أن يسكن اليوم الثاني، وللمؤجر أن يمنعه سكني اليوم الثاني‏.‏
    وكذلك إذا كان أجر الشهر بكذا، أو كل سنة بكذا ، ولم يؤجلا أجلاً‏.‏
    وأما إذا كانت لازمة من الطرفين، فإذا كان المستأجر لا يمكنه

    ج/ 30 ص -218-الخروج قبل انقضاء المدة، لم يكن للمؤجر أن يخرجه قبل انقضاء المدة، لا لأجل زيادة حصلت عليه في أثناء المدة، ولا لغير زيادة، سواء كانت العين وقفًا، أو طلقا‏.‏ وسواء كانت ليتيم أو لغير يتيم‏.‏ وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وغيرهم من أئمة المسلمين، لم يقل أحد من الأئمة‏:‏ إن الإجارة المطلقة تكون لازمة من جانب المستأجر، غير لازمة من جانب المؤجر؛ في وقف، أو مال يتيم، ولا غيرهما‏.‏ وإن شذ بعض المتأخرين فحكى نزاعا في بعض ذلك، فذلك مسبوق باتفاق الأئمة قبله‏.‏ والله تعالي قد أمر بالوفاء بالعقود، وأمر بالوفاء بالعهد، وقال النبي ﷺ ‏:‏ ‏"‏ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها‏:‏ إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر‏"‏‏.
    وإذا قال الناظر للطالب‏:‏ اكتب عليك إجارة، واسكن، فقد أجره‏.‏ فإن لم يكن أجره لم يحل له أن يسلم إليه العين، فإنه يكون قد سلم الوقف ومال اليتيم إلى ما لا يجوز تسليمه، فيكون ظالمًا ضامنا‏.‏ ولو لم يستأجر لكان له أن يخرج إذا شاء، ولكان غاصبا لا تجب عليه الأجرة المسماة، بل أجرة المثل لما انتفع به في أحد قولي العلماء‏.‏ وعلى قول من لا يضمن منافع الغصب لا يجب

    ج/ 30 ص -219-عليه شيء‏.‏
    وغاية ما يقال‏:‏ إنه قبضها بإجارة فاسدة، ولو كان كذلك لكان له أن يخرج إذا شاء، بل كان يجب عليه أن يرد العين على المؤجر؛ كالمقبوض بالعقد الفاسد، بل يجب عليه المسمي، أو أجرة المثل، في أحد قولي العلماء‏.‏ وفي الآخر يجب أقل الأمرين من المسمي أو أجرة المثل‏.‏ فلا يجوز قبول الزيادة، لا في وقف، أو مال يتيم، وغيرهما، إلا حيث لا تكون الإجارة لازمة، وذلك حيث يكون المستأجر متمكنا من الخروج، ورد العقار إليهم إذا شاء، وهو الذي يسميه العامة الإخلاء، والإغلاق‏.‏
    فإذا كان متمكنا من الإخلاء والإغلاق، كان المؤجر أيضا متمكنًا من أن يخرجه، ويؤجره لغيره، وإن لم يقع عليه زيادة، ويجب أن يعمل ما يراه من المصلحة‏.‏

    ج/ 30 ص -220-وسئل رحمه الله عن ضمان البساتين والأرض التي فيها النخل، أو الشجر غير النخل، قبل أن يبدو صلاحه‏.‏ هل يجوز ضمان السنة، أو السنتين‏؟‏ أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله،هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال‏:‏
    أحدها‏:‏ أن ذلك لا يجوز بحال؛ بناء على أن هذا داخل فيما نهى عنه رسول الله ﷺ من بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها، فلا يجوز كما لا يجوز في غير الضمان؛ مثل أن يشتري ثمرة مجردة بعد ظهورها، وقبل بدو صلاحها؛ بحيث يكون على البائع مؤنة سقيها وخدمتها إلى كمال الصلاح‏.‏ وهذا القول هو المعروف في مذهب الشافعي، وأحمد، وهو منقول عن نصه‏.‏ ومذهب أبي حنيفة في ذلك أشد منعا‏.‏
    وتنازع أصحاب هذا القول‏.‏ هل يجوز الاحتيال على ذلك بأن يؤجر الأرض، ويساقي على الشجر بجزء يسير‏؟‏ على قولين‏.‏ فالمنصوص عن أحمد أنه لا يجوز‏.‏ وذكر القاضي أبو يعلى في كتاب ‏[‏إبطال الحيل‏]‏‏:‏

    ج/ 30 ص -221-أنه يجوز‏.‏ وهو المعروف عند أصحاب الشافعي‏.‏ وهذه الحيلة قد تعذرت على أصل مصححي الحيل، وهي باطلة من وجوه‏:‏
    منها‏:‏ أن الأمكنة كثيرا منها ما يكون وقفا، أو يكون ليتيم، ونحوه ممن يتصرف في ماله بحكم الولاية، والمساقاة على ذلك بجزء يسير لا يجوز، واشتراط أحد العقدين من الآخر لا يصح‏.‏
    ومنها‏:‏ أن الفساد الذي من أجله نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، مثل كون ذلك غررًا من جنس القمار، وأنه يفضي إلى الخصومات، والعداوات التي هي من المفاسد، التي حرم القمار لأجلها، ونحو ذلك يوجد في مثل هذه المعاملات أكثر مما يوجد عند مجرد بيع الثمر قبل بدو صلاحه؛ فإنه قد علم أن المتقبل لذلك لم يبذل ماله إلا بإزاء ما يحصل له من منفعة الأرض والشجر، لا سيما إذا كانت منفعة الشجر هي الأغلب؛ كالحدائق والبساتين التي يكون غالبها شجرًا، أو بياضها قليلا‏.‏ فهنا إذا منع الله الثمرة، وطولب الضامن بجميع الأجرة كان في ذلك من أكل المال بالباطل ، ومن الخصومات والشر ما لا خفاء به‏.‏
    ومنها‏:‏ أن استئجار الأرض التي تساوي مائة درهم بألف درهم، هو من أفعال السفهاء المستحقين للحجر، وكذلك المساقاة على الشجر بجزء

    ج/ 30 ص -222-من ألف جزء لريها، هو من أفعال السفهاء التي يستحق عليها الحجر‏.‏ فمن فعل ذلك وجب على ولاة الأمر الحجر عليه، فضلا عن إمضاء العقد، والحكم بصحته‏.‏
    ولو قيل‏:‏ إن له محاباة في هذا العقد، لما يحصل من محاباة الآخر له في العقد‏.‏ قيل له‏:‏ إن كان هذا مستحقا لزم أن يكون أحد العقدين شرطا في الآخر، وإن لم يكن مستحقا كان محابيا في هذا العقد، وليس محاباة للآخر في ذلك العقد‏.‏ وهذا إنما ينفع إذا حصل التقابض، فلو حابي رجلا في سلعة وحاباه آخر في أخري، وتقابضا، فقد يقال‏:‏ إن الغرض يحصل بذلك؛ إما في مثل هذا، وإما في مثل هذا، والثمر قد يحصل وقد لا يحصل، وذاك له أن يطالبه بجميع الأجرة، وإن لم يحصل الثمر فليس هذا من أفعال الرشد، بل من أفعال السفهاء المستحقين للحجر؛ لا سيما إن كان المتصرف من لا يملك التبرع؛ كناظر الوقف واليتيم؛ فإنه يقول له‏:‏ إنه يجب على مطالبتك بجميع الأجرة، حصلت الثمرة أو لم تحصل‏.‏ فهل يدخل رشيد في مثل هذا، فيبذل ألف درهم في قيمة أرض تساوي مائة درهم؛ طمعا في أن يسلم الثمرة، وتحصل له، والأجرة عليه، حصلت الثمرة أو لم تحصل‏؟‏ ولو فعل هذا‏.‏ فهل هذا إلا دخول في نفس ما نهى عنه النبي ﷺ ‏.‏

    ج/ 30 ص -223-فإن في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي ﷺ‏:‏ أنه نهى عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري‏.‏ وهذا المستأجر إذا بذل ماله لتحصل له الثمرة هو في معني المشتري الذي نهاه رسول الله ﷺ على قولهم، فكيف يبذل ماله في مثل ذلك‏.‏ والأدلة على فساد مثل هذه المعاملة كثيرة، قد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع‏.‏
    وليس الفقيه من عمد إلى ما نهى عنه النبي ﷺ دفعا لفساد يحصل لهم، فعدل عنه إلى فساد أشد منه، فإن هذا بمنزلة المستجير من الرمضاء بالنار‏.‏
    وهذا يعلم من قاعدة إبطال الحيل، فإن كثيرًا منها يتضمن من الفساد والضرر أكثر مما في إتيان المنهى عنه ظاهرًا، كما قال أيوب السختياني‏:‏ يخادعون الله، كأنما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون على‏.‏
    ولهذا يوجد في نكاح التحليل من الفساد أعظم مما يوجد في نكاح المتعة؛ إذ المتمتع قاصد للنكاح إلى وقت، والمحلل لا غرض له في ذلك، فكل فساد نهى عنه المتمتع فهو في التحليل، وزيادة؛ ولهذا تنكر قلوب الناس التحليل أعظم مما تنكر المتعة‏.‏ والمتعة أبيحت أول الإسلام،

