ج/ 30 ص -103-باب المساقاة
قال شيخ الإسلام رحمه الله
فصل
قد ذكرت فيما تقدم من القواعد التي فيها قواعد فقيهة ما جاء به الكتاب والسنة من قيام الناس بالقسط وتناول ذلك للمعاملات: التي هي المعاوضات والمشاركات وذكرت أن [المساقاة والمزارعة والمضاربة] ونحو ذلك نوع من المشاركات وبينت بعض ما دخل من الغلط على من اعتقد أن ذلك من المعاوضات كالبيع والإجارة حتى حكم فيها أحكام المعاوضات. وبينت جواز المزارعة ببذر من المالك أو من العامل كما جاءت به سنة رسول الله ﷺ والقياس الجلي وبينت أن حديث رافع بن خديج وغيره في النهي عن المخابرة وعن كراء الأرض أن ما معناه: ما كانوا يفعلونه من اشتراط زرع بقعة معينة لرب الأرض
ج/ 30 ص -104-كما بينه رافع بن خديج في الصحيحين أيضا. ومن سمى المعاملة ببذر من المالك مزارعة ومن العامل مخابرة: فهو قول لا دليل عليه؛ بمنزلة الأسماء التي سماها هؤلاء وآباؤهم لم ينزل الله بها سلطانا. فإن في صحيح البخاري عن ابن عمر "أن رسول الله ﷺ عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعمروها من أموالهم". والمخابرة المنهي عنها لم يكن فيها بذر من العامل. والمقصود هنا: أن النبي ﷺ نهى عن المشاركة التي هي كراء الأرض بالمعنى العام إذا اشترط لرب الأرض فيها زرع مكان بعينه والأمر في ذلك كما قال الليث بن سعد - وهو في البخاري - أن الذي نهى عنه النبي ﷺ شيء إذا نظر فيه ذو البصر بالحلال والحرام علم أنه حرام أو كما قال. وذلك لأن المشاركة والمعاملة تقتضي العدل من الجانبين فيشتركان في المغنم والمغرم بعد أن يسترجع كل منهما أصل ماله فإذا اشترط لأحدهما زرع معين كان فيه تخصيصه بذلك وقد لا يسلم غيره فيكون ظلما لأحد الشريكين وهو من الغرر والقمار أيضا. ففي معنى ذلك ما قاله العلماء وما أعلم فيه مخالفا: أنه لا يجوز أن يشترط لأحدهما ثمرة شجرة بعينها ولا مقدارا محدودا من الثمر وكذلك لا
ج/ 30 ص -105-يشترط لأحدهما زرع مكان معين ولا مقدارا محدودا من نماء الزرع وكذلك لا يشترط لأحدهما ربح سلعة بعينها ولا مقدارا محدودا من الربح. فأما اشتراط عود مثل رأس المال فهو مثل اشتراط عود الشجر والأرض. وفي اشتراط عود مثل البذر كلام ذكرته في غير هذا الموضع فإذا كان هذا في تخصيص أحدهما بمعين أو مقدار من النماء حتى يكون مشاعا بينهما؛ فتخصيص أحدهما بما ليس من النماء أولى: مثل أن يشترط أحدهما على الآخر أن يزرع له أرضا أخرى أو يبضعه بضاعة يختص ربها بربحها أو يسقي له شجرة أخرى ونحو ذلك مما قد يفعله كثير من الناس. فإن العامل لحاجته قد يشترط عليه المالك نفعه في قالب آخر فيضاربه ويبضعه بضاعة أو يعامله على شجر وأرض ويستعمله في أرض أخرى أو في إعانة ماشية له أو يشترط استعارة دوابه أو غير ذلك؛ فإن هذا لا يجوز شرطه بلا نزاع أعلمه بين العلماء. فإنه في معنى اشتراط بمعين أو بقدر من الربح؛ لأنه إذا اشترط منفعته أو منفعة ماله اختص أحدهما باستيفاء هذه المنفعة وقد لا يحصل نماء أو يحصل دون ما ظنه فيكون الآخر قد أخذ منفعته بالباطل وقامره وراباه فإن فيه ربا وميسرا.
ج/ 30 ص -106-فإن تواطآ على ذلك قبل العقد فهو كالشرط في العقد على ما قررناه في [كتاب بطلان التحليل]: إن الشرط المتقدم على العقد كالمقارن له. فإن تبرع أحدهما بهدية إلى الآخر مثل أن يهدي العامل في المضاربة إلى المالك شيئا أو يهدي الفلاح غنما أو دجاجا أو غير ذلك: فهذا بمنزلة إهداء المقترض من المقرض يخير المالك فيها بين الرد وبين القبول والمكافأة عليها بالمثل وبين أن يحسبها له من نصيبه من الربح إذا تقاسما كما يحسبه من أصل القرض. وهذا ينازعنا فيه بعض الناس. ويقول متبرع بالإهداء؛ وليس كذلك؛ بل إنما أهداه لأجل المعاملة التي بينهما من القرض والمعاوضة ونحو ذلك كما قال النبي ﷺ في حديث العامل الأزدي ابن اللتبية لما قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي. فقال النبي ﷺ: "أفلا قعد في بيت أبيه وأمه. فينظر أيهدى إليه أم لا" وثبت عن عدد من الصحابة كعبد الله بن مسعود وعبد الله بن سلام وعبد الله بن عباس وأنس وغيرهم: أنهم أمروا المقرض الذي قبل الهدية أن يحسبها من قرضه. وهذا ظاهر في الاعتبار فإنه إذا قبل الهدية قبل الاستيفاء فقد
ج/ 30 ص -107-دخل معه على أن يأخذ الهدية وبدل القرض عوضا عن القرض وهذا عين الربا؛ فإن القرض لا يستحق به إلا مثله. ولو قال له وقت القرض: أنا أعطيك مثله وهذه الهدية: لم يجز بالإجماع. فإذا أعطاه قبل الوفاء الهدية التي هي من أجل القرض على أن يوفيه معها مثل القرض كان ذلك معاقدة على أخذ أكثر من الأصل؛ ولهذا لو أهدى إليه على العادة الجارية بينهما قبل القرض لم يكن كذلك. يبين ذلك أنه بقبول الهدية يريد أن ينظره لأجلها فيصير بمائة والهدية بمائة إلى أجل وهذا عين الربا؛ بخلاف المائة بمائة مثلها في الصفة. ولو شرط فيها الأجل؛ فإن هذا تبرع محض ليس بمعاوضة؛ إذ العاقل لا يبيع الشيء بما يساويه من كل وجه إلى أجل وإنما يفعل ذلك عند اختلاف الصفة كبيع الصحاح بالمكسرة ونقد بنقد آخر إلى أجل وذلك لا يجوز باتفاق المسلمين. وهكذا الأمر في المشاركة: فإنه إذا قبل هدية العامل ونفعه الذي إنما بذله لأجل المضاربة والمزارعة بلا عوض مع اشتراطه النصيب من الربح: كان هذا القبول على هذا القول معاقدة على أن يأخذ مع النصيب الشائع شيئا غيره؛ بمنزلة زرع مكان معين. وقد لا يحصل ربح فيكون العامل مقهورا مظلوما؛ ولهذا يطلب العامل بدل هديته ويحتسب بها على المالك فإن لم يعوضه عنها وإلا خانه في المال: أصله
ج/ 30 ص -108-وربحه كما يجري مثل ذلك بين المزارع والفلاح؛ فإن الفلاح يخونه ويظلمه لما يزعم أن المزارع يختص به من ماله ونحوه: كأخذ الهدايا. وأكله هو ودوابه من ماله مدة بغير حق فيقرض السنبل قبل الحصاد ويترك الحب في القصب والتبن وفي عفارة البيدر ويسرق منه ويحتال على السرقة بكل وجه والمزارع يظلمه في بدنه بالضرب والاستخدام وفي ماله بالاستنفاق الذي لا يستحقه ويرى أن هذا بإزاء ما اختانه من ماله. وكذلك يجري بين مالك المال والعامل: العامل يرى أنه يأخذ نفعه وماله فإنه لا بد له من هدايا ومن بضائع معه يتجر له فيها فيخصه بالربح لأجل المضاربة فيريد أن يعتاض عن نفعه وماله فيخون في المال والربح ويكذب ويكتم والمالك يرى أن العامل يخون في المال والربح ويخرج من ماله بالإنفاق على مال له آخر أو بالإهداء إلى أصدقائه ونحو ذلك مما ليس نفعه لأجل المضاربة فيطالبه بالهدايا ونحو ذلك. حتى إن من العمال من لا يهدي إلا لعلمه بأن المالك يطلب ذلك ويؤثره فيتقي بذلك شره وظلمه. وتفضي هذه المعاملات إلى المخاصمة والعداوة والظلم في النفوس والأعراض والأموال. وسبب ذلك اختصاص أحدهما بشيء خارج عن النصيب المشاع من النماء فإن هذا خروج عن العدل الواجب
ج/ 30 ص -109-في المشاركات. وقول النبي ﷺ: "أفلا قعد في بيت أبيه وأمه. فينظر أيهدى إليه. أم لا؟" يتناول هذه المعاني جميعها فإن الهدية إذا كانت لأجل سبب من الأسباب كانت مقبوضة بحكم ذلك السبب كسائر المقبوض به؛ فإن العقد العرفي كالعقد اللفظي. ومن أهدي له لأجل قرض أو إقراض كانت الهدية كالمال المقبوض بعقد القرض والقراض إذا لم يحصل عنها مكافأة. وهذا أصل عظيم يدخل بسبب إهماله من الظلم والفساد شيء عظيم.
