ج/ 29 ص -495-بَاب السَّلَم
سُئِلَ شيخ الإسلام قدسَ اللّه روحهُ عن السلم في الزيتون، هل يجوز؟
فأجاب:
وأما السلم في الزيتون وأمثاله من المكيلات والموزونات فيجوز، وما علمت بين الأئمة في ذلك نزاعا،ولكن النزاع فيما إذا أسلم في غير المكيل والموزون، كالحيوان ونحوه. وفيه عن أحمد روايتان أشهرهما جواز ذلك، وهو قول مالك والشافعي. والثانية: لا يجوز كقول أبي حنيفة.
وسئل عن رجل عنده قمح، قيمته وزن ثمانية عشر درهما، باعه إلى أجل بخمسة وعشرين، هل يجوز؟ والسلم في الغلة حلال أم حرام ؟
فأجاب:
أما السلف فإنه جائز بالإجماع، كما قال النبي ﷺ: "من أسف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم،
ج/ 29 ص -496-إلى أجل معلوم". وأما إذا قوم السلعة بقيمة حالة، وباعها إلى أجل بأكثر من ذلك، فهذا منهي عنه في أصح قولي العلماء، كما قال ابن عباس: إذا استقمت بنقد، ثم بعت بنقد، فلا بأس، وإذا استقمت بنقد، ثم بعت بنسيئة، فتلك دراهم بدراهم. ومعني قوله: استقمت: أي قومت، واللّه أعلم.
وسئل عن امرأة تشتري قماشا بثمن حال، وتبيعه بزائد الثلث إلى أجل معلوم، فهل هذا ربا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، إذا كان المشتري يشتريها لينتفع بها، أو يتجر بها لا يشتريها ليبيعها، ويأخذ ثمنها لحاجته اليه فلا بأس بذلك، لكن ينبغي إذا كان المشتري محتاجًا أن يربح عليه الربح الذي جرت به العادة. والله أعلم.
وسئل: هل يجوز بيع شاة بشاة إلى أجل ؟
فأجاب:
يجوز بيع شاة بشاة إلى أجل.
ج/ 29 ص -497-وسئل: عن رجل يشتري عش الحمامات، ويقدم الفضة على عش السنة كلها، ونص عند الشهود على أرادب معلومة، وليس ثَمَّ كيل أصلا، بل يفعل ذلك ليصح السلم، وكان العادة إذا تحصل منه شيء جعل في وعائه، وختم عليه كله، وبيع، فهل هذا صحيح؟ أم لا؟
فأجاب:
هذه المسألة مبنية على أصلين:
أحدهما: أن هذا المنعقد من الدخان، هل هو طاهر أو نجس؟ في ذلك تفصيل ونزاع. وإن كان الوقود طاهرًا؛ كوقود الأفران، وكالوقود الطاهر للحمام، فذلك المنعقد طاهر، وإن كان الوقود بنجاسة فهل يكون هذا المنعقد طاهرًا ؟ على قولين للعلماء. وكذلك في كل نجاسة استحالت؛ كالرماد، والقصرمل والجرسيف، ونحو ذلك، وإن كان مستحيلا عن نجاسة فهذا نجس في مذهب الشافعي، وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد، وهو ظاهر في مذهب أبي حنيفة.
والقول الآخر في مذهب مالك وأحمد: أنه طاهر وهذا القول
ج/ 29 ص -498-أقوي في دلالة الكتاب والسنة، والقياس؛ فإنهم اتفقوا على أن الخمر إذا انقلبت خلا بفعل اللّه تعالى كانت طاهرة، وهذا لم يتناوله لفظ التحريم، ولا معناه، فلا يكون محرمًا نجسًا. فمن قال: إنه طاهر، جوز بيعه، ومنهم من يجوز بيعه مع نجاسته، والخلاف فيه مشهور في [مسألة السرجين النجس] . والأصل الثاني: أنه إذا جاز بيعه، فلا يقال: يباع على الوجه المشروع، ولا ريب أنه يجوز السلف فيه، وليس السؤال عن بيعه معينًا حتي يشترط الرؤية ونحوها، لكن إذا أسلف فيه، فلابد أن يسلف في قدر معلوم، إلى أجل معلوم، وأن يقبض رأس المال في المجلس، وغير ذلك من شروط السلم.
فإذا كانوا قد أظهروا صورة السلم،وكان المسلم يقبض ما تحصل،وهو المقصود في الباطن، سواء كان أكثر من المقدار،أو أقل،فهذا عقد باطل، يجب النهي عنه، ومنع فاعله.
وسئل رَحمه اللّه عن رجل محتاج إلى تاجر عنده قماش، فقال: أعطني هذه القطعة،
ج/ 29 ص -499-فقال التاجر: مشتراها بثلاثين، وما أبيعها إلا بخمسين إلى أجل، فهل يجوز ذلك ؟ أم لا ؟
فأجاب:
المشتري على ثلاثة أنواع:
أحدها: أن يكون مقصوده السلعة ينتفع بها للأكل والشرب واللبس والركوب، وغير ذلك.
والثاني: أن يكون مقصوده التجارة فيها، فهذان نوعان جائزان بالكتاب والسنة والإجماع، كما قال تعالى: "وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ" [البقرة: 275] ، وقال تعالى: "إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ" [النساء: 29] ؛ لكن لابد من مراعاة الشروط الشرعية، فإذا كان المشتري مضطرًا لم يجز أن يباع إلا بقيمة المثل، مثل أن يضطر الإنسان إلى مشتري طعام لا يجده إلا عند شخص، فعليه أن يبيعه إياه بالقيمة، قيمة المثل. وإن لم يبعه إلا بأكثر فللمشتري أن يأخذه بغير اختياره بقيمة المثل، وإذا أعطاه إياه لم يجب عليه إلا قيمة المثل، وإذا باعه إياه بالقيمة إلى ذلك الأجل، فإن الأجل يأخذ قسطًا من الثمن.