    ج/ 30 ص -224-وتنازع السلف في بقاء الحل‏.‏ونكاح التحليل لم يبح قط،ولا تنازع السلف في تحريمه‏.‏
    ومن شنع على الشيعة باباحة المتعة مع إباحته للتحليل، فقد سلطهم على القدح في السنة، كما تسلطت النصاري على القدح في الإسلام بمثل إباحة التحليل‏.‏ حتى قالوا‏:‏ إن هؤلاء قال لهم نبيهم‏:‏ إذا طلق أحدكم امرأته لم تحل له حتى تزني‏.‏ وذلك أن نكاح التحليل سفاح، كما سماه الصحابة بذلك‏.‏
    والقول الثاني‏:‏ في أصل المسألة أنه إن كان منفعة الأرض هو المقصود، والشجر تبع جاز أن تؤجر الأرض، ويدخل في ذلك الشجر تبعا‏.‏ وهذا مذهب مالك، وهو يقدر التابع بقدر الثلث‏.‏ وصاحب هذا القول يجوز بيع الثمر قبل بدو الصلاح، ما يدخل ضمنا وتبعا، كما جاز إذا ابتاع ثمرة بعد أن تؤبر أن يشترط المبتاع ثمرتها، كما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ‏.‏ والمبتاع هنا قد اشتري الثمر قبل بدو صلاحه؛ لكن تبعا للأصل‏.‏ وهذا جائز باتفاق العلماء، فيقيس ما كان تبعا في الإجارة على ما كان تبعا في البيع‏.‏
    والقول الثالث‏:‏ أنه يجوز ضمان الأرض والشجر جميعا، وإن كان الشجر أكثر‏.‏ وهذا قول ابن عقيل، وهو المأثور عن أمير

    ج/ 30 ص -225-المؤمنين عمر بن الخطاب؛ فإنه قبل حديقة أسيد بن حضير ثلاث سنين، وأخذ القبالة فوفي بها دينه‏.‏ روي ذلك حرب الكرماني صاحب الإمام أحمد في مسائله المشهورة عن أحمد، ورواه أبو زرعة الدمشقي، وغيرهما، وهو معروف عن عمر‏.‏ والحدائق التي بالمدينة يغلب عليها الشجر‏.‏
    وقد ذكر هذا الأثر عن عمر بعض المصنفين من فقهاء ظاهرية المغرب، وزعم أنه خلاف الإجماع، وليس بشيء، بل ادعاء الإجماع على جواز ذلك أقرب؛ فإن عمر فعل ذلك بالمدينة النبوية بمشهد من المهاجرين والأنصار، وهذه القضية في مظنة الاشتهار، ولم ينقل عن أحد أنه أنكرها، وقد كانوا ينكرون ما هو دونها وإن فعله عمر، كما أنكر عليه عمران ابن حصين وغيره ما فعله من متعة الحج؛ وإنما هذه القضية بمنزلة توريث عثمان بن عفان لامرأة عبد الرحمن بن عوف التي بتها في مرض موته، وأمثال هذه القضية‏.‏ والذي فعله عمر بن الخطاب هو الصواب‏.‏ وإذا تدبر الفقيه أصول الشريعة تبين له أن مثل هذا الضمان ليس داخلا فيما نهى عنه النبي ﷺ ، وهذا يظهر بأمور‏:‏
    أحدها‏:‏ أن يقال‏:‏ معلوم أن الأرض يمكن فيها الإجارة، ويمكن فيها بيع حبها قبل أن يشتد‏.‏ ثم النبي ﷺ لما نهى عن بيع الحب حتى يشتد، لم يكن ذلك نهيا عن إجارة الأرض ، وإن

    ج/ 30 ص -226-كان مقصود المستأجر هو الحب ؛ فإن المستأجر هو الذي يعمل في الأرض حتى يحصل له الحب؛ بخلاف المشتري، فإنه يشتري حبا مجردا، وعلى البائع تمام خدمته، حتى يتحصل، فكذلك نهيه عن بيع العنب حتى يسود ليس نهيا عمن يأخذ الشجر، فيقوم عليها، ويسقيها حتى تثمر؛ وإنما النهى لمن اشتري عنبا مجردا، وعلى البائع خدمته حتى يكمل صلاحه، كما يفعله المشترون للأعناب التي تسمي الكروم؛ ولهذا كان هؤلاء لا يبيعونها حتى يبدو صلاحها؛ بخلاف التضمين‏.‏
    الوجه الثاني‏:‏ أن المزارعة على الأرض كالمساقاة على الشجر، وكلاهما جائز عند فقهاء الحديث؛ كالإمام أحمد وغيره، مثل ابن خزيمة، وابن المنذر‏.‏ وعند ابن أبي ليلي، وأبي يوسف، ومحمد، وعند الليث بن سعد، وغيرهم من الأئمة جائزة، كما دل على جواز المزارعة سنة رسول الله ﷺ ، وإجماع أصحابه من بعده، والذين نهوا عنها ظنوا أنها من باب الإجارة، فتكون إجارة بعوض مجهول، وذلك لا يجوز‏.‏ وأبو حنيفة طرد قياسه فلم يجوزها بحال‏.‏ وأما الشافعي فاستثني ما تدعو إليه الحاجة؛ كالبياض إذا دخل تبعا للشجر في المساقاة، وكذلك مالك؛ لكن يراعي القلة والكثرة على أصله‏.‏
    وهؤلاء جعلوا المضاربة أيضا خارجة عن القياس، ظنا أنها من

    ج/ 30 ص -227-باب الإجارة بعوض مجهول، وأنها جوزت للحاجة؛ لأن صاحب النقد لا يمكنه إجارتها‏.‏
    والتحقيق‏:‏ أن هذه المعاملات هي من باب المشاركات‏.‏ والمزارعة مشاركة؛ هذا يشارك بنفع بدنه، وهذا بنفع ماله، وما قسم اللّه من ربح كان بينهما كشريكي العنان؛ ولهذا ليس العمل فيها مقصودا، ولا معلوما، كما يقصد ويعلم في الإجارة، ولو كانت إجارة لوجب أن يكون العمل فيها معلوماً، لكن إذا قيل‏:‏ هي جعالة، كان أشبه؛ فإن الجعالة لا يكون العمل فيها معلوماً، وكذلك هي عقد جائز غير لازم، ولكن ليست جعالة أيضا؛ فإن الجعالة يكون المقصود لأحدهما من غير جنس مقصود الآخر؛ هذا يقصد رد آبقه، أو بناء حائطه، وهذا يقصد الجعل المشروط‏.‏ والمساقاة والمزارعة والمضاربة هما يشتركان في جنس المقصود، وهو الربح، مستويان في المغنم والمغرم، إن أخذ هذا أخذ هذا، وإن حرم هذا حرم هذا‏.‏
    ولهذا وجب أن يكون المشروط لأحدهما جزءا مشاعا من الربح، من جنس المشروط للآخر، وأنه لا يجوز أن يكون مقدراً معلوماً، فعلم أنها من باب المشاركة، كما في شركة العنان، فإنهما يشتركان في الربح، ولو شرط مال مقدر من الربح، أو غيره، لم يجز‏.‏ وهذا هو الذي نهى عنه رسول اللّه ﷺ من المخابرة، كما جاء ذلك

    ج/ 30 ص -228-مفسراً في صحيح مسلم، وغيره، عن رافع بن خديج، أنهم كانوا يكرون الأرض، ويشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها كما تنبت الماذيانات، والجداول، فربما سلم هذا، ولم يسلم هذا‏.‏
    ولهذا قال الليث بن سعد‏:‏ إن الذي نهى عنه النبي ﷺ من المخابرة أمر إذا نظر فيه ذو البصر بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز‏.‏ وهذا من فقه الليث الذي قال فيه الشافعي‏:‏ كان الليث أفقه من مالك؛ فإنه بين أن الذي نهى عنه النبي ﷺ موافق لقياس الأصول؛ لما فيه من أن يشترط لأحد الشريكين شيء معين من الربح‏.‏ والشركة حقها العدل بين الشريكين، فيما لهما من المغنم، وعليهما من المغرم، فإذا خرجت كان ظلمًا محرمًا‏.‏ وأين من يجعل ما جاءت به السنة موافقا للأصول إلى من يجعل ما جاءت به السنة مخالفًا للأصول‏.‏
    ومن أعطي النظر حقه علم أن ما جاءت به السنة من النهي عن هذه المخابرة، ومن معاملة أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع بدون هذا الشرط، وما عمل به الصحابة من المضاربة، كل ذلك على وفق القياس، وأن هذا من جنس المشاركات، لا من جنس المؤجرات‏.‏ وإذا كان كذلك فنقول‏:‏
    معلوم أنه إذا ساقاه على الشجر بجزء من الثمرة كان كما إذا زارعه