فصل
وكما قلنا في المقبوض: إنه قبل الوفاء ليس له أن يأخذ منه مالا ولا نفعا قبل الوفاء بغير عوض مثله؛ لما فيه من الربا فالإهداء والإعارة من نوع فكذلك في المضاربة والمزارعة؛ متى أخذ رب المال مالا أو نفعا قبل الاقتسام التام لم يجز إلا بعوض مثله: مثل استخدام العامل والفلاح في غير موجب عقد المشاركة أو الانتفاع بماله أو غير ذلك إلا أن يحتسب له ذلك كله والله سبحانه أعلم. ولهذا تنازع الفقهاء. لو أعطاه عرضا فقال: بعه وضارب بثمنه.
ج/ 30 ص -110-فقيل: لا يجوز؛ لأن المالك يختص بمنفعته قبل المضاربة فهو كما لو شرط عليه بيع سلعة أخرى. وقيل: يجوز؛ لأن هذا البيع مقصوده مقصود المضاربة فأشبه البيع الحاصل بعد العقد والمال أمانة بيده في الموضعين وليس للمالك منفعة يختص بها زائدة على مقصود المضاربة. وفي المسألة نظر.
وقال قدس الله روحه
فصل
وأما [المزارعة]: فإذا كان البذر من العامل أو من رب الأرض. أو كان من شخص أرض ومن آخر بذر ومن ثالث العمل ففي ذلك روايتان عن أحمد. والصواب أنها تصح في ذلك كله. وأما إذا كان البذر من العامل فهو أولى بالصحة مما إذا كان البذر من المالك."فإن النبي ﷺ عامل أهل خيبر على أن يعمروها من أموالهم بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع" [رواه البخاري وغيره. وقصة أهل خيبر هي الأصل في جواز المساقاة والمزارعة] [وإنما كانوا يبذرون من أموالهم لم يكن النبي ﷺ
ج/ 30 ص -111-يعطيهم بذرا من عنده وهكذا خلفاؤه من بعده: مثل عمر وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وغير واحد من الصحابة. كانوا يزارعون ببذر من العامل. وقد نص الإمام أحمد في رواية عامة أصحابه في أجوبة كثيرة جدا على أنه يجوز أن يؤجر الأرض ببعض ما يخرج منها واحتج على ذلك بقصة أهل خيبر وأن النبي ﷺ عاملهم عليها ببعض الخارج منها. وهذا هو معنى إجارتها ببعض الخارج منها إذا كان البذر من العامل؛ فإن المستأجر هو الذي يبذر الأرض وفي الصورتين للمالك بعض الزرع. ولهذا قال من حقق هذا الموضع من أصحابه كأبي الخطاب وغيره: إن هذا مزارعة على أن البذر من العامل. وقالت طائفة من أصحابه كالقاضي وغيره: بل يجوز هذا العقد بلفظ الإجارة ولا يجوز بلفظ المزارعة؛ لأنه نص في موضع آخر: أن المزارعة يجب أن يكون فيها البذر من المالك. وقالت طائفة ثالثة: بل يجوز هذا مزارعة ولا يجوز مؤاجرة؛ لأن الإجارة عقد لازم؛ بخلاف المزارعة في أحد الوجهين؛ ولأن هذا يشبه قفيز الطحان. وروي عن النبي ﷺ: "أنه نهى عن قفيز
ج/ 30 ص -112-الطحان" وهو: أن يستأجر ليطحن الحب بجزء من الدقيق. والصواب: هو الطريقة الأولى؛ فإن الاعتبار في العقود بالمعاني والمقاصد؛ لا بمجرد اللفظ. هذا أصل أحمد وجمهور العلماء وأحد الوجهين في مذهب الشافعي؛ ولكن بعض أصحاب أحمد قد يجعلون الحكم يختلف بتغاير اللفظ كما قد يذكر الشافعي ذلك في بعض المواضع وهذا كالسلم الحال في لفظ البيع والخلع بلفظ الطلاق والإجارة بلفظ البيع ونحو ذلك مما هو مبسوط في موضعه. وأما من قال: إن المزارعة يشترط فيها أن يكون البذر من المالك فليس معهم بذلك حجة شرعية ولا أثر عن الصحابة؛ ولكنهم قاسوا ذلك على المضاربة. قالوا: كما أنه في المضاربة يكون العمل من شخص والمال من شخص فكذلك المساقاة والمزارعة يكون العمل من واحد والمال من واحد والبذر من رب المال. وهذا قياس فاسد؛ لأن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه ويقتسمان الربح فنظيره الأرض أو الشجر يعود إلى صاحبه ويقتسمان الثمر والزرع وأما البذر فإنهم لا يعيدونه إلى صاحبه؛ بل يذهب بلا بدل كما يذهب عمل العامل وعمل بقره بلا بدل؛ فكان من جنس النفع لا من جنس المال وكان اشتراط كونه من العامل أقرب في القياس مع موافقة هذا المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم؛ فإن منهم من كان يزارع والبذر من
ج/ 30 ص -113-العامل وكان عمر يزارع على أنه إن كان البذر من المالك فله كذا وإن كان من العامل فله كذا. ذكره البخاري. فجوز عمر هذا. وهذا هو الصواب. وأما الذين قالوا: لا يجوز ذلك إجارة لنهيه عن قفيز الطحان فيقال: هذا الحديث باطل لا أصل له وليس هو في شيء من كتب الحديث المعتمدة ولا رواه إمام من الأئمة والمدينة النبوية لم يكن بها طحان يطحن بالأجرة ولا خباز يخبز بالأجرة. وأيضا فأهل المدينة لم يكن لهم على عهد النبي ﷺ مكيال يسمى القفيز وإنما حدث هذا المكيال لما فتحت العراق وضرب عليهم الخراج فالعراق لم يفتح على عهد النبي ﷺ. وهذا وغيره مما يبين أن هذا ليس من كلام النبي ﷺ. وإنما هو من كلام بعض العراقيين الذين لا يسوغون مثل هذا؛ قولا باجتهادهم. والحديث ليس فيه نهيه عن اشتراط جزء مشاع من الدقيق؛ بل عن شيء مسمى: وهو القفيز وهو من المزارعة لو شرط لأحدهما زرعه بقعة بعينها أو شيئا مقدرا كانت المزارعة فاسدة. وهذا هو المزارعة التي نهى عنها النبي ﷺ في
