ج/ 30 ص -5-مجموع فتاوى ابن تيمية المجلد الثلاثون
"الفقه"
شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
بسم الله الرحمن الرحيم
باب الصلح
سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله عن رجل اشترى دارا ولها بابان. كل باب في زقاق غير نافذ وأحدهما مسدود والكتب تشهد بالبابين والمسدود هو الباب الأصلي في صدر الزقاق; فأراد أن يفتح الباب. فهل له أن يفتحه؟؟.
فأجاب: إذا اشترى دارا بحقوقها وكان ذلك الباب الذي سد من حقوقها فله أن يفتحه كما كان أولا. إلا أن يكون هذا الحق مستثنى من المبيع لفظا أو عرفا.
وسئل رحمه الله: عن دارين بينهما شارع فأراد صاحب أحد الدارين أن يعمر على داره غرفة تفضي إلى سد الفضاء عن الدار الأخرى. فهل يجوز ذلك؟ أم لا؟.
ج/ 30 ص -6- فأجاب: إن كان في ذلك إضرار بالجار مثل أن يشرف عليه فإنه يلزم ما يمنع مشارفته الأسفل فإذا لم يكن فيه ضرر على الجار بأن يبني ما يمنع الإشراف عليه أو لا يكون فيه إشراف عليه لم يمنع من البناء.
وسئل عن رجل اشترى دارا وهي تشرف إلى طريق المارة ثم إنه أراد أن يزيد فيها. فاشترى من وكيل بيت المال من جانب الطريق أذرعا معلومة وأقام حائطا فيما اشتراه وأراد أن يعمل على طريق المسلمين ساباطا ليبني عليه دارا. فهل يجوز ذلك؟ أم لا؟ وهل يصح بيع الأرض المبتاعة من وكيل بيت المال التي في طريق المسلمين؟ أم لا؟ وهل يفسق الشاهد الذي يشهد بها لبيت المال أم لا؟ وإذا ادعى الثاني أن بناءه لم يضر بالمسلمين هل يسمع ذلك منه؟ وما الضرر الذي لأجله يمنع البناء على الطريق؟ وهل يجوز لحاكم المسلمين تمكينه من ذلك على هذه الصفة المشروحة. أم لا؟.
فأجاب: الحمد لله. لا يجوز بيع شيء من طريق المسلمين النافذ وليس لوكيل بيت المال بيع ذلك سواء كانت الطريق واسعة أو
ج/ 30 ص -7- ضيقة وليس مع الشاهد علم ليس مع سائر الناس اللهم إلا أن يشهد أن هذه لبيت المال مثل أن تكون ملكا لرجل فانتقلت عنه إلى بيت المال وأدخلت في الطريق بطريق الغصب. وأما شهادته أنها لبيت المال بمجرد كونها طريقا فهذا إن أراد أن الطريق المشتركة حق للمسلمين لم يسوغ ذلك بيعها وإن أراد أنها ملك لبيت المال يجوز بيعها كما يباع بيت المال فهذه شهادة زور يستحق صاحبها العقوبة التي تردعه وأمثاله. وليس للحاكم أن يحكم بصحة هذا البيع.
وسئل رحمه الله عن بيتين: أحدهما شرقي الآخر والدخول إلى أحدهما من تحت ميزاب الآخر من سلم وذلك من قديم. فهل لصاحب البيت الذي سلمه ومجراه تحت الميزاب الآخر أن يمنع هذا الميزاب أن يجري على هذا السلم لأجل الضرر الذي يلحقه؟ أم لا؟
فأجاب: ليس له أن يمنع صاحب الحق القديم من حقه. والله أعلم.
ج/ 30 ص -8-وسئل رحمه الله عن رجل أحدث بنيانا ورواشنا على باب الطبقات عليه من حيث يكشف حريم جاره وطبق عليه باب مطلعه من حيث لا يقدر ينزل طبق العجين ولا يطلع قربة سقاء؟
فأجاب: ليس للجار أن يحدث في الطريق المشترك الذي لا ينفذ شيئا بغير إذن رفيقه ولا شركائه ولا أن يحدث في ملكه ما يضر بجاره. وإذا فعل ذلك فللشريك إزالة ضرره قبل البيع وبعده; لكن إذا أزيل قبل البيع لم يعد وبعد البيع فللمشتري فسخ البيع لأجل هذا النقص.
وسئل عن رجل اشترى حوانيت أرضا وبنى من مدة عشرين سنة وفوقهم علو فحضر من ادعى أن العلو ملكه ولم يصدقه مالك الحوانيت على صحة ملكه وأنشأ على العلو عمارة جديدة فهل يلزمه
ج/ 30 ص -9- هدم ما أنشأ مستجدا؟
فأجاب: إذا كانت يده على العلو وصاحب السفل لا يدعي أنه له فهو لصاحب اليد حتى يقيم غيره حجة أنه له. وأما ما أنشأه من العمارة الجديدة فليس له ذلك; إلا أن يكون ذلك من حقوق ملكه. والله أعلم.