    ج/ 30 ص -229-على الأرض بجزء من الزرع، وضاربه على النقد بجزء من الربح، فقد جعلت الثمرة من باب النماء، والفائدة الحاصلة ببدن هذا ومال هذا‏.‏ والذي نهى عنه النبي ﷺ من بيع الثمرة، ليس للمشتري عمل في حصوله أصلا، بل العمل كله على البائع، فإذا استأجر الأرض والشجر حتي حصل له ثمر وزرع، كان كما إذا استأجر الأرض حتي يحصل له الزرع‏.‏
    الوجه الثالث‏:‏ أن الثمرة تجري مجري المنافع، والفوائد في الوقف، والعارية ونحوهما، فيجوز أن يقف الشجر لينتفع أهل الوقف بثمرها، كما يقف الأرض لينتفعوا بمغلها، ويجوز إعراء الشجر، كما يجوز إفقار الظهر، وعارية الدار، ومنيحة اللبن‏.‏ وهذا كله تبرع بنماء المال، وفائدته؛ فإن من دفع عقاره إلى من يسكنه كان بمنزلة من دفع دابته إلى من يركبها، وبمنزلة من دفع شجره إلى من يستثمرها، وبمنزلة من دفع أرضه إلى من يزرعها، وبمنزلة من دفع الناقة والشاة إلى من يشرب لبنها‏.‏ فهذه الفوائد تدخل في عقود التبرع، سواء كان الأصل محبسا؛ كالوقف، أو غير محبس‏.‏ وتدخل أيضا في عقود المشاركات، فكذلك تدخل في عقود المعاوضات‏.‏
    فإن قيل‏:‏ إن هذا يقتضي أن الأعيان معقود عليها في الإجارة، والإجارة إنما هي عقد على المنافع، لا على الأعيان، وإنما جازت إجارة الظئر على خلاف القياس‏.‏ قيل‏:‏ الجواب من وجهين‏.‏

    ج/ 30 ص -230-أحدهما‏:‏ أن تقبيل الأرض والشجر ليس هو عقدًا على عين ، وإنما هو بمنزلة إجارة الأرض للازدراع، فالعين هي مقصود المستأجر؛ فإنه إنما استأجر الأرض ليحصل له الزرع؛ لكن العقد ورد على المنافع التي هي شبه هذه الأعيان‏.‏
    الوجه الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ لا نسلم أن إجارة الظئر على خلاف القياس، وكيف يقال‏:‏ وليس في القرآن إجارة منصوصة في شريعتنا إلا إجارة الظئر بقوله تعالى‏:‏ ‏
    "فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏"‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏ ‏؟‏‏!‏
    وإنما ظن من ظن أنها خلاف القياس حيث توهم أن الإجارة لا تكون إلا على منفعة، وليس الأمر كذلك، بل الإجارة تكون على كل ما يستوفي مع بقاء أصله، سواء كانت عينا أو منفعة‏.‏ فلما كان لبن الظئر يستوفي مع بقاء الأصل، ونقع البئر يستوفي مع بقاء الأصل، جازت الإجارة عليه، كما جازت على المنفعة؛ فإن هذه الأعيان يحدثها اللّه شيئا بعد شيء، وأصلها باق، كما يحدث اللّه المنافع شيئا بعد شيء، وأصلها باق؛ ولهذا جاز وقف هذه الأصول لاستثناء هذه الفوائد أعيانها ، ومنافعها‏.‏
    فإن قيل‏:‏ فهذا يقتضي جواز إجارة الحيوان لشرب لبنه‏.‏ قيل‏:‏ وفي هذه المسألة نزاع بين الفقهاء أيضا ‏.‏ والمزارعة إنما تكون بدليل

    ج/ 30 ص -231-شرعي نص أو إجماع أو قياس ، ونحوه‏.‏ وأما مسائل النزاع إذا عورض فنجيب عنها بجواب عام‏:‏ وهو إن كان ما ذكرناه من الدليل موجبًا لصحة هذه الإجارة، لزم طرد الدليل، والعمل لذلك‏.‏ وإن لم يكن موجبًا لم يكن نقضًا‏.‏ والدليل الذي يقال‏:‏ إنه مفسد لهذه الإجارة‏.‏ إن أمكن الجمع بينه وبين ما ذكر من الدليل، فلا منافاة،وإلا فما ذكرناه راجح؛ إذ المنافع إنما يستند منعها إلى جنس ما يذكره في مورد النزاع هنا‏.‏
    فإن قيل‏:‏ إن ابن عقيل جوز إجارة الأرض، والشجر جميعًا؛ لأجل الحاجة، وأنه سلك مسلك مالك، لكن مالك اعتبر القلة في الشجر، وابن عقيل عمم، فإن الحاجة داعية إلى إجارة الأرض البيضاء التي فيها شجر، وإفرادها عنها بالإجارة متعذر أو متعسر لما فيه من الضرر، فجوز دخولها في الإجارة، كما جوز الشافعي دخول الأرض مع الشجر تبعًا في باب المساقاة‏.‏
    ومن حجة ابن عقيل‏:‏ أن غاية ما في ذلك جواز بيع الثمر قبل بدو صلاحه تبعا لغيره؛ لأجل الحاجة، وهذا يجوز بالنص والإجماع فيما إذا باع شجرا وعليها ثمر باد بما يشترطه المبتاع، فإنه اشتري شجرا وثمرا قبل بدو صلاحه، وما ذكرتموه يقتضي أن جواز هذا هو القياس وأنه جائز بدون الحاجة، حتي مع الانفراد‏.‏

    ج/ 30 ص -232-قيل‏:‏ هذا زيادة توكيد؛ فإن هذه المسألة لها مأخذان‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن يسلم أن الأصل يقتضي المنع، لكن يجوز ذلك لأجل الحاجة، كما في نظائره‏.‏
    والثاني‏:‏ أن يمنع هذا ويقال‏:‏ لا نسلم أن الأصل يقتضي المنع، بل الدليل لا يتناول مثل هذه الصورة؛ لا لفظا ولا معني‏.‏ أما لفظا فإن هذا لم يبع ثمرة قبل بدو صلاحها، ولو كان قد باع لكان عليه مؤنة التوفية،كما لو باعها بعد بدو صلاحها، فإن مؤنة التوفية عليه أيضا، فإن المسلمين اتفقوا على ما فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من ضرب الخراج على السواد وغيره من الأرض التي فتحت عنوة، سواء قيل‏:‏ إنه يجب في الأرض التي فتحت عنوة، أو تجعل فيئا كما قاله مالك، وهو رواية عن أحمد‏.‏ أو قيل‏:‏ إنه يجب قسمتها بين الغانمين، كما قاله الشافعي، وهو رواية عن الإمام‏.‏ أو قيل‏:‏ يخير الإمام فيها بين هذا وهذا، كما هو مذهب أبي حنيفة، والثوري، وأبي عبيد، ونحوهم‏.‏ وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد‏.‏
    فإن الشافعي يقول‏:‏ إن عمر استطاب أنفس الغانمين حتي جعلها فيئا، وضرب الخراج عليها، فاتفق المسلمون في الجملة على أن وضع الخراج على أرض العنوة جائز، إذا لم يكن فيه ظلم للغانمين‏.‏

    ج/ 30 ص -233-ثم الخراج عند أكثرهم أجرة الأرض، وأنه لم يقدر مدة الإجارة لعموم مصلحتها، والخراج ضريبة على الأرض التي فيها شجر، والأرض البيضاء‏.‏ وضرب على جريب النخل مقدارا، وعلى جريب الكرم مقدارا‏.‏ وهذا بعينه إجارة للأرض مع الشجر؛ فإن كان جواز هذا على وفق القياس فهو المطلوب‏.‏ وإن كان جواز ذلك لحاجة داعية إلى ذلك؛ فإن الناس لهم بساتين فيها مساكن‏.‏ ولها أجور وافرة، فإن دفعوها إلى من يعملها مساقاة ومزارعة، تعطلت منفعة المساكن عليها، كما في أرض دمشق ونحوها‏.‏ ثم قد يكون وقفًا أو ليتيم ونحو ذلك‏.‏ فكيف يجوز تعطيل منفعة المسكن المبنية في تلك الحدائق‏؟‏‏!‏
    وقد تكون منفعة المسكن هي أكثر المنفعة، ومنفعة الشجر والأرض تابعة، فيحتاجون إلى إجارة تلك المساكن، ولا يمكن أن تؤجر دون منفعة الأرض والشجر؛ فإن العامل إذا كان غير الساكن تضرر هذا، وهذا تضرر ببناء المساكن، ويبقي ممنوعا من الانتفاع بالثمر والزرع هو وعياله، مع كونه عندهم، ويتضررون بدخول العامل عليهم في دارهم، والعامل أيضا لا يبقي مطمئنا إلى سلامة ثمره وزرعه، بل يخاف عليها في مغيبه‏.‏ وما كل ساكن أمينا، ولو كان أمينا لم تؤمن الضيفان، والصبيان، والنسوان‏.‏ وكل هذا معلوم‏.‏
    فإذا كان النبي ﷺ نهى عن المزابنة، وهي بيع