ج/ 30 ص -114-حديث رافع بن خديج في حديثه المتفق عليه: "أنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها فنهى النبي ﷺ عن ذلك" ]. وقد بسط الكلام على هذه المسائل في غير هذا الموضع. وبين أن المزارعة أحل من المؤاجرة بأجرة مسماة. وقد تنازع المسلمون في الجميع؛ فإن المزارعة مبناها على العدل: إن حصل شيء فهو لهما وإن لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان. وأما الإجارة فالمؤجر يقبض الأجرة والمستأجر على خطر: قد يحصل له مقصوده وقد لا يحصل؛ فكانت المزارعة أبعد عن المخاطرة من الإجارة؛ وليست المزارعة مؤاجرة على عمل معين حتى يشترط فيها العمل بالأجرة؛ بل هي من جنس المشاركة: كالمضاربة ونحوها. وأحمد عنده هذا الباب هو القياس. ويجوز عنده أن يدفع الخيل والبغال والحمير والجمال إلى من يكاري عليها والكراء بين المالك والعامل وقد جاء في ذلك أحاديث في سنن أبي داود وغيره. ويجوز عنده أن يدفع ما يصطاد به: الصقر والشباك والبهائم وغيرها إلى من يصطاد بها وما حصل بينهما. ويجوز عنده أن يدفع الحنطة إلى من يطحنها وله الثلث أو الربع. وكذلك الدقيق إلى من يعجنه والغزل إلى من ينسجه والثياب إلى من يخيطها بجزء في الجميع من النماء. وكذلك الجلود إلى من يحذوها نعالا وإن حكي عنه في ذلك خلاف. وكذلك يجوز عنده - في أظهر
ج/ 30 ص -115-الروايتين - أن يدفع الماشية إلى من يعمل عليها بجزء من درها ونسلها ويدفع دود القز والورق إلى من يطعمه ويخدمه وله جزء من القز. وأما قول من فرق بين المزارعة والإجارة بأن الإجارة عقد لازم؛ بخلاف المزارعة فيقال له: هذا ممنوع؛ بل إذا زارعه حولا بعينه فالمزارعة عقد لازم كما تلزم إذا كانت بلفظ الإجارة والإجارة قد لا تكون لازمة كما إذا قال: آجرتك هذه الدار كل شهر بدرهمين؛ فإنها صحيحة في ظاهر مذهب أحمد وغيره وكلما دخل شهر فله فسخ الإجارة. والجعالة في معنى الإجارة وليست عقدا لازما. فالعقد المطلق الذي لا وقت له لا يكون لازما وأما المؤقت فقد يكون لازما.
فصل
وأما إجارة الأرض بجنس الطعام الخارج منها: كإجارة الأرض لمن يزرعها حنطة أو شعيرا بمقدار معين من الحنطة والشعير: فهو أيضا جائز في أظهر الروايتين عن أحمد وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وفي الأخرى ينهى عنه كقول مالك.
ج/ 30 ص -116-قالوا: لأن المقصود بالإجارة هو الطعام فهو في معنى بيعه بجنسه. وقالوا: هو من المخابرة التي نهى عنها النبي ﷺ؛ وهو في معنى المزابنة؛ لأن المقصود بيع الشيء بجنسه جزافا. والصحيح قول الجمهور؛ لأن المستحق بعقد الإجارة هو الانتفاع بالأرض؛ ولهذا إذا تمكن من الزرع ولم يزرع وجبت عليه الأجرة والطعام إنما يحصل بعمله وبذره. وبذره لم يعطه إياه المؤجر فليس هذا من الربا في شيء. ونظير هذا: أن يستأجر قوما ليستخرجوا له معدن ذهب أو فضة أو ركازا من الأرض بدراهم أو دنانير فليس هذا كبيع الدراهم بدراهم. وكذلك من استأجر من يشق الأرض ويبذر فيها ويسقيها بطعام من عنده وقد استأجره على أن يبذر له طعاما. فهذا مثل ذلك. والمخابرة التي نهى عنها النبي ﷺ قد فسرها رافع راوي الحديث بأنها المزارعة التي يشترط فيها لرب الأرض زرع بقعة بعينها؛ ولكن من العلماء من جعل المزارعة كلها من المخابرة كأبي حنيفة. ومنهم من قال: المزارعة على الأرض البيضاء من المخابرة كالشافعي. ومنهم من قال: المزارعة على أن يكون البذر من العامل من المخابرة. ومنهم من قال: كراء الأرض بجنس الخارج منها من
ج/ 30 ص -117-المخابرة كمالك. والصحيح أن المخابرة المنهي عنها كما فسرها به رافع بن خديج وكذلك قال الليث بن سعد: الذي نهى عنه رسول الله ﷺ شيء إذا نظر فيه ذو البصيرة بالحلال والحرام علم أنه محرم. وهذا مذهب عامة فقهاء الحديث: كأحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة وغيرهم. والنبي ﷺ حرم أشياء داخلة فيما حرمه الله في كتابه؛ فإن الله حرم في كتابه الربا والميسر وحرم النبي ﷺ بيع الغرر فإنه من نوع الميسر وكذلك بيع الثمار قبل بدو صلاحها وبيع حبل الحبلة. وحرم ﷺ بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا مثلا بمثل وغير ذلك مما يدخل في الربا. فصار بعض أهل العلم يظنون أنه دخل في العام أو علته العامة أشياء وهي غير داخلة في ذلك. كما أدخل بعضهم ضمان البساتين حولا كاملا أو أحوالا لمن يسقيها ويخدمها حتى تثمر فظنوا أن هذا من باب بيع الثمار قبل بدو صلاحها فحرموه؛ وإنما هذا من باب الإجارة: كإجارة الأرض. فلما نهى عن بيع الحب حتى يشتد وجوز إجارة الأرض لمن يعمل عليها حتى تنبت. وكذلك نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها ولم ينه أن تضمن لمن يخدمها حتى تثمر ويحصل الثمر بخدمته على ملكه وبائع الثمر
ج/ 30 ص -118-والزرع عليه سقيه إلى كمال صلاحه خلاف المؤجر فإنه ليس يسقي ما للمستأجر من ثمر وزرع؛ بل سقي ذلك على الضامن المستأجر. وعمر بن الخطاب ضمن حديقة أسيد بن الحضير ثلاث سنين وتسلف كراءها فوفى به دينا كان عليه. ونظائر هذا الباب كثيرة.
وسئل هل تصح المزارعة أم لا؟ وإذا فرط المزارع في نصف فدان فحلف رب الأرض بالطلاق الثلاث ليأخذن عوضه من الزرع الطيب؟
فأجاب: الحمد لله. المزارع بثلث الزرع أو ربعه أو غير ذلك من الأجزاء الشائعة: جائز بسنة رسول الله ﷺ وعمل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين وهو قول محققي الفقهاء. وإذا كان العامل قد فرط حتى فات بعض المقصود فأخذ المالك مثل ذلك من أرض أخرى وجعل ذلك له بحيث لا يكون فيه عدوان لم يحنث في يمينه ولا حنث عليه. والله أعلم.
ج/ 30 ص -119-وسئل رحمه الله عن رجل سلم أرضه إلى رجل ليزرعها ويكون الزرع بينهما بالسوية والبذر من الزارع؛ لا من رب الأرض. فهل يجوز ذلك ويكون بينهما شركة؟ أو لا يجوز؟.