وسئل عن رجل اشترى طبقة ولم يكن يروز ثم عمرها وأحدث روشنا على جيرانه في زقاق ليس نافذا وادعى أن فيه بابا شرقي الظاهرية فهل له أن يحدث الروشن؟
فأجاب: الحمد لله رب العالمين ليس له أن يحدث في الدرب الذي لا ينفذ روشنا باتفاق الأئمة فإنهم لم يتنازعوا في ذلك; لكن تنازعوا في جواز إحداثه في الدرب النافذ وفي ذلك نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه. وأما الدرب الذي لا ينفذ فلا نزاع فيه سواء كان له باب إلى مدرسة أو لم يكن فإنه ليس بنافذ. وإذا ادعى أن له فيه حق روشن لم يقبل قوله بغير حجة لكن له تحليف الجيران الذين تنازعوا فيه على نفي استحقاقه لذلك. والله أعلم.
ج/ 30 ص -10-وسئل رحمه الله عمن له دار وبينهم طريق ونزل على أحدهم بأن كان ساباطا ولم يتضرر الجار والمار وقصد أحد الجيران أن يساويه بالبروز ويخرج عن جيرانه [في] الطريق ويضر بالجار؟
فأجاب: أما الساباط ونحوه إذا كان مضرا فلا يجوز باتفاق العلماء وكذلك لا يجوز لأحد أن يخرج في طريق المسلمين شيئا من أجزاء البناء حتى إنه ينهى عن تجصيص الحائط من خارج إلا أن يدخل حده بمقدار غلظ الجص. وأما إذا كان الساباط ونحوه لا يضر بالطريق ففيه نزاع مشهور بين العلماء. قيل: يجوز كقول الشافعي. وقيل: لا يجوز كأحد القولين في مذهب أحمد ومالك. وقيل: يجوز بإذن الإمام كالقول الأخير. وقيل: إن منعه بعض العامة امتنع كما هو مذهب أبي حنيفة. والله أعلم.
ج/ 30 ص -11-وسئل عن زقاق غير نافذ وفيه جماعة سكان وفيهم شخص له دار. فهل له أن يفتح بابا غير بابه الأصلي؟
فأجاب: ليس له أن يفتح في الدرب الذي لا ينفذ بابا يكون أقرب إلى آخر الدرب من بابه الأصلي; إلا بإذن المشاركين له في الاستطراق في ذلك. والله أعلم.
وسئل عن رجل عمر حوانيت وبجنبها خربة لإنسان فهل لصاحب الدار أن يفتح مشرعا من الخربة؟ أم لا؟
فأجاب: ليس له أن يفتح مشرعا - يعني بابا في درب غير نافذ - إلا بإذن أهله; إلا أن يكون له فيه حق الاستطراق. والله أعلم.
ج/ 30 ص -12-وسئل عن ملك مشترك بين مسلم وذمي فهدماه إلى آخره. فهل يجوز تعليته على ملك جارهما المسلم؟ أم لا؟
فأجاب: الحمد لله. ليس لهما تعليته على ملك المسلم فإن تعلية الذمي على المسلم محظورة وما لا يتم اجتناب المحظور إلا باجتنابه فهو محظور. كما في مسائل اختلاط الحرام بالحلال كما لو اختلط بالماء والمائعات نجاسة ظاهرة وكالمتولد بين مأكول وغير مأكول كالسمع والعسار والبغل وكما في [مسائل الاشتباه] أيضا: مثل أن تشتبه أخته بأجنبية والمذكى بالميت فإنه لما لم يمكن اجتناب المحظورات إلا باجتناب المباح في الأصل ; وجب اجتنابهما جميعا كما أن ما لا يتم الواجب إلا بفعله ففعله واجب. وإنما ذاك إذا كان ليس شرطا في الوجوب وهو مقدور للمكلف وهنا لا يمكن منع الذمي من تعلية بنائه على المسلم إلا أن يمنع شريكه فيجب منعهما وليس في منع المسلم من تعلية بنائه على مسلم تعلية كافر على مسلم بخلاف ما إذا أمكن الشريك من التعلية فإنه يكون
ج/ 30 ص -13- في ذلك علو للكافر على المسلم وذلك لا يجوز وإذا عليا البناء وجب هدمه. ولا يجوز لمسلم أن يجعل جاه المسلم ذريعة لرفع كافر على مسلم. ومن شارك الكافر أو استخدمه وأراد بجاه الإسلام أن يرفع على المسلمين فقد بخس الإسلام واستحق أن يهان الإهانة الإسلامية. والله أعلم.
وسئل عن بستان مشترك حصلت فيه القسمة فأراد أحد الشريكين أن يبني بينه وبين شريكه جدارا فامتنع أن يدعه يبني أو يقوم معه على البناء.
فأجاب: إنه يجبر على ذلك ويؤخذ الجدار من أرض كل منهما بقدر حقه.
ج/ 30 ص -14-وسئل عن بستان بين شريكين، ثم قسماه، فأراد أحدهما أن يبني حائطه بينه وبين شريكه، فامتنع الشريك أن يخليه يبني في أرضه وعلي غرامة البناء؟
فأجاب: يجبر الممتنع أن يبني الجدار في الحقين من الشريكين جميعا، إذا كانا محتاجين إلى السترة.
وسئل أيضا فلو كانت المسألة بحالها , فإن امتنع أحدهما أن يبني مع شريكه، وبناه أحدهما بماله، لكنه وضع بعض أساسه من سهم هذا, وبعضه من سهم هذا، فهل له أن يمنع الذي لم يبن معه أن ينتفع بالجدار؟ مثل أن يضع جاره عليه شيئاً، أو يبني عليه، أم لا؟
فأجاب: لو كان الجدار مختصا بأحدهما لم يكن له أن يمنع جاره من الانتفاع بما يحتاج إليه الجار، ولا يضر بصاحب الجدار.
والله أعلم.
ج/ 30 ص -15-سئل عن رجل اشترى من بيت المال بمصر شراء صحيحا شرعيا وبنى فتعرض له إنسان ومنعه من البناء فهل له ذلك؟
فأجاب: الحمد لله. إذا بنى في ملكه بناء لم يتعد به على الجار; لكن يخاف أن يسكن في البناء الجديد ناس آخرون فينقص كراء الأول لم يكن له منعه لأجل ذلك. بلا نزاع بين العلماء.
وسئل عن رجل له ملك وهو واقع فأعلموه بوقوعه فأبى أن ينقضه ثم وقع على صغير فهشمه هل يضمن؟ أو لا؟
فأجاب: هذا يجب الضمان عليه في أحد قولي العلماء; لأنه مفرط في عدم إزالة هذا الضرر والضمان على المالك الرشيد الحاضر أو وكيله إن كان غائبا أو وليه إن كان محجورا عليه.
ج/ 30 ص -16-ووجوب الضمان في مثل هذا هو مذهب أبي حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي. والواجب نصف الدية والأرش في ما لا تقدير فيه ويجب ذلك على عاقلة هؤلاء إن أمكن; وإلا فعليهم في أصح قولي العلماء.
وقال رحمه الله
إذا احتاج إلى إجراء مائه في أرض غيره ولا ضرر فله ذلك، وعنه لربها منعه، كما لو استغنى عنه، أو عن اجرائه فيها. قال: ولو كان لرجل نهر يجري في أرض مباحة، أو بعضه، ولا ضرر فيه، إلا انتفاعه به، فأفتيت بجواز ذلك، وانه لا يحل منعه، فإن المرور في الأرض، كما أنه ينتفع به صاحب الماء, فيكون حقا له، فإنه ينتفع به صاحب الأرض أيضا، كما في حديث عمر. فهو هنا انتفع بإجراء مائه، كما أنه هناك انتفع بأرضه.
ونظيرها لو كان لرب الجدار مصلحة في وضع الجذوع عليه من
ج/ 30 ص -17-غير ضرر الجذوع. وعكس مسألة إمرار الماء: لو أراد أن يجرري في أرضه من بقعة إلى بقعة، ويخرجه إلى أرض مباحة، أو إلى أرض جار راض, من غير أن يكون على رب الماء ضرر؛ لكن ينبغي أن يملك ذلك؛ لأنه يستحق شغل المكان الفارغ، فكذلك تفريغ المشغول.
والضابط أن الجار. إما أن يريد أحداث الانتفاع بمكان جاره, أو إزالة انتفاع الجار الذي ينفعه زواله، ولا يضر الآخر.
ومن أصلنا أن المجاورة توجب لكل من الحق مالا يجب للأجنبي، ويحرم عليه مالا يحرم للأجنبي، ويحرم عليه مالا يحرم للأجنبي. فيبيح الانتفاع بملك الجار، الخالي عن ضرر الجار، ويحرم الانتفاع بملك المنتفع إذا كان فيه إضرار.
فصل وإذا قلنا: بإجراء مائه على إحدى الروايتين. فاحتاج أن يجري ماءه في طريق مياه. مثل أن يجري مياه سطوحه وغيرها في قناة لجاره، أو يسوق في قناة غدير ماء ثم يقاسمه جاز.