    ج/ 30 ص -234-الرطب بالتمر؛ لما في ذلك من بيع الربوي بجنسه مجازفة وباب الربا أشد من باب الميسر ثم إنه أرخص في العرايا أن تباع بخرصها؛ لأجل الحاجة، وأمر رجلا أن يبيع شجرة له في ملك الغير لتضرره بذلك، لدخوله عليه، أو يهبها له، فلما لم يفعل أمر بقلعها‏.‏ فأوجب عليه المعاوضة لرفع الضرر عن مالك العقار، كما أوجب للشريك أن يأخذ الشقص بثمنه رفعًا لضرر المشاركة والمقاسمة‏.‏ فكيف إذا كان الضرر ما ذكر‏؟‏
    ومعلوم أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأمرنا بتقديم خير الخيرين بتفويت أدناهما، وبدفع شر الشرين باحتمال أدناهما‏.‏ والفساد في ذلك أعظم مما ذكرنا من حصول ضرر ما لأحد المتعوضين، فإن هذا ضرر كثير محقق، وذاك إن حصل فيه ضرر فهو قليل مشكوك فيه‏.‏
    وأيضا، فالمساقاة والمزارعة تعتمد أمانة العامل، وقد يتعذر ذلك كثيرا فيحتاج الناس إلى المؤاجرة التي فيها مال مضمون في الذمة؛ ولهذا يعدل كثير من الناس في كثير من الأمكنة والأزمنة عن المزارعة إلى المؤاجرة؛ لأجل ذلك‏.‏ ومعلوم أن الشريعة توجب ما توجبه بحسب الإمكان،وتشترط في العبادات والعقود ما تشترطه بحسب الإمكان؛ ولهذا جاز أن ينفذ من ولي الأمر مع فجوره من ولايته وقسمته

    ج/ 30 ص -235-وحكمه ما يسوغ،وإن كان ولي الأمر يجب فيه أن يكون عدلا إذا أمكن ذلك بلا مفسدة راجحة‏.‏
    وكذلك أئمة الصلاة إذا لم تمكن الصلاة إلا خلف الفاجر‏.‏ فإذا لم يمكن دفع الأرض إلا إلى فاجر، وائتمانه عليها يوجب الفساد، احتيج إلى أن تدفع اليه مؤاجرة‏.‏ فهذا وجه من وجوه جواز المؤاجرة‏.‏
    وأيضا، فقد لا يتفق من يأخذها مشاركة؛ كالمساقاة، أو المزارعة؛ فإن لم تدفع مؤاجرة، وإلا تعطلت وتضرر أهلها، وإن كانوا فقراء وليس في هذا من الفساد إلا إمكان نقص الثمر عن الوجه المعتاد، فيبقي ذلك مخاطرة‏.‏ وهذا القدر ينجبر بما يجعل للمستأجر من جبران ذلك، كما أن الإجارة الجائزة إذا تلفت فيها المنفعة سقطت الأجرة التي تقابلها، وكذلك لو نقصت على الصحيح فإنه ينقص من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة، فقد ثبت في الصحيح‏:‏ أن النبي ﷺ أمر بوضع الجوائح، وقال‏:‏
    ‏"‏إذا بعت من أخيك بيعا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئًا، بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق‏؟‏‏!‏‏"‏ وهذا مذهب مالك وأحمد، وغيرهما‏.‏
    وذلك لأن الثمرة قبضت، ولم تقبض قبضًا تاما، بحيث يتمكن القابض من جذاذها، كما أن المستأجر إذا قبض العين لم يحصل القبض التام الذي يتمكن به من استيفاء جميع المنفعة، فإذا تلفت المنفعة قبل

    ج/ 30 ص -236-تمكنه من استيفائها سقطت الأجرة، فكذلك إذا تلفت الثمرة قبل التمكن من الجذاذ سقط الثمن‏.‏
    فهنا المستأجر للبستان إذا قدر أنه حصلت آفة منعت الأرض عن المنفعة المعتادة كما لو نقص ماء المطر والأنهار، حتي نقصت المنفعة عن الوجه المعتاد؛ لأن المعقود عليه لابد أن يبقي على الذي يمكن استيفاء المنفعة المقصودة منه، فإذا خرج عن هذا الحال كان للمتسأجر إما الفسخ، وإما الأرش، وليس من باب وضع الجائحة في الممتنع؛ كما في الثمر المشتري، بل هو من باب تلف المنفعة المقصودة بالعقد، أو فواتها‏.‏
    وهنا المستأجر للبستان كالمستأجر للأرض، سواء بسواء‏.‏ إنما يتسلم الأصول، وهو الذي يقوم عليها حتي يشتد الزرع، ويبدو صلاح الثمر، كما يقوم على ذلك العامل في المساقاة والمزارعة، فإن جاز أن يقال‏:‏ إن هذا مشتر للثمرة، فليقل‏:‏ إن المستأجر مشتر للزرع، وأن العامل في المساقاة والمزارعة والمضاربة مشتر لما يحصل من النماء، فإذا كان هذا لا يدخل في مسمي البيع، امتنع شمول العموم له لفظًا، ويمتنع إلحاقه من جهة القياس، أو شمول العموم المعنوي له؛ لأن الفرق بينهما في غاية الظهور؛ فإن إلحاق هذه الإجارة للأرض، لاشتراكهما في المساقاة والمزارعة، وفي المضاربة والوقف، وغير ذلك مما يجعل حكم أحدهما حكم الآخر، أولي من إلحاقها بالبيع، كما تقدم‏.‏

    ج/ 30 ص -237-وكل من نظر في هذا نظرًا صحيحًا سليما تبين له أن هذا من باب الإجارات والقبالات التي تسمي الضمانات، كما تسميه العامة ضمانا، وكما سماه السلف قبالة؛ ليس هو من باب المبايعات‏.‏ وأحكام البيع منتفية في هذا من كون مؤنة التوفية على البائع، وكل ما نهى عنه النبي ﷺ من بيع المعدومات؛ مثل نهيه عن بيع الملاقيح، والمضامين، وحبل الحبلة، وهو بيع ما في أصلاب الفحول، وأرحام الإناث، ونتاج النتاج‏.‏ ونهيه عن بيع السنين؛ وهو المعاومة، وأمثال ذلك ، إنما هو أن يشتري المشتري تلك الأعيان التي لم تخلق بعد، وأصولها يقوم عليها البائع، فهو الذي يستنتجها ويستثمرها، ويسلم إلى المشتري ما يحصل من النتاج والثمرة، وهذا هو الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه‏.‏
    وهذا على تفسير الجمهور في ‏[‏حبل الحبلة‏]‏ أنه بيع نتاج النتاج، فإنه يكون إبطاله لجهالة الأجل، وهذه البيوع التي نهى عنها النبي ﷺ، هي من باب القمار الذي هو ميسر، وذلك أكل مال بالباطل، وأصحاب هذه الأصول يمكنهم تأخير البيع إلى أن يخلق الله ما يخلقه من هذه الثمار، والأولاد، وإنما يفعلون هذا مخاطرة ومباختة‏.‏
    والتجارات بضمان البستان لمن يقوم عليه؛ كضمان الأرض لمن يقوم عليها فيزدرعها، واحتكار الأرض لمن يبني فيها، ويغرس فيها ونحو ذلك‏.‏

    ج/ 30 ص -238-وقد اتفق العلماء على المنفعة في الإجارة إذا تلفت قبل التمكن من استيفائها، فإنه لا تجب أجرة ذلك، مثل أن يستأجر حيوانا فيموت قبل التمكن من الانتفاع، وكذلك المبيع إذا تلف قبل التمكن من قبضه؛ مثل أن يشتري قفيزا من صبرة، فتتلف الصبرة قبل القبض والتمييز، كان ذلك من ضمان البائع بلا نزاع، لكن تنازعوا في تلفه بعد التمكن من القبض، وقبل القبض؛ كمن اشتري معيبًا، ومكن من قبضه‏.‏ وفيه قولان مشهوران‏.‏
    أحدهما‏:‏ أنه لا يضمنه، كقول مالك، وأحمد في المشهور عنه؛ لقول ابن عمر‏:‏ مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حبا مجموعا، فهو من مال المشتري‏.‏
    والثاني‏:‏ يضمنه؛ كقول أبي حنيفة والشافعي، لكن أبو حنيفة يستثني العقار‏.‏ ومع هذا فمذهبه أن التخلية قبض، كقول أحمد في إحدى الروايتين‏.‏ فيتقارب مذهبه ومذهب مالك وأحمد‏:‏ أن ما يتلف من ضمان البائع ؛لما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏
    "‏إذا بعت من أخيك ثمرة، فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئًا، بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق‏؟‏‏"‏‏.‏
    ومذهب الشافعي المشهور عنه، يكون من ضمان المشتري، إذا تلف

    ج/ 30 ص -239-بعد القبض‏.‏ وأما أبو حنيفة فمذهبه أن التبقية ليست من مقتضي العقد، ولا يجوز اشتراطها‏.‏ والأولون يقولون‏:‏ قبض هذا بمنزلة قبض المنفعة في الإجارات، وذلك ليس بقبض تام ينقل الضمان؛ لأن القابض لم يتمكن من استيفاء المقصود‏.‏ وهذا طرد أصلهم في أن المعتبر هو القدرة على الاستيفاء المقصود بالعقد، ولهذا يقولون‏:‏ لو أن المشتري فرط في قبض الثمرة بعد كمال صلاحها حتي تلفت كانت من ضمانه، كما لو فرط في قبض المعين حتي تلف‏.‏
    وهذا ظاهر في المناسبة والتأثير؛ فإن البائع إذا لم يكن منه تفريط فيما يجب عليه، وإنما التفريط من المشتري، كان إحالة الضمان على المفرط أولي من إحالته على من قام بما يجب عليه ولم يفرط؛ ولهذا اتفقوا على مثل ذلك في الإجارة؛ فإن المستأجر لو فرط في استيفاء المنافع حتي تلفت، كانت من ضمانه‏.‏ ولو تلفت بغير تفريط كانت من ضمان المؤجر‏.‏ وفي الإجارة إذا لم يتمكن المستأجر من ازدراع الأرض لآفة حصلت، لم تكن عليه الأجرة‏.‏ وإنْ نَبَتَ الزرع ثم حصلت آفة سماوية قبل التمكن من حصاده، ففيه نزاع‏.‏
    ومن فرق بينه وبين الثمر والمنفعة قال‏:‏ الثمرة هي المعقود عليها، وكذلك المنفعة‏.‏ وهنا الزرع ليس بمعقود عليه، بل المعقود عليه المنفعة، وقد استوفاها‏.‏ ومن سوي بينهما قال‏:‏ المقصود بالإجارة هو الزرع، فإذا

    ج/ 30 ص -240-حالت الآفة السماوية بينه وبين المقصود بالإجارة كان قد تلف المقصود بالعقد قبل التمكن من قبضه، والمؤجر وإن لم يعاوض على زرع فقد عاوض على المنفعة التي يتمكن بها من حصول الزرع، فإذا حصلت الآفة السماوية المفسدة للزرع قبل التمكن من حصاده لم تسلم المنفعة المعقود عليها، بل تلفت قبل التمكن من الانتفاع‏.‏ ولا فرق بين تعطل منفعة الأرض في أول المدة، أو في آخرها، إذا لم يتمكن من استيفائها بشيء من المنفعة‏.‏
    ومعلوم أن الآفة السماوية إذا فقد الزرع مطلقا، بحيث لا يمكن الانتفاع بالأرض مع تلك الآفة، فلا فرق بين تقدمها وتأخرها‏.‏ وعلى هذا تنبني مسألة ‏[‏ضمان الحدائق‏]‏ ‏.‏ والله أعلم‏.
    وسئل رحمه الله عن تضمين البساتين قبل إدراك الثمرة‏.‏ هل يجوز أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما تضمين حديقته أو بستانه الذي فيه النخيل والأعناب وغير ذلك من الأشجار لمن يقوم عليها ويزرع أرضها بعوض معلوم، فمن العلماء من نهى عن ذلك، وأعتقد أنه داخل في نهي النبي ﷺ عن بيع الثمر قبل بدو صلاحها‏.‏

    ج/ 30 ص -241-ثم من هؤلاء من جوز ذلك، إذا كان البياض هو المقصود، والشجر تابع، كما يذكر عن مالك‏.‏ ومن هؤلاء من يجوز الاحتيال على ذلك؛ بأن يؤجر الأرض ويساقي على الشجر بجزء من الخارج منه، ولكن هذا إن شرط فيه أحد العقدين في الآخر لم يصح، وإن لم يشترطا كان لرب البستان أن يلزمه بالأجرة عن الأرض بدون المساقاة‏.‏ وأكثر مقصود الضامن هو الثمر، وهي جزء كبير من مقصوده‏.‏ وقد يكون المكان وقفا، ومال يتيم، فلا تجوز المحاباة في مساقاته‏.‏
    وهذه الحيلة وإن كان القاضي أبو يعلى ذكرها في كتاب ‏[‏إبطال الحيل‏]‏ موافقة لغيره، فالمنصوص عن أحمد أنها باطلة‏.‏ وقد بينا بطلان الحيل التي يكون ظاهرها مخالفا لباطنها، ويكون المقصود بها فعل ما حرم الله ورسوله؛ كالحيل على الربا، وعلى إسقاط الشفعة، وغير ذلك بالأدلة الكثيرة في غير هذا الموضع‏.‏
    ومن العلماء من جوز الضمان للأرض والشجر مطلقا، وإن كان الشجر مقصودًا، كما ذكر ذلك ابن عقيل، وهذا القول أصح، وله مأخذان‏:‏
    أحدهما‏:‏ أنه إذا اجتمع الأرض والشجر، فتجوز الإجارة لهما جميعا؛ لتعذر التفريق بينهما في العادة‏.‏

    ج/ 30 ص -242-والمأخذ الثاني‏:‏ أن هذه الصورة لم تدخل في نهي النبي ﷺ، فإن رب الأرض لم يبع ثمره بلا أجر أصلا، والفرق بينهما من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أنه لو استأجر الأرض جاز، ولو اشترى الزرع قبل اشتداد الحب بشرط البقاء لم يجز، فكذلك يفرق في الشجر‏.‏
    الثاني‏:‏ أن البائع عليه السقي وغيره مما فيه صلاح الثمرة حتي يكمل صلاحها، وليس على المشتري شيء من ذلك‏.‏ وأما الضامن والمستأجر فإنه هو الذي يقوم بالسقي والعمل حتي تحصل الثمرة والزرع، فاشتراء الثمرة اشتراء للعنب والرطب ، فإن البائع عليه تمام العمل حتي يصلح، بخلاف من دفع اليه الحديقة، وكان هو القائم عليها‏.‏
    الثالث‏:‏ أنه لو دفع البستان إلى من يعمل عليه بنصف ثمره وزرعه، كان هذا مساقاة ومزارعة، فاستحق نصف الثمر، والزرع بعمله، وليس هذا اشتراء للحب والثمرة‏.‏
    الرابع‏:‏ أنه لو أعار أرضه لمن يزرعها، أو أعطي شجرته لمن يستغلها ثم يدفعها اليه كان هذا من جنس العارية؛ لا من جنس هبة الأعيان‏.‏
    الخامس ‏:‏ أن ثمرة الشجر من مغل الوقف؛ كمنفعة الأرض ، ولبن

    ج/ 30 ص -243-الظئر‏.‏ واستئجار الظئر جائز بالكتاب والسنة والإجماع‏.‏ واللبن لما كان يحدث شيئًا بعد شيء صح عقد الإجارة عليه، كما يصح على المنافع وإن كانت أعيانا؛ ولهذا يجوز للمالك إجارة الماشية للبنها، فإجارة البستان لمن يستغله بعمله هو من هذا الباب، ليس هو من باب الشراء‏.‏
    وإذا قيل‏:‏ إن في ذلك غررا‏.‏ قيل‏:‏ هو كالغرر في الإجارة؛ فإنه إذا استأجر أرضا ليزرعها، فإنما مقصوده الزرع، وقد يحصل، وقد لا يحصل، وقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه ضمن حديقة أسيد بن حضير بعد موته ثلاث سنين، وأخذ الضمان فصرفه في دينه، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة‏.‏
    وأيضا، فإن أرض العنوة لما فتحها المسلمون دفعها عمر اليهم، وفيها النخيل والأعناب لمن يعمل عليها بالخراج، وهذه إجارة عند أكثر العلماء‏.‏
    وسئل عن ضمان بساتين، وأنهم لما سمعوا بقدوم العدو المخذول دخلوا إلى المدينة، وغلقت أبواب المدينة، ولم يبق لهم سبيل إلى البساتين، ونهب زرعهم وغلتهم‏.‏ فهل لهم الإجاحة في ذلك‏؟‏