فأجاب: الحمد لله. هذا جائز في أصح قولي العلماء وبه مضت سنة رسول الله ﷺ وسنة خلفائه الراشدين وغيرهم من أصحابه. فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها: من زرع وثمر. على أن يعمروها من أموالهم. فهذه مشاطرة فعلها رسول الله ﷺ. والبذر من العامل لا من رب الأرض. وكذلك كان أصحابه بعده يفعلون: مثل آل أبي بكر وآل علي بن أبي طالب ومثل سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود. والذين خالفوا ذلك لهم مأخذان ضعيفان: أحدهما: أنهم ظنوا أن المزارعة مثل المؤاجرة وليست من باب
ج/ 30 ص -120-المؤاجرة؛ فإن المؤاجرة يقصد منها عمل العامل ويكون العمل معلوما؛ بل يشتركان هذا بمنفعة أرضه وهذا بمنفعة بدنه وبقره كسائر الشركاء. وأما ما نهى عنه النبي ﷺ من المخابرة فقد جاء مفسرا في الصحيح أنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة معينة؛ فلهذا نهى عنها. ومن اشترط أن يكون البذر من المالك فإنه شبهها بالمضاربة التي يشترط أن يكون المال من أحدهما والعمل من الآخر وظن أن البذر يكون من رب الأرض وكلاهما مال. وهذا غلط؛ فإن رأس المال يعود في هذه العقود إلى صاحبه كما يعود رأس المال في المضاربة والأرض في المزارعة والأرض والشجر في المساقاة. والعامل إذا بذر البذر وأماته فلم يأخذ مثله صار البذر يجري مجرى المنافع التي لا يرجع بمثلها ومن اشترط أن يكون البذر من المالك ولا يعود فيه فقوله في غاية الفساد؛ فإنه لو كان كرأس المال لوجب أن يرجع في نظيره كما يقول مثل ذلك في المضاربة
وسئل رحمه الله عن رجل له أرض مزروعة وغيرها وجاء من يزرعها له مشاطرة والبذر وسائر ما يلحق الزرع من الأجر حتى إذا أخذ الحصادون
ج/ 30 ص -121-شيئا أخذ صاحب الأرض مثله ونصف التبن أيضا. فهل يجوز ذلك؟ أم لا؟.
فأجاب: الحمد لله. المزارعة على الأرض بشطر ما يخرج منها جائز سواء كان البذر من رب الأرض أو من العامل. وهذا هو الصواب الذي دلت عليه سنة رسول الله ﷺ وسنة خلفائه الراشدين. فإن "النبي ﷺ عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعمروها من أموالهم" وهذا مذهب أكثر الصحابة والتابعين. وجواز المزارعة على الأرض البيضاء هو مذهب الثوري وابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل وأبي يوسف ومحمد والمحققين من أصحاب الشافعي العلماء بالحديث وبعض أصحاب مالك وغيرهم. وكذلك يجوز على أصح القولين في مذهب أحمد وغيره أن يكون البذر من العامل كما فعل النبي ﷺ مع أهل خيبر وتشبيه ذلك بمال المضاربة فاسد؛ فإن البذر لا يعود إلى باذره كما يعود مال المالك. والذي نهى عنه النبي ﷺ من المخابرة هو أنهم كانوا يعاملون ويشترطون للمالك منفعة معينة من الأرض وهذا
ج/ 30 ص -122-باطل بالاتفاق. كما لو اشترط دراهم مقدرة في المضاربة أو ربح صنف بعينه من السلع. والمساقاة والمزارعة والمضاربة ليست من أنواع الإجارة التي يشترط فيها تقدير العمل والأجرة فإن تلك يكون المقصود فيها العمل؛ وإنما هي من جنس المشاركة فإنهما يشتركان بمنفعة بدن هذا ومنفعة مال هذا وهما مشتركان في المغنم والمغرم. وكان آل أبي بكر يزارعون وآل عمر يزارعون وآل ابن مسعود يزارعون وهذا عمل المسلمين من زمن نبيهم إلى اليوم. وهي كانت فيهم أظهر من كراء الأرض بالدراهم والدنانير فإنها أبعد عن الظلم والغرور وأقرب إلى العدل الذي ثبتت عليه المعاملات. وأما مؤنة الحصادين فعلى من اشترطاه؛ إن اشترطا المؤنة عليهما فهي عليهما وإن شرطاها على أحدهما فهي عليه وفي الإطلاق نزاع. ولهما اقتسام الحب والتبن والله أعلم.
وسئل رحمه الله عن رجل استأجر أرضا بجزء من زرعها وتسلمها ولم يزرعها. فهل للمالك عليه أجرة المثل؟.
ج/ 30 ص -123-فأجاب: الحمد لله. هذه مختلف في صحتها. وظاهر المذهب عندنا صحتها ثم سواء سميت إجارة أو مزارعة: فأحمد يصححها في غالب نصوصه وسماها إجارة وقال أبو الخطاب وغيره: هي المزارعة ببذر العامل. وأما القاضي وغيره فصححوها وأبطلوا المزارعة ببذر من العامل. وإذا كانت صحيحة ضمنت بالمسمى الصحيح. وهنا ليس هو في الذمة فينظر إلى معدل المغل فيجب القسط المسمى فيه. وإذا جعلناها مزارعة وصححناها فينبغي أن تضمن بمثل ذلك؛ لأن المعنى واحد وإن أفسدناها وسميناها إجارة ففي الواجب قولان: أحدهما: أجرة المثل وهو ظاهر قول أصحابنا وغيرهم. والثاني: قسط المثل وهذا هو التحقيق. وأجاب بعض الناس: أن هذه إجارة فاسدة فيجب بالقبض فيها أجرة المثل.
ج/ 30 ص -124-وسئل رضي الله عنه عما إذا كان من أحدهما أرض ومن آخر حب. إلخ؟
فأجاب: وكذلك إذا تعاملا بأن يكون من رجل أرض ومن آخر حب أو بقر أو من رجل ماء ومن رجل حب وعنب ففيه قولان هما روايتان عن أحمد. والأظهر جواز ذلك. وكذلك إذا استأجره ليطحن له طحينا بثلثه أو ربعه. أو يخبز له رغيفا بثلثه أو ربعه. أو يخيط له ثيابا بثلثها أو ربعها. أو يسقي له زرعا بثلثه أو ربعه. أو يقطف له ثمرا بثلثه أو ربعه فهذا ومثله جائز في ظاهر مذهب أحمد وغيره. وكذلك إذا أعطاه ماءه ليسقي به قطنه أو زرعه ويكون له ربعه أو ثلثه. فإن هذا جائز أيضا. سواء كان الماء من هذا. وهذا من جنس المشاركة؛ لا من جنس الإجارة وهو بمنزلة المساقاة؛ والمزارعة. والصحيح الذي عليه فقهاء الحديث: أن المزارعة جائزة سواء كان البذر من المالك أو من العامل أو منهما. وسواء كانت أرضا
ج/ 30 ص -125-بيضاء أو ذات شجر وكذلك المساقاة على جميع الأشجار. ومن منع ذلك ظن أنه إجارة بعوض مجهول وليس كذلك بل هو مشاركة كالمضاربة والمضاربة على وفق القياس لا على خلافه فإنها ليست من جنس الإجارة بل من جنس المشاركات كما بسط الكلام على هذا في موضعه.
وسئل رحمه الله عمن رابع رجلا. صورتها: أن الأرض لواحد ومن آخر البقر والبذر ومن المرابع العمل. على أن لرب الأرض النصف ولهذين النصف للمرابع ربعه فبقي في الأرض فما نبت ونبت في العام الثاني من غير عمل؟
فأجاب: إن كان هذا من الأرض ومن الحب المشترك ففيه قولان:
[أحدهما]: أنه لصاحب الأرض فقط.
و [الثاني]: يقسم بينهم على قدر منفعة الأرض والحب. وهذا أصح القولين.
ج/ 30 ص -126-وسئل عن رجل له أرض أعطاها لشخص مغارسة بجزء معلوم وشرط عليه عمارتها فغرس بعض الأرض وتعطل ما في الأرض من الغرس. فهل يجوز قلع المغروس؟ أم لا؟ وهل للحاكم أن يلزمهم بقلعه؟ أم لا؟
فأجاب: الحمد لله رب العالمين. إذا لم يقوموا بما شرط عليهم كان لرب الأرض الفسخ وإذا فسخ العامل أو كانت فاسدة فلرب الأرض أن يتملك نصيب الغارس بقيمته إذا لم يتفقا على قلعه. والله أعلم.
وسئل عن رجل غرس غراسا في أرض بإذن مالكها ثم توفي مالكها عنها وخلف ورثة فوقفوا الأرض على معينين فتشاجر الموقوف عليهم وصاحب الغراس على الأجرة فماذا يلزم صاحب الأرض؟
فأجاب: الحمد لله. إذا كان الغراس قد غرس بإذن المالك بإعارة
ج/ 30 ص -127-أو بإجارة وانقضت مدته أو كانت مطلقة فعلى صاحب الغراس أجرة المثل تقوم الأرض بيضاء لا غراس فيها ثم تقوم وفيها ذلك الغراس فما بلغ فهو أجرة المثل والله أعلم.
وسئل رحمه الله عن جندي أقطع له السلطان إقطاعا وهو خراج أرض وتلك الأرض كانت مقطعة لجندي - توفي إلى رحمة الله تعالى - بعد أن زرعها ببذره وبقره فحكم له الديواني السلطاني أن يأخذ شطر الزرع وورثة المتوفى شطره بعد أن يأخذ من جملة الزرع نصف العشر ثم يدفع لورثة المتوفى المزارع ربع الشطر الذي له؛ لأن السلطان يأخذ لورثة المتوفى ربع الخراج وله ثلاثة أرباعه. فهل تجوز هذه القسمة ويجوز أخذ الخراج على هذه الصورة. وإذا لم يكن ذلك جائزا فكيف يكون الحكم فيه على مقتضى الشرع الشريف؟ ثم إن أهل الديوان أمروه أن يأخذ من ورثته بذر هذه الأرض في السنة الآتية تكون عنده قرضا بحجة برسم عمارة الإقطاع ويعيده لهم على سنتين. فهل يجوز ذلك؟ أم لا؟
فأجاب: هذا الإقطاع ليس إقطاعا بمجرد خراج الأرض كما ظنه السائل بل هو إقطاع استغلال؛ فإن الإقطاع نوعان: إقطاع تمليك:
ج/ 30 ص -128-كما يقطع الموات لمن يحييه بتملكه. وإقطاع استغلال: وهو إقطاع منفعة الأرض لمن يستغلها إن شاء أن يزرعها وإن شاء أن يؤجرها. وإن شاء أن يزارع عليها. وهذا الإقطاع هو من هذا الباب؛ فإن المقطعين لم يقطعوا مجرد خراج واجب على شيء من الأرض بيده كالخراج الشرعي الذي ضربه أمير المؤمنين عمر على بلاد العنوة وكالأحكار التي تكون في ذمة من استأجر عقارا لبيت المال فمن أقطع ذلك فقد أقطع خراجا. وأما هؤلاء فأقطعوا المنفعة. وإذا عرف هذا. فإذا انفسخ الإقطاع في أثناء الأمر؛ إما لموت المقطع وإما لغيره وأقطع لغيره: كانت المنفعة الحادثة للمقطع الثاني دون الأول؛ بحيث لو كان المقطع الأول قد أجر الأرض المقطعة ثم انفسخ إقطاعه انفسخت تلك الإجارة كما تنفسخ إجارة البطن الأول إذا انتقل الوقف إلى البطن الثاني في أصح الوجهين. وإذا كان كذلك فإن كان الإقطاع انتقل في نصف المدة. كان للثاني نصف المنفعة وإن كان في ريعها الماضي كان له ريع المنفعة فإن كان أهل الديوان أعطوا الثاني ثلاثة أرباع المنفعة المستحقة بالإقطاع والأول الربع؛ لكون الثاني قام بثلاثة الأرباع بمائة استحق الإقطاع.
ج/ 30 ص -129-مثل أن يخدم ثلاثة أرباع المدة المستوفية للمنفعة فقد عدلوا في ذلك. ثم إن المقطع الأول لما ازدرعه بعمله وبذره وبقره وصار بعض المنفعة مستحقا لغيره صار مزدرعا في أرض الغير؛ لكن ليس هو غاصبا يجوز إتلاف زرعه؛ بل زرعه زرع محترم كالمستأجر. وأولى. فهنا للفقهاء ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون الزرع للمزدرع وعليه أجرة المثل لمنفعة الثاني. والثاني: أن يكون الزرع لرب الأرض وعليه ما أنفقه الأول على زرعه. وهذان القولان معروفان. فمن زرع في أرض غيره بغير إذنه: هل الزرع للمزدرع؟ أو لرب الأرض يأخذه ويعطيه نفقته؟ كما في السنن عن رافع بن خديج أن النبي ﷺ قال: "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وعليه نفقته" على القولين. والمسألة معروفة. وهذا الثاني مذهب أحمد وغيره. والأول مذهب الشافعي وغيره. والمزدرع في صورة السؤال ليس غاصبا؛ لكن بمنزلة أنه مما يعد زرع في أرض الغير بغير إذنه فهو كما لو اتجر في مال يظنه لنفسه فبان أنه لغيره.
وفي هذه المسألة [قول ثالث] هو الذي حكم به أهل الديوان.
ج/ 30 ص -130-وهو الذي قضى به عمر بن الخطاب في نظير ذلك وهو أصح الأقوال؛ فإنه كان قد اجتمع عند أبي موسى الأشعري مال للمسلمين يريد أن يرسله إلى عمر فمر به ابنا عمر. فقال: إني لا أستطيع أن أعطيكما شيئا؛ ولكن عندي مال أريد حمله إليه فخذاه اتجرا به وأعطوه مثل المال فتكونان قد انتفعتما والمال حصل عنده مع ضمانكما له. فاشتريا به بضاعة فلما قدما إلى عمر قال: أكل العشر أقرهم مثل ما أقركما فقالا: لا فقال ضعا الربح كله في بيت المال فسكت عبد الله. وقال له عبيد الله: أرأيت لو ذهب هذا المال أما كان علينا ضمانه؟ فقال بلى قال: فكيف يكون الربح للمسلمين والضمان علينا فوقف عمر. فقال له الصحابة: اجعله مضاربة بينهما وبين المسلمين لهما نصف الربح وللمسلمين النصف فعمل عمر بذلك. وهذا أحسن الأقوال التي تنازعها الفقهاء في مسألة التجارة بالوديعة وغيرها من مال الغير فإن فيها أربعة أقوال في مذهب أحمد وغيره هل الربح لبيت المال بناء على أنه المال؟ أو الربح للعامل؛ لأن الملك حصل له باشتراء الأعيان في الذمة ويتصدقان بالربح؛ لأنه خبيث أو يقتسما بينهما. كالمضاربة. وهذا الرابع الذي فعله عمر وعليه اعتمد من اعتمد من الفقهاء في
ج/ 30 ص -131-جواز المضاربة. ومسألة المزارعة كذلك أيضا فإن هذا ازدراع في الأرض يظنها لنفسه فتبين أنها أو بعضها لغيره فجعل الزرع بينهما مزارعة. والمزارعة المطلقة تكون مشاطرة لهذا نصف الزرع ولهذا نصفه؛ فلهذا جعل للأول نصف الزرع كالعامل في المزارعة ويجعل النصف الثاني للمنفعة المقطعة. والأول قد استحق ربعها فيجعل له النصف وربع النصف؛ بناء على ما ذكر. والثاني ثلاثة أرباع النصف. وهذا أعدل الأقوال في مثل هذه المسألة؛ بل حقيقة الأمر أن المقطع الثاني مخير: إن شاء أن يطالب من ازدرع في أرضه بأجرة المثل وإن شاء أن يجعلها مزارعة كما يخير ابتداء. وأما إذا قيل: بأن له أخذ الزرع وعليه نفقة الأول فهذا أبلغ. وقد تضمن هذا الجواب أن المزارعة يجوز أن يكون البذر فيها من العامل وهذا هو الصواب المقطوع به وإن سماه بعض الفقهاء مخابرة فإنه قد ثبت في الصحيح: ["أن النبي ﷺ عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من الأرض من ثمر وزرع على أن يعمروها من أموالهم" وكذلك أصحاب رسول الله ﷺ جوزوا ذلك كما كانوا يزارعون كآل أبي بكر وآل عمر وآل علي بن أبي طالب وغيرهم.
ج/ 30 ص -132-والذي نهى عنه النبي ﷺ من المخابرة إنما كانوا يعملونه وهو أن يشترطوا لرب الأرض زرع بقعة بعينها فهذا هو المنهي عنه كما جاء مفسرا في الحديث الصحيح. وأما القوة التي تجعل في الأرض فإنها ليست قرضا محضا كما يظنه بعض الناس. فإن القرض المطلق هو بما يملكه المقترض فيتصرف فيه كما شاء. وهذه القوة مشروطة على من يقبضها أن يبذرها في الأرض ليس له التصرف فيها بغير ذلك فقد جعلت قوة في الأرض ينتفع [بها] كل من يستعمل الأرض من مقطع وعامل إذ مصلحة الأرض لا تقوم إلا بها كما لو كان في الأرض صهريج ماء ينتفع به ولهذا يقال: من دخل على قوة خرج على نظيرها. وإذا كان الصهريج ملآن ماء عند دخولك فاملأه عند خروجك. وحقيقة الأمر أن للسلطان أن يشترط على المقاطعة أن يتركوا في الأرض قوة وهذا من المصلحة وإذا كان الأول قد ترك فيها قوة والثاني محتاج إليها فرأى من ولي من ولاة الأمر أن يجعل عطاءها للأول بقسطه بحسب المصلحة كان ذلك جائزا. وإذا جرت العادة بأن من دخل على قوة خرج على نظيرها ومن أعطى قوة من عنده استوفاها مؤجلة: كان إقطاع ولي الأمر بهذا
ج/ 30 ص -133-الشرط وذلك جائز؛ فإن الزرع إنما ملكه بالإقطاع وأورث الأول ما استحقه قبل الموت. وأما نصف العشر المذكور فلم يذكر وجهه حتى يفتى به. وإقطاع ولي الأمر هو بمنزلة قسمته بيت مال المسلمين ليست قسمة الإمام للأموال السلطانية كالفيء بمنزلة قسمة المال بين الشركاء المعينين؛ فإن المال المشترك بين الشركاء المعينين كالميراث يقسم بينهم على صنف منه إن كان قبل القسمة وإلا بيع وقسم ثمنه عند أكثر الفقهاء. كمالك وأحمد وأبي حنيفة. وتعدل السهام بالأجزاء إن كانت الأموال متماثلة: كالمكيل والموزون. وتعدل بالتقويم إن كانت مختلفة كأجزاء الأرض. وإن كانت من المعدودات كالإبل والبقر والغنم قسمت أيضا على الصحيح وعدلت بالقسمة. وأما الدور المختلفة ففيها نزاع وليس لأحد الشريكين أن يختص بصنف وأما أموال الفيء فللإمام أن يخص طائفة بصنف وطائفة بصنف. بل وكذلك في المغانم على الصحيح ولو أعطى الإمام طائفة إبلا وطائفة غنما جاز. وهل يجوز للإمام تفضيل بعض الغانمين لزيادة منفعة؟ على قولين للعلماء: أصحهما الجواز. كما ثبت عن النبي ﷺ "أنه نفل في بدايته الربع بعد الخمس وفي رجعته الثلث بعد الخمس"] وثبت عنه أنه نفل سلمة بن الأكوع وغيره.
ج/ 30 ص -134-وأما مال الفيء فيستحق بحسب منفعة الإنسان للمسلمين وبحسب الحاجة أيضا والمقاتلة أحق به وهل هو مختص بهم؟ على قولين. وإذا قسم بين المقاتلة فيجب أن يقسم بالعدل كما يجب العدل على كل حاكم وكل قاسم؛ لكن إذا قدر أن القاسم أو الحاكم ليس عدلا لم تبطل جميع أحكامه وقسمه على الصحيح الذي كان عليه السلف فإن هذا من الفساد الذي تفسد به أمور الناس؛ فإنه قد ثبت عن النبي ﷺ من الأحاديث الصحيحة التي يأمر فيها بطاعة ولاة الأمور مع جورهم ما يبين أنهم إذا أمروا بالمعروف وجبت طاعتهم وإن كانوا ظالمين. فإذا حكم حكما عادلا وقسم قسما عادلا: كان هذا من العدل الذي تجب طاعتهم فيه. فالظالم لو قسم ميراثا بين مستحقيه بكتاب الله كان هذا عدلا بإجماع المسلمين. ولو قسم مغنما بين غانميه بالحق كان هذا عدلا بإجماع المسلمين. ولو حكم لمدع ببينة عادلة لا تعارض كان هذا عدلا. والحكم أمر ونهي وإباحة فيجب طاعته فيه. هذا إذا كانت القسمة عادلة. فأما إذا كان في القسمة ظلم؛ مثل أن يعطي بعض الناس فوق ما يستحق وبعضهم دون ما يستحق: فهذا هو الاستيثار الذي ذكره
ج/ 30 ص -135-النبي ﷺ. حيث قال:"على المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه وأثرة عليه ما لم يؤمر بمعصية" وفي الصحيحين عن "عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقول - أو نقوم - بالحق. حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم". ومعلوم أن هذا ما زال في الإسلام من ولاة الأمور ومن دخل في هذه الأمور وإنما يستثنى في الخلفاء الراشدين ومن اتبعهم. فإذا كان ذلك كذلك. فالمعطى إذا أعطي قدر حقه أو دون حقه: كان له ذلك بحكم قسمة هذا القاسم كما لو قسم الميراث وأعطى بعض الورثة حقه كان ذلك بحكم هذا القاسم وكما لو حكم لمستحق بما استحقه كان له أن يأخذ ذلك بموجب هذا الحكم. وليس لقائل أن يقول: أخذه بمجرد الاستيلاء كما لو لم يكن حاكم ولا قاسم فإنه على نفوذ هذه المقالة تبطل الأحكام والأعطية التي فعلها ولاة الأمور جميعهم؛ غير الخلفاء. وحينئذ فتسقط طاعة ولاة الأمور؛ إذ لا فرق بين حكم وقسم وبين عدمه. وفي هذا القول من الفساد في العقل والدين ما لا يخفى على ذي لب؛ فإنه لو فتح هذا الباب أفضى من الفساد إلى ما هو أعظم من ظلم الظالم ثم كان كل واحد يظن
ج/ 30 ص -136-أن ما يأخذه قدر حقه وكل واحد إنما يشهد استحقاق نفسه دون استحقاق بقية الناس وهو لا يعلم مقدار الأموال المشتركة. وهل يجعل له منها بالقيمة هذا أو أقل؟ والإنسان ليس له أن يكون حاكما لنفسه ولا شاهدا لنفسه فكيف يكون قاسما لنفسه؟. ومعلوم عند كل أحد أن دخول الشركاء تحت قاسم غيرهم ودخول الخصماء تحت حاكم غيرهم ولو كان ظالما أو جاهلا [أولى] من أن يكون كل خصم حاكما لنفسه وكل شريك قاسما لنفسه فإن الفساد في هذا أعظم من الفساد في الأول. والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ورجحت خير الخيرين بتفويت أدناهما وهذا من فوائد نصب ولاة الأمور. ولو كان على ما يظنه الجاهل لكان وجود السلطان كعدمه وهذا لا يقوله عاقل فضلا عن أن يقوله مسلم؛ بل قد قال العقلاء: ستون سنة من سلطان ظالم خير من ليلة واحدة بلا سلطان. وما أحسن قول عبد الله بن المبارك:
لولا الأئمة لم يأمن لنا سبل
وكان أضعفنا نهبا لأقوانا.
وأصل هذه المسألة مبسوط بسطا تاما في غير هذا الموضع وإنما نبهنا على قدر ما يعرف به مقصود الجواب. والله أعلم.
ج/ 30 ص -137-وسئل عن قرية كانت جارية في إقطاع رجل وأخذت ثم أقطعت لاثنين بعد أن زرع فلاحوها أراضيها من غلة المقطع الأول ثم طلب أحد المقطعين المستجدين أن يقسم حصته من زرعه. فهل يجوز ذلك وهل تصح القسمة؟ وهل يجب استمرار الناحية مشاعا إلى حيث يقسم المغل. ويتناول كل ذي حق حقه من جميع المغل؟ أو يقسم قبل إدراك المغل؟.
فأجاب: إن لم تنقص حصة الشركاء لا في الأرض ولا في الزرع فعليهم إجابة طالب القسمة التي ليس فيها ضرر عليهم وإن كان في ذلك ضرر بنقص قسمة أنصبائهم لم يرفع الضرر بالضرر؛ بل إن أمكن انقسام عوض المقسوم من غير ضرر فعل.
ج/ 30 ص -138-وسئل عن صاحب إقطاع. هل له أن يأخذ من الزرع جزءا معينا؟. وهل له إذا شاطره بجزء مشاع وعلم أنهم قد حابوه أن يأخذ زائدا على ذلك؟ أم لا؟.
فأجاب: الحمد لله. تجوز المزارعة بجزء شائع سواء كان أقل من النصف أو أكثر من النصف. ولا فرق عند الأئمة الأربعة ونحوهم: أن يزارع بالنصف أو الثلث أو الثلثين ونحو ذلك من الأجزاء الشائعة كثلاثة أخماس وخمسين. وقد ثبت جواز المزارعة بسنة رسول الله ﷺ الصحيحة باتفاق الصحابة وهي أعدل من التسجيل وإذا شرط عليه نصف الزرع فأخذوا زائدا على ذلك فله أن يأخذ منهم بقدر الزائد.
ج/ 30 ص -139-وسئل رحمه الله عن رجل معه دراهم حرام فدفعها إلى والده وأخذ منه عوضها من دراهمه الحلال واشترى منها شيئا يعود منه منفعة؛ إما نتاج الإبل والغنم وإما زرع أرض واستعملها. هل هي حرام؟ أم لا؟
فأجاب: متى اعتاض عن الحرام عوضا بقدره فحكم البدل حكم المبدل منه فإن كان قد نمى بفعله نماء من ربح أو كسب أو غير ذلك ففيه خلاف بين العلماء. وأعدل الأقوال أن يقسم النماء بين منفعة المال وبين منفعة العامل؛ بمنزلة المضاربة. كما فعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في المال الذي اتجر منه أولاده من بيت المال وهكذا كل نماء بين أصلين. إذا بيع الأصل. وأجاب أيضا: أعدل الأقوال في هذه المسألة وشبهها أن يقسط الزرع الحادث من منفعة الأرض والبذر والعامل والبقر على هذه الأصول فيكون قسط الحرام لمن يجب صرفه إليه وقسط الحلال لمن يستحقه كسائر الحادث عن الأصول المشتركة.
ج/ 30 ص -140-وسئل رحمه الله عن رجل له إقطاع من السلطان فزرعها لفلاح مشاطرة: هل يجوز الإشهاد بينهما؟ أو أن بعض العدول امتنع من الإشهاد بينهما. وهل إذا اشترط على الفلاح. مثل دجاج أو خراق أو نحو ذلك من سائر الأصناف مع رضا الفلاح بذلك. هل يجوز؟ أم لا؟
فأجاب: الحمد لله. دفع الأرض الملك والإقطاع أو غيرها إلى من يعمل فيها بشطر الزرع فيه قولان للعلماء؛ لكن الصواب المقطوع به أن ذلك جائز؛ فإن ذلك إجماع من الصحابة: آل أبي بكر وآل عمر وآل علي وعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وغيرهم وهو عمل المسلمين من عهد نبيهم. والرسول ﷺ لم ينه عن ذلك؛ وإنما نهى عما إذا اشترط لرب المال زرع بقعة بعينها؛ بل قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع. وقد ثبت عنه في الصحيح أنه شرط عليهم أن يعمروها من أموالهم. ولهذا كان الصواب أنها تجوز وإن كان البذر من العامل؛ بل
ج/ 30 ص -141-هذه المعاملة أحل من دفع الأرض بالمؤاجرة؛ فإن كلاهما مختلف فيه والإجارة أقرب إلى الغرر؛ لأن المؤجر يأخذ الأجرة والمستأجر لا يدري: هل يحصل له مقصوده أم لا؟ بخلاف المشاطرة؛ فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم إن أنبت الله زرعا كان لهما وإن لم ينبت كان عليهما ومنفعة أرض هذا كمنفعة بذر هذا كما في المضاربة. ولا يجوز في المشاطرة أن يشترط على العامل شيء معين لا دجاج ولا غيره. وأما الشهادة على ذلك فإنها جائزة ولو كان الشاهد ممن لا يجيزها؛ لأنه عنده مختلف فيه والشاهد يشهد بما جرى؛ لا سيما والمحققون من أصحاب أبي حنيفة والشافعي على تجويزها كما هو مذهب فقهاء أهل الحديث.
وسئل عن مقطع يجمع غلته من الفلاحين وفيها غلة نظيفة وغلة علثة في أيام القسم وخلطها إلى أيام البذر ثم فرقها عليهم خلال ذلك؟
فأجاب: إذا كانت حنطة بعضهم خيرا من حنطة بعض فليس له أن يخلط ذلك وإن كانت الحنطة سواء وقد احتاج إلى الخلط فلا بأس.
ج/ 30 ص -142-وسئل رحمه الله عن جندي له أرض خالية. فقال له فلاح: أنا أزرع لك هذه الأرض والثلثان لي والثلث لك على أن يقوم للجندي بالثلث المذكور بخراج معين وشرط له ذلك ثم إن الجندي أعطى الفلاح المذكور وسق بزر كتان يزرعه في تلك الأرض المذكورة وتوفي الجندي قبل إدراك المغل فاستولى الفلاح على جميع الزرع ومنع الورثة المبلغ المعين. فهل له ذلك؟ والشرط بغير مكتوب؟
فأجاب: ما يستحقه الجندي من خراج أو مقاسمة أو غير ذلك فإنه ينتقل إلى ورثته وسواء كان الشرط بمكتوب أو غير مكتوب. ومتى شهد شاهد عدل أو مزكى وحلف المدعي مع الشاهد حكم له بذلك.
ج/ 30 ص -143-وسئل عن رجل لم يكن فلاحا ولا له عادة بزرع. فهل يجوز لأحد أن يزارعه من غير اختياره؟ أم لا؟
فأجاب: ليس لأحد أن يكرهه على فلاحة لم تجب عليه فإن ذلك ظلم والله تعالى يقول فيما رواه عنه رسوله: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ". بل مثل هذا لا يجوز إكراهه لا في الشريعة المطهرة ولا في العادة السلطانية.
وسئل عمن يزرع في أرض مشتركة بغير إذن الشركاء ولا أعلمهم؟
فأجاب: إذا كانت العادة جارية: بأن من يزرع فيها يكون له نصيب معلوم ولرب الأرض نصيب فإنه يجعل ما زرعه في مقدار أنصباء شركائه مقاسمة بينهم على الوجه المعتاد. والله أعلم.
ج/ 30 ص -144-وسئل عمن زارع بعض الشركاء في الأرض المشاعة في قدر حقه إذا امتنع الآخرون من الزرع؟
فأجاب: إذا امتنع بعض الشركاء عن الإنفاق الذي يحتاج إليه الزرع جاز لبعضهم أن يزرع في مقدار نصيبه ويختص بما زرعه في قدر نصيبه والله أعلم.
وسئل عن أرض مشتركة بين اثنين: طلب أحدهما من الآخر أن يزرع معه فأذن ثم تغيب فزرع الأول في أقل من حقه فطلب الأول أجرته؟
فأجاب: إذا طلب أحد الشريكين من الآخر أن يزرع معه أو يهايئه وامتنع الآخر من ذلك فللأول أن يزرع في مقدار حقه ولا أجرة عليه في ذلك للشريك؛ لأنه تارك لما وجب عليه والأول
ج/ 30 ص -145-مستوف لما هو حقه. وهو نظير أن يكون بينهما دار فيها بنيان فيسكن فيها أحدهما عند امتناع الأول مما وجب عليه.
وسئل رحمه الله عن امرأة دفعت إلى إنسان مبلغ دراهم ليزرع شركة وقد ذكر أنه زرع ثم بعد ذلك دفع إليها أربعين وذكر أنه من الكسب ورأس المال باق ثم دفع لها خمسين درهما وقال: هذا من جملة مالك وبقي من الدراهم مائة خارجا عن الكسب فطلبتها منه فقال: الأربعون من جملة المائة ولم يبق لك سوى ستين فهل لها أن تأخذ المبلغ وما تكسب شيئا؟
فأجاب: إذا دفعت إليه المال مضاربة وأعطاها شيئا وقال: هذا من الربح كان لها المطالبة بعد هذا برأس المال. ولم يقبل قوله: إن تلك الزيادة كانت من رأس المال. والله أعلم.
ج/ 30 ص -146-وسئل رحمه الله عن قرية وقف على جهتين مشاعة بينهما. فصرف العامل على إحدى الجهتين إلى فلاحيها قدرا معلوما من القمح وغيره برسم الزراعة. فزرعه الفلاحون في الأرض المشتركة ولم يصرفوا بجهة أخرى شيئا وقد طلب أرباب الجهة الأخرى مشاركتهم فيما حصل من البذر الذي صرفه العامل إلى الفلاحين. فهل لهم ذلك؟ أم لا؟ وهل القول قول العامل فيما صرفه وادعى أنه مختص بإحدى الجهتين؟ أم لا؟ وإذا اختص الريع بإحدى الجهتين. هل يجوز لأحد منازعتهم؟ أم لا؟
فأجاب: ليس لأرباب الجهة الأخرى مشاركة أرباب البذر كما يشاركونهم لو بذروا؛ لكن إذا لم يمكن الفلاحين البذر وحده لشيوع الأرض وامتناع الشركاء من المقاسمة والمعاونة. فالزرع كله لرب البذر إذا زرع في قدر ملكه المشاع وإن جعل ما زرع في نصيب التارك مزارعة من أرباب البذر بالمبذور من الآخر من الأرض والعمل للعامل ويقسم الزرع بينهم كما لو اشتركا في هذا على ما جرى به العرف في مثل ذلك؛ إذ العامل ليس بغاصب؛ بل مأذون له عرفا في الازدراع.
ج/ 30 ص -147-وسئل عن رجل شارك في قطعة أرض ليزرعها فأخر تحضيرها عن وقت استحقاقه تفريطا منه فنقصت بسبب ذلك مقدار النصف. فهل للشريك النقص بسبب ما فرط؟
فأجاب: إذا كان الشريك قد فرط في مال شريكه مثل أن يبذره في غير الوقت الذي يبذر مثله أو في أرض ليست على الوصف الذي اتفقا عليه ونحو ذلك. كان من ضمان شريكه وأقل ما عليه مثل رأس المال. والله أعلم
وسئل عن عامل لرب الأرض فيها حب من العام الماضي يسمى الزريع عامله على سقيه على أن يكون الثلث بينهما؟
فأجاب: أن هذه معاملة صحيحة ويستحق العامل ما شرط له إذا كان المقصود حصول الزرع بعمله سواء كان العمل قليلا أو كثيرا. والله أعلم.
ج/ 30 ص -148-وسئل رحمه الله عمن له في الأرض فلاحة لم ينتفع بها؟
فأجاب: له قيمتها بعد الفسخ حتى يحكم بلزومها أو عدمه؛ وليس كعامل المساقاة؛ لعدم الجامع بينهما. والفرق أن المعقود عليه في المساقاة الثمرة وهي معدومة؛ لا العمل فإذا أعرض عن المعقود قبل وجوده لم يستحق منه شيئا وبهذا صرح الأصحاب: بأنه بعد وجود الثمرة على استحقاق نصيبه فيها ويلزمه تمام العمل. وفي الشركة المعقود عليه المال والعمل: فالمال لا بد من وجوده والعمل إن وجد بعضه استحق مع الفساد ولفسخ مؤجر أجرة عمله.
ج/ 30 ص -149-وسئل عن رجل يزرع من كسبه على بقرة بأرض السلطان أو بأرض مقطع ويدفع العشر على الذي له والذي للمقطع. فهل يحل له أن يسرق من وراء المقطع شيئا؟ أم لا؟
فأجاب: إذا كان الفلاح مزارعا: مثل أن يعمل بالثلث أو الربع أو النصف فليس عليه أن يعشر إلا نصيبه وأما نصيب المقطع فعشره عليه. ومن قال: إن العشر جميعه على الفلاح والمقطع يستحق نصيبه من الزرع فقد خالف إجماع المسلمين؛ ولكن للعلماء في المزارعة قولان: أحدهما: أنها باطلة وأن الزرع جميعه لصاحب البذر وعليه العشر جميعه ولرب الأرض قيمة الأرض فمن كان من المقطعين يرى العشر كله على الفلاح فتمام قوله أن يعطيه الزرع كله ويطالبه بقيمة الأرض. والقول الثاني - وهو الصحيح الذي مضت به سنة رسول الله
ج/ 30 ص -150-ﷺ وسنة خلفائه الراشدين وعليه العمل - أن المزارعة صحيحة. فعلى هذا يكون للمقطع نصيبه وعليه زكاة نصيبه وللفلاح نصيبه وعليه زكاته. فإذا كانوا يلزمون الفلاح بالعشر الواجب على الجندي فيؤدي العشر على الجندي من مال الجندي كما يظهر ذلك. فإن هذا حق بين لا نزاع فيه بين العلماء؛ ليس حقا خفيا ولا يمكن الجندي جحده. كما قال النبي ﷺ لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" فإن وجوب النفقة للزوجة وللولد حق ظاهر لا يمكن أبا سفيان جحده. وهذا مثل قوله: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" وفي رواية "إن لنا جيرانا لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها فإذا قدرنا لهم على شيء. أفنأخذه؟ فقال: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" لأن الحق هنا خفي لا يفوته الظلم. فإذا أخذ شيئا من غير استحقاق ظاهر كان خيانة. والله سبحانه أعلم.