النوع الثالث: أن يكون المشتري إنما يريد به دراهم مثلا ليوفي بها دينًا، واشتري بها شيئًا فيتفقان على أن يعطيه مثلا المائة بمائة وعشرين إلى أجل، فهذا كله منهي عنه، فإن اتفقا على أن يعيد
ج/ 29 ص -500-السلعة اليه، فهو بيعتان في بيعة. وإن أدخلا ثالثا يشتري منه السلعة، ثم تعاد اليه، فكذلك وإن باعه وأقرضه فكذلك، وقد نهى عنه النبي ﷺ.
وإن كان المشتري يأخذ السلعة فيبيعها في موضع آخر، يشتريها بمائة، ويبيعها بسبعين لأجل الحاجة إلى دراهم. فهذه تسمي: [مسألة التورق] ، وفيها نزاع بين العلماء، والأقوي أيضًا أنه منهي عنها، وأنها أصل الربا، كما قال ذلك عمر بن عبد العزيز، وغيره. واللّه أعلم.
وسئل عن رجل يخرج على القمح والشعير والفول والحمص ونحو ذلك، وإذا جاء أوان أخذه باعه للذي هو عنده، بسعر ما يسوي، من قبل أن يقبضه منه. فهل هذا حلال أم حرام؟ وما عليه فيما مضي من السنين ؟ وما كان يفعله ؟
فأجاب:
هذا يسمي [السلم] و [السلف] ، ولا يجوز بيع هذا الدين الذي هو دين السلم، قبل قبضه، لا من المستلف ولا من غيره، في مذهب الأئمة الأربعة، بل هذا يدخل فيما نهى عنه رسول اللّه ﷺ من بيع ما لم يقبض. وقد يدخل في ربح ما لم يضمن
ج/ 29 ص -501-أيضا، وإذا وقع هذا البيع، فهو فاسد، ولا يستحق هذا البائع السلف إلا دين السلم، دون ما جعله عوضا عنه. وعليه أن يرد هذا العوض إن كان قبضه، ويطالب بدين السلم، فإن تعذر ذلك مثل أن يطول الزمان، أو لا يعرف ذلك ونحو ذلك، فليأخذ بقدر دين السلم من تلك الأعواض، وليتصدق بالربح، فإنه إذا أخذ مثل دين السلم فقد أخذ قدر حقه من ذلك المال. والزيادة ربح ما لم يضمن، وهي لا تحل له، فليتصدق بها عن أصحابها، وإن كان لم يربح شيئا، وإنما باعه المستلف بسعره، لم يكن عليه إخراج ماله.
وسئل عن رجل عنده فرس شراه بمائة وثمانين درهما، فطلبه منه إنسان بثلاثمائة درهم إلى مدة ثلاثة شهور، فهل يحل ذلك ؟
فأجاب:
الحمد للّه، إن كان الذي يشتريه لينتفع به، أو يتجر به، فلا بأس ببيعه إلى أجل، لكن المحتاج لا يربح عليه إلا الربح المعتاد، لا يزيد عليه لأجل ضرورته.
وإما إن كان محتاجا إلى دراهم، فاشتراه ليبيعه في الحال، ويأخذ ثمنه، فهذا مكروه في أظهر قولي العلماء.
ج/ 29 ص -502-وسئل عن شخص عنده صنف. دفع له فيه رجل ألفين ومائة بالوزن، ودفع له آخر ألفين وسبعمائة إلى أجل معلوم أثناء الحول ؟
فأجاب:
إن كان الذي يشتريها إلى أجل يشتريها ليتجر فيها، أو ينتفع بها، جاز للبائع أن يبيعها إن شاء بالنقد، وإن شاء إلى أجل. وإن كان المشتري مقصوده الدراهم، وهو يريد أن يبيعها إذا اشتراها، ويأخذ الدراهم، فهذا يسمي: [التورق] وهو مكروه في أظهر قولي العلماء.
ج/ 29 ص -503-وسئل عن رجل أسلف خمسين درهما في رطل حرير إلى أجل معلوم، ثم جاء الأجل فتعذر الحرير، فهل يجوز أن يأخذ قيمة الحرير؟ أو يأخذ عوضه أي شيء كان ؟
فأجاب:
الحمد للّه، هذه المسألة فيها روايتان عن الإمام أحمد:
إحداهما: لا يجوز الاعتياض عن دين السلم بغيره، كقول الشافعي وأبي حنيفة؛ لما روي عنه ﷺ أنه قال: "من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره"، وهذه الرواية هي المعروفة عند متأخري أصحاب الإمام أحمد، وهي التي ذكرها الخرقي وغيره.
والقول الثاني: يجوز ذلك، كما يجوز في غير دين السلم، وفي المبيع من الأعيان، وهو مذهب مالك. وقد نص أحمد على هذا في غير موضع، وجعل دين السلم كغيره من المبيعات. فإذا أخذ عوضا غير مكيل، ولا موزون، بقدر دين السلم حين الاعتياض، لا بزيادة على ذلك، أو أخذ من نوعه بقدره؛ مثل أن يسلم في حنطة فيأخذ
ج/ 29 ص -504-شعيرا بقدر الحنطة، أو يسلم في حرير فيأخذ عنه عوضا من خيل، أو بقر، أو غنم، فإنه يجوز. وقد ذكر ذلك طائفة من الأصحاب كابن أبي موسي، والسامري صاحب المستوعب لكن في بعض الصور كما قال في [المستوعب] : ومن أسلم في شيء لم يجز أن يأخذ من غير جنسه بحال، في إحدى الروايتين، وفي الأخري يجوز، وأن يأخذ ما دون الحنطة من الحبوب؛ كالشعير ونحوه، بمقدار كيل الحنطة، لا أكثر منها ولا بقيمتها، نص عليه. قال في رواية أبي طالب: إذا أسلفت في كر حنطة، فأخذت شعيرا فلا بأس، وهو دون حقك، ولا تأخذ مكان الشعير حنطة.