    ج/ 30 ص -244-فأجاب‏:‏
    الخوف العام الذي يمنع من الانتفاع هو من الآفات السماوية، وإذا تلفت الزروع بآفة سماوية، فهل توضع الجائحة فيه كما توضع في الثمرة‏؟‏ كما نص النبي ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم، حيث قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إذا بعت أخاك ثمرة، فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئا، بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق‏؟‏‏"‏اختلفوا في الزرع إذا تلف قبل تمكن المستأجر من حصاده‏.‏ هل توضع فيه الجائحة‏؟‏ على قولين‏.‏ أشبههما بالمنصوص والأصول أنها توضع‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل عن ضمان الإقطاع ‏.‏ هل هو صحيح‏؟‏ أم لا ‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    ضمان الإقطاع صحيح، لا نعلم أحدًا من علماء المسلمين الذين يفتي بقولهم قال‏:‏ إنه باطل‏.‏ ولا نعلم أحدًا من العلماء المنصفين قال‏:‏ إنه باطل‏.‏ إلا ما بلغنا عن بعض الناس حكي فيه خلافا‏:‏ قول بالجواز، وقول بالمنع، وقول أنه يجوز سنة فقط‏.‏
    ومازال المسلمون يضمنونه، ولم يفتِ أحد بتحريمه إلا بعض أهل هذا الزمان لشبهة عرضت لهم؛ لكونهم اعتقدوا أن المقطع بمنزلة

    ج/ 30 ص -245-المستعير، وغفلوا عن كون المنافع مستحقة لأهل الإقطاع، لا مبذولة؛ بمنزلة استحقاق أهل البطون للوقف‏.‏ وإن جاز انفساخ الإجارة بموت الموقوف عليه، عند من يقول به‏.‏ والسلطان قاسم لا معير ، وقسمته للمنافع كقسمة الأموال‏.‏ وغفلوا عن كون السلطان المقطع أذن في الانتفاع بالمقطع استغلالًا، وإيجارًا ‏.‏ ولو أذن المعير في الإجارة جازت وفاقا، فكيف الإقطاع‏؟‏‏!‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عن رجل مستأجر نصف بستان مشاعًا غير مقسوم، وقد تهدمت الحيطان فاتفق المستأجر للنصف، وصاحب النصف الآخر على العمارة، وتقاسما الحيطان ليبني كل منهما ما اقتسماه، فعمر المستأجر نصيبه، وامتنع الآخر حتي سرق أكثر الثمرة‏.‏ وامتنع من السقي أيضا حتي تلف أكثر الثمرة‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، نعم، إذا لم يفعل ما اتفقا عليه حتي تلف شيء من الثمرة بسبب إهمال ذلك، فعليه ضمان ما تلف من نصيب شريكه‏.‏
    وأما إذا امتنع ابتداء من العمارة والسقي معه، فإنه يجبر على ذلك في أصح قولي العلماء‏.‏ وفي الآخر لا يجبر؛ لكن للآخر أن يعمر ويسقي‏.‏

    ج/ 30 ص -246-ويمنع من لم يعمر ويسقي أن ينتفع بما يحصل من ماله‏.‏ ومن أصر على ترك الواجب قدح ذلك في عدالته‏.‏
    وسئل عن إجارة الوقف ‏.‏ هل تجوز سنين‏؟‏ وكل سنة بذاتها‏؟‏ وإذا قطع المستأجر من الوقف أشجارًا هل تلزمه القيمة ‏؟‏ أم لا‏؟‏ وإذا شري الوقف بدون القيمة، ما يجب عليه‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إن كان الوقف على جهة عامة ، جازت إجارته بحسب المصلحة، ولا يتوقت ذلك بعدد عند أكثر العلماء‏.‏
    وما قطعه المستأجر فعليه ضمانه، ولا يجوز للموقوف عليه بيع الوقف؛ بل عليه رد الثمن على المشتري، والوقف على حاله‏.‏

    ج/ 30 ص -247-وسئل رحمه الله عن أمير دخل على إقطاع وجد فيه فلاحًا مستأجرًا إقطاعه بأجرة، واستقر الفلاح المذكور مستأجرًا إقطاعه إلى حين انقضائه، ثم انتقل الإقطاع الى غيره، فوجد المقطع المستجد للفلاح بور بعض الأرض المستأجرة عليه، فطالب المقطع المن
    فصل بخراج البور، وادعي أن الإيجار المكتتب على الفلاح أجير إبطال بحكم أن بعض الأرض كانت مشغولة هل يبطل حكم الإيجار‏؟‏ أو يصح‏؟‏ وهل يلزم البور للمستأجر‏؟‏ أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    ليس للمقطع الثاني أن يطالب المقطع المنفصل بما بور، كما ليس له أن يطالبه بما زرع، فإن حقه على المستأجر الذي أوجر الأرض وسلمت اليه، سواء زرع الأرض، أو لم يزرعها‏.‏
    ولكن المقطع مخير إن شاء طالبه بالأجرة التي رضي بها الأول، وإن شاء طالبه بأجرة المثل لما تسلمه من المنفعة، وإجارة الأرض لمن يزرع فيها زرعًا وقصبا جائزة، لكن المقطع الثاني له أن يمضيها، وله ألا يمضيها، ولو قدر أن الأول آجره إياها إجارة فاسدة، وسلم اليه الأرض قبل إقطاع الثاني، لكان على المستأجر ضمان الأرض كلها للمقطع

    ج/ 30 ص -248-الثاني الذي يستحق منفعة الأرض، سواء زرعها أو لم يزرعها؛ لأن ما ضمن بالقبض في العقد الصحيح ضمن بالقبض في العقد الفاسد ، كما لو قبض المبيع قبضا فاسدًا ، فإن عليه ضمانه‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل عن أجناد لهم أرض ‏.‏ فآجروها لقوم فلاحين بغلة معينة، ودراهم معينة، وصيافة ليزرعوها، أو ينتفعوا بها مدة سنة كاملة، وأن الأجناد قبل انقضاء السنة عدوا على أغنام الفلاحين، وأخذوا عن المراعي جملة دراهم قبل انقضاء مدة الإجارة، غصبًا باليد القوية‏.‏ فهل ما يناله الأجناد حلال‏؟‏ أم حرام‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إن كان بينهما إجارة شرط فيها شروط سائغة‏:‏ مثل أن يشترط المستأجر أن ينتفع بجميع ما في الأرض، حتي في الكلأ المباح، وأعقاب الزرع، وغير ذلك، فهذا شرط لازم يجب العمل به، وكذلك إن لم يذكر هذا في الإجارة؛ لكن كانت الإجارة مطلقة‏.‏ وهذه هي العادة؛ فإن الإجارة المطلقة، تحمل على المنفعة المعتادة‏.‏ فإذا كانت المنفعة تتناول ذلك تناولته الإجارة المطلقة، فما تناوله لفظ الإجارة، أو العرف المعتاد، كان للمستأجر‏.‏

    ج/ 30 ص -249-وأما إن كانت العادة أن الإجارة المطلقة لا تتناول الكلأ المباح، لم تدخل في الإجارة المطلقة‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عن رجل استأجر لرجل أرضا بطريق شرعية، مدة معينة، ثم إن المستأجر له توفي، وأن الوكيل لما استأجر هذه المدة قدم للمؤجر حق سنة على يد وكيله، وأن صاحب الأرض ادعي على وارث المستأجر له، فطلبوا منه تثبيت وكالة المستأجر الوكيل‏.‏ فهل يجب على المدعي إثبات الوكالة بعد القبض منه حق سنة، وأنه هو الذي استغل هذه الأرض المستأجرة دون الوكيل‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا كان الذي ادعي عليه أن الأرض استؤجرت له، وقد استغل الأرض، فقد وجب ضمان المنفعة التي استوفاها، سواء استؤجرت أو لم تستأجر، وإذا لم يعترف أنه استوفاها بطريق الإجارة، ولا بإذن المالك والحالة هذه ، فهو غاصب يستحق تعزيره وعقوبته، تعزيرًا يمنعه وأمثاله من المعتدين عن ظلم الخلق، وجحد الحق‏.‏
    وهذا كله إذا لم يكن مما ذكر، وما لم يذكر على ما يدل على الإجارة، حتي لو ادعي المزدرع أنه إنما زرع بطريق العارية‏.‏ وقال

    ج/ 30 ص -250-رب الأرض‏:‏ بل بطريق الإجارة،فالقول قول رب الأرض، كما نص عليه الأئمة مالك وأحمد، والشافعي، وغيرهم‏.‏
    وللشافعي قول في مسألة الدابة إذا تنازعا، فقال‏:‏ أعرتني، وقال المالك‏:‏ بل أكريتك، فقال في هذه المسألة‏:‏ القول قول الراكب‏.‏ فمن أصحابه من سوي بين الصورتين‏.‏ والمذهب فيهما أن القول قول المالك‏.‏ ومنهم من فرق، وقال‏:‏ الدابة يسمح في العادة بأن تعار، بخلاف الأرض، ولهذا قال مالك في رواية‏:‏ إن القول قول المالك‏.‏ إلا أن يكون مثله لا يكري الدواب، وكذلك قال أبو حنيفة في الدابة‏:‏ القول قول الراكب‏.‏ وهو قول في مذهب الإمام أحمد‏.‏
    وبالجملة‏:‏ فالصواب الذي عليه الجمهور في مسألة الأرض، أن القول قول المالك، فيستحق المطالبة بالأجرة في هذه الصورة؛ لكن هل يطالب بالأجرة التي ادعاها، أو بأجرة المثل‏؟‏ أو بالأقل منهما‏؟‏ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره‏.‏

    ج/ 30 ص -251-وسئل عن فلاح حرث أرضا، ولم يزرعها، ثم زرعها غيره‏.‏ فهل يستحق الإجارة والمقاسمة‏؟‏ أم لا‏؟‏
    فأجاب ‏:‏
    إذا كانت الأرض مقاسمة‏:‏ لرب الأرض سهم، وللفلاح سهم، فإنه يقسم نصيب الفلاح بين الحارث والزارع، على مقدار ما بذلاه من نفع ومال‏.‏ والله أعلم‏.‏ وسئل عن رجل استأجر من ثلاثة نفر قطعة أرض وبئر ماء معين بأجرة معلومة، وزرعها أنشابًا، ثم إنه باع النصف من الأنشاب المذكور لأحد المؤجرين، وبقي على ملكه النصف من الأنشاب المذكور، ودفع الأجرة للآخرين المذكورين عن حصتهما خاصة، ولم يدفع للمشتري من الأجرة المذكورة‏.‏ وعند وفاته أشهد أن جميع ما يخص المشتري من الأجرة المذكورة باق في ذمته على حكمه، ولم يخلف سوى

    ج/ 30 ص -252-نصف الأنشاب، وعليه الأجرة المذكورة،وعليه صداق زوجته، فهل له أن يأخذ أسوة الشركاء، أو يحاصصهم‏.‏ ينظر ماله بحكم غيره‏؟‏ أفتونا‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الأجرة التي كان يستحقها أحد المؤجرين على المستأجر باقية في ذمته؛ ولو لم يقر ببقائها‏.‏ فإذا أقر ببقائها‏:‏ كان هذا مؤكدًا؛ لكن لغرمائه عليه اليمين أنه لم يبرأ المستأجر من هذه الأجرة، لا بوفاء، ولا إبراء، ولا غير ذلك؛ لكن من حين انتقلت لإنسان فلشركته مطالبته بحقهم من الأجرة، من حين انتقلت إليه‏.‏ وهذه الأجرة دين من الديون يحاص بها سائر الغرماء‏.‏
    وسئل عن رجل أقطع فدان طين، وتركه بديوان الأحباس، فزرعه، ثم مات الجندي، فترك عليه غيره، فمنع من ذلك، فأخذ توقيع السلطان المطلق له بأن يجري على عادته، فمنعه، وقد زرعه‏.‏ فهل له أجرة الأرض‏؟‏ أم الزرع‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله‏.‏ إذا كان المقطع أعطاه إياه من إقطاعه، وخرج من ديوان الإقطاع إلى ديوان الأحباس الذي لا يقطع، وأمضى ذلك،

    ج/ 30 ص -253-فليس للمقطع الثاني انتزاعه‏.‏
    وأما إن كان المقطع الأول تبرع له به من إقطاعه، وللمقطع الثاني أن يتبرع، وألا يتبرع‏:‏ فالأمر موكول للثاني، والزرع لمن زرعه، ولصاحب الأرض أجرة المثل، من حين أقطع إلى حين كمال الانتفاع‏.‏ وأما قبل إقطاعه فالمنفعة كانت للأول المتبرع؛ لا للثاني‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وسئل رحمه الله عن راعي أبقار سرح بالأبقار؛ ليسقيها من مورد جرت العادة بسقي الأبقار منها، فعند فراغ سقي الأبقار، لحق إحدى الأبقار مرض من جهة الله تعالى، فسقطت في الماء، فتسبب الناس في إقامتها، فلم تقم، فجروها إلى البر لتقوم فلم تقم، ولم يكن بها ضرب ولا غيره، فحضر وكيل مالكها، وجماعة من الناس، وشاهدوا ما أصابها، ورأوا ذبحها مصلحة فذبحوها‏:‏ فهل يلزم الراعي قيمتها‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    لا يلزم الراعي شيء إذا لم يكن منه تفريط ولا عدوان؛ بل إن كان الأمر كما ذكروا لا يلزم أيضا من ذبحها شيء، فإنهم قد أحسنوا فيما فعلوا؛ فإن ذبحها خير من تركها حتي تموت‏.‏ وقد فعل مثل هذا راعٍ على عهد النبي ﷺ، ولم ينكر

    ج/ 30 ص -254-النبي ﷺ ذلك،ولا بين أنه ضامن‏.‏
    وهو نظير خرق صاحب موسى السفينة لينتفع بها أهلها مرقوعة؛ فإن ذلك خير لهم من ذهابها بالكلية، ومثل هذا لو رأي الرجل مال أخيه المسلم يتلف بمثل هذا، فأصلحه بحسب الإمكان، كان مأجورًا عليه، وإن نقصت قيمته، فناقص خير من تالف، فكيف إذا كان مؤتمنا، كالراعي ونحوه‏؟‏‏!‏
    وسئل عن رجل يكون راعي إبل أو غنم، ثم إن بعض الماشية تمرض، أو يتسبب لها أمر، فيدركه الموت أو غير راعي ثم إنه يذكي تلك الدابة، خشية الهلاك على صاحبها فهل يضمن ذلك‏؟‏ أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا أدركها الموت فينبغي للراعي أن يذكيها، ويحسن في ذلك، فإن ذلك خير من أن تموت حتف أنفها، ولا ضمان عليه في ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 30 ص -255-وسئل عن راعي غنم تسلم غنما وسلمها لصبيه، وهو عمره اثنتا عشرة سنة، فسرح الغنم، فذهب منها رأسان‏.‏ فهل تلزم الصبي الأجير‏؟‏ أم الراعي الأصلي‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    يجب ذلك على الذي يسلمها إلى الصبي، بغير إذن أصحابها‏.‏
    وسئل عن ضمان بساتين بدمشق، وأن الجيش المنصور لما كسر العدو، وقدم إلى دمشق ونزل في البساتين، رعي زرعهم، وغلالهم، فاستهلكت الغلال بسبب ذلك‏.‏ فهل لهم الإجاحة في ذلك‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إتلاف الجيش الذي لا يمكن تضمينه هو من الآفات السماوية كالجراد‏.‏ وإذا تلف الزرع بآفة سماوية قبل تمكن الآخر من حصاده، فهل توضع فيه الجائحة، كما توضع في الثمر المشتري‏؟‏ على قولين للعلماء‏.‏أصحهما وأشبههما بالكتاب والسنة والعدل وضع الجائحة‏.‏

    ج/ 30 ص -256-وسئل رحمه الله عمن قال ‏:‏ أضمنه بكذا، وإن أكله الجراد مثلا ‏؟‏
    فأجاب ‏:‏
    إن هذا الشرط فاسد‏.‏ فإنه شرط غرر وقمار، وإذا كان مع الشرط قد ضمنه بعوض، كان ذلك دون عوض المثل، إذا خلا من الشرط‏.‏
    وحينئذ، يفرق بين صحة العقد وفساده على المشهور‏.‏ فإذا كان العقد فاسدًا كان الواجب رد المقبوض به، أو قيمته‏.‏ وإن كان صحيحا زيد على نصيب الباقي من المسمى بقدر قيمته، ما بين القيمة مع الشرط، والقيمة مع عدمه‏.‏
    فإذا كان المسمي مثلا ألفا، والباقي ثلث الثمرة، كان نصيبه ثلث ما بقي من الألف، فينظر قيمة الجميع بالشرط، فيأخذ تسعمائة‏.‏‏.‏ ألف ومائتان، فيزاد على المسمي، ونصيبه ثلثه‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 30 ص -257-وسئل رحمه الله عمن استأجر أرضا، فلم يأتها المطر المعتاد، فتلف الزرع‏.‏ هل توضع الجائحة‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما إذا استأجر أرضا للزرع فلم يأت المطر المعتاد، فله الفسخ باتفاق العلماء؛ بل إن تعطلت بطلت الإجارة بلا فسخ، في الأظهر‏.‏
    وأما إذا نقصت المنفعة، فإنه ينقص من الأجرة بقدر ما نقصت المنفعة، نص على هذا أحمد بن حنبل ، وغيره ‏.‏ فيقال ‏:‏ كم أجرة الأرض مع حصول الماء المعتاد‏؟‏ فيقال‏:‏ ألف درهم‏.‏ ويقال‏:‏ كم أجرتها مع نقص المطر هذا النقص‏؟‏ فيقال‏:‏ خمسمائة درهم‏.‏ فيحط عن المستأجر نصف الأجرة المسماة، فإنه تلف بعض المنفعة المستحقة بالعقد قبل التمكن من استيفائها، فهو كما لو تلف بعض المبيع قبل التمكن من قبضه‏.‏
    وكذلك لو أصاب الأرض جراد، أو نار أو جائحة، أتلف بعض الزرع، فإنه ينقص من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة‏.‏
    وأما ما تلف من الزرع فهو من ضمان مالكه، لا يضمنه له رب

    ج/ 30 ص -258-الأرض باتفاق العلماء‏.‏ ولما رأي بعض العلماء اتفاق العلماء على هذا ظن أنهم متفقون على أنه لا ينقص من الأجرة المسماة بقدر ما نقص من المنفعة، ولم يميز بين كون المنفعة مضمونة على المؤجر، حتي تنقضي المدة؛ بخلاف الزرع نفسه‏.‏ فإنه ليس مضمونًا عليه‏.‏
    وقد اتفق العلماء على أنه لو نقصت المنفعة المستحقة بالعقد كان للمستأجر الفسخ، كما لو استأجر طاحونًا، أو حمامًا، أو بستانًا له ماء معلوم، فنقص ذلك الماء نقصا فاحشا، عما جرت به العادة، بخلاف الجائحة في بيع الثمار، فإن فيها نزاعا مشهورًا‏.‏ فلو اشتري ثمرًا قبل بدو صلاحه، فأصابته جائحة كان من ضمان البائع؛ في مذهب مالك، وأحمد‏.‏ وهو قول الشافعي، الذي علقه على صحة الخبر، وقد صح الخبر في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏إن بعت من أخيك ثمرة، فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئًا، بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق‏؟‏‏"‏‏.‏
    واشترط مالك أن يكون كثيره فوق الثلث، وهو رواية عن أحمد‏.‏ وظاهر مذهبه وضع القليل والكثير‏.‏ والمسألة لا تجيء على قول أبي حنيفة؛ فإنه لا يفرق بين ما قبل بدو الصلاح وما بعده؛ بل يوجب العقد عند القطع في الحال مطلقا، ولو شرط التبقية ولو بعد بدو الصلاح لم يجز‏.‏ والثلاثة يفرقون بين ما قبل بدو الصلاح، وما

    ج/ 30 ص -259-بعده‏.‏ كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة‏.‏
    وأما ضمان البساتين عامًا،أو أعوامًا، ليستغلها الضامن بسقيه وعمله كالإجارة، ففيها نزاع‏.‏
    وكذلك إذا بدا الصلاح في جنس من الثمر كالتوت، فهل يباع جميع البستان‏؟‏ فيه نزاع‏.‏ والأظهر جواز هذا وهذا‏.‏ كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع‏.
    وسئل رحمه الله عن الرجل يكتري أرضا للزرع، فتصيبه آفة، فيهلك‏.‏ فهل فيه جائحة‏؟‏ أم لا‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    أما إذا اكتري أرضًا للزرع، فأصابته آفة‏.‏ فهذه ‏[‏مسألة وضع الجوائح في الثمر‏]‏ ، فإن اشتري ثمرًا قد بدا صلاحه، فأصابته جائحة أتلفته قبل كمال صلاحه، فإنه يتلف من ضمان البائع عند فقهاء المدينة؛ كمالك، وغيره‏.‏ وفقهاء الحديث كأحمد وغيره‏.‏ وهو قول معلق للشافعي؛ فإن الشافعي علق القول بصحة الحديث‏.‏ والحديث قد ثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ قال‏:‏

    ج/ 30 ص -260-‏"‏إذا بعت من أخيك ثمرة، فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئًا‏.‏ بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق‏؟‏‏"‏‏.‏
    والاعتبار يؤيد هذا القول، فإن المبيع تلف قبل تمكن المشتري من قبضه، فأشبه ما لو تلفت منافع العين المؤجرة قبل التمكن من استيفائها‏.‏ فإذا قيل‏:‏ هذه الثمرة تلفت بعد القبض قبل قبض الثمرة التي لم يكمل صلاحها من جنس قبض المنافع؛ فإن المقصود إنما هو جذاذها بعد كمال الصلاح؛ ولهذا إذا شرع المشتري في قبضها بعد كمال الصلاح، كانت من ضمانه‏.‏
    وقد تنازع الفقهاء‏:‏ هل يجوز له أن يبيعها قبل الجذاذ‏؟‏ على قولين، هما روايتان عن أحمد‏:‏
    أحدهما‏:‏ لا يجوز؛ لأنه بيع للمبيع قبل قبضه؛ إذ لو كانت مقبوضة لكانت من ضمانه‏.‏
    والثاني‏:‏ يجوز بيعها، وهو الصحيح؛ لأنه قبضها القبض المبيح للتصرف، وإن لم يقبضها القبض الناقل للضمان كقبض العين المؤجرة، فإنه إذا قبضها، جاز له التصرف في المنافع، وإن كانت إذا تلفت، تكون من ضمان المؤجر؛ لكن تنازع الفقهاء‏:‏ هل له أن يؤجرها بأكثر مما استأجرها به‏؟‏ على ثلاثة أقوال، هي ثلاث روايات عن أحمد‏.‏

    ج/ 30 ص -261-قيل‏:‏ يجوز؛ كقول الشافعي‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجوز؛ كقول أبي حنيفة وصاحبيه؛ لأنه ربح فيما لم يضمن؛ لأن المنافع لم يضمنها‏.‏ وقيل‏:‏ إن أحدث فيها عمارة جاز،وإلا فلا‏.‏ والأول أصح؛ لأنها مضمونة عليه بالقبض، بمعني أنه إذا لم يستوفها، تلفت من ضمانه، لا من ضمان المؤجر، كما لو تلف الثمر بعد بدو صلاحه، والتمكن من جذاذه؛ ولكن إذا تلفت العين المؤجرة، كانت المنافع تالفة من ضمان المؤجر؛ لأن المستأجر لم يتمكن من استيفائها، فيفرق بين ما قبل التمكن وبعده‏.‏
    فصل
    وأما إذا استأجر أرضا للازدراع، فأصابتها آفة، فإذا تلف الزرع بعد تمكن المستأجر من أخذه، مثل أن يكون في البيدر، فيسرقه اللص، أو يؤخر حصاده عن الوقت حتي يتلف‏.‏ فهنا يجب على المستأجر الأجرة‏.‏
    وأما إذا كانت الآفة مانعة من الزرع، فهنا لا أجرة عليه بلا نزاع‏.‏
    وأما إذا نبت الزرع، ولكن الآفة منعته من تمام صلاحه،مثل

    ج/ 30 ص -262-نار أو ريح أو برد،أو غير ذلك، مما يفسده، بحيث لو كان هناك زرع غيره لأتلفته‏.‏ فهنا فيه قولان‏:‏
    أظهرهما‏:‏ أن يكون من ضمان المؤجر؛ لأن هذه الآفة أتلفت المنفعة المقصودة بالعقد؛ لأن المقصود بالعقد المنفعة التي يثبت بها الزرع حتي يتمكن من حصاده، فإذا حصل للأرض ما يمنع هذه المنفعة مطلقا، بطل المقصود بالعقد قبل التمكن من استيفائه‏.‏
    ومثل هذا لو كانت الأرض سبخة فتلف الزرع، أو كانت إلى جانب بحر، أو نهر، فأتلف الماء تلك الأرض، قبل كمال الزرع، ونحو ذلك‏.‏ ففي هذه الصور كلها تتلف من ضمان المؤجر‏.‏ وليس على المستأجر أجرة ما تعطل الانتفاع به‏.‏ كما لو ماتت الدابة المستأجرة، أو انقطع الماء، ولم يمكن الانتفاع بها في شيء من المنفعة المقصودة بالعقد، وأمثال هذه الصور‏.‏ وليس هذا مثل أن يسرق ماله، أو يحترق من الدار؛ فإن المنفعة المقصودة بالعقد لم تتغير، فإنه يمكن أن ينتفع بها هو وغيره؛ بأن يحفظها من اللص أو الحريق‏.‏
    ونظير ذلك أن يتلف المال الذي اكتري الدابة لحمله؛ فإن الأجرة عليه؛ بخلاف ما إذا كانت الآفة مانعة من الانتفاع مطلقا له ولغيره؛ فإن هذا بمنزلة موت الدابة، واحتراق الدار المؤجرة‏.‏ ونظير سرقة

    ج/ 30 ص -263- متاعه من الدار‏:‏ أن يسرق سارق زرعه‏.‏ وأما إذا جاء جيش عام، فأفسد الزرع، فهذه آفة سماوية؛ فإن هذا لا يمكن تضمينه؛ ولا الاحتراز منه‏.‏ ونظيره أن يجيء جيش عام فيخرج الناس من مساكنهم التي يسكنونها‏.‏
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ تسليما‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML