ج/ 29 ص -545-بَاب الضّمَان
سُئل رحمه الله عن رجل ضامن معينا، وقد طلبه غريمه بالمال، ولم يكن للضامن مقدرة، وقد ادعي غريمه عليه، وادعي الإعسار، فهل يحتاج إلى بينة؟ أو القول قوله مع يمينه؟
فأجاب:
إذا كان الضامن لم يعرف له مال قبل ذلك وادعي الإعسار، فالقول قوله مع يمينه في ذلك، ولا يحتاج إلى إقامة بينة. وهذا هو المعروف من مذهب الشافعي، وأحمد، وغيرهما، وهو قول طائفة من الحنفية فيما ذكروه عن مذهب أبي حنيفة. وحكي منع ذلك أيضا بل هو حقيقة مذهبه، فإنه لا يحوجه إلى بينة إذا تبين أن الحال على ما ذكروا. والله أعلم.
ج/ 29 ص -546-وسئل عن رجل ضمن آخر بدين في الذمة بغير إذنه، فهل يجوز ذلك؟
فأجاب:
نعم، يصح ضمان ما في الذمة بغير إذن المضمون عنه، ويطالب المستحق للضامن، لكن إذا قضاه بغير إذن الغريم، فهل له أن يرجع بذلك على المدين؟ فيه قولان للعلماء. قيل: يرجع، وهو قول مالك، وأحمد في المشهور عنه. وقيل: لا يرجع، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي. والله أعلم.
وسئل رحمه الله عن رجل تحت حجر والده، وضمن بغير رضا والده، ضمن أقوامًا مستأجرين بستانًا أربع سنين، وتفاصلوا من الإجارة التي ضمنهم، وقد فضل عليهم شيء كتب عليهم به حجة بغير الإجارة، وقد طلب الضامن لهم، فهل يجوز طلبه بعد فسخ الإجارة؟
فأجاب:
الحمد لله، إن كان ضمنهم ضمانًا شرعيا بما عليهم من
ج/ 29 ص -547-الدين، فلصاحب الحق أن يطالب الضامن بذلك الحق، أو بما بقي منه، وليس له أن يطالب بغير ما ضمنه. وإن كان تحت حجر أبيه لم يصح ضمانه. وللضامن أن يطلب الغرماء إذا طلب.
وسئل رحمه الله عن رجل ضمن أملاكا في ذمته. وقد استحقت، ولم يكن معه دراهم، وله موجود ملك يحرز القيمة وزيادة، فهل لصاحب الدين أن يعتقل الضامن قبل بيع الموجود؟ أم لا؟ وإذا اعتقل الضامن وسأل خروجه مع ترسيم أو تسليم الملك لمن يبيعه حتي يستوفي الغريم؟
فأجاب:
إذا بذل بيع ماله على الوجه المعروف لم يجز عقوبته بحبس ولا غيره؛ فإن العقوبة إما أن تكون على ترك واجب أو فعل محرم، وهو إذا بذل ما عليه من الوفاء لم يكن قد ترك واجبا، لكن إن خاف الغريم أن يغيب، أو لا يفي بما عليه، فله أن يحتاط عليه، إما بملازمته، وإما بعائن في وجهه. والترسيم عليه ملازمة.
ومتي اعتقله الحاكم ثم بذل بيع ماله، وسأل التمكين من ذلك يمكنه من ذلك، إما أن يخرج مع ترسيم، وإما أن يوكل من يبيع
ج/ 29 ص -548-الملك ويسلمه، إذا لم يمكن ذلك إلا بخروجه. ففي الجملة لا تجوز عقوبته بحبس مع عدم تركه الواجب، لكن يحتاط بالملازمة.
وسئل عن ضامن على أن دواب قوم تنزل في خان البراة، وله على الناس وظيفة على نزولهم وعلفهم، فزاد في الوظيفة؟
فأجاب:
ليس للضامن، لا في الشريعة النبوية، ولا في السياسة السلطانية، تغيير القاعدة المتقدمة، ولا أن يحدث على الناس ما لم يكن عليهم موضوعا بأمر ولاة الأمور، بل الواجب منعه من ذلك، وعقوبته عليه، واسترجاع ما قبضه من أموال الناس بغير إذن.
وأما حكم الشريعة. فإنه ينزل صاحب الدابة حيث أحب، ما لم تكن مفسدة شرعية، ويعلفها هو، ولا يجبر على أن يكتري لها، أو يشتري من أحد، ولو أكره على ذلك فلا يجوز أن يؤخذ منه زيادة على ثمن المثل، بل أخذ الزيادة بمنزلة لحم الخنزير الميت حرام من وجهين. والله أعلم.
ج/ 29 ص -549-وسئل رحمه الله عمن يكتب ضمان الأسواق وغيرها من الكتابة التي لا تجوز في الشرع، هل على الكاتب إثم؟ فإنه يكتب ويشهد على من حضر بما يرضي، فإن كان لا يجوز فإن الكتاب لا يخلون من ذلك، فهل يأثمون بذلك؟ أم لا؟
فأجاب:
ضمان السوق، وهو أن يضمن الضامن ما يجب على التاجر من الديون، وما يقبضه من الأعيان المضمونة ضمان صحيح، وهو ضمان ما لم يجب، وضمان المجهول، وذلك جائز عند جمهور العلماء؛ كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل. وقد دل عليه الكتاب كقوله: "وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ" [يوسف: 72] . والشافعي يبطله، فيجوز للكاتب والشاهد أن يكتبه ويشهد عليه،، ولو لم ير جوازه؛ لأنه من مسائل الاجتهاد، وولي الأمر يحكم بما يراه من القولين.
ج/ 29 ص -550-وسئل عمن ضمن رجلا ضمان السوق بإذنه، فطلب منه فهرب حتي عجز عن إحضاره، وغرم بسبب ذلك أموالا، فهل له أن يرجع عليه بما خسره في ذلك؟
فأجاب:
له الرجوع فيما أنفقه بسبب ضمانه، إذا كان ذلك بالمعروف.
وسئل رحمه الله عن رجل ضمن رجلا في الذمة على مبلغ وعند استحقاق المبلغ مسك الغريم الضامن، واعتقله في السجن، فطلب الغريم صاحب الدين، فأخذه واعتقله، وبقي الضامن والمضمون في الحبس، فهل يجوز اعتقال الضامن؟
فأجاب:
مذهب أبي حنيفة ومحمد والشافعي والإمام أحمد أن للغريم أن يطلب من شاء منهما، فإذا استوفي لم يكن له مطالبة، وله أن يطالبهما جميعًا.
ج/ 29 ص -551-وسئل عمن طلب بمال على ولده، فتغيب الولد، فطلب من جهة والده؟
فأجاب:
إذا لم يكن ضامنا ولده، ولا له عنده مال، لم تجز مطالبته بما عليه؛ لكن إن أمكن الوالد معاونة صاحب الحق على إحضار ولده بالتعريف بمكانه ونحوه لزمه ذلك، وإلا فلا شيء عليه. ولا تحل مطالبته بشيء من جهته. وعلى ولي الأمر كف العدوان عنه.
وسئل عن كاتب عند أمير، واقترض الأمير من إنسان، فألزمه الأمير بالغصب أن يضمن في ذمته، وضمنه، والكاتب تحت الحجر من والده، فهل يلزمه ما ضمنه؟ أم لا؟
فأجاب:
إذا ثبت أنه ضامن بإقرار وبينة، أو خطه، لزمه ما ضمنه؛ فإن النبي ﷺ قضي أن الزعيم غارم. فإن ثبت أنه كان محجورًا عليه، غير مستقل بالتصرف لنفسه، لم يصح ضمانه،
ج/ 29 ص -552-ولكن لا يفسد العقد بمجرد دعواه الحجر. وإن قال: إن المضمون له يعلم أني كنت محجورًا على، فله تحليفه، وكذلك إذا ادعي الإكراه، فله تحليف المضمون له.
وسئل رحمه الله عن ضامن يطلب منه السلطان على الأفراح التي يحصل فيها بعض المنكرات؛ من غناء النساء الحرائر للرجال الأجانب، ونحوه. فإن أمر السلطان بإبطال ذلك الفعل أبطله، وطالب الضامن بالمال الذي لم يلتزمه إلا على ذلك الفعل؛ لأن عقد الضمان وجب لذلك الفعل والمضمون عنه يعتقد أن ذلك لم يدخل في الضمان، والضامن يعتقد دخوله؛ لجريان عادة من تقدمه من الضمان به، وأن الضمان وقع على الحالة والعادة المتقدمة.
فأجاب:
ظلم الضامن بمطالبته بما لا يجب عليه بالعقد الذي دخل فيه، وإن كان محرما أبلغ تحريمًا من غناء الأجنبية للرجال؛ لأن الظلم من المحرمات العقلية الشرعية، وأما هذا الغناء فإنما نهي عنه؛ لأنه قد يدعو إلى الزنا، كما حرم النظر إلى الأجنبية؛ ولأن فيه خلافًا شاذا؛ ولأن غناء الإماء الذي يسمعه الرجل قد كان الصحابة يسمعونه في
ج/ 29 ص -553-العرسات، كما كانوا ينظرون إلى الإماء لعدم الفتنة في رؤيتهن، وسماع أصواتهن، فتحريم هذا أخف من تحريم الظلم، فلا يدفع أخف المحرمين بالتزام أشدهما.
وأما غناء الرجال للرجال فلم يبلغنا أنه كان في عهد الصحابة. يبقي غناء النساء للنساء في العرس، وأما غناء الحرائر للرجال بالدف فمشروع في الأفراح؛ كحديث الناذرة وغناها مع ذلك.
ولكن نصب مغنية للنساء والرجال، هذا منكر بكل حال، بخلاف من ليست صنعتها، وكذلك أخذ العوض عليه، والله أعلم.
وسئل عن رجل ضمن في الذمة، وهو من المضمون، والضامن متزوج ابنة المضمون، فأقام الضامن في السجن خمسة أشهر، وأنفق ثلاثمائة درهم، فهل يلزم المضمون النفقة التي أنفقها في مدة الاعتقال؟
فأجاب:
نعم، ما ألزم الضامن بسبب عدوان المضمون؛ مثل أن يكون قادرًا على الوفاء، فيغيب حتي أمسك الغريم للضامن، وغرمه ما غرمه، كان له أن يرجع بذلك على المضمون الذي ظلمه.
ج/ 29 ص -554-وسئل رحمه الله عن جماعة ضمنوا شخصًا لرجل، وكان الضامن ضامنا وجه المضمون في حبس الشرع، فهل يلزمهم بإحضاره إلى بيته؟
فأجاب:
إذا سلمه اليه في حبس الشرع برئ بذلك، ولم يلزمه إخراجه من الحبس له، لكن المضمون له يطلب حقه منه ويستوفيه بحكم الشرع حينئذ، وإن كان في الحبس، وللحاكم أن يخرجه من الحبس حتي يحاكم غريمه، ثم يعيده اليه. ولا يلزمه إحضاره اليه وهو في حبس الشرع عند أحد من أئمة المسلمين.
وأجاب أيضا: إذا سلمه ضامن الوجه الذي ضمنوه ضمان إحضار في حبس الشرع، فقد برئوا من الضمان، وكان لأهل الحق الذي عليه أن يستوفوا حقهم منه حينئذ، وإن احتاجوا إلى الدعوي عليه مكنوا من إخراجه إلى مجلس الحكم، والدعوي عليه. هذا مذهب أئمة المسلمين؛ كمالك، وأحمد، وغيرهما.
ج/ 29 ص -555-وسئل عن جمَّال ربط جِمَاله في الربيع، ولكل مكان خفراء، ثم سرق من الجمال جمل، ولم يكن أحد من الخفراء حاضرًا بائتًا، فهل يلزمه شيء؟ أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا كانوا مستأجرين على حفظهم فعليهم الضمان بما تلف بتفريطهم. والله أعلم.
وسئل قدس الله روحَه عن صبي مميز استدان دينًا، وكفله أبوه، وثلاثة أخر بإذنه، ثم غاب أبوه فطلب صاحب الدين من أحد الكفلاء المال، وألزمه بوزنه، فهل لهذا الذي وزن المال أن يرجع بما وزنه على الصبي، أو على مال أبيه الغائب، وعلى رفاقه في الكفالة، أم يروح ما وزنه مجانا؟
فأجاب:
له أن يرجع على من كفله؛ فإن كفالة أبيه له تقتضي
ج/ 29 ص -556-أنه تصرف بإذن أبيه، فيلزمه الدين، وتصح كفالته. وإن كان في الباطن قد استدان لأبيه، ولكن أبوه أمره، فالاستدانة للأب، وإلا فله تحليف الأب أن الاستدانة لم تكن له.
وسئل أبو العباس عمن سلم غريمه إلى السجان، ففرط فيه حتي هرب؟
فأجاب:
إن السجان ونحوه ممن هو وكيل على بدن الغريم، بمنزلة الكفيل للوجه، عليه إحضار الخصم، فإن تعذر إحضاره كما لو لم يحضر المكفول يضمن ما عليه عندنا، وعند مالك.