وأما المطلعون على نصوص أحمد، فذكروا ما هو أعم من ذلك، وأنه يجوز الاعتياض عن دين السلم بغير المكيل والموزون مطلقا، كما ذكر ذلك أبو حفص العكبري في مجموعه، ونقله عنه القاضي أبو يعلى بخطه، فإن كان ما أسلم فيه مما يكال أو يوزن، فأخذ من غير نوعه مثل كيله مما هو دونه في الجودة جاز. وكذلك إن أخذ قيمته مما لا يكال ولا يوزن، كيف شاء. نقل ابن القاسم عن أحمد: قلت لأبي عبد اللّه: إذا لم يجد ما أسلم فيه، ووجد غيره من جنسه يأخذه؟ قال: نعم، إذا كان دون الشيء الذي له. قلت: فإنما أسلم في قفيز حنطة موصلي، فقال: فيأخذ مكانه سلتي، أو قفيز شعير بكيلة واحدة،
ج/ 29 ص -505-لا يزداد، وإن كان فوقه فلا يأخذ، وذكر حديث ابن عباس، رواه طاوس عن ابن عباس: إذا أسلمت في شيء فجاء الأجل فلم تجد الذي أسلمت، فخذ عوضا بأنقص منه، ولا تربح مرتين.
ونقل أيضا أحمد بن أصرم، سئل أحمد عن رجل أسلم في طعام إلى أجل، فإذا جاء الأجل يشتري منه عقارا، أو دارا. فقال: نعم، يشتري منه ما لا يكال ولا يوزن. وقال حرب الكرماني: سألت أحمد، قلت: رجل أسلف رجلا دراهم في بر، فلما حل الأجل لم يكن عنده، فقال قوم: الشعير بالدراهم، فخذ من الشعير. قال: لا يأخذ منه الشعير إلا مثل كيل البر، أو أنقص. قلت: إذا كان البر عشرة أجربة، أيأخذ الشعير عشرة أجربة؟ قال: نعم.
وكذلك نقل غير هؤلاء عن أحمد،وهذه الرواية أكثر في نصوص أحمد، وهي أشبه بأصوله، فإن علته في منع بيع دين السلم كونه مبيعًا فلا يباع قبل القبض. وأحمد في ظاهر مذهبه لا يمنع من البيع قبل القبض مطلقا، بل له فيه تفصيل، وأقوال معروفة. ولذلك فرق بين البيع من البائع وغيره. وكذلك مذهب مالك يجوز بيع المسلم فيه، إذا كان عوضا من بائعه بمثل ثمنه، وأقل. ولا يجوز بأكثر، ولا يجوز ذلك في الطعام.
وقال ابن المنذر: ثبت أن ابن عباس قال: إذا أسلفت في شيء
ج/ 29 ص -506-فحل الأجل، فإن وجدت ما أسلفت فيه، وإلا فخذ عوضا بأنقص منه. وهذا ابن عباس لما روي عن النبي ﷺ: أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه. قال: ولا أحسب كل شيء إلا بمنزلة الطعام.
وأما ما ذكره الشيخ أبو محمد في [مغنيه] . لما ذكر قول الخرقي: وبيع المسلم فيه من بائعه أو غيره قبل قبضه فاسد. قال أبو محمد: بيع المسلم قبل قبضه لا يعلم في تحريمه خلاف. فقال رحمه اللّه بحسب ما علمه، وإلا فمذهب مالك أنه يجوز بيعه من غير المستسلف، كما يجوز عنده بيع سائر الديون من غير من هو عليه، وهذا أيضا إحدى الروايتين عن أحمد، نص عليه في مواضع بيع الدين من غير من هو عليه، كما نص على بيع دين السلم ممن هو عليه، وكلاهما منصوص عن أحمد في أجوبة كثيرة من أجوبته، وإن كان ذلك ليس في كتب كثير من متأخري أصحابه.
وهذا القول أصح، وهو قياس أصول أحمد؛ وذلك لأن دين السلم مبيع، وقد تنازع العلماء في جواز بيع المبيع قبل قبضه، وبعد التمكن من قبضه، وفي ضمان ذلك، فالشافعي يمنعه مطلقا، ويقول: هو من ضمان البائع، وهو رواية ضعيفة عن أحمد. وأبو حنيفة يمنعه إلا في العقار، ويقول: هو من ضمان البائع. وهؤلاء يعللون المنع
ج/ 29 ص -507-بتوالي الضمانين.
وأما مالك وأحمد في المشهور عنه وغيرهما فيقولون: ما تمكن المشتري من قبضه، وهو المتعين بالعقد كالعبد والفرس ونحو ذلك فهو من ضمان المشتري. على تفصيل لهم، ونزاع في بعض المتعينات؛ لما رواه أحمد وغيره عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أنه قال: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيًا مجموعا، فهو من ضمان المشتري. فظاهر مذهب أحمد: أن الناقل للضمان إلى المشتري هو التمكن من القبض، لا نفس القبض، فظاهر مذهبه، أن جواز التصرف فيه ليس ملازما للضمان، ولا مبنيا عليه، بل قد يجوز التصرف فيه حيث يكون من ضمان البائع، كما ذكر في الثمرة، ومنافع الإجارة، وبالعكس، كما في الصبرة المعينة.
وقد ذكر الخرقي في [مختصره] هذا وهذا، فقال: إذا اشتري الثمرة دون الأصل، فتلفت بجائحة من السماء، رجع بها على البائع. وقال الأصحاب: لا يلزم من إباحة التصرف تمام القبض، بدليل المنافع في الإجارة، ثم قال الخرقي: وإذا وقع البيع على مكيل، أو موزون أو معدود، فتلف قبل قبضه، فهو من مال البائع، وهذا عند جمهور الأصحاب، ما بيع بالكيل والوزن والعدد سواء كان متعينا، أو غير متعين. ثم قال الخرقي: ومن اشتري ما يحتاج إلى قبضه، لم يجز بيعه
ج/ 29 ص -508-حتي يقبضه. ففرق بين ما يحتاج إلى القبض، وما لا يحتاج، فما لا يحتاج يكفي فيه التمكن؛ كالمودع. ثم قال: ومن اشتري صبرة طعام لم يبعها حتي ينقلها، فالصبرة مضمونة على المشتري بالتمكن، والتخلية، فلا يبيعها حتي ينقلها، وهذا كله منصوص أحمد، لكن في ذلك نزاع بين الأصحاب، وروايات ليس هذا موضعها.
والمقصود هنا: أن في ظاهر مذهب أحمد قد يكون المبيع مضمونا على البائع، ويجوز للمشتري بيعه في ظاهر المذهب؛ كالثمر إذا بيع بعد بدو صلاحه، فإنه في مذهب مالك وأحمد من ضمان البائع، وهو قول معلق للشافعي، لما رواه مسلم في صحيحه عن جابر عن النبي ﷺ قال: "إذا بعت من أخيك ثمرة، فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ؟!".
ومع هذا، فيجوز في أصح الروايتين عن أحمد للمشتري أن يبيع هذا الثمر، مع أنه من ضمان البائع، وهذا كما يجوز للمستأجر أن يؤجر ما استأجره بمثل الأجرة بلا نزاع. وإن كانت المنافع مضمونة على البائع، ولكن إذا أجرها بزيادة من غير إحداث زيادة، ففيه روايتان:
إحداهما: يجوز كقول الشافعي. والثانية: لا يجوز، كقول
ج/ 29 ص -509-أبي حنيفة؛ لأنه ربح ما لم يضمن، والنبي ﷺ نهى عن ربح ما لم يضمن. قال الترمذي: حديث صحيح.
والقول الأول أصح؛ لأن المشتري لو عطل المكان الذي اكتراه وقبضه لتلفت منافعه من ضمانه، ولكن لو انهدمت الدار لتلفت من مال المؤجر. وهذه المسائل مبسوطة في موضعها.
والمقصود هنا: أن أصل أحمد ومالك جواز التصرف، وأنه يوسع في البيع قبل انتقال الضمان إلى المشتري، بخلاف أبي حنيفة والشافعي، والرواية الأخري عن أحمد، فإن البيع لا يجوز على أصلهما، إلا إذا انتقل الضمان إلى المشتري، وصار المبيع مضمونا عليه. قالوا: لئلا يتوالى الضمانات؛ فإن المبيع يكون مضمونا قبل القبض على البائع الأول؛ فإذا بيع قبل أن يضمنه المشتري صار مضمونا عليه، فيتوالى عليه الضمانان. وعلى قول مالك وأحمد المشهور عنه: هذا مأخذ ضعيف، لا محذور فيه؛ فإن المبيع إذا تلف قبل التمكن من قبضه. كان على البائع أداء الثمن الذي قبضه من المشتري الثاني. فالواجب بضمان هذا غير الواجب بضمان هذا.
وإذا عرف هذا، فعلى قول هؤلاء يمنع من بيع دين السلم؛ لأنه لم يضمنه المسلف، فإنه لا يضمنه إلا بالقبض فلا يبيع ما لم يضمن. وعلى
ج/ 29 ص -510-قول مالك وأحمد في المشهور عنه: يجوز ذلك، كما ثبت ذلك عن ابن عباس؛ ولكن لا يجوز بربح، بل لا يباع إلا بالقيمة؛ لئلا يربح المسلف فيما لا يضمن، وقد صح عن النبي ﷺ أنه نهى عن ربح ما لم يضمن.
والدليل على ذلك أن الثمن يجوز الاعتياض عنه قبل قبضه بالسنة الثابتة عن النبي ﷺ، قال ابن عمر: كنا نبيع الإبل بالنقيع والنقيع بالنون: هو سوق المدينة. والبقيع بالباء هو مقبرتها. قال: كنا نبيع بالذهب، ونقضي الورق، ونبيع بالورق، ونقضي الذهب. فسألت النبي ﷺ عن ذلك، فقال: "لا بأس إذا كان بسعر يومه، إذا تفرقتما وليس بينكما شيء". فقد جوز النبي ﷺ أن يعتاضوا عن الدين الذي هو الثمن بغيره، مع أن الثمن مضمون على المشتري لم ينتقل إلى ضمان البائع، فكذلك المبيع الذي هو دين السلم يجوز بيعه، وإن كان مضمونًا على البائع لم ينتقل إلى ضمان المشتري. والنبي ﷺ إنما جوز الاعتياض عنه إذا كان بسعر يومه؛ لئلا يربح فيما لم يضمن.
وهكذا قد نص أحمد على ذلك في بدل القرض وغيره من الديون، إنما يعتاض عنه بسعر يومه؛ لئلا يكون ربحا فيما لا يضمن، وهكذا ذكر الإمام أحمد عن ابن عباس لما أجاب في السلم أن قال: إذا أسلمت
ج/ 29 ص -511-في شيء فجاء الأجل، ولم تجد الذي أسلمت فيه فخذ عوضًا بأنقص منه، ولا تربح مرتين.
وكذلك مذهب مالك يجوز الاعتياض عنه بسعر يومه، كما أجاب به أحمد، ونقله عن ابن عباس. ومالك استثني الطعام؛ لأن من أصله أن بيع الطعام قبل قبضه لا يجوز، وهي رواية عن أحمد، وأحمد فرق بين أن يبيع المكيل والموزون بمكيل وموزون، أو غير ذلك. فإن باعه بغير ذلك، مثل أن يعتاض عن المكيل والموزون كالحنطة والشعير الذي أسلم فيه بخيل أو بقر، فإنه جوز هذا، كما جوزه مالك، وقبلهما ابن عباس، إذا كان بسعر يومه.
وأما إذا اعتاض عنه بمكيل أو موزون، مثل أن يعتاض عن الحنطة بشعير كرهه، إلا إذا كان بقدره؛ فإن بيع المكيل بالمكيل، والموزون بالموزون، يشترط فيه الحلول والتقابض؛ ولهذا لا يجوز بيع الحنطة بالشعير إلا يدًا بيد،ولا بيع الذهب بالفضة إلا يدًا بيد. والمسلم لم يقبض دين المسلم، فكره هذا، كما يكره هو في إحدى الروايتين، والشافعي في أحد القولين: بيع الدين ممن هو عليه مطلقًا، على أنه باع ما لم يضمنه، ولم يقبضه.
والصواب الذي عليه جمهور العلماء وهو ظاهر مذهب الشافعي،
ج/ 29 ص -512-وأحمد : أنه يجوز بيع الدين ممن هو عليه؛ لأن ما في الذمة مقبوض للمدين، لكن إن باعه بما لا يباع به نسيئة اشترط فيه الحلول والقبض؛ لئلا يكون ربا. وكذلك إذا باعه بموصوف في الذمة. وإن باعه بغيرهما ففيه وجهان:
أحدهما: لا يشترط كما لا يشترط في غيرهما.
والثاني: يشترط؛ لأن تأخير القبض نسيئة، كبيع الدين بالدين، ومالك لم يجوز بيع دين السلم إذا كان طعامًا؛ لأنه بيع. وأحمد جوز بيعه، وإن كان طعامًا أو مكيلا، أو موزونًا من بائعه، إذا باعه بغير مكيل أو موزون؛ لأن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه هو في الطعام المعين، وأما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء.
وفائدته سقوط ما في ذمته عنه، لا حدوث ملك له، فلا يقاس هذا بهذا. فإن البيع المعروف هو أن يملك المشتري ما اشتراه، وهنا لم يملك شيئًا، بل سقط الدين من ذمته. وهذا لو وفاه ما في ذمته لم يقل: إنه باعه دراهم بدراهم، بل يقال: وفاه حقه، بخلاف ما لو باعه دراهم معينة بدراهم معينة؛ فإنه بيع. فلما كان في الأعيان إذا باعها بجنسها لم يكن بيعا، فكذلك إذا أوفاها من غير جنسها لم يكن بيعا، بل هو إيفاء فيه معني المعاوضة.
ج/ 29 ص -513-ولهذا لو حلف ليقضينه حقه في غد، فأعطاه عوضاً بر في يمينه في أصح الوجهين، فنهيه عن بيع الطعام قبل قبضه يريد به بيعه من غير البائع، فيه نزاع. وذلك أن من علله بتوالى الضمان يطرد النهي، وأما من علل النهي بتمام الاستيفاء، وانقطاع علق البائع حتي لا يطمع في الفسخ، والامتناع من الإقباض، إذا رأي المشتري قد ربح فيه، فهو يعلل بذلك في الصبرة قبل نقلها، وإن كانت مقبوضة، وهذه العلة منتفية في بيعه من البائع.
وأيضا، فبيعه من البائع يشبه الإقالة، وفي أحد قولي العلماء تجوز الإقالة فيه قبل القبض. والإقالة هل هي فسخ أو بيع؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد، فإذا قلنا: هي فسخ لم يجز إلا بمثل الثمن. وإذا قلنا هي بيع، ففيه وجهان ودين السلم تجوز الإقالة فيه بلا نزاع.
فعلم أن الأمر في دين السلم أخف منه في بيع الأعيان، حيث كان الأكثرون لا يجوزون بيع المبيع لبائعه قبل التمكن من قبضه، ويجوزون الإقالة في دين السلم. والاعتياض عنه يجوز كما تجوز الإقالة، لكن إنما يكون إقالة إذا أخذ رأس ماله أو مثله، وإن كان مع زيادة، أما إذا باعه بغير ذلك فليس إقالة، بل هو استيفاء في معني البيع لما لم يقبض.
وأحمد جوز بيع دين السلم من المستسلف؛ اتباعا لابن عباس، وابن
ج/ 29 ص -514-عباس يقول: نهي رسول اللّه ﷺ عن بيع الطعام قبل قبضه. ولا أحسب كل شيء إلا بمنزلة الطعام. فابن عباس لا يجوز البيع قبل القبض، وجوز بيع دين السلم ممن هو عليه إذا لم يربح. ولم يفرق ابن عباس بين الطعام وغيره، ولا بين المكيل والموزون وغيرهما؛ لأن البيع هنا من البائع الذي هو عليه، وهو الذي يقبضه من نفسه لنفسه، بل ليس هنا قبض؛ لكن يسقط عنه ما في ذمته، فلا فائدة في أخذه منه ثم إعادته اليه، وهذا من فقه ابن عباس.
ومالك جعل هذا بمنزلة بيع المعين من الأجنبي، فمنع بيع الطعام المسلف فيه من المستلف، وأحمد لم يجعله كبيع الطعام قبل القبض من الأجنبي، كما قال مالك، بل جوزه بغير المكيل والموزون، كما أجازه ابن عباس. وأما بالمكيل والموزون، فكرهه؛ لئلا يشبه بيع المكيل بالمكيل من غير تقابض إذا كان لم توجد حقيقة التقابض من الطرفين.
وأما إذا أخذ عنه من جنسه بقدر مكيله ما هو دونه فجوزه؛ لأن هذا من الاستيفاء من الجنس، لا من باب البيع، كما يستوفي عن الجيد بالرديء. والحنطة والشعير قد يجريان مجري الجنس الواحد؛ ولهذا في جواز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا روايتان:
إحداهما: المنع، كقول مالك.
ج/ 29 ص -515-والثانية: الجواز؛ كقول أبي حنيفة، والشافعي. وهذه الكراهة من أحمد في المكيل والموزون بمكيل أو موزون؛ قد يقال هي على سبيل التنزيه، أو يكون إذا أخر القبض. وهذا الثاني أشبه بأصول أحمد ونصوصه، وهو موجب الدليل الشرعي؛ وذلك أنه إذا باع المكيل بمكيل أو الموزون بموزون اشترط فيه الحلول والتقابض. فإن باع أحدهما بالآخر فعنه في ذلك روايتان. وهذا بناء على أن العلة في الأصناف الستة هي التماثل، وهو مكيل جنس، أو موزون جنس.
فإن العلماء متفقون على أن بيع الذهب بالفضة نسيئة لا يجوز، وكذلك بيع البر والتمر. والشعير والملح بعضه ببعض نسأ لا يجوز. فمن جعل العلة التماثل وهو الكيل والوزن أو الطعم أو مجموعهما حرم النسأ فيما جمعهما علة واحدة. وهذه الأقوال هي روايات عن أحمد. فالتماثل وهو مكيل جنس، أو موزون جنس: هو المشهور عنه، وهو مذهب أبي حنيفة. والطعم: وهو مذهب الشافعي. ومجموعهما قول ابن المسيب وغيره. وأحد قولي الشافعي، وهو اختيار الشيخ أبي محمد المقدسي. ومذهب مالك قريب من هذا، وهو القوت، وما يصلحه.
وإذا كان كذلك، فدين السلم وغيره من الديون إذا عوض عنه بمكيل وجب قبضه في مجلس التعويض. وكذلك الموزون إذا عوض
ج/ 29 ص -516-عنه بموزون؛ مثل أن يعوض عن الحرير بقطن أو كتان. فإذا بيع المكيل بالمكيل بيعا مطلقا بحيث لا يقبض العوض في المجلس لم يجز؛ بخلاف ما إذا بيع بحيوان أو عقار؛ فإن هذا لا يشترط قبضه في المجلس في أصح الوجهين، وهو المنصوص عنه. فكلام أحمد يخرج على هذا. ونهيه عن البيع يحمل على هذا؛ ولهذا قال: إذا حل الأجل يشتري منه ما لا يكال ولا يوزن. فأطلق الإذن في ذلك؛ بخلاف الميكل والموزون، فإنه لا يشتري مطلقاً، بل يقبض في المجلس، كما إذا بيع بعين.
يدل على ذلك أن أحمد اتبع قول ابن عباس في ذلك. وابن عباس قال: إذا أسلمت في شيء فجاء الأجل ولم تجد الذي أسلمت فيه، فخذ عوضاً بأنقص، ولا تربح مرتين. فإنما نهاه عن الربح فيه؛ بأن يبيعه دين السلم بأكثر مما يساوي وقت الاستيفاء؛ ولهذا أحمد منع إذا استوفى عنه مكيلا كالشعير أن يكون بزيادة. ولم يفرق ابن عباس بين أن يبيعه بمكيل أو موزون، وبين أن يبيعه بغيرهما.
وليس هذا من ربا الفضل، فيقال: إن ابن عباس يجيز ربا الفضل، بل بيع الذهب بالفضة إلى أجل حرام بإجماع المسلمين، وكذلك بيع الحنطة بالشعير إلى أجل. وهذا قياس مذهب أحمد وغيره، فإن ما في الذمة مقبوض، فإذا كان مكيلاً أو موزونًا وباعه بمكيل أو موزون ولم يقبضه فقد باع مكيلاً بمكيل ولم يقبضه، وأما إذا قبضه فهذا جائز.
ج/ 29 ص -517-وقد ثبت في مذهب أحمد أنه إذا باع بذهب جاز أن يأخذ عنه ورقا، وإذا باع بورق جاز أن يأخذ عنه ذهباً في المجلس، كما في حديث ابن عمر، وهذا أَخْذ عن الموزون بالموزون. فإذا جاز ذلك في الثمن جاز في المثمن، ليس بينهما فرق، إلا على قول من يقول: هذا مبيع لم يقبض، فلا يجوز بيعه. وقد ظهر فساد هذا المأخذ في السلم. وابن عباس الذي منع هذا جوز هذا، وأن بيع دين السلم من بائعه ليس فيه محذور أصلا، كما في بيعه من غير بائعه، لا بتوالى الضمان، ولا غير ذلك.
وأما احتجاج من منع بيع دين السلم بقوله ﷺ : "من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره"، فعنه جوابان:
أحدهما: أن الحديث ضعيف.
والثاني: المراد به ألا يجعل السلف سلما في شيء آخر. فيكون معناه: النهي عن بيعه بشيء معين إلى أجل، وهو من جنس بيع الدين بالدين؛ ولهذا قال: "لا يصرفه إلى غيره" أي: لا يصرف المسلم فيه إلى مسلم فيه آخر. ومن اعتاض عنه بغيره قابضاً للعوض لم يكن قد جعله سلما في غيره. وبسط هذه المسائل لا يحتمله هذا الجواب.
لكن الرخصة في هذا الباب ثابتة عن ابن عباس، وهي مذهب
ج/ 29 ص -518-مالك. وأحمد رخص فيه أكثر من مالك. وما ذكره الخرقي وغيره، قد قيل: إنه رواية أخري، كما ذكره ابن أبي موسي وغيره رواية عن أحمد. والصواب أن هذا جائز، لا دليل على تحريمه. واللّه أعلم.
وسئل عن الرجل يسلم في شيء، فهل له أن يأخذ من المسلم اليه غيره. كمن أسلم في حنطة؟ فهل له أن يأخذ بدلها شعيرًا، سواء تعذر المسلم فيه أم لا ؟
فأجاب:
إذا أسلم في حنطة فاعتاض عنها شعيرًا ونحو ذلك. فهذه فيها قولان للعلماء:
أحدهما: أنه لا يجوز الاعتياض عن السلم بغيره. كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه.
والثاني: يجوز الاعتياض عنه في الجملة، إذا كان بسعر الوقت، أو أقل. وهذا هو المروي عن ابن عباس حيث جوز إذا أسلم في شيء أن يأخذ عوضًا بقيمته، ولا يربح مرتين. وهو الرواية الأخري عن أحمد، حيث يجوز أخذ الشعير عن الحنطة إذا لم يكن أغلي من
ج/ 29 ص -519-قيمة الحنطة. وقال بقول ابن عباس في ذلك. ومذهب مالك يجوز الاعتياض عن الطعام والعرض بعرض. والأولون احتجوا بما في السنن. عن النبي ﷺ أنه قال: "من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره"، قالوا: وهذا يقتضي ألا يبيع دين السلم لا من صاحبه، ولا من غيره.
والقول الثاني أصح، وهو قول ابن عباس، ولا يعرف له في الصحابة مخالف؛ وذلك لأن دين السلم دين ثابت، فجاز الاعتياض عنه كبدل القرض، وكالثمن في المبيع؛ ولأنه أحد العوضين في البيع فجاز الاعتياض عنه، كالعوض الآخر. وأما الحديث ففي إسناده نظر، وإن صح فالمراد به أنه لا يجعل دين السلم سلفًا في شيء آخر؛ ولهذا قال: "فلا يصرفه إلى غيره" أي: لا يصرفه إلى سلف آخر. وهذا لا يجوز؛ لأنه يتضمن الربح فيما لم يضمن، وكذلك إذا اعتاض عن ثمن المبيع والقرض، فإنما يعتاض عنه بسعره، كما في السنن عن ابن عمر أنهم سألوا النبي ﷺ فقالوا: إنا نبيع الإبل بالنقيع بالذهب ونقبض الورق، ونبيع بالورق ونقبض الذهب. فقال: "لا بأس، إذا كان بسعر يومه إذا افترقتما وليس بينكما شيء" فيجوز الاعتياض بالسعر لئلا يربح فيما لم يضمن. فإن قيل: فدين السلم يتبع ذلك فنهى عن بيع ما لم يقبض. قيل: النهي إنما كان في الأعيان لا في الديون.
ج/ 29 ص -520-وَقَالَ رحَمهُ اللّه:
فصل
[عوض المثل] كثير الدوران في كلام العلماء وهو أمر لابد منه في العدل الذي به تتم مصلحة الدنيا والآخرة، فهو ركن من أركان الشريعة مثل قولهم: قيمة المثل، وأجرة المثل، ومهر المثل، ونحو ذلك. كما في قول النبي ﷺ : "من أعتق شركا له في عبد، وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد، قوم عليه قيمة عدل، لا وكس، ولا شَطَط، فأعطي شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد". وفي حديث أنه قضي في بَرْوَع بنت واشق بمهر مثلها، لا وَكْس، ولا شطط يحتاج اليه فيما يضمن بالإتلاف من النفوس، والأموال، والأبضاع، والمنافع، وما يضمن بالمثل من الأموال والمنافع، وبعض النفوس. وما يضمن بالعقود الفاسدة، والصحيحة أيضا؛ لأجل الأرش في النفوس والأموال.
ج/ 29 ص -521-ويحتاج اليه في المعاوضة للغير، مثل معاوضة الولي للمسلمين، ولليتيم، وللوقف وغيرهم. ومعاوضة الوكيل كالوكيل في المعاوضة، والشريك والمضارب، ومعاوضة من تعلق بماله حق الغير، كالمريض. ويحتاج اليه فيما يجب شراؤه للّه تعالى، كماء الطهارة، وسترة الصلاة، وآلات الحج، أو للآدميين؛ كالمعاوضة الواجبة مثل....
ومداره على القياس والاعتبار للشيء بمثله. وهو نفس العدل، ونفس العرف الداخل في قوله: "يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ" [الأعراف: 157] ، وقوله: "وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ" [الأعراف: 199] وهذا متفق عليه بين المسلمين، بل بين أهل الأرض؛ فإنه اعتبار في أعيان الأحكام لا في أنواعها.
وهو من معني القسط الذي أرسل اللّه له الرسل، وأنزل له الكتب. وهو مقابلة الحسنة بمثلها، والسيئة بمثلها،كما قال تعالى: "هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ" [الرحمن: 60] ، وقال: "وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا" [النساء: 86] ، وقال: "وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا"[الشوري: 40] ،وقال:"كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى" [البقرة: 178] ، وقال: "فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ" [البقرة: 194] ، وقال: "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ" [النحل: 126] .
لكن مقابلة الحسنة بمثلها عدل واجب، والزيادة إحسان مستحب،
ج/ 29 ص -522-والنقص ظلم محرم، ومقابلة السيئة بمثلها عدل جائز، والزيادة محرم، والنقص إحسان مستحب، فالظلم للظالم، والعدل للمقتصد، والإحسان المستحب للسابق بالخيرات.
والأمة ثلاثة: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات.
وكثيرًا ما يشتبه على الفقهاء ويتنازعون في حقيقة عوض المثل في جنسه ومقداره، في كثير من الصور؛ لأن ذلك يختلف لاختلاف الأمكنة والأزمنة، والأحوال والأعواض والمعوضات، والمتعاوضين. فنقول:
[عوض المثل] هو مثل المسمي في العرف، وهو الذي يقال له: السعر والعادة، فإن المسمي في العقود نوعان: نوع اعتاده الناس وعرفوه، فهو العوض المعروف المعتاد. ونوع نادر؛ لفرط رغبة، أو مضارة، أو غيرهما. ويقال فيه: ثمن المثل، ويقال فيه: المثل؛ لأنه بقدر مثل العين، ثم يقوم بثمن مثلها. فالأصل فيه اختيار الآدميين، وإرادتهم ورغبتهم.
ولهذا قال كثير من العلماء: قيمة المثل ما يساوي الشيء في نفوس ذوي الرغبات. ولابد أن يقال: في الأمر المعتاد. فالأصل فيه إرادة الناس ورغبتهم. وقد علم بالعقول أن حكم الشيء حكم مثله، وهذا من العدل والقياس والاعتبار، وضرب المثل الذي فطر اللّه عباده عليه،
ج/ 29 ص -523-فإذا عرف أن إرادتهم المعروفة للشيء بمقدار علم أن ذلك ثمن مثله، وهو قيمته وقيمة مثله، لكن إن كانت تلك الرغبة والإرادة لغرض محرم؛ كصنعة الأصنام، والصلبان. ونحو ذلك. كان ذلك العوض محرما في الشرع.
فعوض المثل في الشريعة يعتبر بالمسمي الشرعي، وهو: أن تكون التسمية شرعية، وهي المباحة. فأما التسمية المحظورة إما لجنسها؛ كالخمر، والخنزير. وإما لمنفعة محرمة في العين؛ كالعنب لمن يعصره خمرًا، أو الغلام لمن يفجر به. وإما لكونه تسمية مباهاة ورياء لا يقصد أداؤها. أو فيها ضرر بأحد المتعاقدين؛ كالمهور التي لا يقصد أداؤها، وهي تضر الزوج إلى أجل، كما يفعله جفاة الأعراب، والحاضرة، ونحو ذلك؛ فإن هذا ليس بتسمية شرعية، فليس هو ميزانًا شرعيا يعتبر به المثل، حيث لا مسمي.
فتدبر هذا فإنه نافع، خصوصًا في هذه الصدقات الثقيلة المؤخرة، التي قد نهى اللّه عنها ورسوله؛ فإن من الفقهاء من يعتبرها في مثل كون الأيم لا تزوج إلا بمهر مثلها، فيري ترك ما نهي اللّه عنه خلافًا للشريعة؛ بناء على أنه مهر المثل، حتي في مثل تزويج الأب ونحوه، فهذا أصل...
إذا عرف ذلك فرغبة الناس كثيرة الاختلاف والتنوع، فإنها
ج/ 29 ص -524-تختلف بكثرة المطلوب وقلته. فعند قلته يرغب فيه ما لا يرغب فيه عند الكثرة. وبكثرة الطلاب وقلتهم؛ فإن ما كثر طالبوه يرتفع ثمنه، بخلاف ما قل طالبوه. وبحسب قلة الحاجة وكثرتها وقوتها وضعفها، فعند كثرة الحاجة وقوتها ترتفع القيمة ما لا ترتفع عند قلتها وضعفها. وبحسب المعاوض. فإن كان مليا، دينا: يرغب في معاوضته بالثمن القليل، الذي لا يبذل بمثله لمن يظن عجزه أو مطله أو جحده. والملي المطلق عندنا: هو الملي بماله، وقوله، وبدنه. هكذا نص أحمد.
وهذا المعنى، وإن كان الفقهاء قد اعتبروه في مهر المثل، فهو يعتبر أيضا في ثمن المثل، وأجرة المثل.
وبحسب العوض فقد يرخص فيه إذا كان بنقد رائج ما لا يرخص فيه إذا كان بنقد آخر دونه في الرواج؛ كالدراهم، والدنانير بدمشق في هذه الأوقات؛ فإن المعاوضة بالدراهم هو المعتاد.
وذلك أن المطلوب من العقود هو التقابض من الطرفين، فإذا كان الباذل قادرًا على التسليم، موفيا بالعهد، كان حصول المقصود بالعقد معه؛ بخلاف ما إذا لم يكن تام القدرة أو تام الوفاء. ومراتب القدرة والوفاء تختلف، وهو الخير المذكور في قوله: "فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا" [النور: 33] ، قالوا: قوة على الكسب، ووفاء للعهد.
ج/ 29 ص -525-وهذا يكون في البائع وفي المشتري، وفي المؤجر، والمستأجر، والناكح والمنكوحة؛ فإن المبيع قد يكون حاضرًا، وقد يكون غائبًا، فسعر الحاضر أقل من سعر الغائب، وكذلك المشتري قد يكون قادرًا في الحال على الأداء؛ لأن معه مالا، وقد لا يكون معه لكنه يريد أن يقترض أو يبيع السلعة، فالثمن مع الأول أخف.
وكذلك المؤجر قد يكون قادرًا على تسليم المنفعة المستحقة بالعقد بحيث يستوفيها المستأجر بلا كلفة، وقد لا يتمكن المستأجر من استيفاء المنفعة إلا بكلفة؛ كالقري التي ينتابها الظلمة من ذي سلطان أو لصوص، أو تنتابها السباع، فليست قيمتها كقيمة الأرض التي لا تحتاج إلى ذلك، بل من العقار ما لا يمكن أن يستوفي منفعته إلا ذو قدرة يدفع الضرر من منفعته لأعوانه وأنصاره، أو يستوفي غيره منه منفعة يسيرة، وذو القدرة يستوفي كمال منفعته لدفع الضرر عنه.
وعلى هذا يختلف الانتفاع بالمستأجر، بل والمشتري، والمنكوح، وغير ذلك. فينتفع به ذو القدرة أضعاف ما ينتفع به غيره؛ لقدرته على جلب الأسباب التي بها يكثر الانتفاع، وعلى دفع الموانع المانعة من الانتفاع، فإذا كان كذلك لم يكن كثرة الانتفاع بما أقامه من الأسباب ودفعه من الموانع موجبًا لأن يدخل ذلك التقويم، إلا إذا فرض مثله، فقد تكون الأرض تساوي أجرة قليلة لوجود الموانع من المعتدين، أو السباع، أو لاحتياج استيفاء المنفعة إلى قوة ومال.
ج/ 29 ص -526-وسئل عن رجل له عند رجل مائة وثمانون، فقال له رجل: تبيعها بمائة وخمسين، فهل يجوز ذلك ؟
فأجاب:
الحمد للّه، إن كانت مؤجلة فباعها بأقل منها حالة، فهذا ربًا، وإن كانت حالة فأخذ البعض، وأبرأه من البعض، فأجره على اللّه، وقد أحسن.
وسئل عن دَيْن سلم حل، فلم يكن عند المستسلف وفاء، فقال: بعنيه بزيادة على الثمن الأول ؟
فأجاب:
لا يجوز بيع دين السلم قبل قبضه، ولا بيع الدين بالدين، فهذا حرام من وجهين. ومن وجه ثالث: أنه إن كان باعه الدراهم بالدراهم؛ مثل من باع ربًا نسيئة لم يجز أن يعتاض عن ثمنه
ج/ 29 ص -527-بما لا يباع به نسيئة، كذلك من اشتري دينًا بنسيئة لم يجز أن يعتاض عنه بما لا يباع بثمنه نسيئة. واللّه أعلم.
وسئل رَحمه اللّه عن الرجل يتدين، ثم يعسر ويموت، هل يطالب به ؟
فأجاب:
نعم يستوفيه صاحبه، فإن الدين لابد من وفائه؛ ولهذا ثبت في الصحيح: "أن الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدَّيْن".