ج/ 29 ص -528-باب القرض
سُئِلَ شيخُ الإِسلام عن رجل أقرض لرجل ألف درهم، فطالبه، فقال: أنا معسر، أنا أشتري منك صنفا بزائد إلى أن تصبر ستة شهور، فهل يجوز ذلك ؟ فأجاب:
قد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: "لا يحل سلف وبيع"، فإذا باعه وأقرضه كان ذلك مما حرمه اللّه ورسوله. وكلاهما يستحق التعزير، إذا كان قد بلغه النهي، ويجب رد القرض والسلعة إلى صاحبها، فإذا تعذر ذلك لم يكن له إلا بدل القرض، وإلا بدل السلعة قيمة المثل، ولا يستحق الزيادة على ذلك. واللّه أعلم.
ج/ 29 ص -529-وسئل عن إنسان يريد أن يأخذ من إنسان دراهم قرضًا يعمر بها ملكه. يشتري بها أرضا إلى مدة سنة، وبلا كسب ما يعطي أحد ماله، فكيف العمل في مكسبه حتي يكون بطريق الحل ؟
فأجاب:
الحمد للّه، له طريق بأن يكري الملك أو بعضه، يتسلفها ويعمر بالأجرة. وإذا كان بعض الملك خرابًا، واشترط على المستأجر عمارة موصوفة جاز ذلك، فهذا طريق شرعي، يحصل به مقصود هذا، وهذا.
وأما إذا تواطآ على أن يعطيه دراهم بدراهم إلى أجل، وتحيلا على ذلك ببعض الطرق، لم يبارك اللّه لا لهذا، ولا لهذا؛ مثل أن يبيعه بعض الملك بيع أمانة، على أنه يشتري منه الملك فيما بعد بأكثر من الثمن، فهذا من الربا الذي حرمه اللّه ورسوله.
وإن كان عند المعطي سلعة يحتاج اليها الآخذ كرضاض يعمر به الحمام، جاز أن يشتري السلعة إلى أجل، بما يتفقان عليه من الربح، لكن لا ينبغي للبائع أن يربح على المشتري إلا ما جرت به العادة في مثل ذلك.
ج/ 29 ص -530-وسئل عمن أقرض رجلا قرضًا وامتنع أن يوفيه إياه، إلا في بلد آخر يحتاج فيه المقرض إلى سفر وحمل، فهل عليه كلفة سفره؟
فأجاب:
يجب على المقترض أن يوفي المقرض في البلد الذي اقترض فيه، ولا يكلفه شيئًا من مؤنة السفر والحمل. فإن قال: ما أوفيك إلا في بلد آخر غير هذا، كان عليه ضمان ما ينفقه بالمعروف.
وسئل عما إذا أقرض رجل رجلا دراهم ليستوفيها منه في بلد آخر، فهل يجوز ذلك ؟ أم لا ؟
فأجاب:
إذا أقرضه دراهم ليستوفيها منه في بلد آخر؛ مثل أن يكون المقرض غرضه حمل الدراهم إلى بلد آخر، والمقترض له دراهم في ذلك البلد، وهو محتاج إلى دراهم في بلد المقرض، فيقترض منه، ويكتب له [سفتجة] أي: ورقة، إلى بلد المقترض، فهذا يصح في
ج/ 29 ص -531-أحد قولي العلماء.
وقيل: نهى عنه؛ لأنه قرض جر منفعة، والقرض إذا جر منفعة كان ربًا، والصحيح الجواز؛ لأن المقترض رأي النفع بأمن خطر الطريق في نقل دراهمه إلى ذلك البلد، وقد انتفع المقترض أيضًا بالوفاء في ذلك البلد،وأمن خطر الطريق، فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض، والشارع لا ينهي عما ينفعهم ويصلحهم، وإنما ينهي عما يضرهم.
وسئل رَحمه اللّه: هل يجوز قرض الدراهم المغشوشة، ويأخذها عددًا ؟
فأجاب:
يجوز قرض الدراهم المغشوشة، إذا كانت متساوية الغش، مثل دراهم الناس التي يتعاملون بها. وكذلك إذا كان الغش متفاوتًا يسيرًا، فالصحيح أنه يجوز قرضها بالدراهم التي يقال عيارها سبعون، وعيار غيرها تسعة وستون.
والصحيح أنه يجوز قرض الحنطة وغيرها من الحبوب، وإن كانت مغشوشة بالتراب والشعير، فإن [باب القرض] أسهل من [باب البيع] . ولهذا يجوز على الصحيح قرض الخبز عددًا وقرض الخمير،
ج/ 29 ص -532-وإن كان لا يجوز عددًا. ويجوز في القرض أن يرد خيرًا مما اقترض بغير شرط، كما استلف النبي ﷺ بعيرًا ورد خيرًا منه. وقال: "خير الناس أحسنهم قضاء".
وكذلك يجوز قرض البيض ونحوه من المعدودات، في أصح قولي العلماء؛ فإن النبي ﷺ اقترض حيوانًا، والحيوان أكثر اختلافًا من البيض. وسئل عن جندي له إقطاع، ويجيء إلى عند فلاحيه فيطعموه، هل يأكل ؟
فأجاب:
إذا أكل وأعطاهم عوض ما أكل فلا بأس. واللّه أعلم.
وسئل عن معلم له دين عند صانع يستعمله لأجله، يأكل من أجرته؟
فأجاب:
لا يجوز للأستاذ أن ينقص الصانع من أجرة مثله؛ لأجل ما له عنده من القرض، فإن فعل ذلك برضاه كان مرابيًا ظالمًا عاصيًا مستحقًا للتعزير، وليس له أن يعسفه في اقتضاء دينه.
ج/ 29 ص -533-وسئل رَحمه اللّه عن رجل له إقطاع أرض يعمل له أربعمائة إردب، فأعطي الفلاحين قوة تقارب مائتي إردب، فيسجلوه بسبعمائة درهم، فهل ذلك ربا؟ فأجاب:
الحمد للّه، كل قرض جر منفعة فهو ربا؛ مثل أن يبايعه أو يؤاجره، ويحابيه في المبايعة والمؤاجرة لأجل قرضه، قال النبي ﷺ : "لا يحل سلف وبيع".
فإنه إذا أقرضه مائة درهم وباعه سلعة تساوي مائة بمائة وخمسين كانت تلك الزيادة ربا. وكذلك إذا أقرضه مائة درهم، واستأجره بدرهمين كل يوم، أجرته تساوي ثلاثة. بل ما يصنع كثير من المعلمين بصنائعهم يقرضونهم ليحابوهم في الأجرة، فهو ربًا.
وكذلك إذا كانت الأرض أو الدار أو الحانوت تساوي أجرتها مائة درهم، فأكراها بمائة وخمسين؛ لأجل المائة التي أقرضها إياه، فهو ربا.
وأما [القوة] فليست قرضًا محضًا؛ فإنه يشترط عليه فيها أن
ج/ 29 ص -534-يبذرها في الأرض، وإن كان عاملا، وإن كان مستأجرًا، فكأنه أجره أرضا يقويها بالأجرة المسماة، فإذا انقضت الإجارة استرجع الأرض، ونظيره القوة. وهذا فيه نزاع بين العلماء.
منهم من يقول: المنفعة هنا مشتركة بين المقرض والمقْرِض؛ فإن المقْرَض له غرض في عمارة أرضه مثل [السفتجة] وهو أن يقرضه ببلد ليستوفي في بلد آخر، فيربح المقرض خطر الطريق، ومؤونة الحمل، ويربح المقترض منفعة الاقتراض.
وكذلك [القوة] ليس مقصود المقوي يأخذ زيادة على قوته، بل محتاج إلى إجارة أرضه، وذلك محتاج إلى استئجارها، فلا تتم مصلحتها إلا بقوة من المؤجر لحاجة المستأجر. وفي التحقيق ليس المقصود بالقوة القرض بل تقويته بالبذر، كما لو قواه بالبقر.
ومنهم من يجعله من باب القرض الذي يجر منفعة، إنما القوة من تمام منفعة الأرض، كما لو كان مع الأرض بقر ليحرث عليها، فيكون قد أجر أرضًا وبقرًا، فهذا جائز بلا ريب، ولكن القوة نفسها لا تبقي، ولكن يرجع في نظيرها، ما يرجع في المضاربة في نظير رأس المال. فلهذا منع من منع من العلماء من ذلك؛ لأن الإجارة ترجع نفس العين فيها إلى المؤجر، والمستأجر قد استوفي المنفعة. ومثل هذا لا يجور في
ج/ 29 ص -535-القرض، فإنه لا يجب فيه إلا رد المثل بلا زيادة.
ولو أجره حنطة أو نحوها لينتفع بها، ثم يرد اليه مثلها مع الأجرة، فهذا هو القرض المشروط فيه زيادة على المثل. وهذا النزاع إذا أكراه بقيمة المثل، وأقرضه القوة ونحوها مما يستعين به المكتري،كما لو أكراه حانوتًا ليعمل فيه صناعة أو تجارة، وأقرضه ما يقيم به صناعته، أو تجارته.
فأما إن أكراه بأكثر من قيمة المثل لأجل القرض، فهذا لا خير فيه، بل هو القرض الذي يجر الربا.